موسى يصنع المعجزات

موسى يصنع المعجزات

فقال موسى للربّ: »هم لا يصدّقونني ولا يسمعون كلامي، بل يقولون: لم يظهر لك الربّ«. فأجابه الربّ: »ما هذه التي في يدك«؟ قال: »عصا«. قال: »ألقها على الأرض«. فألقاها على الأرض فصارت حيّة... فخذ من ماء النهر واسكب على الأرض فيصير الماء الذي تأخذه من النهر دمًا (4: 1 - 9).

هذا أحبّائي سفر الخروج 4: 1-9. الربّ دعا موسى، وأرسله إلى العبرانيّين ليبشّرهم بأنّ الربّ أراد أن يخلّصهم، أن يُخرجهم من العبوديّة. وهناك أكثر من عبوديّة. هناك عبوديّة الأرض والعمل فيها، هناك عبوديّة السخرة. هناك عبوديّة الأصنام، الشعب العبراني يعبد الأصنام. وهناك عبوديّة الخطيئة التي يعيش فيها كلّ عابد أوثان.

1 - ضعف موسى أمام المهمّة

الربّ أرسل موسى حتّى يُخرج شعبه من هذه العبوديّة. ولكن كما في كلّ الظهورات، الشخص الذي يُدعى يقدّم تساؤلات، يطرح أسئلة، يريد أن يستفهم: كيف يقوم بمهمّته؟ وأكثر من ذلك، يحاول أن يتهرّب لأنّه يخاف أوّلاً من الله الحاضر أمامه. ويخاف أن لا يكون على قدر المهمّة التي تُعطى له. هنا نتذكّر مثلاً يوسف خطّيب مريم الذي أراد أن يتهرّب من مهمّة حفظ مريم وأن يكون الأب الشرعي ليسوع.

موسى أيضًا بدأ يضع العراقيل في مشروع الله. هنا قال: »لا يصدّقونني«. وسيقول في آية 10: »أنا لا أعرف أن أتكلّم. هم لا يصدّقونني ولا يسمعون كلامي«. كيف قال موسى هذا الكلام؟ هل جرّب؟ هل كلّمهم؟ ولكن قبل أن ينطلق، بدأ يضع الشروط على الله ومع ذلك، نلاحظ أنّ الربّ يسير معنا، يرافق ضعفنا، يمشي مع تمهّلنا، لا يدفعنا دفعًا، كلاّ يحترم حريّتنا، يحترم انتظارنا حتّى النهاية.

قال موسى: هم لا يصدّقونني ولا يستمعون لكلامي. على المستوى البشريّ هم على حقّ. كيف يصدّقون أنّ رجلاً آتيًا من البريّة، أنّ راعي غنم، سوف يتغلّب على فرعون أكبر ملك في ذلك الزمان، كيف يصدّقون رجلاً يعدهم بالخلاص من هذه العبوديّة، من هذه السخرة، والجيوش الكبيرة لا تستطيع أن تفعل شيئًا؟ وبما أنّهم لن يصدّقوا موسى، فإنّهم لن يسمعوا، لن يضيّعوا الوقت في السماع له. وسوف يقول الفرعون فيما بعد: أنتم تضيّعون وقتكم في الكلام.

ولكن موسى يقول لهم: لست أنا بقوّتي، لست بقدرتي، لست بحيلتي، لست أعمل بجيشي. هو ا؟. عندئذ يقولون له: لم يظهر لك الربّ. يعني بطريقة ضمنيّة: بيّن لنا أنّ الربّ ظهر لك. أما تكون أنتَ أحد المشعوذين الذين يريدون أن يقتلوا الشعب؟ أمّا هذا الذي قالوه له عندما كانوا في البريّة؟ لماذا جئت بنا؟ ألتقتلنا بالجوع؟ ألتقتلنا بالعطش؟ إذًا تساءلوا، بل قالوا: لم يظهر لك الربّ، وأنت شخص كاذب تريد أن تتاجر بالناس.

2 - ثلاث آيات

قال موسى هذا الكلام، وهو يحمل إلى الربّ ما قاله الشعب. حمل إليه موقف الشعب، حمل إليه كلام الشعب. الربّ الطويل الروح والكثير الأناة أجاب موسى: ما هذه التي في يدك. وهنا سوف نرى الربّ يعطي موسى ثلاث آيات، تدلّ على أنّ الربّ أرسله حقٌّا.

هذه الآيات قبل أن نقرأها تبدو وكأنّها ترتبط بعالم السحر. وفي الواقع سوف يفعل سحرة فرعون مثل موسى. أمّا الفرق فواسع بين السحر وهنا. في السحر يحاول الإنسان أن يسيطر على الله. أن يفرض نفسه على الله. أمّا هنا فالإنسان موسى يطيع أوامر الله. يقول له الله: افعل فيفعل، تراجع فيتراجع، تعال فيأتي، امضِ فيمضي. يعني الربّ هو الذي يوجّه الأمور.

ونلاحظ في الآية 3، قال الربّ: »ألقِ العصا على الأرض«. أطاع موسى حالاً فألقاها. قال الربّ (آية 4): »مدّ يدك«. حالاً أطاع موسى. مدّ يده. قال الربّ: »تفعل هذه المعجزات«. وسوف يفعل. في الآية 6 قال الربّ: »أدخل يَدك في جيبك«. فأدخل موسى يده. في الآية 7 قال الربّ: »ردّ يدك«، فردّ يده إلى جيبه. إذًا هنا نلاحظ أنّ الربّ هو الذي يوجّه الأمور. أمّا موسى فهو أداة في يد الله، هو امتداد ليد الله، امتداد لعمل الله، وهو لا ينجح إلاّ بقدر ما يكون طائعًا لأوامر الله، بقدر ما يكون عاملاً بحسب ما يأمره الله. وهذا ما نقوله بالنسبة لحياتنا: لا ننجح إلاّ بقدر ما نبحث عن مشيئة الله. نسمع صوت الله في أعماق أعماقنا. نسأله ربّما، نعارضه ربّما، ولكنّنا إن سمعنا له، إن أطعناه، كان لنا النجاح، كان لنا الطريق الذي يقدّمه الله لنا.

3 - الآية الأولى

في الآية الأولى، تحوّلت العصا إلى حيّة، فهرب موسى من وجهها. أراد الكاتب أن يبيّن أنّنا لسنا على مستوى السراب والخيال، بل أمام الواقع والحقيقة. هي حيّة حقيقيّة أخذت تسري، خاف منها موسى وهرب. فقال له الربّ في الآية 4: »مدّ يدك وامسكها بذنبها«. بقوّة الربّ فعل. لم يخَفْ موسى. إقترب من الحيّة كما لو كانت عصًا، وأمسكها فعادت عصًا بيده. هذا الربّ القدير يحوّل العصا إلى حيّة والحيّة إلى عصًا.

هي مظاهر خارجيّة تؤثّر على عيون الناس. فالربّ يعاملنا بحسب ضعفنا. نتذكّر هنا توما في إنجيل القيامة. قالوا له: »لقد رأينا الربّ«. فقال توما: »إن لم أضع إصبعي في موضع المسامير، وإن لم أضع يدي في جنب يسوع لن أؤمن«. كان بإمكان يسوع أن يقول له، إن أردت أن تؤمن لا بأس، وإلاّ لا حاجة لإيمانك. لا، المسيح لم يقل هذا، بل ظهر في الأحد التالي وقال: »يا توما هات إصبعك إلى هنا، هات يدك إلى هنا، وكن مؤمنًا لا غير مؤمن«. عندئذ ركع توما وهتف: »ربّي وإلهي«. حلّ عليه نور الربّ، حلّ عليه حضور الربّ، تأكّد أنّ هذا الذي أمامه هو الربّ الذي مات يوم الجمعة وقام. لذلك سجد قائلاً: »ربّي وإلهي«.

وموسى لم يرفض الربّ أن يعطيه آية. آية تصل إلى الشعب. هذا الشعب اليائس، هذا الشعب البائس الذي لا يعرف كيف يوجّه حياته ليخرج من هذه العبوديّة. وهكذا الربّ أعطى موسى آية أولى وأعطاه آية ثانية وآية ثالثة. لماذا أعطاه هذه الآيات؟ هنا في الآية 5: وقال له الربّ: تفعل هذه المعجزة ليصدّقوا أنّ الربّ ظهر لك. في السحر يحاول الإنسان أن يدلّ على قدرته وعلى عظمته. أمّا هنا فالإنسان لا يدلّ على قدرته وعظمته، بل يدلّ على قدرة الله. ما هي العلامة التي تدلّ على أنّ الربّ ظهر لموسى ليفعل هذه المعجزات؟ في الآية 1 يقولون: لم يظهر لك. يفعل موسى الآية فيصدّقون أنّ الربّ ظهر له.

وهذا الربّ ليس فقط إله موسى وكأنّ موسى هو البداية. كلاّ. قبل موسى هناك ابراهيم وإسحق ويعقوب. هناك إله الآباء. فمشروع الربّ قديم. يعود إلى آدم، إلى نوح، إلى أخنوخ، إلى كلّ الآباء الذين سبقوا الشعب العبراني. إله الآباء كما قلنا مع آدم، مع نوح، وهو إله إبراهيم وإسحق ويعقوب.

4 - هو الإله الحيّ

هذا الإله هو إله موسى وإله العبرانيّين. إن كانوا أحياء فهو الإله الحيّ. فالربّ ليس إله الأموات. هذا ما قاله يسوع في الإنجيل: الربّ هو إله أحياء. هذا يعني أنّ الآباء، إيراهيم وإسحق ويعقوب، هم أحياء يرافقون الشعب بحضورهم، بصلاتهم. على المستوى المسيحيّ لا مسافة بين الموت والحياة. الأحياء يعيشون، الأموات يعيشون معنا نحن الأحياء.

جاءت الكلمة الأساسيّة تفعل هذه المعجزة ليصدّقوا أنّ الربّ ظهر لك، وأعطيَ اسمُ هذا الربّ: إله إبراهيم وإسحق ويعقوب. ثمّ كانت الآية الثانية: »وقال له الربّ أيضًا«. ثمّ الآية الثالثة. الآية الثانية: أدخلْ يدك في جيبك، فصارت برصاء كالثلج. نحن هنا أيضًا أمام عمل يشبه السحر. ولكن الربّ هو الذي يقول، والربّ هو الذي يأمر موسى. أمّا موسى فيكتفي بأن يطيع الربّ. فقوّته من قوّة الربّ، وفعلهُ من فعل الربّ.

نتذكّر هنا المزمور: معونتنا باسم الربّ صانع السماوات والأرض. هذا الذي صنع السماوات والأرض وخلق الكون من العدم، أتراه يعجز على أن يحوّل العصا إلى حيّة والحيّة إلى عصا؟ أتراه يعجز أن يبدّل اليد الصحيحة إلى برصاء أو البرصاء إلى صحيحة؟ نتذكّر هنا ما حدث لمريم أخت هارون عندما تمرّدت هي وأخوها على موسى: كيف صارت برصاء والربّ سوف يشفيها. أمرَ الربّ فأطاع موسى.

أدخلْ يدك، فأدخل يده. وكانت النتيجة. في الآية 7: فقال له الربّ. »ردّ يدك إلى جيبك، فردّ يده إلى جيبه. إذًا نلاحظ هنا الطاعة، الطاعة التامّة من موسى إلى الربّ. كأنّي به إنسان بقرب إنسان. هذا ما نسمّيه الصور التشبيهيّة. نصوّر الله وكأنّه إنسان. هناك كلمة علميّة أنتروبومورفيا نصوّر الله بشكل (مورفي) إنسان. وهنا الحوار، حوار في أعماق القلب، حوار بين الله وبين موسى. وإذا أردنا، وإذا عرفنا أن نسكت، نحن نستطيع أيضًا أن ندخل في هذا الحوار.

5 - سماع وطاعة

في الآية 8، قال له الربّ: »إن كانوا لا يصدّقونك ولا يقتنعون بالمعجزة الأولى فبالمعجزة الثانية يقتنعون«. الربّ هو الذي يوجّه الأمور، الربّ هو الذي يوجّه الأحداث. وعنده هدف بأن يصدّقوا موسى، وبالتالي سوف يصدّقون الله. والربّ هو الذي يدبّر الأمور مسبقًا. ويقول في الآية 9: »وإن كانوا لا يصدّقون هاتين المعجزتين ولا يسمعون لكلامك«. إن صدّقوا، عندها يسمعون كلامك. وإن لم يصدّقوا هاتين المعجزتين، لن يستمعوا لكلام موسى.

إذًا المعجزة هي نداء، هي دعوة للسماع. في الإنجيل عندنا مرّات عديدة التعجّب: تعجّب الناس. المسيح أجرى معجزة يتعجّبون. هل يكفي؟ كلاّ. هناك سماع الكلمة، هناك الطاعة، هناك التوبة، هناك العودة إلى ا؟. وكلمة يسمعون لكلامك وليس فقط يسمعون بآذانهم. هناك سماع الأذن، وسماع من نوع آخر، الطاعة. نحن نعرف في خبرتنا اليوميّة عندما نقول: هذا الشخص لا يسمع لي، يعني لا يطيعني. السماع هو بداية الطاعة، بداية العمل. فإن هم سمعوا لكلام موسى، هذا يعني أنّهم سوف يطيعونه، سوف يعملون بما يؤمرون.

والأمر سيكون قاسيًا، لأنّهم سيتركون الأرض الخصبة، أرض مصر، ويذهبون إلى البريّة، إلى بريّة سيناء، حيث لا ماء ولا طعام، حيث الأخطار، أخطار الحيّات وغيرها. إن سمعوا له تبدأ المغامرة، المغامرة الكبرى. ولكن بانتظار ذلك هنالك مسيرة طويلة. قال الربّ: إن لم يقتنعوا بالمعجزة الأولى فبالثانية يقتنعون. وإن لم يقتنعوا لا بهذه ولا بتلك، يأخذ موسى من ماء النهر فيصير الماء دمًا. هذا الماء الذي هو عربون الحياة، وأساس الحياة، يصبح أساس الموت. فكأنّ النيل يسفك الدماء، فلا يعود يعطي الحياة لشعب مصر.

هذا هو، أحبّائي، معنى المقطع الذي أعطيناه عنوانًا: موسى يصنع المعجزات. إعترض موسى على الربّ، فردّ الربّ بكلّ محبّة وكلّ صبر على اعتراضه. وما اكتفى الربّ بالكلام بل انتقل إلى العمل. بل أعطاه آيتين وفتح طريقًا أمام آية ثالثة. المهمّ أن يقتنع الشعبُ العبرانيّ، أن يصدّق الشعبُ العبرانيّ، أن يسمع لكلام موسى ويطيع.

الخلاص يبدأ من الإنسان المعذَّب، من الإنسان المستعبَد، من الإنسان المتألّم. إن هو لم يفكّر بالخلاص، إن هو لم يعمل بالخلاص، لن يكون له خلاص. الخلاص لا يأتي من الخارج بل هو من الداخل. هذا هو النداء الذي يتوجّه إلينا نحن. فلا أحد يستطيع أن يأخذ المبادرة عنّا، نحن نخلص ونحن نهلك. قدرة الله هي حاضرة، هنيئًا لنا إن عرفنا كيف نستفيد منها، كيف نتقوّى بها. فالربّ هو حاضر، ونحن عندئذ نهتف له: معونتنا باسمك، أيّها الربّ، يا صانع السماوات والأرض. آمين.

ا

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM