أنا هو الذي هو

أنا هو الذي هو

1- نداء الربّ من أجل الآخرين

أحبّائي، سلام الربّ يكون معكم وروحه القدّوس يرافقنا حتّى نقرأ كلام الله، نسمعه، نتأمّل فيه، ونطلب منه عبرة من أجل حياتنا، غذاء من أجل حياتنا. ونحن عندما نقرأ الكتاب كلّه، نحاول أن نكتشف من خلال الأشخاص شخصيّتنا. نحن لا نقدّس الشخص الذي نقرأ حياته، ولا الشعب ولا الفئة ولا الأمّة. إنّما نحاول أن نكتشف صوت الله كما اكتشفه غيرنا. إكتشف موسى صوت الله وأنا عليّ أن أكتشف صوت الله. والجماعة التي أنتمي إليها يجب عليها هي ايضًا أن تكتشف صوت الله. إذًا هذا الكلام أصبح نموذجًا لنا، ونحن ما زلنا في قلب الحوار بين الله وموسى.

منذ الآية الأولى من الفصل 3، كانت هناك العلّيقة الملتهبة التي لا تحترق: واكتشف موسى حضور الله. لذلك خلع نعليه من رجليه. خلع حذاءه لمّا فهم، لمّا عرف، أنّ المكان هو مكان مقدّس. وفي خطوة ثانية فهم موسى أنّ الربّ نظر وأنّ الربّ سمع، علم، نزل لكي يفعل.

وفي محطّة ثالثة فهمنا فيها أنّ الربّ لا يعمل بيديه. إنّه يستطيع أن يفعل، وهو الذي خلق الكون كلّه بإشارة، ومع ذلك، لا يريد أن يعمل بيديه، يريد أن يعمل بأيدينا. أعطانا يدين حتّى نعمل، أعطانا قلبًا حتّى نحبّ، أعطانا عيونًا حتّى ننظر معاناة الناس، أعطانا آذانًا حتّى نسمع صراخ الظلم الذي حولنا. الربّ عنده همّ، همّ الفقراء، همّ المساكين، وأتى ليحمّلنا إيّاه كما قلت لكم سابقًا بأنّ المسيح حمّل الرسل هَمّ هؤلاء الناس الجائعين: »أعطوهم أنتم ليأكلوا«. ولا تغسلوا أيديكم بسرعة كبيلاطس. عملٌ لا يهمّنا. أو كما يقول يوحنّا: إذا أتى أحدهم يطلب منكم حسنة، ا؟ يكون معكم: بهذه الكلمة لم يأكل، أنتم أعطوه.

وهنا الربّ يطلب من موسى أن يقوم بعمليّة الخروج. أن يقوم بإخراج الشعب من مصر، بأن ينقله من أرض العبوديّة إلى سيناء، إلى أرض العبادة ؟. وهكذا نصل في سفر الخروج (3: 13 ي) إلى هذا الحوار بين موسى والله. كان موسى قد قال ؟: »من أنا حتّى أذهب إلى فرعون« (آ 11)؟ أجابه الربّ: »أنا أكون معك«. أمّا موسى فيضع صعوبة في وجه الله. ولكن ما أجمل هذه الصعوبة لأنّها ستعلّمنا أمورًا عديدة. نقرأ إذًا سفر الخروج.

2 - شروط على الربّ

فقال موسى ؟: »إذا ذهبت أنا إلى بني إسرائيل وقلت لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم. فإن سألوني: ما اسمه؟ فماذا أجيبهم؟« فقال الله لموسى: »أنا هو يهوه، الإله الذي هو...«. بل تطلب كلّ امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها أواني من فضّة وذهب وثيابًا تجعلونها على بنيكم وبناتكم، فتسلبون المصريّين (3: 13 - 22).

فقال موسى ؟: »إذا ذهبتُ«. نلاحظ أحبّائي كلمة »إذا« الشرطيّة. يعني موسى لم يقرّر بعد أن يذهب. إذا صدف وذهبتُ. نلاحظ الفرق بين موسى وإبراهيم (تك 12) قال الربّ: »أترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى المكان الذي أدلّك عليه«. فقام إبراهيم باكرًا.

نتذكّر يوسف خطّيب مريم ومربّي يسوع: »يا يوسف لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. قام باكرًا وأخذها إلى بيته ولم يعرفها«. أمّا موسى فهناك شروط. أوّل شرط قرأناه في آية 11: »من أنا؟« أنت في حدّ ذاتك ضعيف، لكن أنت بمن تمثّل أصبحت قويٌّا. ثاني شرط »إذا ذهبت«. إذا صادفت الأمور، تحسّنت الأمور، وكدت أقول أحببتُ أنا، ذهبتُ. كأنّ القضيّة مشيئة موسى لا مشيئة الله. الإنسان لا يضع شروطًا على الله أبدًا. من لم يعطِ كلّ شيء، لم يعطِ شيئًا. إذا ذهبتُ إلى بني إسرائيل وقلت لهم...

عندي شرطان. أوّلاً، لن أذهب، يعني لن أعود من بريّة سيناء حيث الهدوء، حيث الأمان، حيث الحياة الرخوة والحياة السهلة والبعد عن مشاكل مصر والعبوديّة، عن العمل في اللبن والتبن والزراعة. تريدني أن أترك هذا المكان وأمضي إلى مصر. ويسمّيها الكاتب بعض المرّات أرض النار، أرض الحريق، أتون من اللهيب. نحن نعرف الحرّ الذي يسيطر على مصر مدّة طويلة خلال السنة. فإذا ذهبت أوّلاً، وقلت لهم، ربّما أذهب ولا أقول لهم، يكون عند موسى شرطان اثنان. إذًا وضع موسى شرطين لكي يجعل الله يتراجع. ثمّ يقول له: أرسلْ أحدًا غيري.

وإذا قلت لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم. نلاحظ هنا إله آبائكم يعني إبراهيم وإسحق ويعقوب وأبناءه. وهكذا ارتبط موسى وارتبط الشعب العبراني بشكل خاصّ على مستوى الإيمان بإبراهيم وإسحق ويعقوب. هذا الإله الذي فعل في الماضي مع الآباء، هو يفعل اليوم مع الأبناء. هنا نفهم تاريخ الخلاص. تاريخ الخلاص ليس فقط عمل الله الموقّت: خلّص مرّة وانتهى. كلاّ. الله هو المخلّص الذي عمل أمس، الذي يعمل اليوم، الذي يعمل غدًا ولا يزال يعمل.

وما نقوله عن الخلاص، نقوله عن الخلق. الله لم يخلق منذ كذا مليارات من السنين، وتربّع في أعلى السماء، وترك الكون يسير وحده، كلاّ. لا شكّ أنّ الله خلق، ولكن هو يخلق كلّ يوم. الخلق هو عمل حاضر لأنّ الربّ حاضر. ربّنا ليس عنده البارحة واليوم والغد. كلاّ، كلّ يوم عند الله هو اليوم. وعندما يقول إله آبائكم يعني الخلاص الذي تمّ لإبراهيم وإسحق ويعقوب، هو ذلك الذي يتمّ للشعب العبراني مع موسى، والذي سيتمّ يوم كتب الكاتب الملهم هذا النصّ، يعني 550 سنة تقريبًا قبل المسيح، وبعد موسى بـ 700 سنة.

الربّ هو ذلك الذي فعل في الماضي، ويفعل اليوم، ولا يزال يفعل على مستوى الخلق وعلى مستوى الخلاص. إله آبائكم أرسلني إليكم. إذًا ليس موسى هو الآتي، انطلاقًا من حماسه واندفاعه كما في الماضي حيث فشل. بل الله أرسله.

نقرأ في الفصل الثاني من سفر الخروج: »خرج، فرأى رجلاً مصريٌّا يضرب واحدًا عبرانيٌّا فقتله«. الربّ لم يرسله، ولم يقل له أن يقتل. كلاّ. وأراد مرّة ثانية أن يضع السلمَ بين أخ وأخيه. كلاّ. المشروع الذي ينطلق من الناس يبقى على مستوى الناس ويدوم ما دام الناس. أمّا المشروع الذي ينطلق من الله فهو الذي يدوم. هنا نتذكّر في سفر الأعمال لمّا أُمسك الرسل. أمسكتهم السلطات اليهوديّة. يقول لهم ساعتئذ جملائيل هذا الكلام الرائع: »إن كان هذا المشروع من الناس فهو سيزول، أمّا إذا كان من الله فاحذروا أن تعارضوا الله«. يعني خطيئة كبيرة أن تعارضوا الله.

لذلك قال موسى: إله آبائكم أرسلني إليكم. يعني إذا أنتم عارضتموني، عارضتم الله الذي أرسلني. كما قال يسوع: »من سمع منكم سمع منّي«. ومن سمع من موسى يكون قد سمع من الله. ومشروع الله هو الخروج، هو مشروع الخلاص الذي يحمله موسى.

4 - إسم الله

إذا ذهبتُ إلى بني إسرائيل، وقلت لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم فإن سألوني ما اسمه؟ الاسم يدلّ على الشخص. لكن من المؤسف في العالم الوثني كان هناك آلهة عديدة وكلّ إله له اسمه. هناك إيل، بعل، هدد، ملقارت، هناك جوبيتر، زوش، آلهة عديدة في الشرق والغرب، بعد ذلك القمر له اسمان سين أو يَرِح. والشمس هي الاله شمش. والنيل كان مؤلَّهًا والبحر كان مؤلَّها. إذًا آلهة عديدة. فهل الله الذي ظهر لموسى هو إله من هؤلاء الآلهة؟

سألوني ما اسمه، يريدون أن يعرفوا ما اسمه. هنا أذكّركم أيضًا بأعمال الرسل عندما بشّر بولس في أثينة (أع 17). وجد المعابد العديدة: هذا المعبد لهذا الإله. وهذا المعبد لهذه الإلاهة. مثلاً أثينة كانت إلاهة المدينة أثينة، ثمّ ديونيسيوس وغيره من الآلهة. كلّ إله له معبده. ووجد بولس أخيرًا معبدًا مكتوبًا عليه: للإله المجهول. ربّما جاء إله لا نعرفه ويريد أن يصنع الشرّ بالمدينة، فنقول له: هناك معبد لك، هناك هيكل لك، لا تخف، لقد حسبنا حسابك.

نظنّ للوهلة الأولى أنّ موسى جعل الله بين الآلهة. وكما للآلهة اسم كذلك للربّ اسم. سألوني ما اسمه. ولماذا يُسأل عن اسم الإله. أوّلاً لكي نستطيع أن نناديه، فيصبح بالنسبة إلينا شخصًا قريبًا، نصرخ إليه. هذا إذا لم يكن صنمًا لا يسمع، ولا يرى ولا يُحسّ. ثمّ عندما نعرف اسمه نستطيع أن نسيطر عليه، وهنا الفرق بين عبادة الله وعبادة الأوثان. ففي عبادة الأوثان تكون الآلهة في خدمتنا وفي عبادة الله نكون نحن في خدمة الله.

وهكذا كانت الصعوبة الثالثة. إذًا أوّلاً: من أنا؟ ثمّ إذا ذهبتُ. والآن يضع موسى شرطًا على الله ليعطيه اسمه فيبدو كأنّه يسلّمه ذاته. هذا غير معقول على مستوى الآلهة التي تبقى في السماء ويبقى الناس على الأرض. أمّا مع الله فقد سلّمنا ذاته. حين خلق الكون، سلّمنا ذاته. حين أعطانا الحريّة، سلّمنا ذاته. وخصوصًا حين أعطانا ابنه، سلّمنا ذاته، صار ضعيفًا أمامنا.

5 - إسم الله حضور

أنظروا أحبّائي كيف نعامل كلمة الله، وكيف يصعب الكلام عنها. كيف نعامل أسرار الله، كيف نعامل حضور الله، كيف نعامل ابن الله. عندما سلّمنا الله ابنه، صار ضعيفًا بالنسبة إلينا. وهنا استعدّ الله أن يعطي موسى ما طلب. فقال الله لموسى: أنا »يهوه«. كلمة عبرانيّة معناها بالعبري: أنا هو الذي هو. أنا يهوه. ما معنى هذا الجواب؟ له معانٍ عديدة: أوّلاً »أنا هو الذي هو«. نستطيع أن نفهم بمعنى أوّل أنّ الربّ لا يريد أن يعطي موسى جوابًا، لا يريد أن يعطي اسمه، وألاّ تكون سلطة لموسى على الله لا سمح الله. وهنا معنى ثانٍ »أنا هو الذي هو« يعني أنا الكائن. هكذا ترجمت اليونانيّة كلمة يهوه. أنا الكائن. ونقرأ في أيقونات المسيح في اللغة اليونانيّة »أون« يعني الكائن.

إذًا في المعنى الأوّل، كأنّي بالله لا يريد أن يعطي جوابًا. وبالمعنى الثاني: أنا الكائن، أنا هنا. أنا حاضر. وسيتوسّع في هذا اللفظ سفر الرؤيا في الفصل الأوّل. يقول: أنا الكائن الآن، أنا الذي كان في الماضي، وأنا الذي سأكون في شخص يسوع المسيح ذاك الذي يأتي. والمعنى الثالث هو ليس فقط أنا الحاضر، ليس فقط أنا الكائن لكن أنا الذي أفعل، أنا الذي سوف أفعل. يعني الإله الفاعل. فالله لا يحضر أبدًا بطريقة حياديّة كأنّ الأمور لا تخصّه.

الله عندما يحضر فلكي يفعل. في الإنجيل مضى يسوع إلى البراري، إلى لقاء الأبرص، لا ليندبه أو يتأسّف عليه أو يتحسّر. كلاّ بل ذهب إليه لكي يشفيه. ولمّا قال الربّ أنا يهوه، أنا هو الذي هو، يعني أنا ذاك المستعدّ لأن أعمل كما قلنا في الآية 8: نزلتُ. هو نزل إلينا، تنازل لكي يعمل. وهكذا كان لموسى الجواب: يهوه هو اسم الله، الاسم العظيم اسم الله: أنا هو. الضمير نوعًا ما يبقى كأنّه جوهر فقط. أمّا الفعل في اللغة العبريّة فيعني كائنًا يفعل.

هكذا تجيب بني إسرائيل. هو الذي هو أرسلني إليك. لا أريد أن أتكلّم عن هذه الطرق في التعامل مع الكتاب المقدّس، طرق تنبع من العاطفة، ومن النظرة الذميمة، إلى الكتاب المقدّس. كلمة يهوه أصبح لها معنى كبير جدٌّا، الله الحاضر معنا، الله الذي لا يموت، الله الأزليّ، الذي لا بداية له، الأبديّ الذي لا نهاية له، الله السرمدي. قد يكون هذا الاسم أُخذ من بني مِدْيان حيث كان يقيم موسى. لا يهمّ الاسم، المهمّ هو النظرة الجديدة، المعنى الجديد الذي حمله هذا الاسم بالنسبة إلى موسى وإلى شعبه. ربّما كان هناك إله اسمه يهوه، صنم من الأصنام، ونحن نعرف أنّ الأصنام لا تنظر، لا تسمع ولا تعلم. أخذ موسى الاسم وحمّله معنًى جديدًا: هذا الإله الذي هو، الكائن، الذي كان، الذي سيكون دومًا، هذا الإله هو الأمين الذي فعل في الماضي ويفعل اليوم وسيفعل إلى النهاية.

هذا هو معنى اسم يهوه كما قاله الله لموسى. تراءى الربّ لموسى، كلّمه في أعماق قلبه، فاكتشف هذا الإله الحاضر في الماضي، في حياة الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، الحاضر الآن مع موسى بانتظار أن يصبح حاضرًا في حياة الشعب الذي يعرف السخرة والعبوديّة. وسيكون حاضرًا في تاريخ شعبه وخصوصًا مع يسوع المسيح الذي سيكون حضور الله في العالم. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM