الفصل الخامس: جواب موسى للربّ

 

الفصل لخامس

جواب موسى للربّ

الكتاب المقدّس يبدأ بسفر التكوين وينتهي بسفر الرؤيا، 73 كتابًا يتألّف منها الكتاب المقدّس. ونحن في القسم الأوّل من العهد القديم الذي يسمّونه بالمعنى الحصري التوراة، يعني أسفار موسى الخمسة. ولا ننسى بأنّ التوراة بالمعنى العامّ، في القاموس العربيّ، تدلّ على كلّ العهد القديم. ولكن في المعنى الحصري، التوراة تدلّ على خمسة كتب موسى أو خمسة أسفار موسى وهي: التكوين، الخروج، اللاويّين أو الأحبار، العدد والتثنية. ونحن ما زلنا نقرأ سفر الخروج. في المحطّة السابقة سمعنا الربّ يرسل موسى والآن ما هو جواب موسى. ونتابع القراءة:

فقال موسى ؟: »من أنا لأذهب إلى فرعون وأُخرج بني إسرائيل من مصر«؟ قال الربّ: »أنا أكون معك. إذا سألك بنو إسرائيل تجيبهم: يهوه هو الذي أرسلني إليكم« (3: 11 - 14).

1 - حوار بين الله والإنسان

ما نلاحظ في الكتاب المقدّس هو هذا الحوار بين الله والإنسان. لا، لم يعد الله ذلك البعيد القابع في أعلى سمائه، العائش وحده، الذي يترك الإنسان يدبّر أمره، حيث القويّ يأكل الضعيف، والغنيّ يأكل الفقير، والمتسلّط يأكل التعيس. كلاّ ثمّ كلاّ، هناك الله الذي يعرف أن يكون حاضرًا مع الإنسان، الذي يعرف أن يكلّمنا.

ولكن يُطرح سؤال: أنا لم أسمع ولا مرّة صوت الله. لا شكّ أنَّ الله لا يتكلّم كما يتكلّم البشر. هو يكلّمنا في أعماق قلوبنا، ولكن إذا أردنا أن يكلّمنا الله في أعماق قلوبنا، يجب أن نصمت. السكوت هو الشرط الأوّل والأساسيّ لكيّ يكلّمنا الله. لا ننسى بأنّ موسى هو في البريّة، هو في الصحراء بعيدًا عن ضجيج المعامل، ضجيج السيارات، ضجيج الهموم، ضجيج الأمور العديدة. موسى هو في صمت دائم، صمت الصحراء.

لهذا السبب يستطيع الله أن يكلّمه. ثمّ وهذا مهمّ جدٌّا، لو أنّ موسى لم يعرف بشقاء شعبه لما كلّمه الله. إذًا هناك صمت لنسمع صوت ا؟، وهناك خروج من الأنانيّة، من حبّ الذات، لنسمع صراخ الإخوة. والأمران معًا يتركان الله يكلّمنا. لو أنّ موسى لم يهتمّ بشعبه أبدًا (تذكّروا في الفصل الثاني لمّا قتل ذاك الذي يسيء معاملة أخيه وقريبه) ولو أنّه ما عرف الصمت، لما استطاع أن يسمع كلام الله، لأنّ الربّ يكلّمنا في أعماق قلوبنا. إذا كان ربّنا لا يكلّمنا في أعماق قلوبنا، فهذا يعني أوّلاً أن ليس عندنا صمت، وثانيًا أنّنا نرفض أن نسمع صوت الله. لأنّ هذا الصوت هو متطلّب.

أتذكّر أحد الأشخاص الذين كنت أساعدهم في الحياة الروحيّة فقال لي: أنا لا أحبّ الصلاة الصباحيّة الصامتة. لماذا؟ قلت له. أجاب: لأنّني أعرف بأنّ الله يطلب منّي أشياء وأشياء. الحمدُ ؟ والشكر لأنّه يطلب منك أشياء وأشياء. وأسوأ شيء في حياتنا إذا قال لنا ربّنا: إبقوا عاطلين عن العمل.

عند ربّنا ما من أحد يبقى عاطلاً عن العمل. كلّنا لدينا أعمال. لديه مشروع لكلّ واحد منّا، لديه مهمّة لكلّ واحد منّا. هل نحن مستعدّون، واستعدادنا هو استعداد العين التي تنظر إلى ما حولها، استعداد الأذن التي تسمع، واستعداد القلب الذي يقرّر. من هنا كلّم موسى ا؟، كما كلّم بلا شكّ مار شربل والحرديني، وتريزيا الطفل يسوع، وفرنسيس الأسيزي وكلّ هؤلاء القدّيسين الذين تعرفونهم. كان حوار بين ا؟ وبينهم.

أعرف الكثير من المؤمنين، كهنة، رهبانًا، راهبات، علمانيّين. هناك حوار مع ا؟، ولا ينطلقون بمشروع وبخاصة مثل هذا أي خلاص الشعب، إلاّ عندما يصمتون ويسمعون صوت ا؟.

2 - صوت وعلامة

هناك سماع الصوت وهناك علامة. فقال موسى ؟. إذًا كلّم ا؟ موسى، فسمع موسى. هنا أذكّركم قليلاً بالنسبة إلى صموئيل. في سفر صموئيل الأوّل 3، يخبر النصّ بأنّ صموئيل سمع صوت الربّ في صمت الليل، ولكن لم تكن خبرة روحيّة عند صموئيل فلم يكن يعرف أنّه صوت الربّ. ماذا جرى؟ خلط بين صوت الربّ وصوت البشر. ظنّ بأنّ الكاهن عالي هو الذي يدعوه. فمضى إلى الكاهن بسرعة: »هاءنذا دعَوتَني«. وحتّى الكاهن عالي، الذي كان كبير السن، بدا كأنّه لم يتعوّد أن يكتشف صوت ا؟. كان بإمكانه أن يقول لصموئيل حالاً، في المرّة الأولى: هو الربّ يكلّمك. كلاّ. قال له: »اذهب ونم فأنا ما دعوتك«. كأنّ صوت ا؟ هو لا شيء.

هذا هو الواقع أحبّائي. مرّات عديدة في حياتنا نحسب صوت ا؟ كأنّه لا شيء. وبعد هذا نتعجّب إن كانت حياتنا فاشلة أو أبعد من فاشلة، لا سمح ا؟. ولهذا يجب أن يتكرّر الصوت مرّة أولى ومرّة ثانية ومرّة ثالثة حتّى يفهم الكاهن المفروض بأن لديه الخبرة، أن يفهم الكاهن عالي ويقول لصموئيل: »هو الربّ يكلّمك. إذا ناداك، قل له ها أنا يا ربّ. تكلّم، فإنّ عبدك يسمع«.

وموسى في الحياة التي عاشها في البريّة، عرف أنّ هذا الصوت هو صوت ا؟. ولكن هل سيخضع موسى لصوت ا؟، هل سيعمل موسى بحسب المهمّة التي يطلبها منه الربّ؟ قال له الربّ: »تعال أرسلك إلى فرعون لتُخرج شعبك هناك«. ثلاث كلمات في 3: 10 »تعال«. إذًا ربّنا ينادينا. كما الأب يدعو ابنه من أجل عمل ما، هكذا الربّ يدعونا. ولا يدعونا ليعاقبنا. كلاّ. بل ليحمّلنا مسؤوليّة، ليجعلنا رجالاً ونساء يُتّكل عليهم، وعليهنّ. أرسلك إلى فرعون.

فرعون: معنى هذه الكلمة البيت الكبير. ملاحظة هامشيّة: لا نجد كلمة فرعون إلاّ في الكتاب المقدّس، غير هذا يسمّى ملك مصر أو غيره. فرعون هو أعظم ملك في ذلك الزمان. ولكن عند الربّ لا يوجد أعظم ملك. هو وحده ملك الملوك. لا يوجد أعظم من ا؟ وأكبر. هو كبير الكبار. إذًا أرسل الربّ موسى إلى أعظم ملك، وسيحسّ موسى بالضعف: من أنا لأذهب إلى فرعون؟ المسافة بعيدة بين راعي غنم يعيش في بريّة سيناء، وملك كان في ذلك الوقت أعظم ملوك الأرض.

3 - أنا أرسلك

أوّلاً: »تعال«. ثانيًا: »أريد أن أرسلك«: مرّات عديدة لا نريد أن نمضي، ندير آذاننا الصمّاء، كأنّنا لم نسمع ولم نرَ. أرسلك إلى فرعون. ثمّ المهمّة الكبرى: أن تُخرج شعب بني إسرائيل من مصر: هذا أمر مستحيل. هذا الشعب الملتصق بالأرض، الملتصق بالعبوديّة، كيف أستطيع أن أُخرجه؟ أحسّ موسى بالمهمّة الصعبة التي تُلقى على عاتقه. لهذا قال له: »من أنا حتّى أذهب إلى فرعون وأُخرج بني إسرائيل من مصر«. إذهب إلى فرعون أوّلاً، ثمّ أخرج بني إسرائيل: عملان صعبان، عملان مستحيلان على البشر. وبالأحرى على شخص ضعيف مهجّر من أرضه، غريب، يعيش في البريّة مع بعض خراف له.

وسوف نرى بعد ذلك أنّ موسى يحاول المرّة بعد المرّة أن يتهرّب. أحسّ أنّه ضعيف. ولكنّ الربّ لا يسمح له بأن يشدّد على ضعفه وينسى القدرة التي ترافقه. يقول لنا مار بولس: »حين أكون ضعيفًا عند ذاك أكون قويٌّا«. يقول لنا أيضًا مار بولس: »أنا أفتخر بأوهاني، بضعفي. هائل، لماذا؟ لأنّني قويّ، لا بقوّتي أنا الشخصيّة، يقول مار بولس: »أنا قويّ بالمسيح الذي يقوّيني«. وهذا ما سوف يقوله الربّ لموسى. ففي الآية 12، قال: »أنا أكون معك«. عندما يكون ا؟ معنا، يقول مار بولس، فمن يقدر علينا. أنا أكون معك. إذًا يجب ألاّ تخاف من أحد. أنا أكون معك.

4 - أنا أكون معك

ولكن يُطرح السؤال: كيف يكون ا؟ معنا ونحن لا نراه بعيننا، ولا نسمعه بأذننا؟ ولا نُحسّ به بأيدينا؟ أهو رجل بجانبي؟ أهو رفيق دربي؟ على مستوى العين والأذن واليد، كلاّ. أمّا على مستوى الإيمان، على مستوى الاتّكال على ا؟، نعم، هو بجانبي. ا؟ بجانبي يقول المزمور لكي لا أتزعزع. هو أساس متين يثبّتنا. هذا الكلام قاله الربّ لإرميا: »أنا أكون معك«. قاله لجدعون، قاله ليشوع: »أنا أكون معك«.

يقول الربّ لإرميا: »جعلتك سورًا من حديد«. كانوا يعمّرون الأسوار بحجر اللبن الذي يبدو كلا شيء. أنا جعلتك سورًا من حديد. والباب هو من نحاس وليس من خشب فيحترق بالنار. يهاجمونك فلا يقوون عليك، لا يقدرون عليك. إذا كنّا بهذه القوّة النابعة من قوّة ا؟، فممّن نخاف؟ ولكن موسى طرح السؤال: كيف يكون الربّ معي؟ وهكذا فعل من بعده جدعون. كيف يكون الربّ معنا وحالتنا هي هذه الحالة المزرية؟ أنت معنا، ونحن في العبوديّة، ونحن في الذلّ. ونحن نعمل في السخرة ملتصقين بالأرض ملتصقين بالحجارة.

أين أنت يا ربّ؟ قال الربّ: »أنا أكون معك«، وهذه علامة لك على أنّي أنا أرسلتك. هنا العظمة، الربّ يعطي العلامة. نرى في كثير من الظهورات بأنّ الربّ يعطي العلامة. مثلاً نتذكّر كلّنا زكريا وأليصابات لمّا ربّنا أرسل الملاك: ظهر على زكريا وبشّره بميلاد يوحنّا. العلامة: ستكون صامتًا حتّى تتأمّل في أعمال الربّ العظيمة. ومريم العذراء. العلامة: ها إنّ أليصابات، التي صارت كبيرة في السنّ، هي حبلى في شيخوختها. جدعون طلب علامة فأعطيَ له المطر على الجزّة لا على الأرض، والعكس بالعكس. وهنا الربّ يعطي لموسى علامة على أنّي أنا أرسلتك. أنت تطلب شيئًا ملموسًا وأنا أعطيك هذا الشيء الملموس.

5 - نحو المستقبل

لكن هذه العلامة ليست من الماضي، بل هي في المستقبل. يعني متى تيقّن موسى من هذه العلامة؟ لا الآن. ولكن في نهاية المسيرة سوف يفهم موسى أنّ الربّ هو الذي أرسله. إذا أخرجتَ الشعب من مصر، فاعبدوا ا؟ على هذا الجبل. كما نقول في الحساب، اعتبر الربّ أنّ المسألة محلولة، والمسألة لم تبدأ بعد. بل موسى لم يذهب بعد إلى مصر. ما زال في البريّة ويعطيه الربّ علامة: عندما تصبح على هذا الجبل، تعبدون ا؟ على هذا الجبل.

ما هذه العلامة؟ هي علامة الإيمان. نحن لا نعرف حالاً إلى أين يريد ا؟ أن يوصلنا، ولكنّه يعطينا من النور ما يكفي حتّى نمشي خطوة بعد خطوة كأنّنا في نفق. في النهاية، نفهم أنّ الربّ هو الذي فعل. هذه العلامة التي أعطاها الربّ لموسى لم تصبح واضحة إلاّ في نهاية المسيرة: عندما يصبح موسى والشعب العبراني على هذا الجبل، الجبل المقدّس، جبل سيناء، أو جبل الربّ. حينئذ يرون، يفهمون.

نتذكّر هنا بطرس لمّا كان في السجن (أع 12)، بطرس في السجن مقيّد وربّما سوف يُقتل في عيد الفصح كما قُتل معلّمه، ربّنا يسوع المسيح. والحرس كثر حوله، لا حارس واحد. حرس عديدون كانوا حوله ومع ذلك الربّ خلّصه. يقول الكتاب: خرج من الباب الأوّل، من الباب الثاني، خرج من السجن وهو لا يعلم. هي يد الربّ تقوده وهو لا يعلم لأنّ الفاعل الأساسي في حياتنا ومشاريعنا ورسالتنا هو ا؟. في النهاية يقول النصّ بفم بطرس: »الآن علمتُ أنّ الربّ خلّصني«، لم يعلم في البداية، علم في النهاية.

6 - والماضي

في حياة كلّ واحد منّا الصعوبات العديدة، متى نعرف، متى نتيقّن حقٌّا من يد ا؟؟ ليس في البداية ولكن في النهاية. وأنا في عمر 65 سنة أعرف أنّ الرب رافقني منذ كان عمري 6 سنوات في طريق الكهنوت، ويومًا بعد يوم ما زال يرافقني، فأصبحت كاهنًا وأكملت الرسالة وأكمّلها. ولكن الآن علمت. وهنا هذه علامة لك. إذًا العلامة لا تكون في البداية، الربّ يعلنها في البداية، ولكنّها تظهر واضحة في النهاية. عندما يصل الشعب العبراني مع موسى على هذا الجبل ويعبدون ا؟، يفهم موسى أنّ ا؟ هو الذي أرسله، وليس لا سمح ا؟ شخص بشريّ أو شخص شيطانيّ. كلاّ.

»هذه علامة لك على أنّي أنا أرسلتك«. إذا أخرجتَ الشعب من مصر، فاعبدوا ا؟ على هذا الجبل. يعني الربّ يقدّم البرنامج لموسى. البرنامج يتألّف من نقطتين. أوّلاً: إخراجُ الشعب، يعني قطع كلّ رباط بمصر. ولكن المؤسف أنّ الشعب سوف يتطلّع دومًا إلى مصر، إلى المياه الغزيرة وهو في الصحراء، إلى كلّ الخضار، إلى البطيخ إلى الخيار، إلى اللحوم والأسماك. ونحن نعرف غنى أرض مصر. لكن يجب أن يخرج الشعب، يخرج من الغنى إلى الفقر، يخرج من الخصب إلى الجفاف والقحط، من العظمة إلى الحقارة، من شعب كبير إلى شعب بسيط. شعب من الرعاة.

إذًا الخطوة الأولى، النقطة الأولى يجب أن يخرج الشعب من مصر. والنقطة الثانية هي عبادة الله على هذا الجبل. يعني كان الشعب في موقع العبوديّة في مصر، عبوديّة فرعون، عبوديّة المسخَّرين، عبوديّة الرقباء. الآن هناك عبوديّة من نوع آخر اسمها العبادة. لأنّ العبوديّة للإنسان تحقّر الإنسان. أمّا العبوديّة ؟ فهي ترفع الإنسان وتنقله من العالم المنخفض (الواطي)، إلى الجبل حيث موضع اللقاء مع الربّ.

هذا، أحبّائي، هو معنى جواب موسى: من أنا؟ وكلام الربّ: أنا أكون معك. إذًا عندما يرسلنا الله لا نخاف. هو معنا. والعلامة على أنّه معنا لا تكون في البداية بل ستظهر في النهاية. يبقى علينا أن نؤمن. الربّ هو أمين يبدأ ويكمل. ونحن نؤمن كما يقول الإنجيل: »من يثبت إلى المنتهى فذاك يخلص«. آمين.

أنا هو الذي هو

1 - نداء الربّ من أجل الآخرين

أحبّائي، سلام الربّ يكون معكم وروحه القدّوس يرافقنا حتّى نقرأ كلام ا؟، نسمعه، نتأمّل فيه، ونطلب منه عبرة من أجل حياتنا، غذاء من أجل حياتنا. ونحن عندما نقرأ الكتاب كلّه، نحاول أن نكتشف من خلال الأشخاص شخصيّتنا. نحن لا نقدّس الشخص الذي نقرأ حياته، ولا الشعب ولا الفئة ولا الأمّة. إنّما نحاول أن نكتشف صوت ا؟ كما اكتشفه غيرنا. إكتشف موسى صوت ا؟ وأنا عليّ أن أكتشف صوت ا؟. والجماعة التي أنتمي إليها يجب عليها هي ايضًا أن تكتشف صوت ا؟. إذًا هذا الكلام أصبح نموذجًا لنا، ونحن ما زلنا في قلب الحوار بين ا؟ وموسى.

منذ الآية الأولى من الفصل 3، كانت هناك العلّيقة الملتهبة التي لا تحترق: واكتشف موسى حضور ا؟. لذلك خلع نعليه من رجليه. خلع حذاءه لمّا فهم، لمّا عرف، أنّ المكان هو مكان مقدّس. وفي خطوة ثانية فهم موسى أنّ الربّ نظر وأنّ الربّ سمع، علم، نزل لكي يفعل.

وفي محطّة ثالثة فهمنا فيها أنّ الربّ لا يعمل بيديه. إنّه يستطيع أن يفعل، وهو الذي خلق الكون كلّه بإشارة، ومع ذلك، لا يريد أن يعمل بيديه، يريد أن يعمل بأيدينا. أعطانا يدين حتّى نعمل، أعطانا قلبًا حتّى نحبّ، أعطانا عيونًا حتّى ننظر معاناة الناس، أعطانا آذانًا حتّى نسمع صراخ الظلم الذي حولنا. الربّ عنده همّ، همّ الفقراء، همّ المساكين، وأتى ليحمّلنا إيّاه كما قلت لكم سابقًا بأنّ المسيح حمّل الرسل هَمّ هؤلاء الناس الجائعين: »أعطوهم أنتم ليأكلوا«. ولا تغسلوا أيديكم بسرعة كبيلاطس. عملٌ لا يهمّنا. أو كما يقول يوحنّا: إذا أتى أحدهم يطلب منكم حسنة، ا؟ يكون معكم: بهذه الكلمة لم يأكل، أنتم أعطوه.

وهنا الربّ يطلب من موسى أن يقوم بعمليّة الخروج. أن يقوم بإخراج الشعب من مصر، بأن ينقله من أرض العبوديّة إلى سيناء، إلى أرض العبادة ؟. وهكذا نصل في سفر الخروج (3: 13 ي) إلى هذا الحوار بين موسى وا؟. كان موسى قد قال ؟: »من أنا حتّى أذهب إلى فرعون« (آ 11)؟ أجابه الربّ: »أنا أكون معك«. أمّا موسى فيضع صعوبة في وجه ا؟. ولكن ما أجمل هذه الصعوبة لأنّها ستعلّمنا أمورًا عديدة. نقرأ إذًا سفر الخروج.

2 - شروط على الربّ

فقال موسى ؟: »إذا ذهبت أنا إلى بني إسرائيل وقلت لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم. فإن سألوني: ما اسمه؟ فماذا أجيبهم؟« فقال ا؟ لموسى: »أنا هو يهوه، الإله الذي هو...«. بل تطلب كلّ امرأة من جارتها ومن نزيلة بيتها أواني من فضّة وذهب وثيابًا تجعلونها على بنيكم وبناتكم، فتسلبون المصريّين (3: 13 - 22).

فقال موسى ؟: »إذا ذهبتُ«. نلاحظ أحبّائي كلمة »إذا« الشرطيّة. يعني موسى لم يقرّر بعد أن يذهب. إذا صدف وذهبتُ. نلاحظ الفرق بين موسى وإبراهيم (تك 12) قال الربّ: »أترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى المكان الذي أدلّك عليه«. فقام إبراهيم باكرًا.

نتذكّر يوسف خطّيب مريم ومربّي يسوع: »يا يوسف لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. قام باكرًا وأخذها إلى بيته ولم يعرفها«. أمّا موسى فهناك شروط. أوّل شرط قرأناه في آية 11: »من أنا؟« أنت في حدّ ذاتك ضعيف، لكن أنت بمن تمثّل أصبحت قويٌّا. ثاني شرط »إذا ذهبت«. إذا صادفت الأمور، تحسّنت الأمور، وكدت أقول أحببتُ أنا، ذهبتُ. كأنّ القضيّة مشيئة موسى لا مشيئة ا؟. الإنسان لا يضع شروطًا على ا؟ أبدًا. من لم يعطِ كلّ شيء، لم يعطِ شيئًا. إذا ذهبتُ إلى بني إسرائيل وقلت لهم...

عندي شرطان. أوّلاً، لن أذهب، يعني لن أعود من بريّة سيناء حيث الهدوء، حيث الأمان، حيث الحياة الرخوة والحياة السهلة والبعد عن مشاكل مصر والعبوديّة، عن العمل في اللبن والتبن والزراعة. تريدني أن أترك هذا المكان وأمضي إلى مصر. ويسمّيها الكاتب بعض المرّات أرض النار، أرض الحريق، أتون من اللهيب. نحن نعرف الحرّ الذي يسيطر على مصر مدّة طويلة خلال السنة. فإذا ذهبت أوّلاً، وقلت لهم، ربّما أذهب ولا أقول لهم، يكون عند موسى شرطان اثنان. إذًا وضع موسى شرطين لكي يجعل ا؟ يتراجع. ثمّ يقول له: أرسلْ أحدًا غيري.

وإذا قلت لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم. نلاحظ هنا إله آبائكم يعني إبراهيم وإسحق ويعقوب وأبناءه. وهكذا ارتبط موسى وارتبط الشعب العبراني بشكل خاصّ على مستوى الإيمان بإبراهيم وإسحق ويعقوب. هذا الإله الذي فعل في الماضي مع الآباء، هو يفعل اليوم مع الأبناء. هنا نفهم تاريخ الخلاص. تاريخ الخلاص ليس فقط عمل ا؟ الموقّت: خلّص مرّة وانتهى. كلاّ. ا؟ هو المخلّص الذي عمل أمس، الذي يعمل اليوم، الذي يعمل غدًا ولا يزال يعمل.

وما نقوله عن الخلاص، نقوله عن الخلق. ا؟ لم يخلق منذ كذا مليارات من السنين، وتربّع في أعلى السماء، وترك الكون يسير وحده، كلاّ. لا شكّ أنّ ا؟ خلق، ولكن هو يخلق كلّ يوم. الخلق هو عمل حاضر لأنّ الربّ حاضر. ربّنا ليس عنده البارحة واليوم والغد. كلاّ، كلّ يوم عند ا؟ هو اليوم. وعندما يقول إله آبائكم يعني الخلاص الذي تمّ لإبراهيم وإسحق ويعقوب، هو ذلك الذي يتمّ للشعب العبراني مع موسى، والذي سيتمّ يوم كتب الكاتب الملهم هذا النصّ، يعني 550 سنة تقريبًا قبل المسيح، وبعد موسى بـ 700 سنة.

الربّ هو ذلك الذي فعل في الماضي، ويفعل اليوم، ولا يزال يفعل على مستوى الخلق وعلى مستوى الخلاص. إله آبائكم أرسلني إليكم. إذًا ليس موسى هو الآتي، انطلاقًا من حماسه واندفاعه كما في الماضي حيث فشل. بل ا؟ أرسله.

نقرأ في الفصل الثاني من سفر الخروج: »خرج، فرأى رجلاً مصريٌّا يضرب واحدًا عبرانيٌّا فقتله«. الربّ لم يرسله، ولم يقل له أن يقتل. كلاّ. وأراد مرّة ثانية أن يضع السلمَ بين أخ وأخيه. كلاّ. المشروع الذي ينطلق من الناس يبقى على مستوى الناس ويدوم ما دام الناس. أمّا المشروع الذي ينطلق من ا؟ فهو الذي يدوم. هنا نتذكّر في سفر الأعمال لمّا أُمسك الرسل. أمسكتهم السلطات اليهوديّة. يقول لهم ساعتئذ جملائيل هذا الكلام الرائع: »إن كان هذا المشروع من الناس فهو سيزول، أمّا إذا كان من ا؟ فاحذروا أن تعارضوا ا؟«. يعني خطيئة كبيرة أن تعارضوا ا؟.

لذلك قال موسى: إله آبائكم أرسلني إليكم. يعني إذا أنتم عارضتموني، عارضتم ا؟ الذي أرسلني. كما قال يسوع: »من سمع منكم سمع منّي«. ومن سمع من موسى يكون قد سمع من ا؟. ومشروع ا؟ هو الخروج، هو مشروع الخلاص الذي يحمله موسى.

4 - إسم ا؟

إذا ذهبتُ إلى بني إسرائيل، وقلت لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم فإن سألوني ما اسمه؟ الاسم يدلّ على الشخص. لكن من المؤسف في العالم الوثني كان هناك آلهة عديدة وكلّ إله له اسمه. هناك إيل، بعل، هدد، ملقارت، هناك جوبيتر، زوش، آلهة عديدة في الشرق والغرب، بعد ذلك القمر له اسمان سين أو يَرِح. والشمس هي الاله شمش. والنيل كان مؤلَّهًا والبحر كان مؤلَّها. إذًا آلهة عديدة. فهل ا؟ الذي ظهر لموسى هو إله من هؤلاء الآلهة؟

سألوني ما اسمه، يريدون أن يعرفوا ما اسمه. هنا أذكّركم أيضًا بأعمال الرسل عندما بشّر بولس في أثينة (أع 17). وجد المعابد العديدة: هذا المعبد لهذا الإله. وهذا المعبد لهذه الإلاهة. مثلاً أثينة كانت إلاهة المدينة أثينة، ثمّ ديونيسيوس وغيره من الآلهة. كلّ إله له معبده. ووجد بولس أخيرًا معبدًا مكتوبًا عليه: للإله المجهول. ربّما جاء إله لا نعرفه ويريد أن يصنع الشرّ بالمدينة، فنقول له: هناك معبد لك، هناك هيكل لك، لا تخف، لقد حسبنا حسابك.

نظنّ للوهلة الأولى أنّ موسى جعل ا؟ بين الآلهة. وكما للآلهة اسم كذلك للربّ اسم. سألوني ما اسمه. ولماذا يُسأل عن اسم الإله. أوّلاً لكي نستطيع أن نناديه، فيصبح بالنسبة إلينا شخصًا قريبًا، نصرخ إليه. هذا إذا لم يكن صنمًا لا يسمع، ولا يرى ولا يُحسّ. ثمّ عندما نعرف اسمه نستطيع أن نسيطر عليه، وهنا الفرق بين عبادة ا؟ وعبادة الأوثان. ففي عبادة الأوثان تكون الآلهة في خدمتنا وفي عبادة ا؟ نكون نحن في خدمة ا؟.

وهكذا كانت الصعوبة الثالثة. إذًا أوّلاً: من أنا؟ ثمّ إذا ذهبتُ. والآن يضع موسى شرطًا على ا؟ ليعطيه اسمه فيبدو كأنّه يسلّمه ذاته. هذا غير معقول على مستوى الآلهة التي تبقى في السماء ويبقى الناس على الأرض. أمّا مع ا؟ فقد سلّمنا ذاته. حين خلق الكون، سلّمنا ذاته. حين أعطانا الحريّة، سلّمنا ذاته. وخصوصًا حين أعطانا ابنه، سلّمنا ذاته، صار ضعيفًا أمامنا.

5 - إسم ا؟ حضور

أنظروا أحبّائي كيف نعامل كلمة ا؟، وكيف يصعب الكلام عنها. كيف نعامل أسرار ا؟، كيف نعامل حضور ا؟، كيف نعامل ابن ا؟. عندما سلّمنا ا؟ ابنه، صار ضعيفًا بالنسبة إلينا. وهنا استعدّ ا؟ أن يعطي موسى ما طلب. فقال ا؟ لموسى: أنا »يهوه«. كلمة عبرانيّة معناها بالعبري: أنا هو الذي هو. أنا يهوه. ما معنى هذا الجواب؟ له معانٍ عديدة: أوّلاً »أنا هو الذي هو«. نستطيع أن نفهم بمعنى أوّل أنّ الربّ لا يريد أن يعطي موسى جوابًا، لا يريد أن يعطي اسمه، وألاّ تكون سلطة لموسى على ا؟ لا سمح ا؟. وهنا معنى ثانٍ »أنا هو الذي هو« يعني أنا الكائن. هكذا ترجمت اليونانيّة كلمة يهوه. أنا الكائن. ونقرأ في أيقونات المسيح في اللغة اليونانيّة »أون« يعني الكائن.

إذًا في المعنى الأوّل، كأنّي بالله لا يريد أن يعطي جوابًا. وبالمعنى الثاني: أنا الكائن، أنا هنا. أنا حاضر. وسيتوسّع في هذا اللفظ سفر الرؤيا في الفصل الأوّل. يقول: أنا الكائن الآن، أنا الذي كان في الماضي، وأنا الذي سأكون في شخص يسوع المسيح ذاك الذي يأتي. والمعنى الثالث هو ليس فقط أنا الحاضر، ليس فقط أنا الكائن لكن أنا الذي أفعل، أنا الذي سوف أفعل. يعني الإله الفاعل. فالله لا يحضر أبدًا بطريقة حياديّة كأنّ الأمور لا تخصّه.

الله عندما يحضر فلكي يفعل. في الإنجيل مضى يسوع إلى البراري، إلى لقاء الأبرص، لا ليندبه أو يتأسّف عليه أو يتحسّر. كلاّ بل ذهب إليه لكي يشفيه. ولمّا قال الربّ أنا يهوه، أنا هو الذي هو، يعني أنا ذاك المستعدّ لأن أعمل كما قلنا في الآية 8: نزلتُ. هو نزل إلينا، تنازل لكي يعمل. وهكذا كان لموسى الجواب: يهوه هو اسم الله، الاسم العظيم اسم الله: أنا هو. الضمير نوعًا ما يبقى كأنّه جوهر فقط. أمّا الفعل في اللغة العبريّة فيعني كائنًا يفعل.

هكذا تجيب بني إسرائيل. هو الذي هو أرسلني إليك. لا أريد أن أتكلّم عن هذه الطرق في التعامل مع الكتاب المقدّس، طرق تنبع من العاطفة، ومن النظرة الذميمة، إلى الكتاب المقدّس. كلمة يهوه أصبح لها معنى كبير جدٌّا، الله الحاضر معنا، الله الذي لا يموت، الله الأزليّ، الذي لا بداية له، الأبديّ الذي لا نهاية له، الله السرمدي. قد يكون هذا الاسم أُخذ من بني مِدْيان حيث كان يقيم موسى. لا يهمّ الاسم، المهمّ هو النظرة الجديدة، المعنى الجديد الذي حمله هذا الاسم بالنسبة إلى موسى وإلى شعبه. ربّما كان هناك إله اسمه يهوه، صنم من الأصنام، ونحن نعرف أنّ الأصنام لا تنظر، لا تسمع ولا تعلم. أخذ موسى الاسم وحمّله معنًى جديدًا: هذا الإله الذي هو، الكائن، الذي كان، الذي سيكون دومًا، هذا الإله هو الأمين الذي فعل في الماضي ويفعل اليوم وسيفعل إلى النهاية.

هذا هو معنى اسم يهوه كما قاله الله لموسى. تراءى الربّ لموسى، كلّمه في أعماق قلبه، فاكتشف هذا الإله الحاضر في الماضي، في حياة الآباء إبراهيم وإسحق ويعقوب، الحاضر الآن مع موسى بانتظار أن يصبح حاضرًا في حياة الشعب الذي يعرف السخرة والعبوديّة. وسيكون حاضرًا في تاريخ شعبه وخصوصًا مع يسوع المسيح الذي سيكون حضور الله في العالم. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM