الربّ يرسل موسى

 

الربّ يرسل موسى

»فقال الربّ لموسى نظرت إلى معاناة شعبي الذين في مصر، وسمعتُ صراخهم من ظُلم مسخّريهم وعلمتُ بعذابهم، فنزلتُ لأنقذهم... إذا أخرجتَ الشعب من مصر، فاعبدوا الله على هذا الجبل« (3: 7 - 12).

1 - الله نظر، سمع

إذًا هذا المقطع الأوّل من سفر الخروج فصل 3: 7 وما يلي، يقدّم لنا حوارًا بين الربّ وموسى. في الواقع، الله هو الذي يبدأ الحوار. وعندنا كلمات مهمّة جدٌّا تتعلّق بالله في آية 7: نظرتُ، سمعتُ، علمتُ. الله هو الذي يرى، الله هو الذي يسمع، الله هو الذي يعلم بحالتنا. هذا مهمّ كثيرًا. والكتاب المقدّس في العهد القديم شدّد على الفوارق بين الله، الإله الحقيقي، وبين الأصنام.

الأصنام في الماضي كانت حجارة وخشبًا. واليوم الأصنام هي بشر، بشر أقوياء، بشر متسلّطون، بشر يمتلكون السلطة والمال وغيرها من المواهب. هم لا ينظرون، لا يسمعون ولا يعلمون. يقول الكتاب المقدّس: الأصنام لها عيون ولا تنظر، لها أنوف ولا تشمّ، لها أيد ولا تفعل... أمّا الله فهو الذي ينظر إلى معاناة شعبه. ينظر كما الأمّ تعرف مرض ابنها من النظر إلى وجهه أو إلى عينيه. ثمّ سمعتُ صراخه: الربّ هو الذي يسمع كلّ صراخ ينطلق على الأرض.

وكلمة صراخ تملأ الكتاب المقدّس، إمّا على المستوى الفردي: »صرخت إلى الربّ في ضيقي«، كما يقول المزمور. وإمّا على المستوى الجماعي. إذا كان الجفاف وعدم المطر والقحط، يصرخ الشعب. إذا كان هناك عامل من العمّال لا يُعطى أجره يصرخ إلى الربّ. إذًا الربّ هو الذي يسمع صراخنا. فلماذا لا نصرخ إليه؟ لماذا نأخذ بعض المرّات موقف نظرة فلسفيّة قديمة يسمّونها الرواقيّة كانت تقول: تألّم وابق ساكتًا. لماذا؟ لماذا لا أرفع صراخي إلى الربّ، أرفع ندائي إلى الله وأنا متأكّد بأنّه يسمع؟

ولكن هناك من يقول: هل ؟ عينان حتّى يرى؟ هل ؟ أذنان حتّى يسمع؟ هل ؟ قلب حتّى يعلم؟ لا شكّ على المستوى البشريّ الله ليس مثلنا. ولكن الذي خلق للأمّ والأب عينين، الذي خلق للأب والأمّ أذنين، أتراه لا يسمع؟ بل سمعه أعمق بكثير من سمعنا ونظره من نظرنا. كان القدّيس يقول أوغسطينس »أنت تعرفني أكثر ممّا أعرف نفسي«. أنت في قلبي أعمق من قلبي.

2 - وهو سيفعل

الربّ نظر، سمع وعلم، يعني أخذ العلم بذلك، لا لينظر، لا ليتأسّف فقط، لا ليقول ما باليد حيلة. كلاّ. أخذ علمًا لكي يفعل. هنا أتذكّر في الإنجيل لمّا التلاميذ ويسوع رأوا الجمع الكبير، يومين، ثلاثة أيام دون طعام. ماذا قال التلاميذ ليسوع: أرسلهم إلى القرى والضيع وليتدبّروا أمرهم. ولكنّ يسوع لا يرضى. قال لهم: أنتم أعطوهم ليأكلوا. نحتاج 200 دينار (يعني مقابل 2000 - 3000 دولار اليوم). بسيطة، أنتم أعطوهم ليأكلوا. هذا يعني أنّ الإنسان يبدأ بالعمل والربّ يكمّله. وهنا الربّ أخذ علمًا بعذاب الشعب بعد أن نظر وسمع وهو سيفعل.

لكن من المهمّ جدٌّا أن نفهم بأنّ ا؟ لا يفعل بيده، ليس عنده يد منظورة. هو يعمل بأيدينا. لهذا السبب دعا موسى، كما دعا الكثيرين من المحرّرين في تاريخ البشريّة. من لا يعرف مثلاً غاندي محرّر الهند، من لا يعرف منديلا محرّر أفريقيا الجنوبيّة، من لا يعرف مارتين لوثر كينغ محرّر العبيد في الولايات المتحدة الأميركيّة. كانوا مستبعَدين عن الجماعة، جماعة البيض فدخلوا مع الآخرين. نظر الربّ، سمع، علم.

تقول الآية 4: »فنزلتُ«. نحن نعتبر دائمًا أنّ السماء هي فوق والأرض هي هنا وعالم الموتى تحت. نزلتُ. يعني الربّ أراد أن يتدخّل. ا؟ لن يبقى في أعلى سمائه ينظر إلينا من بعيد، كلاّ، هو ينزل. نزلت لأنقذهم، لأخرجهم. إذًا الربّ عزم علىالعمل، قرّر أن يتدخّل. قال: نزلتُ لأنقذهم وأُخرجهم من تلك الأرض...

3 - من العبوديّة إلى الأرض المقدّسة

أوّلاً، ما هي الصعوبة التي يعيش فيها العبرانيّون؟ هم عبيد في أرض مصر. والربّ لا يريد لأحد أن يكون عبدًا. هو خلقنا على صورته ومثاله، وهو يريدنا أحرارًا. ونحن لسنا عبيدًا للناس، نحن نتعبّد ؟، نحن أبناء الله، نحن على صورة الله. نزلتُ لأنقذهم من أيدي المصريّين وأُخرجهم من تلك الأرض. صارت الأرض التي يقيمون عليها، التي يعملون فيها إن في الزراعة وإن في البناء، أرضَ عبوديّة. هم يعامَلون كمسخَّرين. يعني بدون أجر، يعملون لقاء الطعام فقط.

أخرجهم من تلك الأرض إلى أرض رحبة تدرّ لبنًا وعسلاً. صارت أرض مصر بالنسبة لهؤلاء العبيد، أرض الحديد، الأرض الصلبة التي تُخرج بصعوبة الطعام. أمّا أرض فلسطين، الأرض المقدّسة، فهي أرض رحبة تدرّ لبنًا وعسلاً. قبل أن نشرح الآية نفهم أنّ كلّ عمل تحرّر خصوصًا في أميركا الجنوبيّة ينطلق من هذا المقطع في الكتاب المقدّس. كأنّي بالربّ يقول: أنا نظرت سمعت وعلمت، وسوف أتدخّل، ولكن عليكم أنتم أن تنطلقوا بالعمل. أنا لا أعمل وحدي، أنا أعمل معكم، هذه دعوة عظيمة جدٌّا.

الله لا يعمل عنّا كأنّنا قصّار، كأنّ لا شخصيّة لدينا، ليس عندنا حريّة. كلاّ، الله يريد أن يعمل معنا، أن تكون يده بيدنا. وكلّ الشعوب التي تحاول الخروج من التسلّط، من العبوديّة إمّا عبوديّة الحاكم، إمّا عبوديّة الشعب الغريب، تنطلق من هنا وتعرف أنّ الله يرافق كلّ عمليّة تحرّر تحصل على الأرض.

نزلتُ، الربّ نزل، تنازل، صار قريبًا من الإنسان لينقذه وينقله من مكان إلى مكان، من حالة إلى حالة. كان العبرانيّون مسخَّرين في مصر. سيصبحون أحرارًا. كانوا يتعذّبون، الآن سوف يفرحون مع الربّ ويكونون سعداء. كانوا يصرخون من الظلم، أمّا الآن فسوف يهتفون إلى الربّ هتاف الفرح. وأخيرًا صاروا في أرض فلسطين والأرض المقدّسة، أجل. مصر صارت الأرض الضيّقة، وفلسطين الصغيرة صارت الأرض الرحبة الواسعة. من يجعلها واسعة؟ الله يجعلها واسعة. المحبّة تجعل المكان الضيّق واسعًا، وكلّنا يعرف المثل العاميّ: »بيت الضيق يتّسع لألف صديق«. يعني لو كان البيت ضيّقًا يستقبل أشخاصًا عديدين، هم أصدقاء، هم أحبّاء.

4 - أرض تدرّ لبنًا وعسلاً

وهكذا أرض مصر الواسعة صارت ضّيقة، والأرض المقدّسة صارت أرضًا رحبة، لأنّ الربّ يقيم عليها ولأنّ المحبّة هي التي يجب أن تشرق على حياة الأبرار. يتابع النصّ ويقول: أرض تدرّ لبنًا وعسلاً. اللبن يعني الحليب بلغّتنا نحن، والعسل هو الدبس والعسل، الاثنان معًا.

ما معنى تدرّ لبنًا وعسلاً. المعنى الأوّل: هي أرض الرعاة وفيها العشب والماء، وهكذا يستطيع شعب الله أن يأكل مماّ تقدّمه هذه القطعان. والعسل أيضًا هو طعام الفقراء، إن كان عسل البرّ أو شجر الخرّوب الذي هو شجر ينبت في الأماكن الفقيرة. ولكن هنا الأهمّ: تدرّ لبنًا وعسلاً، يعني تعطي كميّة كبيرة لأنّ الربّ لا يعطي أبدًا القليل. حين يعطي فهو يعطي الكثير. اللبن والعسل هما علامة السعادة. السعادة كما الطفل مع أمّه. الفكرة الثانية مهمّة جدٌّا. عندما نقول: أرض رحبة تدرّ لبنًا وعسلاً، نعني هي رحبة وغنيّة بغنى الربّ فيها، لا بما فيها. نحن نعرف مثلاً أن أرض يهوذا هي قاحلة، أرض ملحيّة، لا تعطي أيّ خير. ومع ذلك بحضور الربّ يتبدّل كلّ شيء.

هنا نتذكّر مع آدم كيف تحوّلت الأرض من شرّ إلى شرّ أكثر. لماذا؟ لأنّ آدم ابتعد عن الله لم تعد الأرض تلك الرحبة. لم تعد الأرض أرض السعادة. لم تعد تعطي غلّة. فالبركة هي من الله. وكذلك نقول عن قايين: ابتعد عن الله وحطّم وصايا الله عندما قتل أخاه هابيل، فصارت الأرض تُنبت شوكًا وعوسجًا. أمّا حضور الربّ في الأرض المقدّسة فيجعلها تدرّ لبنًا وعسلاً. وهذا اللبن والعسل هو طعام الكبار، طعام الأشخاص السعداء، طعام الأشخاص الذين لا هموم لديهم. ويكمل: »من تلك الأرض إلى أرض رحبة تدرّ لبنًا وعسلاً«. ونتابع: إلى موطن الكنعانيّين والحثّييّن الأموريّين واليبوسيّين والحوّيّين والفرزّيّين.

5 - شعوب سبعة

الكنعانيّون هم أشخاص أقاموا في مصر وأقاموا على شاطئ لبنان حتّى تركيا. الحثيّون جاؤوا من تركيا وبقي منهم أشخاص عديدون. الأموريّون كانوا في شمالي لبنان. الفرزّيّون والحوّيّون واليبوسيّون كانوا في أورشليم لأنّ أورشليم من قبل كان اسمها يبوس. كُتب النصّ لاحقًا لا شكّ. لكن كتب لاحقًا بمعنى روحيّ. نقرأ في آية 8. الكنعانيّين(1)، الحثيّين(2)، الأموريّين(3)، اليبوسيّين(4) والحوّيّين(5) والفرزّيّين(6). ستّة شعوب. هو عدد النقص. متى يكمل هذا العدد؟ عندما يأتي العبرانيّون ويصبحون(7) شعوب. وهؤلاء الشعوب السبعة عليهم أن يعيشوا مع بعضهم بوئام وسلام. أجل، نظرة الله غير نظرة البشر. البشر يريد الواحد أن يلغي الآخر. كُلُّ شعب يلغي الشعب الآخر، أو أنا أو هو. لماذا لا أكون أنا وهو، أنا معه، وليس أنا ضدّه لأقتله؟ وهنا نرى الخبرة الأولى، خبرة قايين وهابيل: قايين أراد أن يلغي أخاه. هو كان الخاسر. أصبح وحده ولم يبقَ له معين. يقول الكتاب المقدّس: الويل للإنسان الذي هو وحده. وهنا جاء العبرانيّون. جاؤوا وعاشوا مع هؤلاء الشعوب الستّة وأصبحوا سبعة شعوب، وصاروا كلّهم شعبَ الله. لكنّ هذا الوضع ينقصنا كثيرًا في عالمنا اليوم. نحن لا نعرف أن نتفاهم بعضنا مع بعض، ولو تبدّلت حضارتنا ولو تبدّلت طوائفنا ولو تبدّلت دياناتنا. نحن نبقى كلّنا شعب الله ولا أحد يمكنه أن يقول أنا وحدي شعب الله، لأنّ الله ليس مُلكًا لنا، نحن مُلك له. على كلّ حال هو أبو الجميع. وفي الآية 9 يقول الربّ: »والآن ها صراخ بني اسرائيل وصل إليّ، ورأيت كيف جار المصريّون عليهم«.

6 - يدنا بيد الربّ

البداية هي مصر، والنهاية هي تلك الأرض التي تدرّ لبنًا وعسلاً والتي يقدّسها الربّ بحضوره، في مدينته المقدّسة، أورشليم القدس، وفي الهيكل الذي هو رمز حضوره. قال في الآية 7: »سمعت صراخهم«. ثمّ عاد وقال في آية 9: »ها صراخ بني إسرائيل وصل إليَّ«. يعني لا يوجد حاجز بين ا؟ والإنسان. صوت الإنسان يصل إلى ا؟. لنكنْ متأكّدين أنّ صوت الإنسان يصل دومًا إلى الربّ كما أنّ الربّ يجيبنا ويوصل صوته إلينا في أعماق قلوبنا. أتذكّر المثل الإنجيلي في لوقا فصل 12، والذي يشرح صراخ الصديق إلى صديقه: »أريد خبزًا. جاءني ضيف«. وألحّ حتّى أعطاه صديقه. في فصل 18، هذه الأرملة التي جار عليها جارها أخذت تصرخ إلى القاضي ولم تتوقّف حتّى أعطاها وأنصفها.

إذًا نحن نتعلّم الصراخ إلى الربّ: »إلهي إليك صرخت فاستمع إلى صوتي«. الصراخ إلى الربّ يصل حقٌّا إلى الربّ. كما قلنا سابقًا، الربّ يفتح أذنيه، يفتح عينيه، يفتح قلبه، ولا يريد أن يبقى مظلومٌ على الأرض، لا يريد أن يبقى جائعٌ على الأرض. لهذا السبب، إذا نحن لم نساعد الربَّ في نزع الظلم، في إشباع الجائع، في إرواء العطشان، في استقبال الغريب، في زيارة السجين، في مساعدة المريض، نكون خارج مشروع ا؟، يقول لنا في إنجيل متّى فصل 25: 31 - 46: »كنت جائعًا فأطعمتموني...«

ننهي هذا الفصل في الآية 10: الربّ الذي نظر، الذي سمع، الذي علم، الذي نزل، الذي وصل إليه الصراخ، أتراه لا يعمل؟ ماذا يقول لموسى؟ »تعال أُرسلْك إلى فرعون لتُخرج شعب بني إسرائيل من مصر«. إذًا على موسى أن يعمل. الربّ لا يعمل بيديه، بل هو يختار الواحد منّا ويرسله لأنّ عنده ثقة به، يرسله ليحمل الخلاص إلى الشعب. والكتاب المقدّس سيُظهر لنا دائمًا أنّ البشر خارجيٌّا هم الذين عملوا. في الواقع الله هو الذي يعمل دائمًا من خلال البشر. يد ا؟ تصل إلينا من خلال يد البشر، عطيّة الله تصل إلينا من خلال عطايا البشر. وهكذا أراد الربّ لنا: أن نكون بالغين لا قاصرين فنعمل عمل خلاصنا بأيدينا. ولكن الربّ أراد أن يرسل أشخاصًا باسمه، أن يكونوا رعاة باسمه. يقومون بالعمل الذي لا يستطيعه هو، أو لا يريد هو أن يعمله بل يطلب منّا أن نعمله.

الله هو المخلّص وسيرسل موسى ليخلّص شعبه. إذا أخذنا العهد الجديد، الربّ يسوع هو الراعي ومع ذلك قال لبطرس: »إرعَ خرافي، إرعَ غنمي، إرعَ نعاجي«. الربّ نظر إلى شعبه، الربّ نزل فرأى. والربّ أرسل موسى. وهكذا هو ينتظر أن يلبّي موسى النداء فتنطلق مسيرة الخلاص. يد الله بيد موسى، يد الله بيد الإنسان. وعندما نعرف أنّ الربّ في النهاية يريد لنا حياة من السعادة، بعضنا مع بعض، نفهم أنّه عندما يرسل، عندما يختار، عندما يطلب، فهو لا يطلب من أجل نفسه، بل يطلب من أجلنا.

يا ليتنا نفهم أوّلاً كيف نصرخ إلى الربّ. ثانيًا كيف نجعلُ يدنا مع يد الربّ، ثالثًا كيف نتعاون مع ذلك الذي أرسله الربّ. عندئذ يتمّ عمل الخلاص بيد الله ويد الإنسان. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM