الله يكلّم موسى

 

الله يكلّم موسى

أحبّائي، نتابع سفر الخروج، السفر الثاني من أسفار موسى الخمسة. بعد أن تحدّثنا عن طفولة موسى وشبابه، عن طريقته الخاصّة لتخليص شعبه من العبوديّة، نصل إلى صوت الله. عنوان هذه الحلقة: الله يكلّم موسى.

«وكان موسى يرعى غنم يترو حميه، كاهن مِدْيان. فساق الغنم إلى ما وراء البرّيّة حتّى وصل إلى جبل الله حوريب. فتراءى له ملاك الربّ في لهيب النار في وسط العلّيقة... فستر موسى وجهه لأنّه خاف أن ينظر إلى الله» (3: 1-6).

1 - لقاء بالربّ

لا شكّ هذا المشهد هو قمّة من قمم سفر الخروج: لقاء الربّ مع موسى. أين تمّ هذا اللقاء؟ على جبل الله، على حوريب أو بكلمة أخرى جبل سيناء؟ حوريب يعني موضع الخراب، لأن هناك كانت الصخور تتشقّق من قدرة الله بسبب الأمطار والثلوج وغيرها. المناسبة يوميّة، كان موسى كلّ يوم يأخذ غنم حميه يترو ويمضي بها إلى المرعى. يومًا بعد يوم كان موسى يذهب إلى البرّيّة. فليس موسى هو الذي حدّد الزمن الذي فيه يلتقي بالربّ، بل الربّ هو الذي حدّده. من رتابة، من تكرار أعمالنا حتّى الملل، يعرف الربّ أن يختار الدقيقة، اللحظة، التي تختلف عن كلّ الدقائق، عن كلّ اللحظات، هو يعرف متى يتكلّم ومن يكلّم، وكيف يتكلّم.

وهكذا كانت الساعة ساعة اللقاء مع موسى، ساعة النعمة، ليس له وحده فقط بل للشعب كلّه. ويقول النصّ في آية 2: فتراءى له. تراءى هي في صيغة المجهول: رُؤيَ. يعني الله سمح لموسى بأن يراه. »الله لم يره أحد قط«. يقول القدّيس يوحنّا. ويقول العهد القديم: »لا يرى أحد وجه الله ويبقى حيٌّا«، ويبقى على قيد الحياة، بل هو يموت بسرعة. ولكنّ الربّ هو الذي يسمح بأن يراه الإنسان: تراءى لموسى، تراءى لجدعون، تراءى لإيليّا ولأشخاص كثيرين.

فتراءى له الربّ. ولكن النصّ يقول »تراءى له ملاك الربّ«. دائمًا الملاك يُذكر قبل الربّ. فهو يهيّئ الطريق للربّ. ولكن الحوار الحقيقيّ ليس بين الملاك والإنسان، بل بين الربّ والإنسان. الملاك يشبه الحرس الذين يحيطون بالملك. المهمّ ليس الحرس وإن كانت ألبستهم لمّاعة وسيوفهم مسلولة. لكنّ المهمّ هو الربّ.

2 - في لهيب نار

تراءى له الربّ في لهيب نار من وسط العلّيقة. دائمًا النار تدلّ على الله. يقول الكتاب »اله نار آكلة«، يعني تُحرق كلّ ما ليس من المعدن الطيّب. يقول بولس الرسول: »تمرّ نار، فإذا كانت حياتنا أو أعمالنا من تبن أو قشّ أو خشب، تحترق بسرعة. أمّا إذا كانت من الفضّة والذهب والحجارة الكريمة، فهي تصبح أكثر لمعانًا وأكثر جمالاً. وما نلاحظه أنّ هذه النار ما اختارت شجرة مهمّة، السرو، السنديان، الزيتون، الكرمة. إختارت آخر شجرة: العلّيقة. ولا ننسى أنّنا في الصحراء، في البرّيّة. فلا مكان للأشجار. هي علّيقة، شوكة بسيطة، سقطت عليها الصاعقة، سقط عليها البرق والرعد فاشتعلت.

الربّ يأخذ الضعيف الذي لا يُحسَب له حساب. ما هي العلّيقة تجاه الأرزة؟ لا شيء. ولكنّ الربّ أراد أن يكلّم موسى من خلال نار داخل العلّيقة. ومن هو موسى هذا الشخص الذي لا يملك شيئًا، ولو لم يستقبله يترو ويزوّجه ابنته لما كان بشيء. هو راعٍ ونحن نعرف مستوى الرعاة. في زمن يسوع المسيح مثلاً كانوا يُمنعون من الدخول إلى الهيكل وإلى مواضع اجتماع للصلاة. وموسى سيقول هو عن نفسه إنّه لا يعرف أن يتكلّم، لا يعرف أن يقود شعبًا من الشعوب. ومن يقود هذا الشعب؟ الربّ بعصاه، عصا موسى. عصا هذا الراعي ستصبح عصا الربّ، ويد موسى ستصبح يد الربّ، وفم موسى سيصبح فم الربّ. تلك طريقة الربّ في العمل من أجل مشروعه. يقول مار بولس: »يختار الضعفاء ليُخزي الأقوياء. يختار من ليسوا بشيء ليُخزيَ الذين يحسبون نفوسهم شيئًا«.

3 - نداء الله

سقطت النار على هذه العلّيقة. مشهد يمكن أن يحدث أكثر من مرّة. ولكن هنا هذه العلّيقة تتوقّد بالنار وهي لا تحترق. ونحن نعرف بأنّ العلّيقة تشتعل بسرعة وتتحوّل بسرعة إلى رماد. أمّا هذه العلّيقة فهي من نوع آخر. وهذه النار هي من نوع آخر، فلفتت انتباه موسى. أجل الربّ يلفت انتباهنا من خلال الأمور البسيطة. أمّا موسى فقال في نفسه: أميل وأنظر هذا المشهد العظيم. ما بال هذه العلّيقة لا تحترق؟« (آ 3). إذًا أراد موسى أن يدرس الوضع، أن يدرسه بعقله. ولكنّه لا يستطيع أن يصل إلى جواب. لو كانت مختبرات في أيّامه، لكان أخذ بعض هذا العلّيق ودرسه في المختبر على مثال ما يُفعل ببعض المعجزات التي تتمّ في الكنيسة، يأخذون قطعة قماش أو غيرها من الأمور ليدرسوها في المختبر.

»ورأى الربّ أنّه مال لينظر، فناداه من وسط العلّيقة« (آ 4). الربّ يرى. في الآية 2 تراءى، يعني يُرى، يَسمح للإنسان أن يراه. وهو الآن رأى، يرى، رأى الربّ أنّه مال لينظر، فناداه من وسط العلّيقة. يُشبّه الله بالإنسان: هو يرى، كما يرى الإنسان، يتكلّم كما يتكلّم الإنسان، يتصرّف كما يتصرّف الإنسان. هذا ما نسمّيه بالطريقة العلميّة صورة أنتروبومورفيّة. يعني نشبّه الله بالإنسان. هي صورة تشبيهيّة. يعني لا نستطيع أن نتصوّر الله، أن نرسم الله، لهذا ننطلق من الإنسان ونتحدّث عن الله. الإنسان يرى والله يرى، الإنسان ينادي والله ينادي. لكنّ الله لا يرى كما يرى الإنسان. قال الربّ لصموئيل: الإنسان يرى الوجه، أمّا الله فيرى القلب. وهناك النداء، نداء خارجيّ. أمّا نداء الله فهو نداء داخليّ، هو نداء في أعماق القلب.

ونلاحظ خصوصًا في الآية 2: تراءى له ملاك الربّ. وفي الآية 4، لم نعد نرى ملاك الربّ، فيقول النصّ »ورأى الربُّ«. في درجة أولى شدّدنا على الملاك لأنّه هو الذي يسير أمام الربّ كما يسير حرس الملك أمام الملك. أمّا الآن فلم نعد بحاجة إلى الملاك، فالربّ هو الذي يرى موسى، فالربّ هو الذي ينادي موسى. وعادة، النداء يتوجّه مرّتين: موسى، موسى. أوّلاً ناداه باسمه. هذا يعني أنّه يعرفه، أنّ هناك علاقة محبّة. وناداه مرّتين للتشديد على أنّه ينتظر الجواب الإيجابيّ، ينتظر النعم، ينتظر هاءنذا، أنا حاضر يا ربّ. على مثال صموئيل: »صموئيل، صموئيل«. فجاء الجواب: »تكلّم يا ربّ فإنّ عبدك يسمع«. ونادى الربّ موسى مرّتين، فقال: نعم هاءنذا لبّيك.

كم من مرّة ينادينا الربّ في أعماق قلوبنا، وما أسعدنا إن عرفنا أن نقول: هاءنذا يا ربّ. وسوف نرافق موسى ونفهم أنّ الجواب لن يكون فقط جواب الكلام، جواب القول: نعم، بل يكون جواب العمل والحقّ، لأنّ الربّ عندما يدعونا فهو يدعونا لمهمّة، لرسالة، لعمل عظيم: موسى، موسى. فقال: نعم.

4 - المكان مقدّس

في الآية 5 قال الربّ: »لا تقترب إلى هنا. إخلع نعليك، اخلع حذاءك من رجليك، لأنّ الموضع الذي أنت واقف عليه، أرض مقدّسة«. أجل تقدّس هذا الموضع، مهما كان صغيرًا، تقدّس بحضور الله. تقدّس يعني تكرّس للربّ، لم يعد هذا الموضع في خدمة البشر، صار في خدمة الربّ. لا يحقّ بعد لموسى أن يتصرّف بهذه القطعة من الأرض وكأنّها تشبه سائر القطع في تلك البرّيّة، برّيّة مِدْيان.

وكيف دلّ موسى على الاحترام العميق أمام الله الحاضر، الذي اتّخذ له هذا الموضع وقدّسه وكرّسه، جعله له؟ قال له الصوت: »اخلع حذاءك من رجليك«. خلعُ الحذاء من الرجلين علامة التجرّد التامّ. أنا مستعدّ أن أجلس وأسمع. صار اليوم خلع الحذاء علامة الاحترام. هذا ما يتمّ في ديانات عديدة، في طوائف عديدة: قبل أن يدخل الإنسان إلى المكان المقدّس يخلع حذاءه من رجليه. منذ ذلك الوقت، منذ أيّام موسى، وربّما قبل ذلك الوقت، ربّما في هياكل مصر، كان الكاهن عندما يدخل يخلع حذاءه من رجليه.

إذًا قضيّة قديمة جدٌّا ولا تزال شعوب عديدة تحافظ عليها فتدلّ على الاحترام كما تدلّ على أنّنا مستعدّون لكي نسمع مطولاً كلام الربّ. »إخلع نعليك من رجليك، اخلع حذاءك من رجليك، لأنّ الموضع الذي أنت واقف عليه، أرض مقدّسة«. كما احتلّ الربّ هذه الأرض فصارت له، سيحتلّ أيضًا قلب موسى. سيأخذ كلّ موسى فيكون له. وقال الربّ: »أنا إله آبائك، إله إبراهيم وإسحق ويعقوب«. هم أحياء بقرب الله. فستر موسى وجهه خوفًا من أن ينظر إلى الله

أجل لا يحقّ للإنسان أن ينظر إلى الله. وإن نظر إليه فلن يبقى على قيد الحياة. نتذكّر هنا رؤية السرافين في أشعيا النبيّ فصل 6. يقول: هؤلاء السرافيم، هؤلاء الملائكة القدّيسون يسترون وجوههم مع أنّهم كليّو القداسة، يسترون وجوههم. وموسى أيضًا ستر وجهه خوفًا من أن ينظر إلى الله. تلك كانت رؤية الربّ لموسى: أراد أن يدخل حياته، ما أراد لموسى أن يبقى ذلك الإنسان الذي لا يفكّر إلاّ براحته، إلاّ بسعادته. ترك أهله، ترك قبيلته، ترك كلّ ما يربطه بذلك الموضع الذي كان فيه، وذهب إلى مِدْيان. هو راعي غنم، يعيش من عرق جبينه ولا شيء يقلقه. دفعه الخوف فهرب وكأنّه نسي الله ونسي ما يمكن أن يكون دعاه الله إليه.

5 - صراع في قلب موسى

لا شكّ في أنّ نعمة الربّ لامست قلب موسى في صغره، مرّة بعد مرّة. فتصرّفَ كما تصرّف مع المصريّ الذي يعنِّف أخاه أو مع العبرانيّ الذي يقتل أخاه. تصرّفُه هذا يدلّ على أنّه لم يرضَ بأن يتعلّق بالحياة، حياة الرفاهيّة التي تعلّمها في قصر فرعون وفي قصر ابنة فرعون. لامس قلبَه أكثر من مرّة، سمع صوت الربّ. ولكن هنا، هذا السماع كان سماعًا احتفاليٌّا. هي كما يقال في عالم الرياضة: الضربة القاضية. الربّ هو الذي يريد أن ينتصر، الربّ هو الذي يريد من موسى أن يقوم بهذه الرسالة.

هنا نتذكّر مثلاً يعقوب على مجاز يبوّق: كيف كان صراع بينه وبين الربّ، وفي النهاية الربّ هو الذي انتصر. وعلى مستوى العهد الجديد، نستطيع أن نتذكّر بولس الرسول. شاول الذي يحارب يسوع المسيح، ولكنّه لا يستطيع أن يقتله. يريد أن يقتل المسيحيّين، يلاحقهم في أورشليم، في القرى المجاورة، بل يذهب إلى دمشق. هو صراع بين الإنسان وبين الله. قد ينتصر الإنسان، ولكنّه في الواقع سيكون في الهزيمة وتضيع حياته. ما أحلى الإنسان حين ينهزم أمام الله. عندئذ تكون له الحياة الجديدة، تكون له الغلبة الحقيقيّة، يكون له النصر. نتذكّر كلام الإنجيل: من أراد أن يربح حياته يخسرها، من يريد أن يحافظ على حياته يُهلكها، يخسرها.

موسى هنا في صراع مع الربّ. بدأ أوّلاً بالتساؤل: ما هذه العلّيقة؟ ولكنّه ما عتّم أن خلع حذاءه من رجليه، صار ضعيفًا جدٌّا واستعدّ لأن يسمع. وفي النهاية ستر وجهه خوفًا من أن ينظر إلى ا؟. أحسّ بحضور اللاهوت، بقدرة الإله، بعظمة الإله. وقد يكون قال ما قال أشعيا: «قدّوس، قدّوس، قدّوس الربّ الصباؤوت. السماء والأرض مملوءتان من مجدك».

في أيّ حال، هكذا كان موسى أمام العلّيقة الملتهبة من خلال النار التي تمثّل الله، من خلال الملاك الذي هيّأ الطريق ؟. سيسمع موسى صوت الله: ناداه من وسط العلّيقة فكان جوابه نعم. نعم جواب اللسان بانتظار أن تصبح حياتُه كلّها جواب نعمٍ عمليّة. هذا موسى الذي سيدفعه الربّ فينطلق في الطريق ويخلّص شعبه، ويرافقه لا في برّيّة سيناء بل على جبل موآب وعلى عتبة الأرض المقدّسة. قال نعم، وكانت نعمه حتىّ النهاية، حتّى الموت، حين وضع يديه بين يديّ الربّ وقلبه في يد الربّ، وسار في الطريق التي يقودها إليه الربّ. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM