المباركون هم في يد الربّ

المباركون هم في يد الربّ

مزمور 37

أحبّائي، حين نقرأ الكتاب المقدّس هناك رواح ومجيء بين الكتاب المقدّس وخبرة الحياة.

1 - خبرة الحكماء

نقرأ الكتاب المقدّس، نتأمّل فيه، نستنتج ما يجب أن نعمله لكي نكون في الأمانة مع الربّ. ولكن هذا الاستنتاج يجب أن يصل إلى الحياة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، هناك خبرة الحياة، خبرة الحكماء الذين يعلّموننا كيف نضيء على كلام الله بالخبرة اليوميّة.

لهذا السبب في كلامنا في المزمور 37 عن مصير الأشرار ومصير الأخيار، نتوقّف اليوم على خبرة الحكماء. مهمّ  جدٌّا أن نعرف أنّ القدّيس يفهم كلام الله، لأنّه يرتفع إلى مستوى كلام الله، الله يرفعه. نتذكّر هنا أشخاصًا مثل القدّيسة تريزيا الطفل يسوع: كيف فهمت كلام الله كما لم يفهمه العلماء. لا شكّ أنّ العلماء يبحثون عن جذور الكلمات، عن السياق الذي كُتب فيه النصّ، عن التطوّرات التي لحقت بالنصّ مدى الأجيال، ولكن في النهاية، إذا لم يصلوا إلى خبرة الحياة، إذا لم تصبح هذه الكلمة قريبة من فهمهم، من آذانهم، من عيونهم، تبقى كلمة فارغة، كلمة ناشفة، كلمة ميّتة. نشرّحها كما نشرّح جثّة، ولكنّ هذه الجثّة لا حياة فيها. لا شكّ أنّنا نكتشف العظام والرأس واليدين ولكنّ هذا لا يعطينا حياة.

ما الذي يعطي الكلمة حياة فلا تبقى حرفًا ميّتًا؟

2 - خبرة مع الله، خبرة مع البشر

هي الخبرة، الخبرة مع البشر، مع الله تعطي كلام الله حياة. لا يعود شيئًا نردّده، نكرّره، بل يصبح شيئًا نعيشه. من هنا هذا التشديد على خبرة الحكماء، الذين يعلّموننا كيف ننطلق من حياتنا فنضيء على كلمة الله، وكيف أنّ كلمة الله تضيء على حياتنا.

فإن كانت خبرتنا البشريّة وحدها، فهي لا تكفي أبدًا. الخبرة البشريّة  هي التي ينيرها الربّ. كم من الآباء القدّيسين انزعجوا بكثرة البحث بكثرة التعليم، الذي كاد يفقدهم البحث عن الله والتعليم مع الله

أمّا المرتّل هنا فهو حكيم من الحكماء، حكيم تعلّم حكمة الربّ، حكيم عرف أنّ رأس حكمته مخافة الربّ، فأعطانا خبرته اليوميّة.

ونحن نقرأ مزمور 37 آية 21 وما يلي من الشرّير حتّى آية 29 إلى الأبد. قرأنا، أحبّائي، مزمور 37 من آية 21 إلى آية 29.

3 - نحن نرث الأرض

ونلاحظ كلازمة، كقرار يتكرّر في هذا المزمور: ميراث الأرض: في آية 11: أمّا الودعاء فيرثون الأرض آية 9: الذين يرجون الربّ يرثون الأرض.

في آية 22: المباركون من الربّ يرثون الأرض.

آية 29: أمّا الصدّيقون فيرثون الأرض.

أربع مرّات قرأنا هذه العبارة. عدد أربعة هو عدد العالم. فهذا الكلام يتوجّه إلى جميع البشر. لا شكّ في أنّ المؤمن اليهوديّ تطلّع إلى أرض فلسطين، إلى أرض الربّ، إلى أرض الموعد. ولكنّ هذه اللفظة تتعدّى أرضًا محدودة لها تخوم، لها نهاية. المؤمن في كلّ أرض يمكن أن يقول إنّه يرث الأرض.

والمسيح نفسه قال: طوبى للودعاء فإنّهم يرثون الأرض. الأرض بالمعنىالمادّيّ أن يكون لنا بيت، أن تكون لنا أرض نستغلّها بحيث نثبت، نتجذّر في موضع من المواضع.

والأرض أيضًا هي أبعد من ذلك. الأرض هي مجمل عطايا الربّ. ونتذكّر أنّ الشعب العبرانيّ اقتُلع من أرضه سنة 587، ومضى إلى المنفى إلى بابل. كان ذلك في القسم الجنوبيّ من بلاد الرافدين. وسبقه إلى القسم الشماليّ من البلاد، إلى أشور، في شمال العراق الحديث، مملكة إسرائيل، أهلُ السامرة.

عرفوا ما قيمة الأرض: إنسان بلا أرض، إنسان بلا بيت هو بلا هويّة، بلا تاريخ، بلا تقليد، بلا جذور. لهذا السبب أربع مرّات عاد الكاتب، فحدّثنا عن الذين يرثون الأرض.

أصحاب الرجاء يرثون الأرض أمّا الذين هم أشرار فيقطعهم الربّ، يقتلعهم الربّ. يقطعهم كما تقطع الشجرة ولكنّها سوف تنبت. كما قال أشعيا في الفصل 6: وما يبقى من الشجرة يمكن أن ينبت. أمّا الذين يرجون الربّ فيرثون الأرض. من جعل رجاءَه في البشر يزول رجاؤه عندما يزول البشر. أمّا من يجعل رجاءَه بالربّ، فرجاؤه يدوم إلى الأبد لأنّ الربّ يدوم إلى الأبد.

4 - إذا كنّا من الودعاء

والفئة الثانية التي ترث الأرض هم الودعاء. الكبير، المتكبّر يمكن أن يزول. أمّا الوديع فلا أحد يعرف بمكانه. هو يرتبط بالأرض، يعيش من الأرض. لهذا السبب يعرف السلام العميم.

وفي آية 22 المباركون من الربّ يرثون الأرض.

الذين نالوا بركة الربّ نالوا عطاياه. يرثون كلّ خير.

وأخيرًا الصدّيقون يرثون الأرض.

ونلاحظ بقرب «ميراث الأرض» كلمة «قطع». مثلاً في 28: ويقطع ذريّة الأشرار، أمّا الصدّيقون فيرثون الأرض.

في آية 22: المباركون من الربّ يرثون الارض، والملعونون منه ينقطعون.

آية 10: ما أسرع ما يزول الشرّير أمّا الودعاء فيرثون الأرض.

نلاحظ هنا، أحبّائي، اختبار هذا الحكيم الذي ينظر إلى الواقع على ضوء كلام الله، ويضيء بهذا الواقع على كلام الله

آ 21: أوّل اختبار الشرّير: يستقرض ولا يفي.

هو القويّ يأخذ مال الآخرين ولا يردّه. وهكذا يغتني شيئًا فشيئًا على حساب الفقراء.

يستقرض ولا يفي، أمّا الصدّيق فيتحنّن ويُعطي.

لا يقبل الصدّيق أن يقرض ويقرض بربًى، والربى ممنوع في الكتاب المقدّس. الصدّيق يعطي. ولماذا يعطي؟ هل ليستردّ العطاء؟ كلاّ. بل لأنّ قلبه مملوء حنانًا.

ويتابع النصّ: المباركون من الربّ يرثون الأرض والملعونون منه ينقطعون.

5 - يوجّه الله حياتنا

اللعنة ضدّ البركة. عندما نرفض بركة الله، تكون علينا اللعنة. البركة تحمل إلينا التعلّق بالأرض التجذّر بالأرض أمّا اللعنة فتقطع الشرّير، كما تُقطعَ الشجرة فلا تعود تعطي ثمرًا.

وهنا في آية 23: نرى عمل الربّ القويّ جدٌّا، بحيث نُحسّ أنّ الإنسان لم يُعد له من حرّيّة. الله يسيّر خطوات الإنسان، يسيِّره. هذا ما جعل البعض يقولون: الإنسان مسيّر. كلاّ يسيّر الله خطوات الإنسان. يعني يضيء عليه بنوره، يملأه بحبّه، يعطيه قوّته. عندئذٍ يسير الإنسان. فالإنسان الذي يريد أن يسير بقدرة الله، يسير مرتاحًا.

يسيّر خطوات الإنسان، يثبّته، يحفظه في الطريق.

يثبّته ضدّ ينقطع. هو ثابت، هو متين. وإن هو سار في الطريق، يحفظه الربّ، يحميه الربّ.

وعاد هذا الحكيم إلى خبرته. فقد رأى هذا البارّ ينصرع. رأى أيّوب يحطَّم. لكن ماذا قال؟

إذا سقط فلا ينصرع، فلا يموت. يسقط ويقوم من سقطته. لماذا؟ ألأنّه استعاد قواه؟ كلاّ. بل لأنّ الربّ يسنده بيده. نتذكّر هنا الوالد أو الوالدة اللذين يمسكان بيد ابنهما الصغير أو ابنتهما الصغيرة. يمكن أن يعثر«يتفشكل» ويكاد يقع، ولكنّه لا يقع. لماذا؟ لأنّ يد الوالد تمسكه، يد الوالدة  تحميه، وهنا الربّ يمسكنا بيدنا كما يمسك الأهل أولادهم، الربّ يسندنا، يسند ضعفنا، يسند بعض المرّات تكاسلنا، يجعلنا نقوى.

والخبرة الثالثة من هذا الحكيم، الاختبار الثالث آية 25.

6 - كنتُ صبيٌّا وشخت

كنت صبيٌّا والآن شخت.

يعني منذ حداثتي، منذ عمري الصغير، وحتّى اليوم وأنا شيخ. هناك عدد من السنين كبير. ماذا اكتشفت من عمر الصبا إلى عمر الشيخوخة؟ اكتشفت أنّ الصدّيق لا يُهمَل.

لا يمكن الربّ أن يهمل الصدّيقين، أن يهمل الأبرار.

يقول الكتاب: حتّى وإن نسيت أم أبناءها، فأنا لا أنساكم يقول الربّ. إن نسيت أمَ ثمرة حشاها، فأنا لا أنساكم. أكبر صورة على وجه الأرض هي الأمّ التي تبقى مهتمّة بأولادها. ومع ذلك قد يحدث أن تترك أم أولادها. فهي إنسان وهي ضعيفة. ولكن إن أهملت رضيعها، إن أهملت طفلها، وهذا ما يحدث على مستوى البشر. لكنّه لا يحدث على مستوى الله. هذا الحكيم راقب، تطلّع، تأمّل، فوجد أنّ الصدّيق لا يهمله الله. إذا هو أراد أن يعيش الأمانة ؟، أترى تكون أمانة الله أقلّ من أمانة الإنسان؟ كلاّ ثمّ كلاّ. أمانة الله هي في الواقع أساس كلّ أمانة من البشر. إذا كان الصديّق هو من يعيش الأمانة للربّ، لينتظر من الربّ الأمانة عينها. بل أمانة الربّ تتفوّق على كلّ أمانة يطلبها الإنسان.

إذًا منذ الصبا حتّى الشيخوخة، اختبرتُ الكثير، ولكنّي ما رأيت الصدّيق يُهمَل. وهنا صيغة المجهول تعني الله. ما رأيت الله يهمل الصدّيق. ويتابع: ولا ذريّة له تلتمس خبزًا.

إذًا الصديق لا يُهمَل. ونجد مثلاً بسيطًا: أبناؤه لا يلتمسون خبزًا: الخبز يعني الطعام اليوميّ. في قول الأبانا: أعطنا خبزنا كفاف يومنا. الخبز هو أساس الطعام. ولهذا حين نلتمس خبزًا إنّما نلتمس طعامًا من الربّ. ولا ذرّيّة له تلتمس طعامًا. فالربّ هو الذي يعطي. إذا كان يهتمّ بطيور السماء وبزنابق الحقل، يؤمّن للطيور طعامها وللزنابق شمسًا وجمالاً، أتراه لا يهتمّ بأبنائه؟ مثل هذا السؤال لا يمكن إلاّ أن يكون الجواب: بلى وألف بلى. الله يهتمّ حتّى بحياتنا المادّيّة.

هذا لا يعني أن نكتّف أيدينا ولا نفعل شيئًا. كلاّ، بل نأخذ القوّة من الله، وهو يساعدنا حتّى نعيش في كرامة في هذه الدنيا.

ولا يكتفي هذا المؤمن بأن يطلب الخبز من الربّ. فيعود إلى كلمة قالها في آية 21: يتحنّن طول أيّامه.

21: الشرّير يستقرض ولا يفي، أمّا الصدّيق فيتحنّن ويعطي.

هنا يعود إلى الصدّيق: يتحنّن طول أيّامه ويقرض، وذريّته مباركة. أو: بنوه مباركون. يتحنّن طول أيّامه. هذا يعني أنّ الربّ أعطاه الكثير وهو سوف يقرض. وذرّيته تكون مباركة.

7 - والاستنتاج

ماذا يستنتج هذا الحكيم ممّا اختبره منذ الصبا حتّى الشيخوخة؟

27: تجنّب الشرّ واعمل الخير.

هو يتكلّم بشكل عامّ: تجنّب الشرّ واعمل الخير، تسكن الأرض إلى الأبد.

نعود هنا أيضًا إلى الأرض. فعلَ الشعبُ العبرانيّ الشرّ، فطُرد من أرضه، اقتُلع من أرضه. فلو عمل الخير لسكن الأرض إلى الأبد. لماذا؟ الربّ يحبّ الإنصاف.

هذا هو الخير الذي يطلبه الربّ: الإنصاف في العدالة.

الربّ يحبّ الإنصاف، ولا يتخلّى عن أتقيائه، بل إلى الأبد يحرسهم، لكنّه يعاقب الآخرين ويقطع ذرّيّة الأشرار. أمّا الصدّيقون فيرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد.

نلاحظ هذا السكن، السكن في الأرض أكثر من مرّة. تحدّث هذا المزمور عن السكن في الارض لأنّ الشعب لم يعد ساكنًا في الأرض بل صار عائشًا في المنفى، وطلب السكون والطمأنينة والهدوء.

منذ آية 3 قيل: توكّل على الربّ تسكن الأرض. وهنا في آ 27: تجنّب الشرّ واعمل الخير تسكن الأرض.

29: الصدّيقون يرثون الأرض ويسكنونها إلى الأبد.

شكرًا لك يا ربّ على عطاياك. فالأرض هي رمز إلى عطاياك المنظورة وغير المنظورة، إلى عطاياك المادّيّة وغير المادّيّة فنحن نجعل ثقتنا فيك واتّكالنا عليك. وإذا كنّا نريد الأمان لك فلأنّ أمانتنا هي امتداد لأمانتك.

علّمنا هذه الأمانة، واجعلنا من أتقيائك ومن أصفيائك، فأنت يا ربّي من تبرّرنا وتقدّسنا، آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM