في الربّ ملء الحياة

في الربّ ملء الحياة

1 - صلّوا ولا تملّوا

أحبّائي، قراءتنا للمزامير هي قراءة أسبوعيّة على صوت المحبّة. ولكنّنا نريد أن تكون هذه القراءة يوميّة أو تصبح صلاتنا يومًا بعد يوم، أو تصبح كالتنفّس في حياتنا. من يستطيع أن يعيش دون أن يتنفّس؟ من يستطيع أن يعيش دون أن تُدخل رئتاه الهواء؟ هكذا يجب أن تصبح المزامير كالهواء لرئتَي نفوسنا.

في هذا المعنى نفهم كلام يسوع المسيح: صلّوا ولا تملّوا. لا تتعبوا من الصلاة. ما أجمل تأمّلنا ينطلق في الصباح من المزامير، ويأخذ جملة أو عبارة يردّدها النهار كلّه. مثلاً في مزمورنا اليوم: يا ربّ إلى السموات رحمتك. ما أجمل أن نردّد هذه العبارة النهار كلّه. تصبح شيئًا منّا. وعندما يصمت اللسان يتكلّم القلب. لهذا السبب نقضي هذه الأيّام معًا. فنقرأ المزامير ونتأمّل فيها. لا شكّ، هناك بعض الدراسة حتّى نفهم ما كُتب منذ ألفين أو ألفين وخمسماية سنة. ولكن بعد ذلك، يجب أن تصبح المزامير شيئًا منّا. صلاة من صلاتنا، غنًى من غنانا. نأخذ غنى الربّ ونجعله لنا. في هذا الإطار، أحبّائي، نقرأ المزمور 36: في الربّ ملء الحياة، لكبير المغنّين، لعبد الربّ داود.

2 - رحمة الربّ واسعة

آية 2: في أعماق قلب الشرّير تهمس المعصية... يرتمي ولا قيام له. قرأنا، أحبّائي، المزمور 36. وشدّدنا في البداية على هذه العبارة الرائعة في آية 6: يا ربّ إلى السماوات رحمتك. يا ليتنا نردّد هذا الكلام طوال نهارنا، رحمتك واسعة جدٌّا. نتذكّر هنا الأولاد الصغار، عندما نسألهم: هل تحبّ والدك؟ نعم. كم تحبّه؟ على «قدّ» قدر السماء والأرض. والمؤمن هنا يقول رحمة الله واسعة، واسعة جدٌّا، عالية جدٌّا، رفيعة جدٌّا على «قدّ» قدر السماء. وليس السماء فقط، بل السماوات. سماء السماوات، كلّ السماوات لا يمكن أن تحيط برحمة الله، رحمة الله أوسع من السماوات. ما أغنانا نحن، ما أكرمنا، ما أعظمنا. نيّالنا أن تكون هذه الرحمة بالسماء تغمر الأرض. السماء هي التي تعطي الأرض المطر، ورحمةُ الربّ كالمطر تنزل على جميع البشر، على الأبرار وعلى الخطأة.

لا شكّ، هناك خطأة يرفضون أن يتوبوا، أن يعودوا إلى الربّ. حينئذ يكونون قد هيّأوا هلاكهم في يدهم، كما يقول الكتاب: خلاصك بيدك يا إسرائيل. ولكن الربّ يريد أن يخلّص الجميع، ويأتي بهم إلى التوبة.

3 - هذا ما نتعلّم

مزمور 36: في الربّ ملء الحياة، هو مزمور تعليميّ. يعني أحد المعلّمين، أحد اللاويّين، أحد الكهنة، أحد الأنبياء، أراد أن يعلّم المؤمنين. انطلق من خبرته، انطلق ممّا يسمع. هذا المزمور يحدّثنا عن خطيئة الإنسان من جهة، وعن رحمة الله ومحبّته من جهة أخرى. نرى هذا التوازن: من قِبل الإنسان هي الخطيئة، ومن قِبل الله هي الرحمة.

الربّ يمكن أن يعامل هذا الخاطئ حالاً بالغضب، بالعقاب، بالقصاص. كلاّ، الربّ لا يريد ذلك. تجاه الخطيئة تنزل رحمة الله، كما يقول مار بولس: حيث كثرت الخطيئة هناك، ليس كثرت، بل فاضت النعمة. هناك سبب ينشد فيه المرتّل للربّ أمانته، رحمته، ينشد للربّ مديحًا لذاك الذي يهتمّ بالبشر والبهائم، جميعها خلقها هو. لهذا فهو يُبقيها في الوجود وهو يؤمّن لها الطعام.

يقول المزمور 104 كيف أنّ الليل هو للراحة، والنهار يذهب كلّ مخلوق حيّ يبحث عن طعامه والربّ يؤمّن له هذا الطعام. أجل لا يهتمّ الربّ فقط بالبشر بل بالحيوانات، بالبهائم، يهتمّ بالخليقة كلّها. ونحن نعرف أنّ الربّ يمسك الخليقة بيده، فإن تركت الخليقةُ هذه اليد تعود إلى العدم. ومع هذا الاهتمام الذي أنشده المرتّل، اهتمام الله بالبشر، هناك تنبيه إلى الأشرار: تركتم مخافةَ الله، سلكتم طريقَ الإثم. انتبهوا، بدّلوا حياتكم. رحمة الربّ هي حاضرة، لا تيأسوا منها.

لكبير المغنّين، لعبد الربّ داود. لماذا هذا العنوان؟ هذا العنوان هو هنا حتّى يذكّرنا كيف أنّ داود فكّر بالأثم. رأى بتشابع امرأة أحد قوّاده، فاشتهاها وزنى بها. وما عتّم أن قتل زوجها ثمّ تزوّجها. نعم، هو فكّر بالإثم، هيّأ الإثم على مضجعه. لا شكّ، ليس هو الروح القدس ما يحرّك حياته بل قلبه الشرّير.

بل هي المعصية تجسّدت، صارت شخصًا حيٌّا، وكلّمته على مثال الحيّة في خطيئة البدايات، الحيّة تمثّل الشرّ، تمثّل الشيطان. قالت للمرأة: أصحيح، قال الربّ لكما لا تأكلا من كلّ أشجار الجنّة. بدأت تضع الشكّ في قلب الإنسان. وهنا المعصية تجسّدت، صارت شخصًا حيٌّا.

4 - مخافة الله

وقالت للإنسان: لا تضع مخافة الله أمام عينيك. نعم مخافة الله هي مثل النور تنير طريقنا. مخافة الله هي القوّة التي تحرّك أعمالنا، تحرّك أقوالنا، تحرّك كلّ حياتنا. والمثل معروف عندنا من يخاف الله لا تخف منه. مخافة الله هي أوّل طريق المحبّة. مخافة الله هي التعلّق بوصايا الله. فمن يعيش بحسب الوصايا لا يمكن أن نخاف منه. ولكن هذا الإنسان، هذا الشرّير قالت له المعصية: أترك مخافة الله أترك الوصايا وعش كما تشاء. فأنت الملك، من يحقّ له أن يكون فوقك؟ من يحقّ له أن يعطيك أوامره؟

مثلَ هذا الكلام تقول آية 3، فيحلو ذلك في نظره. هذا كلام طيّب، يجب أن يسمعه: لا تضع مخافة الله في عينيك. هذا ما كنت أريده. ساعتئذ يجد إثمه أهلاً للمديح، يعيش هذا الملك، يعرف ماذا يفعل، يعرف إلى أين يصل ولا أحد يقف في وجهه. حتّى الله لا يقف في وجهه.

كلام فمه إثم وغشّ ويهيّئ ويهمل التعقّل والخير. هناك طريقان: طريق الإثم والغشّ، وطريق التعقّل والخير. وصاحبنا هذا الشرّير اختار الطريق الأولى، طريق الإثم، طريق الغشّ، مع أنّ الربّ أعطانا أن نعرف الخير وأن نعرف الشرّ. أعطانا أن نختار بين الخير والشرّ، ولكنّه يحترم حرّيّتنا أيّ احترام. يتركنا نسير لأنّه يريدنا كبارًا، ناضجين. لا يريدنا أن نمشي كالآلة، كلاّ ثمّ كلاّ.

كلام فمه إثم وغشّ، ويهمل التعقّل والخير. ولا يكتفي بذلك في النهار بل هو حتّى في الليل يعيش في الإثم، في الغشّ، في الكذب. تقول آية 5: يهيّئ الإثم على مضجعه، ويقف في طريق لا تصلح، ولا يرفض أن يفعل الشرّ.

نحن هنا في خطّ يقابل المزمور الأوّل. طوبى لمن لا يقف في طريق الخاطئين، لمن لا يجلس مع أهل الشرّ. هنا، كلاّ. هو يقف في طريق لا تصلح، يفعل الشرّ بكلّ راحة بال، إذا كان هناك بعدُ من بال، إن كان ضميره لا يوبّخه. وحتّى في الليل يهيّئ الإثم على مضجعه. إذ هو نائم أو قبل أن ينام أو بعد أن يقوم من نومه. هل يفكّر بعمل الخير؟ بل يفكّر بالإثم، يفكّر بالشرّ. هذا يعني أنّ هذا الإنسان يسمع كلام المعصية، يسمع كلام الحيّة.

5 - رحمته وأمانته

ويتساءل المؤمن: كيف يوجد أناس لا يخافون الله؟ كيف يقدر هؤلاء الناس أن يقولوا: يجب أن لا نخاف الله؟ ويطرح أيضًا سؤالاً آخر: كيف يسمح الله بوجود الأشرار والمتكبّرين؟ أمّا جواب الشرّير فهو أنّ الله لا يرى شيئًا. وإن هو رأى لا يفعل. إمّا لا يقدر كالأصنام البكم، وإمّا إنّه لا يريد. إمّا هو ضعيف لا يستطيع أن يفعل! مثل هذا الكلام يضرّ بصاحبه. ماذا يكون جواب المؤمن؟

جواب الإيمان (آية 6): يا ربّ إلى السماوات رحمتك. ردّ المؤمن وما يقول: أمّا أنا فبارّ. أنا أعيش مخافة الله. عندئذ كان كالفرّيسيّ، كالذي يعتبر برّ نفسه وينسى أنّ كلّ برّ إنّما هو من عند الله. كلاّ ثمّ كلاّ. المرتّل ارتفع إلى السماء، تطلّع إلى الله، أنشد رحمة الله، أمانته، عدله، أحكامه وكلّ مرّة يعطي صورة. الرحمة تعلو إلى السماء، تتّسع وسع السماء. الأمانة تصل إلى الغيوم، العدل يشبه الجبال الشامخة، جبال الله والأحكام هي غمر عظم، قدر البحر وموجاته كما نقول في لغتنا اليوميّة.

رحمة الربّ، أمانة الربّ، عدل الربّ، أحكام الربّ، هذا ما ينشده المرتّل. كلّ ما في الله هو عظيم، هو أرفع من كلّ شيء وأعمق من كلّ شيء. وكيف يرى المؤمن هذه الرحمة؟ هي تحيط بالكون كلّه، وتحمل الخلاص إلى الجميع، البشر والبهائم.

المؤمن هو في الهيكل، والهيكل صورة مصغّرة عن الكون. والليتورجيا التي تقام به تلخّص التاريخ كلّه. والرجل العاقل لا يختبئ عن الله كأنّه لا يريد أن يراه ولا أن يسمعه، كلاّ. الرجل العاقل، الرجل الحكيم، هو من يختبئ في الله، يحتمي في ظلّ جناحي الله، فتكون له الحماية.

6 - هو الحماية لنا

هذا ما نقرأه في آية 8: ما أكرم رحمتك يا الله، في ظلّ جناحيك يحتمي البشر: كما الطير الصغير يختفي تحت جناح أمّه. كما صغار الدجاج تختفي تحت جناح أمّاتها. هكذا المؤمن. لا ينال فقط الحماية بل ينال ملء السعادة.

وهنا تأتي الصوَر. أوّل صورة: من دسم بيتك يشبعون، من دسم الهيكل يشبعون، ومن نهر نعمك تسقيهم. ينبوع الحياة عندك وبنورك نعاين النور. العائش في الصحراء يحتاج إلى الماء ومن يعطيه؟ الربّ عنده النهر، الربّ عنده الينبوع. والإنسان السائر في الليل يحتاج إلى النور والربّ يعطينا النور بل هو النور الذي ينتقل إلينا شرط أن نفتح قلوبنا له، نفتح حياتنا له. أنشد المرتّل هذه الرحمة ويريد أن ينشدها. أنشد الربّ هذا العدل ويريد أن يردّده.

آية 11: أدم لعارفيك رحمتك وعدلك لمستقيمي القلوب. نحن نعرفك يا ربّ، نحن نتعلّق بك، نحن نريد أن نطيعك، أن يكون قلبنا لك. لهذا نحن متأكّدون أنّ رحمتك ترافقنا إلى النهاية. وهنا تبدأ المقابلة بين المستقيمي القلوب وفاعلي الشرّ. من استقام قلبه كانت له رحمة الربّ ومحبّته. ومن عاش في الشرّ كان له السقوط والهلاك. لهذا السبب يبتعد المؤمن عن الأشرار لئلاّ تنتقل عدواهم إليه.

آية 12: لا قاربتني قدم المتكبّر، ولا باعدتني عنك يد الشرّير. عندما أقترب من المتكبّر أتعلّم كبرياءَه، أتعلّم شرّه، أتعلّم أن أستغني عن الله. لا أريد بعد أن أسمع ؟ وعندما أتعلّق بالمتكبّر أبتعد عن الربّ. نلاحظ هنا في آية 12 قدم المتكبّر: هو يمشي وأنا أمشي وراءه فآخذ كبرياءه. هو يفعل وأنا أفعل مثله. وعندما أفعل مثله أبتعد عن الربّ. لهذا تُذكَر القدم، قدم المتكبّر ويد الشرّير. والمتكبّر هو في الواقع الشرّير. هذا الشرّير يسقط، هذا الشرّير يرتمي، هذا الشرّير إن سقط لا يستطيع القيام بعد، يسقط كما يقول الإنجيل ويكون سقوطه عظيمًا.

هذا هو، أحبّائي، معنى هذا المزمور الذي يمكن أن نسمّيه أمانة الله وخيانة الإنسان. قداسة الله وخطيئة الإنسان. الربّ هو القدّوس، هو الله لا بشر، ولا يعامل البشر بحسب خطيئتهم. يكفي أن يتوبوا، يكفي أن يرجعوا إليه، يكفي أن يعيشوا مخافته، فتكون لهم النعم الغزيرة، يكون لهم ينبوع الحياة، يكون لهم النور الآتي من عند الله. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM