الربّ إله نرفع إليه شكوانا

الربّ إله نرفع إليه شكوانا

مزمور 31

أحبّائي، نتابع قراءة المزامير، كما اعتدنا أن نعمل مرّة كلّ أسبوع. واليوم نتابع قراءة المزمور 31. هذا المزمور الذي تحدّثنا عنه أكثر من مرّة في السابق، سبق وقلنا إنّه مزمور في مزمورين. وفي كلّ مزمور هناك الشكوى والصلاة وإعلان الثقة بالله والشكر.

1 - شكوى الإنسان في ضيقه

أربع محطّات: الشكوى، الإنسان يعيش في الضيق، يعيش في الصعوبة، يُحيط به الأعداء، لا يعرف كيف يتصرّف. الخطر يقرّبه، ربّما الموت من يدري؟ إذًا هو خائف، ولكن بدلاً من أن يتوجّه إلى البشر والبشر الضعفاء، توجّه إلى الله البشر لا يقدرون أن ينجوا بأنفسهم. فكيف يستطيعون أن ينجّوا المؤمن الضعيف.  لهذا يشتكي المؤمن إلى الله. يخبره عن حالته وما وصلت إليه.

ولكنّ هذه الشكوى لا تخرج من قلب الإنسان إلاّ لتذهب إلى قلب الله لهذا كانت الصلاة. الصلاة العميقة، الصلاة التي هي حوار بيننا وبين الله. الصلاة التي فيها نسكب قلبنا في قلب الله. صلاة الألم، صلاة الاقتراب من الموت. كانت صلاة يسوع في بستان الزيتون: أيّها الآب، أبّا، لا تكن مشيئتي بل مشيئتك.

هي صلاة هذا المؤمن يتلوها في المزمور. هي صلاة كلّ واحد منّا. لا شكّ في أنّ المؤمن يشتكي وبعض المرّات لا يشتكي فقط من الناس بل يشتكي من الله على الله لأنّه يعتبر أنّ التاريخ، أنّ حياة كلّ واحد منّا، أنّ الكون كلّه هو في يد الله. صلاته في بعض المرّات هي عتاب إلى الربّ الذي يهتمّ بكلّ واحد منّا كما يهتمّ الملك بعبيده والأب بأبنائه.

2 - من الشكوى إلى الثقة

هي صلاة عتاب ولكنّها صلاة في النهاية. صلاة الثقة، يتردّد المؤمن لأنّه ليس بأكيد، والمظاهر حوله لا تطمئن أبدًا. لماذا؟ لأنّه ينظر بعين الجسد. ولكن إن نظر بعين الإيمان، إن نظر من أعماق قلبه، يفهم أنّ صلاته لن تبقى على مستوى الظواهر. صلاته ستصبح صلاة الثقة با؟. صلاة الاتّكال كما يفعل يسوع من على صليبه: يا أبتِ في يديك أستودع روحي. وكما فعل اسطفانس وهم يرجمونه في الرمق الأخير. الكلمة الأخيرة كانت: أيّها الربّ يسوع بين يديك أضع روحي.

من الشكوى إلى الصلاة، إلى إعلان الثقة بالله. ومن يعلن ثقته بالله يتأكّد كلّ التأكيد أنّ الربّ سوف يستجيبه. بل هو بدأ منذ الآن يستجيبه. الربّ حاضر في حياتنا. الربّ ليس ذاك البعيد، كلاّ. الربّ ليس ذاك المختفي، كلاّ. هو الحاضر، هو الرفيق معنا، يسير معنا في طرقات الحياة. يكفي أن نعلن ثقتنا، نعلنها من أعماق قلوبنا، من أعماق حياتنا، من أعماق ضيقنا.

فستصبح الثقة حقيقيّة، والربّ الحاضر يفعل. يكفي أن ينظر إلينا ليرثي لحالنا. يكفي أن يسمع ليسمع صراخنا. يكفي أن ينظر ليفعل. إشارة من عينيه، نظرة، إشارة من يده، لمسة، كلّ هذا يكفي. بل رغبة واحدة منه تكفي حتّى يُتمّ ما جئنا نطلبه من الله، ما جئنا نتوسّل إليه، وقلبنا مليء بالثقة.

لهذا فالمرتّل، قبل أن يحصل عمليٌّا، وينال في نظره وفي المنطق الخارجيّ والحسيّ، يشكر الربّ. صلاة الثقة تصبح في النهاية صلاة الشكر. وقد يكون المؤمن ترك الشكر إلى النهاية. كان في نفق مظلم، احتمل، أحسّ بلمسة الله. ولكن لمّا خرج من النفق ومن الظلمة وعاد إلى النور، فأيّ خلاص نال. شكر الربّ وقدّم ذبيحة الشكران.

3 - عند الربّ الحماية

هذا، أحبّائي، هو المعنى العامّ لهذين القسمين من المزمور 31. في الماضي تأمّلنا في القسم الأوّل 31: 2 - 9 ونحن سنعود إلى قراءة هذا المقطع قبل أن نعود إلى المقطع الثاني آية 10 وما يلي لكي نتابع تأمّلنا وتفهّمنا لكلام الله. إذًا، نقرأ مزمور 31: 2:

بك يا ربّ احتميت... وعرفتَ ما أضيق حالي.

ذاك كان القسم الأوّل من المزمور. حيث تعرّفنا إلى الله الذي هو الملجأ، الذي به نحتمي، الذي إليه نستسلم كما استسلم يسوع ووضع روحه بين يدي الله أبيه. ويتابع المزمور في القسم الثاني كما قلنا من آية 10 إلى الآية الأخيرة يعني آية 25. انتهى إذًا بآية 9: يا من نظرت إلى عنائي وعرفت ما أضيق حالي فما أوقعتني في يد العدوّ بل في الأمان ثبَّتَّ قدميّ. أجل في الأمان. أنت الإله الثابت، في السلام أنت إله البركة ونقرأ 31: 10: تحنّن يا ربّ فأنا في ضيق... يا جميع الذين يرجون الربّ.

قرأنا، أحبّائي، القسم الثاني من المزمور الحادي والثلاثين الذي هو كلام إلى الربّ بلسان شخص يشبه أيّوب إلى درجة كبيرة. وخصوصًا حين يصف حالته التعيسة حيث يهرب منه الجميع، يهرب أقاربُه من رائحته النتنة التي يسبّبها المرض.

وهكذا نعود إلى الآية 10 في مز 31: تحنّن يا ربّ فأنا في ضيق. تحنّن فأنا أحتاج إلى حنان. الحنان عاطفة الأمّ، عاطفة الأب. الحنان هو انحناء الكبير على الصغير، انحناء المحبّ على المحبوب، ونلاحظ دومًا لغة الحوار: يا ربّ، يا إلهي، يا ربّي، يا سيّدي. المؤمن لا يريد أن يطلب شيئًا إلاّ من الله.

تحنّن يا ربّ فأنا في ضيق. هنا يبدأ التشكّي: في ضيق، شيء يعيقني. لا أستطيع أن آخذ نفَسًا، أن أتنفّس، أن أرتاح بعض الشيء، فأنا في ضيق. وكيف يظهر هذا الضيق؟ ضعفت عيناي من الكدر، من الهمّ. ضعفُ العينين يعني أنّه يتألّم. بكى، صار هزيلاً، صار ضعيفًا.

وهذا الضعف ظهر أوّل ما ظهر في عينيه، لأنّ العين سراج الجسد. كما تكون العين يكون الجسد. وهنا كما تكون العين تكون الروح ويكون الجسد كلّه. يقول: ضعفت عيناي من الكدر وضعفت روحي وضعف جسدي كلّه. إذًا هذا المؤمن ألمّت به الصعوبات فما عاد يعرف كيف يخرج منها فما بقى له إلاّ أن يشتكي إلى الربّ.

4 - حياتي في خطر

نقرأ آية 11: تفنى حياتي بالحسرة وأعوامي كلّها بالنواح. الحسرة، الألم، التعب، العذاب. وأعوامي كلّها بالنواح. سنة بعد سنة وأنا أبكي وأنتظر الخلاص من لدن الربّ. مرّات عديدة لا أتكلّم، أترك البكاء يفعل فعله. والبكاء يعبّر مرّات عديدة أكثر من الكلام. قد يُضعف الكلامُ حالة الإنسان، قد يُضعف الكلامُ التوسّل. لكنّ البكاء يعبّر أفضل تعبير عن حالة الإنسان.

أتذكّر تلك الخاطئة في إنجيل لوقا فصل 7: وصلت، ركعت عند قدمي يسوع وأخذت تبكي. لم تقل شيئًا، لم تقل أنا خاطئة. وجئتُ أنا أرمي خطاياي عند قدميك. هي اكتفت بالبكاء وكانت تمسح الدموع المتساقطة على قدمي يسوع بشعرها الجميل. قال سمعان عن يسوع، سمعان الفرّيسيّ: لو كان هذا نبيٌّا لعلم من هي هذه المرأة وما هي حالها.

نعم هو نبيّ وعرف هذه المرأة، وعرف حالها أنّها خاطئة. نعم وهي لا تخفي خطيئتها، لا شكّ، عندما قال سمعان الفرّيسيّ إنّها خاطئة،أراد أن يحتقرها، أن يزدريها. لا تستحقّ أن يلمسها إنسان عاديّ، فكيف بابن الله أن يلمسها؟ ولكن بالنسبة إلى يسوع هي خاطئة، وهذا شرف لها لأنّ يسوع ما جاء من أجل الأبرار بل من أجل الخطأة، ما جاء من أجل أصحاب الصحّة بل من أجل المرضى. لهذا اكتفت بالبكاء، وبكاؤها عبّر عمّا في قلبها من حسرة، من تأسّفٍ على حياة ماضية. نعم عرفها يسوع، وعرف حالها، وعرف أنّها خاطئة، لهذا كلّمها كلام الحنان.

5 - ضاعت عزيمتي

تحنّن يا ربّ. قرأنا في المزمور 31: 10. وهنا تحنّن الربّ عليها: اذهبي بسلام. أحببتِ كثيرًا فغُفر لك الكثير. ويتابع المزمور: في عنائي خارت قواي وكادت تبلى عظامي. لم يعد لهذا المؤمن من قوّة. لم يعد لهذا المؤمن من عظام والعظام علامة القوّة، علامة الشجاعة، علامة العزم. صرت كأنّي بلا عظام، كأنّي بلا إرادة، كأنّي لا أستطيع بعد شيئًا ويتابع بلهجة أيّوب: صرتُ عارًا عند خصومي وشيئًا مرعبًا، بل حتّى عند جيراني، وشيئًا مرعبًا لمن يعرفني.

نلاحظ هنا أوّلاً الخصوم. عيّره الخصوم، قالوا: أنت اتّكلت على الله، فماذا فعل لك الله؟ لكنّه لم يكتفِ فقط بالتشكّي من خصومه، بل تشكّى من جيرانه الذين هم بقربه، الذين يمكن أن يكونوا أقرب إليه من أخ أو أخت: بل حتّى عند جيراني صرت عارًا. نتذكّر كيف أنّ امرأة أيّوب عيّرت زوجها. وهنا الجيران يعيّرون هذا المؤمن ويخافون منه.

يقول إذًا في آية 12: صرت عارًا عند خصومي، بل حتّى عند جيراني، وشيئًا مرعبًا لمن يعرفني. من يراني في الشارع، يهرب منّي. نسيَتْني القلوبُ كمَيْتٍ، وصرت كإناء منبوذ، صرت أحسب كأنّي لست بشيء، كأنّي ميت، كأنّ لا مكان لي بين الأحياء. لا شكّ أنّني أمشي في الشارع ويراني الناس، ولكنّهم يهربون منّي كأنّ بي وباء يحمل العدوى إلى الآخرين.

من يراني في الشارع يهرب منّي، يضع الكمّامة حتّى لا يصل إليه لهاثي. نسيَتني القلوب كأنّي ميت، كأنّي غير موجود، وصرت كإناء منبوذ. أسمع المذمّة من الكثيرين، والهولُ أحاط بي. تلك هي الحالة التي يتألّم منها المؤمن بعد أن وصل به الضيق إلى هذا المستوى. بعد أن سيطر عليه الكدر والحسرة والنواح. بعد أن فنيَ جسده فما عاد يستطيع أن يقف على رجليه. وحين صار هذا الإنسان إلى ما صار إليه، ظنّ الناس أنّ الربّ غضب عليه. يريد أن يأخذه في عزّ شبابه، يريد أن يأخذه وهو شابّ. هذا يعني اللعنة، والبركة تعطي العمر الطويل. أمّا غير البركة فتجعل الإنسان يعيش عمرًا قصيرًا ويرافقه المرض بحيث يهرب منه جيرانه.

تحنّن يا ربّ عليّ فأنا في ضيق، تحنّن يا ربّ عليّ فأنا ضعيف، قوّني، احفظني، رافقني بمحبّتك. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM