يا ربّ أعدت إليّ الحياة

 

يا ربّ أعدت إليّ الحياة

المزمور 30

أحبّائي، قراءة المزامير، صلاة المزامير، هي حياتنا. وما أجمل أن ننشدها أن نتأمّل فيها، أن نردّدها في رواحنا ومجيئنا. مرّات عديدة نصلّي صلوات سريعة، صلوات عاطفيّة. لا بأس بها، ولكنّها لا تغذّينا، لا تغذّي حياتنا اليوميّة. أمّا المزامير فهي كلام الله، كلام الله الذي يغذّي حياتنا اليوميّة. كلام الله الذي هو نور وحياة. فيا ليتنا نتوجّه بهذا النور، فيا ليتنا نعرف هذه الحياة المعطاة لنا.

وعنوان المزمور 30 يقول لنا: يا ربّ أعدت إليّ الحياة. كأنّي بهذا المصلّي مات، أو بالأحرى وصل إلى حافّة الموت. وها هو بقدرة الله بحضور الله، بعمل الله، يعود إلى الحياة، يستعيد الحياة، ونحن، أحبّائي، نقرأ المزمور 30 الذي هو مزمور الخلاص لمحبّي الله.

1 - خلاص المؤمن وحياته

أعظّمك يا ربّ لأنّك نشلتني... أيّها الربّ إلهي، إلى الأبد أحمدك.

قرأنا، أحبّائي، المزمور 30 أو 29 كما في الكتب الليتورجيّة. هناك مقدّمة بسيطة: مزمور لداود. يعني هي المجموعة التي ارتبطت بداود، سواء ألّفها هو أو بعض الناس القريبين منه. ثمّ: نشيد لتدشين البيت. في الأصل هذا المزمور لم يكن لتدشين البيت، لتدشين الهيكل أو ربّما لتدشين القصر الملكيّ، ولكن أخذ هذا المعنى فيما بعد.

المزمور 30، عنوانه أعدت إليّ الحياة أو أعطيتني الخلاص، لأنّ الخلاص في النهاية هو الحياة. يتذكّر فيه المؤمن حياته الصعبة. فبعد أن مرّ في المحنة يأتي إلى الهيكل ليحمد الله، لينشده، ليشكره لأنّه نجّاه من خطر الموت. أيّ خطر؟ لا نعرف. هو لا يقول لنا. ولكن سواء أكان هذا الخطر بسبب المرض، بسبب الخصوم والأعداء، أو لأيّ سبب آخر، فهو خطر الموت والانفصال عن الله.

وأكثر ما يؤلم المرتّل، هو أنّ هذا الانفصال عن الله يجعله غير قادر أن ينشد الله أن يسبّح الله. سوف يقول للربّ في آية 10: أيّ نفع لك من موتي. إن أنا متّ من سوف يمدحك؟ من سوف ينشدك؟ من سوف يرفع آيات الشكر نحوك؟ وهذا المرتّل يعود إلى نصوص الأنبياء، نصوص الأنبياء التي تتحدّث عن خلاص الشعب.

2 - بين الفرد والجماعة

نلاحظ، أحبّائي، هذا الرواح والمجيء بين الشخص والجماعة، وبين الجماعة والشخص الفرد. اختبر هذا الشخص الفرد، هذا المؤمن اختبر الخلاص اختبارًا شخصيٌّا، ولكنّه لم يحتفظ بهذه الخبرة لنفسه، بل حملها إلى إخوته وقال لهم: الخلاص الذي نلته إنّما هو صورة، هو نموذج، هو مثال عن الخلاص الذي يمكن أن يحصل عليه الشعب كلّه.

خلاص الفرد نموذج عن خلاص الشعب. وخلاص الشعب يتوزّع في خلاص كلّ فرد. لهذا السبب، بما أنّ نشيد الفرد صار نشيد الجماعة، صارت الجماعة تتلو هذا المزمور في عيد تدشين الهيكل، في عيد تجديد الهيكل.

عاد المرتّل إلى المزمور 6، إلى المزمور 89: عندما يترك الله حبيبه يموت، فهو يخسر مرنّمًا ينشد مجده، لأنّ الجحيم مكان السكوت، والتراب رمز الموت. فأيّ فائدة ؟ من موت عبيده وهو الذي يهتمّ بحياتهم. في المزمور 6 نستطيع أن نقرأ مثلاً هذا الكلام: إليك صرخت لا تعاتبني في غضبك. في مزمور 8: إليك صرخت، فدَعْ صلاتي تصل إليك.

حين يترك الربّ صديقه الأمين يموت، فهو يحرم نفسه من شخص ينشد أمجاده. ولكنّ الربّ سيفعل. لن يرضى أن يعيش حبيبه في الحزن، بل يبدّل حزنه إلى فرح. لن يقبل أن يعيش حبيبه في المسوح، بل هو يحوّل حياته إلى الرقص ويُلبسه ثياب الأعراس.

3 - أعظّمك يا ربّ

هذا، أحبّائي، هو المعنى الأساسيّ للمزمور 30، هذا المزمور مزمور الحمد والشكر للربّ، الذي يمنحنا كلّ يوم الخلاص. ويبدأ المزمور في آية 2 إلى آية 4. يبدأ فيقول لنا لماذا يمدح الربّ؟ لماذا ينشد الربّ؟ الربّ هو المخلّص. أصعد صفيّه من عالم الموت، ولم يترك أعداءه يشمتون به. إذًا نقرأ آية 2 إلى آ 4: أعظّمك يا ربّ لأنّك نشلتَني، وحرمتَ أعدائي الشماتة بي. استغثتُ بك فشفيتَني أيّها الربّ إلهي. أصعدتني من أعماق عالم الأموات وأحييتني من بين الهابطين في القبر.

إذًا، قرأنا 30: 2 - 4. أعظّمك يا ربّ، يعني أنت عظيم يا ربّ. هو فعل إيمان في بداية المزمور. الربّ عظيم، الربّ قدير كلّيّ القدرة، يقول ويفعل. بما أنّه العظيم، فهو يستطيع أن ينشلني كإنسان في كعب الهوّة، كإنسان في قعر بئر، كما حدث ليوسف حين جُعل في بئر لا ماء فيها. الربّ هو الذي ينتشلني، لا يتركني في أعماق الهاوية. الربّ هو الذي ينتشلني. كما يُنشل الدلو وملؤه الماء، كذلك ينشل الإنسان.

في قعر الهاوية، في قعر البئر. قد تكون نهايته الموت، متروكًا جائعًا لا يهتمّ به أحد. هكذا أيضًا جعلوا إرميا في قعر البئر، بئر مياه موحلة فكاد يموت هناك. ولكن هذا المرتّل، هذا المؤمن هتف: أعظّمك يا ربّ لأنّك نشلتني. لقد نال النعمة التي كان ينتظرها وهو يأتي ليشكر الربّ.

أنت عظيم يا ربّ لأنّك نشلتني، لن تتركني أموت شيئًا فشيئًا. ويتابع ويقول: وحرمتَ أعدائي الشماتة بي. دائمًا يذكر الأعداء، الأعداء ربّما أعداء شخصيّون. ولكن بشكل خاصّ هم أعداء الإيمان. هذا المؤمن اعتبر أنّه صفيّ الله، اعتبر أنّه حصّة الله. فإذا شمت به الأعداء فإنّما هم يشمتون با؟. ماذا استطاع أن يعمل لك الله؟ لو لم يخلّصه الله لكان الأعداء اعتبروا أنّ الله لا يقدر أن يخلّص. وإن هو استطاع، لا يريد أن يخلّص صفيّه، يتركه هناك أبدًا.

4 - أصعدتني من الهاوية

الشماتة هي على مستوى الفرد بالنسبة إلى الآخرين، ولكنّها خصوصًا بالنسبة إلى الله، على مستوى الإيمان. أنا يا ربّ جعلتُ فيك ثقتي، جعلت عليك اتّكالي، فهل تسمح أن أموت في قعر الهاوية؟ كلاّ. لذلك جئت أعظّمك. أقول لك: عظيم أنت يا ربّ.

ويتابع المؤمن: استغثتُ بك فشفيتَني. أرفع يديّ، أصرخ، أستغيث، أتوسّل. أرسلَ إليّ الغوث، العون، المساعدة. وما إن صرخت حتّى جاءني الشفاء، نلاحظ حرف الفاء فـ - شفيتني! التي تدلّ على نتيجة منتظرة: استغثتُ بك فشفيتني. منحتني الشفاء، شفاء الجسد وشفاء النفس، والواحد لا يفترق عن الآخر.

استغثتُ بك فشفيتني أيّها الربّ إلهي. ما طلبتُ من إنسان من الناس، ما طلبت من عظيم من العظماء، ما طلبت من الملك نفسه. كلاّ. رفعت عينيّ، رفعت يديّ، رفعت قلبي إليك أيّها الربّ إلهي.

تكفي نظرة، كلمة تأوّه، لكي يتجاوب الله معه ويرسل إليه الخلاص سريعًا. ويتابع المؤمن: أصعدتَني من أعماق عالم الأموات. إلى هناك ينزل الإنسان كما قلنا في ثاني آية: نشلتني كأنّي دلو في كعب البئر، وهنا أصعدتني. أنزلني الناس إلى قعر الهاوية، وأنت أصعدتني وهنا نتذكّر أيضًا شخص يوسف الذي أُنزل وأُصعد. أو إرميا الذي أصعده عبد الملك من قعر البئر حيث كاد يموت.

أصعدتني من أعماق عالم الأموات. يمكن أن يكون هناك سبب بشريّ، سبب خارجيّ، ولكنّ المؤمن يرى من خلال البشر الله نفسه، من خلال يد بشريّة يدَ الله بالذات، من خلال اهتمام إنسان من الناس اهتمام الله بصفيّه، بابنه، بحبيبه. أصعدتني من أعماق عالم الأموات وأحييتني من بين الهابطين في القبر. عادة، الهابطون في القبر هم أبناء الموت، هم الراقدون الذين لن يقوموا. ولكن مع الربّ، الموت لم يعد موتًا، بل صار بداية حياة.

لماذا أرسل المؤمن مديحه؟ ليقول: الربّ عظيم، الربّ مخلّص. لم يتركني في عالم الموت. لم يتركني في قعر البئر. انتشلَني، أصعدَني، كنت ذاهبًا إلى الموت فأعاد إليّ الحياة.

5 - بين التقيّ والأتقياء

نتابع، أحبّائي، قراءة الآية 5 و6. كما سبق وقلت، هي خبرة خاصّة بالمؤمن. ولكن هذه الخبرة يجب أن لا تتوقّف عند المؤمن. يجب أن تصل إلى الجماعة. ولهذا يدعو هذا المؤمن الآتي إلى الهيكل ليحمد الله. يدعو الناس فيقول لهم.

آية 5: رتّلوا للربّ يا أتقياءه، واحمدوا ذكره المقدّس. غضب الربّ لحظة، ورضاه طول الحياة. إذا أبكاني في المساء، فمع الصباح أرنّم فرحًا.

آيات رائعة. هو يدعو الناس ويروي لهم كيف يتصرّف الله مع كلّ فرد منّا. أو بالأحرى فهو يتصرّف بتلك الصورة مع الجماعة. رتّلوا للربّ يا أتقياءه. نحن لا نرتّل، نحن لا ننشد، إلاّ إذا كنّا فرحين. تعالوا وافرحوا معي. أنا فرحت، وأنتم شاركوني في فرحي. رتّلوا للربّ يا أتقياءه، الذين يخافونه. أتقياء الربّ هم الذين جعلوا ثقتهم فيه. جعلوا اتّكالهم عليه.

رتّلوا للربّ يا أتقياءه واحمدوا ذكره المقدّس. اذكروه يومًا بعد يوم. وعندما تذكرونه تحمدونه. لماذا؟ لأنّه يحمل القداسة، يحمل الحياة، يحمل البركة. لا نستطيع أبدًا أن نذكر الربّ إلاّ ونذكر أنّه القدّوس. كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس. يكفي أن نذكر الربّ، لكي تغمرنا قداسته، لكي تحيط بنا قوّته، لكي يحيط بنا حضوره.

6 - غضب الربّ لحظة

ماذا اختبر هذا المرتّل؟ أحسّ بالمرض، المرض الذي يقود إلى الموت، فاعتبر أنّ الربّ غاضب عليه، أنّ الربّ يعاقبه. لهذا تألّم في أعماق قلب. أترى الربّ يعاقب صفيَّه؟ أترى الربّ يغضب على صفيّه؟ كلاّ. تلك نظرة خاطئة فالربّ لا يغضب، الربّ لا يعاقب، بل هو إله الرحمة. هو لا يغضب ولا يعاقب إلاّ إذا كان أمامه قساة القلوب، إذا كان أمامه أشخاص يرفضون التوبة والعودة إليه، مع أنّه يقول لهم: عودوا إليّ يا بني البشر. ولكن حتّى ولو غضب الربّ وعاقب الربّ. فغضبه لحظة، غضبه لا يدوم.

نتذكّر هنا هوشع: كيف أعاملك يا إفرائيم؟ ويمكن أن يقول لكلّ واحد منّا: كيف أعاملك يا ابني، كيف أعاملكِ يا ابنتي. ويتابع: رضاه طول الحياة. غضبه لحظة، رضاه طول الحياة كما نقرا في سفر الخروج. قد يعاقب أو يفعل ما نحسبه عقابًا، من مرض وغيره. ولكنّه حين يرضى، فهو يرضى مدى الحياة، طول الحياة. هنيئًا لنا برضاك يا ربّ.

ويتابع المرتّل: إذا أبكاني في المساء. نحن نعرف أنّ زمن الليل هو زمن المرض، هو زمن الموت، هو زمن الشرّ. المؤمن المتألّم يبكي عند المساء، يبكي لأنّه يحسّ بنفسه وحده أمام الوجع، أمام الألم، أنّه متروك. الناس ينامون، وهو وحده يقظ مستيقظ. لا يعرف إن كان سيبقى حيٌّا في الصباح، لهذا يبكي كما يقول المزمور: في الليالي أبلّل مخدّتي، وسادتي أبلّلها بدموعي.

إذا حصل وأبكاني الربّ في المساء. هذا لا يكون مرّات عديدة، مرّة فقط. إذا أبكاني في المساء فمع الصباح أرنّم فرحًا. لن يدوم البكاء أكثر من ليلة. فالصباح يحمل إلينا الفرح، يحمل إلينا البهجة، لماذا؟ لأنّه يحمل إلينا الخلاص.

يقول المزمور: يمكن أنا في الليل أن أتعب، ولكن يجب أن أنام. وحين أقوم في الصباح، أشعر كأنّ الربّ أعطاني حياة جديدة. إذا أبكاني الله في المساء فمع الصباح أرنّم فرحًا. أيّ أب يرضى أن يبكي ابنه؟ كلاّ ثمّ كلاّ.

هذا، أحبّائي، هو معنى القسم الأوّل من المزمور 30: الربّ إله الخلاص. الربّ إله الحياة. بعيدًا عنه نُحسّ كأنّ الموت يأتي إلينا. ومعه نفهم أنّ الحياة هي لنا. شكرًا لك يا ربّ. أنت تعطينا الحياة، تخلّصنا، تشفينا. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM