نجاح الأشرار

 

نجاح الأشرار

المزمور التاسع والأربعون

1 - مسألة تشكّك المؤمن

أحبّائي، المزمور 49 الذي عنوانه نجاح الأشرار، يلتقي مع المزمور 73. ويَطرح السؤال الأساسيّ الذي يعيشه المؤمن في أرض فلسطين بل الذي يعيشه الإنسان في كلّ مكان وزمان.

يُطرَح السؤال: لماذا ينجح الأشرار؟

هذا الرجل خاطئ، ومع ذلك هو في صحّة جيّدة ويمتلك البنين والبنات. هو غنيَ جدٌّا لا يعرف أين يضع غناه كذاك الجاهل في الإنجيل الذي كثرت غلّته فأراد أن يوسّع أهراءه، مع أنّ نفسه ستُؤخذ في هذه الليلة. السؤال يُطرح اليوم: لماذا جيراننا مثلاً هم بألف خير، ومع ذلك هم لا يصلّون، لا يذهبون إلى القدّاس، لا يفعلون واجباتهم الدينيّة.

هذا السؤال يُفهَم في إطار العهد القديم، لأنّ الناس لم يكونوا يؤمنون بالحياة الأخرى. كانوا يعتبرون أنّ الحياة تنتهي بالموت، تنتهي بالقبر، تنتهي بالشيول يعني المسكن (الموضع) الذي يقيم فيه الموتى وكأنّهم خيالات لا قيمة لها.

2 - الموت ليس النهاية

كان يقول سفر الجامعة: الكلب الحيّ أفضل من الأسد الميت. وكان ذلك المؤمن القريب من الموت يندب حظّه فيقول: من سوف يسبّحك في الجحيم، في الشيول؟ من سوف ينشد عظائمك هناك؟

لكن أن نكون بعْدَنا في العهد الجديد على هذا المستوى، فهذا يعني أنّنا ما زلنا نعتبر أنّ القبر والموت هما النهاية. كلاّ. القبر ليس النهاية، والموت ليس النهاية.

فالقبر في المسيحيّة، في إيماننا، هو مفتوح لا منغلق. عندما راحت النسوة تبحث عن قبر منغلق مع حجر كبير، وجدن قبرًا مفتوحًا، والميت ليس هنا. اذهبوا ولا تبحثوا عن الحيّ بين الأموات. نحن بالنسبة إلينا الصليب ما هو النهاية بل المجد. والموت ما هو النهاية بل هو عتبة القيامة. ومع ذلك هذا السؤال يُطرَح في هذا المزمور الذي نصلّيه ونتعلّم الكثير عن نجاح الأشرار.

ونقرأ، أحبّائي، هذا المزمور، متذكّرين ما حصل لأيّوب الذي اعتبر أنّ حياته انتهت، لأنّه خسر بعض الخير. ولكنّه في النهاية سيكتشف أنّ الله يبقى الله أنّ الله يبقى ذاك الذي يمكنه أن يقيم معه الحوار. كلّ هذا نستطيع أن نكتشفه في المزمور 49 وعنوانه نجاح الأشرار.

ونقرأ المزمور 49. لكبير المغنّين مزمور لبني قورح. من آية 2: اسمعوا هذا يا جميع... حتّى آية 21: البهائم التي تهلك.

إذًا، قرأنا، أحبّائي، المزمور 49 عنوانه نجاح الأشرار.

3 - الثواب والعقاب

هذا المزمور هو مزمور تعليميّ. الكاهن أو اللاويّ يريد أن يعلّم المؤمنين. وما هو الموضوع الذي يطرحه؟ مسألة الثواب والعقاب. كيف يعامل الله الناس؟ كيف يجازيهم خيرًا أو كيف يعاقبهم على ما خطئوا به على هذه الأرض؟

فالثواب والعقاب حاضران في حياة كلّ إنسان. ونحن نرى هنا جميع الشعوب، جميع أهل الدنيا، الكبار والصغار، الأغنياء والفقراء، كلّهم يجب أن يسمعوا هذا التعليم الذي ينطلق من سفر أيّوب ليقول لنا في النهاية: لا يفلت أحد من الموت بدون تدخّل ا؟ الخاصّ. فهذا مهمّ جدٌّا: الموت ينتظر الجميع، ومهما طالت بنا الأيّام ومهما كبرنا في العمر يبقى الموت هو النهاية أو ساعة الانتقال من عالم إلى عالم، من الأرض إلى السماء. هنا يمكن أن ننظر من بعيد إلى سفر الجامعة الذي تأسّف، الذي تعب، وإلى هؤلاء الأشخاص الذين يعيشون مثل هذه الحالة. جمع المال وما استفاد من المال، بنى البيوت، أخذ امرأة، امتلك أولادًا، ماذا بقي له؟ لا شيء أبدًا في النهاية. كلّه باطل بباطل، كلّه لا نفع منه ولا فائدة.

إذًا، هذا المرتّل ترك الأمور العديدة وتوقّف عند الأساس كما قلت: هو يريد أن يعلّم المؤمنين.

4 - الله يكلّم البشر كلاٌّ بمفرده

آية 2: اسمعوا هذا يا جميع الشعوب.

إذًا، هو لا يكلّم فقط الشعب العبرانيّ الذي يعتبر الله ملكه. كلاّ.

اسمعوا هذا يا جميع الشعوب، أصغوا يا جميع أهل الدنيا.

بين السماع والإصغاء. يعني السماع بانتباه. إذا لم يكن السماع فيه بعض التنفيذ والطاعة لما يحمله النبيّ أو المرتّل إلى المؤمنين الذين حوله، فما الفائدة؟

نرى الأشراف والوضعاء جميعًا، الأغنياء والبائسين على السواء. نرى الشعوب، الأمم، أهل الدنيا، الأشراف والوضعاء، الأغنياء، الأغبياء، البائسين. ويعطينا الدرس في آية 4.

فمي ينطق بالحكمة.

إذًا، هو حكيم من الحكماء الذين حلّوا في وقت من الأوقات محلّ الأنبياء. حين زال الانبياء من بين الشعب، بعد المنفى، أخذ الحكماء مكانهم. وحتّى اليوم الحكماء موجودون لدى الشعب اليهوديّ. يسمّون الحاخام، لأنّ الكاف الثانية تلفظ بشكل خ لكنّها تُكتب بشكل كاف. حاخام بدل الحكيم. إذًا هو حكيم ويريد أن يعلّم، وكيف يعلّم؟ ينطلق من خبرة شعبه، ينطلق من كلام الأنبياء، ينطلق من خبرته مع الله الحيّ، وخصوصًا ينطلق من تحوّل جديد: لم تعد المسؤوليّة فقط مسؤوليّة الجماعة، بحيث يستطيع الواحد أن يختبئ، بل صار كلّ واحد مسؤولاً عن نفسه.

فمي ينطق بالحكمة وقلبي يلهج بالكلام المبين.

ما هذه الروعة:الفم هو التعبير الخارجيّ، والقلب هو التعبير الداخليّ، من القلب يخرج كلّ خير، ومن القلب يخرج كلّ شرّ. القلب هو الذي يدفعنا إلى العمل، إلى الانطلاق، القلب يعبّر عمّا في قرارة الإنسان. ولا ننسى أنّ القلب ليس فقط أداة الفهم بل أداة الاتّصال.

آية 5: أميل أذني إلى الأمثال وأوضح بالكنّارة مغزاها.

المثل من جهة، والنشيد من جهة ثانية. والمهمّ أن نستخلص العبرة، أن نستخلص المغزى من كلّ هذا. هنا مع الآية 6 نعرف التعبير الذي يبدأ. لماذا أخاف في أيّام السوء حين يطاردني ويحيط بي أثمة يتّكلون على ثروتهم ويهلّلون لكثرة غناهم؟

إذًا، هي خبرة، وهذه الخبرة هي في يوم السوء. لماذا أخاف في أيّام السوء حين يطاردني المعادي؟ إنّما يتّكلون على الثروة ويهلّلون لكثرة غناهم.

5 - الفدية والكفّارة

هنا لدينا المبدأ، المجّانيّة. فالإنسان لا يستطيع أن يفتدي نفسه. الإنسان لا يستطيع أن يكفّر عن خطاياه تجاه الله.

آية 9: فدية النفس باهظة ولا تكون أبدًا كافية ليحيا ولا يرى الهاوية. يستطيع الإنسان أن يفتدي نفسه إذا شاء ولكن يبقى خارج اللعبة كلّها.

أحبّائي، نبدو من بعيد كأنّنا ننظر إلى يسوع المسيح الذي عرف أنّنا لا نستطيع أن نفتدي نفوسنا. ليست الفدية باهظة فقط، ولكنّها مستحيلة علينا. ومهما عملنا فلا تكون أعمالنا كافية بحيث تؤمّن لنا الخلاص والفداء. هذا مستحيل علينا، وحده يسوع المسيح يقدّم الكفّارة الكاملة والفدية الكافية. وحده يستطيع أن لا يتركنا نرى الهاوية، ننزل إلى الهاوية، فنبقى في عالم الموت.

6 - الموت طريق الجميع

يسوع وحده يستطيع أن يجعلنا نحيا، تكون لنا حياته. هو قال: أنا النور والحقّ والحياة. فدية النفس باهظة، ولا تكون أبدًا كافية ليحيا الإنسان ولا يرى الهاوية.

أراد الإنسان الغنيّ أن يتهرّب من الموت. هذا مستحيل! هو إنسان عظيم! مستحيل، إنسان غنيّ! مستحيل. أيّ إنسان لا يرى الهاوية؟ فكلّ وسائل الأرض لا تعطيه شيئًا.

آية 11: يرافق هذا المزمور سفر الجامعة: باطل الأباطيل وكلّ شيء باطل.

في آية 11 يجعل المرتّل أمام هؤلاء الناس الواقع الذي ينتظرهم، وهذا الواقع لا يستثني أحدًا، لا يستثني الأغنياء لأنّهم أغنياء، لا يستثني الحكماء لأنّهم حكماء. أبدًا: لا يستثني أصحاب الثروة، كلّهم يموتون، كلّهم يمضون إلى القبور.

في آية 11: ألا نرى الحكماء يموتون؟

أجل نراهم. كلّ يوم، نختبر أنّهم يموتون شأنهم شأن بقيّة البشر. هم ليسوا أفضل من الكسالى ومن الأغبياء والحكماء. يموتون، والأبرار أيضًا يموتون. هنا نحسّ بعض المرّات أنّ سفر الجامعة أراد أن يسألنا: لماذا نعمل؟ لماذا نتعب؟ لماذا نبحث عن الحكمة، إذا كنّا في النهاية نلتقي في القبر، نلتقي في الهاوية مع الكسالى والأغبياء والبلداء؟ لماذا نبحث عن السعادة، عن القداسة، عندما نعرف أنّنا في النهاية نكون كلّنا في قبر واحد؟

هي طريقة رديئة جدٌّا تحمل الإنسان على اليأس وعلى القنوط. فكأنّها تقول له: لماذا تُتعب نفسك؟ الحياة قصيرة. يكفي أن تأكل وتشرب، لأنّك غدًا سوف تموت. هذا يصحّ إذا كان الموت هو النهاية. ولكن إن كان الحكيم لم يفهم بعد أنّ الموت ليس النهاية، أتُرى الكسلان والغبيّ سوف يفهمان؟ وفي أيّ حال، إن مات الحكيم فهو يترك حكمته وراءه، وإن مات الغنيّ فهو يترك ثروته وغناه للآخرين.

7 - والقبر لا يكون النهاية

لا يمكن أن ننسى: دخلنا إلى هذا العالم بلا شيء، ومن المعلوم أنّنا نخرج منه بلا شيء. فإذا أردنا أن نكون منطقيّين مع نفوسنا نقول: نأخذ معنا أعمالنا، نأخذ معنا شخصيّتنا وما اغتنت به خلال إقامتنا على الأرض. هذا ما نأخذه فقط ولا شيء آخر. نأخذ خصوصًا هذه الحياة مع الربّ، هذه الحياة من السعادة التي هي أعظم من الحكمة وأعظم من المال وأعظم من كلّ شيء. نأخذ هذه السعادة الحقيقيّة التي اغتنت بحضور الربّ في حياتنا.

هم يتركون ثروتهم للآخرين. ويتابع في آ 12: قبورهم بيوتهم إلى الأبد.

نلاحظ هذه العبارة: كانوا يعتبرون أنّ الإنسان يُدفَن في القبر ويبقى في القبر. لا قيامة للأموات أبدًا بعد أن صار الإنسان وحده، صار في القبر ولا خروج له من القبر أبدًا. قبورهم بيوتهم إلى الأبد. خلال حياتنا على الأرض قد نكون بدّلنا بيتًا، انتقلنا من بيت إلى بيت، أمّا هنا فبيتنا واحد هو قبرنا إلى الأبد. أترى الله يترك أحبّاءه في الموت أو في القبر؟ كلاّ ثمّ كلاّ؟ كانت خطوة أولى نجاح الأشرار. وقال لهم المرتّل: في النهاية سوف تموتون.

هل تقبلون بذلك؟ أم تبحثون عن الخير بحيث لا تموتون في شرّكم بل تكونون من الأبرار الذين يجازيهم الربّ خير جزاء؟

ونحن لا نتذمّر، لا نتّهم، لا نتكلّم، بل نجعل حياتنا وصعوباتنا وآلامنا وفقرنا وموتنا، نجعلها كلّها في يد الله وهو يعرف كيف يأخذها ويأخذنا إليه بحيث يعطينا من خلال القبر حياة الأبد. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM