جميع البشر يموتون

 

جميع البشر يموتون

المزمور التاسع والأربعون

1 - قراءة المزامير وصعوبات الحياة

أحبّائي، قراءتنا للمزامير هي قراءة يوميّة، لأنّ صعوبات الحياة وأفراحها ترافقنا يومًا بعد يوم. لهذا نرفع صلاتنا إلى الله. إليه وحده نشكو أمرنا، وخصوصًا إذا كان أمامنا نجاح الأشرار. هل سوف ينجح الأشرار إلى النهاية، أم إنّه يكون للأبرار مساحة يستطيعون أن يستريحوا فيها؟ ذاك هو موضوع المزمور 49 وعنوانه نجاح الأشرار. هذا المزمور هو مزمور تعليميّ. والكاتب يريد أن يعلّمنا أنّ المزامير هي ملخّص الكتاب المقدّس كلّه. ملخّص لألم الإنسان، لفرح الإنسان، وملخّص لما يأتي من تعليم على لسان المعلّمين. ولا يخاف المزمور، ولا يخاف الكتاب المقدّس من أن يستعين بكلّ ما قرأه في عالم الشرق القديم. كلّ شيء هو للمؤمن، كلّ شيء هو للمصلّي، ويستطيع أن يستفيد منه ليُغني صلاته، ليفرح مع الربّ، لتكون صلاته لا صلاة شعب من الشعوب فقط، بل صلاة جميع الشعوب. ونقرأ المزمور 49.

2 -اله يدعو الجميع...

اسمعوا هذا يا جميع الشعوب... ليحيا ولا يرى الهاوية. إلى هنا في مرّة سابقة، أحبّائي، قرأنا، تأمّلنا في هذا القسم الأوّل من المزمور 49. وأخذنا النتيجة أنّ الإنسان لا يستطيع أن يشتري الأبديّة بأمواله مهما كثرت. المعلّم يعلّم، وهو يدعو الناس لأن يسمعوا، لأن يُصغوا، وهو لا يتوجّه فقط إلى بضعة تلاميذ، لا يتوجّه فقط إلى شعب من الشعوب، بل إلى جميع الشعوب.

اسمعوا يا جميع الشعوب، أصغوا يا جميع أهل الدنيا. وهو لا يتوجّه فقط إلى الكبار أو إلى الصغار، إلى الأشراف أو إلى الودعاء، إلى الأغنياء أو إلى الفقراء بل هو يتوجّه إلى الجميع. فالجميع يحتاجون إلى الحكمة الآتية من عند ا؟. هناك كثير من الناس يعتبرون أنّ حياتهم يمكن أن تفترق عن حياة سائر الناس. كم هم جاهلون، كم هم بلداء، كما يقول الكتاب المقدّس! فالبشر سواسية. كلّ واحد يشبه الآخر. يولدون كلّهم من حشا أمّهاتهم ويموتون كلّهم ويذهبون إلى القبر، أو يمضون بهم إلى القبر. لا فرق بين إنسان وإنسان.

على مستوى الأرض، نفضّل الشريف على الوضيع، والغنيّ على البائس والفقير، والشيخ على الطفل والذي لا خبرة له، هذه طرق الدنيا. أمّا في نظر الله، أمّا على مستوى الولادة والموت فكلّهم يُولَدون، كلّهم يموتون، ولا يختلف إنسان عن آخر. وإن اعتبر أحدهم أنّه صار قريبًا من الآلهة، بسبب السلطة التي عنده أو المال الذي في يده، فهو في النهاية، يقال له: أنت إنسان مثل الناس وأنت تموت مثل جميع الناس. ذاك كان القسم الأوّل من هذه الصلاة، صلاة المؤمن، حين رأى نجاح الأشرار. ونقرأ 49:11 الذي يقول:

ألا نرى الحكماء يموتون... ويكون عالم الأموات مسكنًا لهم.

3 - إلى الموت بعد هذه الحياة

هنا نلاحظ الموت الذي ينتظر البشر كلّهم. وعنوان هذا المقطع نستطيع أن نسمّيه: الجميع يموتون. في أساس هذا المزمور سفر الجامعة، أو تدخّل المعلّم الذي انتهى إلى القول: باطل الأباطيل وكلّ شيء تحت الشمس باطل. ويخبرنا ذاك «الملك» عن سليمان أو غيره من الملوك: هو الحكيم، هو المتعلّم، هو الغنيّ، هو العظيم. نستطيع أن نسمّيه كما نشاء. المهمّ أنّ هذا الحكيم رفض المنطق الذي يُنهي الحياة بالموت. لماذا؟ لأنّه لم يكن يؤمن بالحياة الأخرى، بالحياة الثانية. كان يعتبر أنّ الحياة تنتهي في القبر كما قال في آية 10: ليحيا ولا يرى الهاوية، كلاّ. جميعنا سوف نرى الهاوية، ولا نستطيع، بقوانا، أن تكون لنا الحياة. هذا ما كان يقوله الشعب العبرانيّ قبل أن يكتشف الحياة الأخرى، الحياة مع الله رغم الموت وعبر الموت. رأى (في سفر الجامعة) هذا الحكيم، هذا المعلّم، رأى أنّ الجميع يموتون، كلّهم يمضون إلى مكان واحد. وراح أبعد من ذلك فقال: الإنسان لا يختلف عن الحيوان. الإنسان يموت والحيوان يموت. ولماذا قال هذا؟ لأنّه اعتبر أنّ الموت هو النهاية، عند ذاك لا يختلف الإنسان عن الحيوان وهذا صحيح. ولكن إذا كانت هناك حياة أبديّة، حياة أخرى، لا يمكن أن يكون الإنسان مثل الحيوان. لكن بانتظار ذاك الجواب المملوء رجاء، المملوء خلودًا، يقول الكاتب في مز 49:11: ألا نرى الحكماء يموتون.

4 - كلّهم يموتون

مبدئيٌّا يجب ألاّ يموت الحكماء، يجب أن يخلدوا، لأنّهم لبسوا حكمة الله، تعلّموا علم الله. هم لا يموتون: والحكمة هنا ليست بعض المعلومات، والحكمة ليست معرفة من المعارف. الحكمة هي نظرة إلى الحياة، هي تنظيم الحياة بحسب وصايا الله، بحسب ما قيل: رأس الحكمة مخافة الله. الحكيم هو أوّلاً وأخيرًا من يعيش في مخافة الله. ومع ذلك هذا الحكيم مات، مات شأنه شأن كلّ إنسان. ويقابله المزمور بالكسالى، بالبلداء، بالأغبياء، بالجهّال. الجاهل هو الذي قال: الله غير موجود. والكسلان هو الذي لا يتحرّك، لا ينظر، لا يرى، لا يدرس، لا يتأمّل، لا يعمل. والكسل من أبشع الرذائل في الكتاب المقدّس. وهذا الكسل يقود إلى الغباوة.

من هنا جمع الكسالى والأغبياء. جمع الحكماء من جهة، الكسالى والأغبياء من جهة ثانية: يموتون كلّهم، يبيدون كلّهم. وتنهي الآية 11: تاركين ثروتهم للآخرين. جمعوا، كدّسوا من العلم والمعرفة، من المال والخير والمقتنيات، ولكنّهم تركوا كلّ شيء وراءهم. لمن؟ للآخرين. هم أنفسهم لا يعرفون لمن تركوا الغنى الذي كان في يدهم. وفي أيّ حال، سفر الجامعة قاسٍ جدٌّا على الذين يحسبون الحساب: ماذا يحلّ بثروتي؟ بعلمي؟ بكتبي من بعد موتي؟ مثل هؤلاء يبحثون: أبحاث غير نافعة، بل أبحاث ضارّة لأنّهم يعيشون في الأحلام، في التصوّرات ولا يعيشون في الواقع. فهل المستقبل لي؟ كلاّ. هو في يد الله.

وهل أعرف ماذا يكون لي في حياتي بعد الموت؟ كلاّ، الله وحده يعرف. فالمزمور، هذا المعلّم، يقول لهم: لا تهتمّوا لما بعد الموت. اهتمّوا بالزمن الحاضر، واتركوا الربّ يهتمّ بالماضي وبالمستقبل. في الماضي يغفر لكم خطاياكم، إذا كانت هناك من خطايا وأخطاء في حياتكم. وفي الآخرة هو الذي يهيّئ المكان لكم. يقول لنا يسوع في إنجيل يوحنّا فصل 14: أنا ذاهب لأعدّ لكم مكانًا. مثلما في بداية الخلق، سفر التكوين فصل 1، هيّأ الربّ الكون، هيّأ السموات والأرض لكي تستقبل الإنسان الذي خلقه على صورته ومثاله، الذي خلقه ذكرًا وأنثى على هذه الصورة والمثال، كذلك الربّ يهيّئ المنازل يهيّئ الدار السماويّة للّذين عاشوا في الحاضر، يعني استعدّوا في كلّ يوم، في كلّ ساعة كي يلقوا وجه الربّ.

لا شكّ. الموت يجبرنا أن نتجرّد عن كلّ شيء. والتجرّد حاضر، هناك من يتجرّد طوعًا فلا يريد أن يُبقي له شيئًا لأنّه يعرف أنّه لا يأخذ معه شيئًا. وهناك أشخاص يُجبَرون على ترك ثروتهم غصبًا عنهم. هؤلاء هم مثل الغنيّ الجاهل الذي غلّت أرضه غلاّت كثيرة فما عاد يعرف ماذا يفعل بها. وسّع الأهراء، كبّرها، فسمع في تلك الليلة أنّ نفسه تؤخذ منه.

5 - القبر هو البيت الأخير

يتابع النصّ في 49:12: قبورهم بيوتهم إلى الأبد. نلاحظ هنا أنّ الموت هو النهاية. كان لهم بيت على الأرض، ولكنّه بيت مؤقّت كم يعيش الإنسان؟ عشرين، ثلاثين، أربعين، يقول المزمور، سبعين، ثمانين سنة إذا كان الإنسان من القوّة. إذًا، تدوم الحياة في بيوتنا الأرضيّة 80 سنة آخر الأمر. أمّا القبور فهي بيوتنا إلى الأبد.

لا شكّ، نحن هنا في العهد القديم. مع العهد الجديد ومع يسوع، القبر ليس مغلقًا بل هو مفتوح. لمّا جاءت النسوة لتمسح جسد المسيح بالطيب، وجدن القبر مفتوحًا، مع أنّ الحجر كان كبيرًا جدٌّا. الذين كانوا قبل المسيح، الذين لم يعرفوا المسيح ولم يعرفوا القيامة، يقولون: قبورهم بيوتهم إلى الأبد. لن يخرجوا منها أبدًا. لا يمكن أن يعودوا إلى الحياة، ولا يمكن أن تكون لهم حياة من السعادة. كما قلت، نحن هنا في زمن العهد القديم مع غير إيمان بالقيامة، غير معرفة بالحياة الأخرى.

ويتابع: مساكنهم إلى جيل فجيل. هم يسكنون هنا تحت الأرض. يسمّونها الشيول. البعض يسمّونها: الشول أو القبر تحت الأرض. هنا يقيم الموتى من جيل إلى جيل، الأجداد والأبناء والأحفاد. كلّهم موجودون في هذا المكان، بشكل ضباب، بشكل خيال أخيلة، يقول الكتاب فيهم: لا يستطيعون أن يسبّحوا الربّ في الشيول، أو بمعنًى من المعاني، في الجحيم، يعني هذا المسكن الذي تحت الأرض.

6 - سمّوا المدن بأسمائهم

كانوا عظماء فماتوا، كانوا حكماء فماتوا، كانوا أغنياء فماتوا. لم يعد لهم بيت على هذه الأرض، فصار القبر بيتهم، لا لفترة معيّنة بل إلى الأبد. لذلك جعلوا الأسماء، أسماءهم على البلدان، على الأماكن. نتذكّر هنا إسكندر المقدونيّ الذي سمّى قرابة 40 موضعًا باسمه: الإسكندريّة. ونقول أيضًا عن أنطيوخس الذي خلف الإسكندر في أنطاكية في الشمال السوريّ. أنطيوخس سمّى عددًا من المدن باسمه: أنطاكية، وباسم امرأته لاودوكية سمّى أيضًا عددًا من المدن، مثلاً في سوريا اللاذقيّة. في بسيدية أيضًا اللاذقيّة، وأماكن عدّة. لم يتركوا وراءهم إلاّ أسماءهم على مدخل المدن، على مدخل الأحياء أو على مدخل الشوارع.

اعتبروا أنّهم إن سمّوا البلدان بأسمائهم، صاروا خالدين. كلاّ. هم ليسوا خالدين ولا يمكن أن يكونوا خالدين، والكتاب واضح في هذا المجال. حتّى الذين وصل بهم العمر إلى 900 سنة، في النهاية ماتوا. والمقابلة واضحة بين نوح بطل الطوفان في الكتاب المقدّس - ونوح معناها ارتاح، مات، ارتاح من هذه الدنيا فمات - وبين بطل بلاد الرافدين يعني العراق اليوم، حيث البطل اسمه أوتونافستين هو خالد. والملوك خالدون. بعد أن تعدّى عمرهم الألف سنة الذي هو رمز الخلود.

قبورهم بيوتهم إلى الأبد، مساكنهم إلى جيل فجيل ولو سمّوا البلدان بأسمائهم. إذًا، لا يبقى شيء بعدهم، اعتبروا أنّهم لو سمّوا المدن بأسمائهم رافقتهم هذه المدن، كانت لهم هذه المدن، في هذه الدنيا وفي الآخرة، كانت ملكهم. في الواقع هم لا يملكون شيئًا. وكما يقول مار بولس: نحن دخلنا إلى هذه الدنيا بلا شيء، ونحن سنخرج منها بلا شيء. وسيفهم أيّوب هذا الكلام حين يقول: الربّ أعطى والربّ أخذ. أعطانا المال، أخذه منّا. أعطانا الجمال، أخذه منّا. لماذا؟ لأنّ المال الذي يعطيه غير المال الذي نتعامل به على الأرض.

7 - يسوع الماء الحيّ

هنا نتذكّر كلام يسوع مع المرأة السامريّة. فالماء الذي في بئرها غير الماء الحيّ الذي يمنحه يسوع المسيح. والفرق شاسعٌ بين ثروة وثروة، بين مُلك ومُلك. عندما نكون في السماء نمتلئ من الله، نكون متّحدين مع الله، نعيش مع الله فالغنى الذي يكون لنا لن يكون غريبًا عنّا. الغنى الذي يُعطى لنا، هو جزء من حياة الله ومن حياتنا.

قبورهم بيوتهم إلى الأبد، مساكنهم إلى جيل فجيل ولو سمّوا البلدان بأسمائهم. ليس مهمٌّا أن نفهم أنّ الإنسان يبقى إنسانًا. أنّ الإنسان يبقى محدودًا مهما فعل ليبقى خالدًا، سواء أقام المشاريع، أو بنى المدن، أو جعل اسمه على هذا الباب أو ذاك. فهو يموت مثله مثل جميع الناس. فلا مكان بعدُ للأشرار أو للأبرار، للخطأة أو للقدّيسين، للأغنياء أو للفقراء، للحكماء أو للبلهاء، للشيوخ أو للأطفال. هؤلاء لا مكان لهم. كلّهم أتوا إلى الحياة بمجّانيّة مطلقة من الله، ويتركون الحياة بمجّانيّة مطلقة. لا شكّ في أنّ الله يحاسب كلّ إنسان بحسب أعماله، ولكن يعرف أن يترافق مع كلّ إنسان، ليرفعه إليه. هذا هو معنى القسم الثاني من المزمور، قرأنا فقط آيتين 49: 11 - 12 سأقرأهما من جديد:

ألا ترى الحكماء يموتون... فلا تخطأ إلى الأبد.

ونقرأ في آية 12: هؤلاء كلّهم حكماء... إنّما هم مائتون.

يبقى أن يترافق هذا التفكير مع مخافة الله. مخافة الله هي التي تعلّمنا كيف نتّحد بالله في هذه الدنيا وفي الآخرة، على ما قال المزمور 73: تُمسكني بيدي اليمنى وإلى المجد تصعدني، من لي في السماء إلاّ أنت، وعلى الأرض لا أبغي سواك. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM