بين ماضٍ مجيد وحاضر هزيل

 

بين ماضٍ مجيد وحاضر هزيل

المزمور الرابع والأربعون

- عتاب الله

أحبّائي، عنوان هذا المقطع من المزمور 44 بين ماضٍ مجيد وحاضر هزيل. تلك هي الخبرة التي عاشها أولئك الذين أنشدوا المزمور 44. ها الشعب أحسّ أنّه لم يبق له شيء: بدلاً من أن يتساءل السؤال البشريّ الذي اعتدنا أن نسأله اليوم: لماذا كانت الهزيمة بالحرب الفلانيّة أو المعركة الفلانيّة.

أين كان النقص؟ أمّا المؤمن فلا يطرح مثل هذا السؤال ولكنّه يعاتب الله. يقول له: الذي فعلتَه في الماضي فلماذا لا تفعله الآن؟ بحضورك، بعملك، كان الماضي مجيدًا، واليومَ، الحاضرُ هو هزيل لأنّك أنت بعيد، لأنّك أنت غائب، لأنّك تركت شعبك وتخلّيت عن مشاريعك الماضية.

أكثر من مرّة أراد الربّ أن يتخلّى عن شعبه وينطلق في بناء شعب جديد، فكان موسى يقف متشفّعًا، يقف مصلّيًا: ماذا سيقول المصريّون إن أنت تخلّيتَ عن هذا الشعب وأخذت شعبًا آخر؟ أين ثقة الشعوب بك يا ربَّ الشعوب كلّها، لا ربّ شعب واحد؟ في أيّ حال، هذا الشعب لا بدّ أن يتغيّر، وأيّام المنفى التي طالت من 587 إلى 538 ق. م. تقريبًا 50 سنة، تقريبًا جيلاً،لا بدّ لهذا الشعب أن يتبدّل، وسوف يتبدّل تبدّلاً كبيرًا على مثال المسيرة في البرّيّة مع موسى 40 سنة حيث مات كلّ جيل مصر. هذا لا يعني أنّ الجميع ماتوا. لكنّ العقليّة التي أخذها الشعب العبرانيّ، عقليّة العبوديّة، عقليّة الأصنام التي أخذها الشعب العبرانيّ من مصر، تركها ودخل إلى أرض الموعد، أرض فلسطين إنسانًا جديدًا. وهنا زمن المنفى سيكون تقريبًا 40 سنة أو 50 سنة. هو زمن تنقية ونظرة جديدة إلى الله وعبادة جديدة. مات كلّ ذِكْر للملكيّة وضاعت الأمور، ولم يبقَ شيء إلاّ هذا الاتّكال التامّ على الله. ونعود فنقرأ القسم الأوّل وما فيه من ماضٍ مجيد. إذًا، 44 آية 2:

بآذاننا سمعنا يا الله. آباؤنا هم الذين أخبرونا بجميع الأعمال التي عملتَها في أيّامهم، في الأيّام القديمة... نحمد إلى الأبد اسمك.

ذاك كان القسم الأوّل من مزمور 44، هذا التشديد على الماضي المجيد والذي يخبر به الكبارُ والصغار. ويدلّ على رضى الله على شعبه. أترى الربّ لم يعد راضيًا عن شعبه في الزمن الحاضر؟

أترى الربّ ترك شعبه؟ عند ذاك هل يستطيع المؤمن أن يرفع نشيد الحمد والهتاف؟ المؤمن عليه دومًا أن يرفع نشيد الحمد والهتاف. وها هو المؤمن يقدّم نظرة إلى هذا الماضي الهزيل الذي فيه تبعثر الشعب ومضى كلّ واحد في طريقه، في طريق الشقاء وطريق الألم. نقرأ، إذًا، مزمور 44: 10 يقول:

لكنّك اليوم خذلتنا وأهنتنا. ولا تخرج للقتال في جيوشنا، تردّنا إلى الوراء عن خصومنا، فيأخذ الغنائم مبغضونا... ومن كلّ عدوّ منتقم.

إذًا، قرأنا القسم الثاني من المزمور 44 آية 10 إلى آية 17: هو الماضي الهزيل.

2 - المؤمن يشتكي

هل يخذل الله شعبه؟

يبدأ النصّ: لكنّك اليوم. هناك في آية 2 في أيّامهم، في الأيّام الماضية، هنا، اليوم، اليوم خذلتنا، أهنتنا. ولكن يعني تبدّل الوضع كلّه من مجد باهر إلى هزالة وضعف ما بعدها هزالة ولا ضعف. لكنّك اليوم خذلتنا، إذًا، هنا الأفعال تتبدّل. هناك غرسَ، أنمى. بسبب الله ورث الشعب، نال. يمين الربّ كانت حاضرة، ساعدُه حاضرة. أمّا هنا فتبدّل كلّ شيء: خذلتنا وأهنتنا.

نلاحظ هنا أمرين. أوّلاً خذل، ترك. يمكن أن يترك الإنسان جاره ويتوقّف هنا. لكن أن يهينه، هذه قضيّة أخرى، هذا تعبير جديد، في أيّ حال، عندما يخذل الربّ لا سمح الله. هو لا يخذل لكن عندما يخذل الربّ شعبًا أو يخذل مؤمنًا، فخذلانه هو إهانة، لأنّ هذا الذي يخذل سيصبح عرضة للإهانة. لكنّك اليوم خذلتنا ولا تخرج للقتال مع جيوشنا. جيوشنا لا تكفي. هذا القوس لا يمكن أن نتّكل عليه، والسيف لا يحمل الخلاص. إذًا، هنا عندنا دائمًا خذل وأهانة، كأنّه تركنا ولم يفعل شيئًا وأهاننا. كأنّه أراد أن يحطّ من كرامتنا. ثمّ: لا تخرج للقتال مع جيوشنا. يعني أنّه لا يسمح لنا بذلك. ولكن تردّنا إلى الوراء عن خصومنا، هذا أمر لا يحتمل. كأنّ الربّ هو الذي يجعل الخوف في قلوب مؤمنيه بحيث يتراجعون إلى الوراء ولا يستطيعون أن يجابهوا الخصوم. فيأخذ الغنائم مبغضونا.

وتأتي الصور المتعدّدة. أوّلاً: الذين حولنا هم ذئاب شرسة، هم حيوانات كاسرة تجعلنا كالغنم مأكلاً. إذًا، هنا بدلَ أن تدافع عنّا، تقدّمنا كالغنم ليأكلنا الذئاب، وتشتّتُنا بين الأمم. وفي الواقعِ هذا ما حدث للشعب في أكثر من منفًى، خصوصًا 587 لمّا تشتّت في أرض العراق، بانتظار أن يمضي إلى مصر وإلى أماكن أخرى خوفًا من الحرب والعبوديّة والقتل والتشريد إلخ...

3 - باع الله شعبه!

وتشتّتنا بين الأمم. إذًا، هذه الهزيمة تُعاد كلّها إلى الربّ. الربّ هو الذي ترك شعبه، خذل شعبه، حمل إليه الإهانة، ردّه إلى الوراء، لم يفعل له شيئًا له بل باعه. آية 13: تبيع شعبك بلا مالٍ وما استفدتَ من ثمنهم. صار شعبك عبدًا في أرض الأعداء. أنت ما قبضت شيئًا. أنت ما استفدت أبدًا حين بِيع شعبك. أنت ما استفدت أبدًا، ومع ذلك قبلت أن يُباع شعبك. هو عقاب من قبل ا؟ كما يقول سفر القضاة:

عندما يتعبّد المؤمنون للآلهة، للأصنام، يتخلّى عنهم ا؟. أتى المديانيّون وغيرهم وسيطروا على الشعب الذي يرتبط با؟. إذًا، لم تكن قضيّة ماليّة كما يفعل تجّار العبيد، الرقيق، الذين يبيعون الناس ويربحون هنا بثمنها، أمّا هنا فلا ربح أبدًا.

لا بل نحن لم نعد نستطيع أن نعبدك وهؤلاء الشارون الذين اشترونا، الذين سيطروا علينا، الذين استعبدونا لم يعبدوك، فكنت الخاسر من هذه الجهة ومن تلك. كأنّي بالمؤمن يريد أن يحرّك الهمّة عند الله

4 - هزء الشعوب

نكمّل آية 13: تبيع شعبك بلا مال وما استفدتَ من ثمنهم. ثمّ يكمّل آية 14: تجعلنا عارًا لجيراننا وهزءًا وأضحوكة لمن حولنا. كلّ هؤلاء الشعوب الذين يحيطون بنا، الفينيقيّون على الساحل، الفلسطيّون ثمّ الموآبيّون والعمّونيّون والآدوميّون والآراميّون وغيرهم. كلّ هؤلاء كانوا يعتبرون أنّنا حصّتك، أنّنا لك، أنّك تدافع عنّا. هذا ما أخبرناهم به ولكن حين رأوا ما وصلت بنا الحالة، أوّلاً شمتوا بنا، عيّرونا أين إلهكم؟ هو لم يفعل شيئًا فماذا يفرّق هذا الإله عن البعل؟ ماذا يفرّق عن الأصنام؟ تجعلنا عارًا لجيراننا وهزءًا وأضحوكة لمن حولنا؟ هكذا يهتف المزمور: هاها، هاها لقد رأينا. ماذا رأينا؟ رأينا أنّ الله لم يفعل شيئًا. وهذا ما يجعل هذا الشعب، الشعب المؤمن يحتار، لا يعرف كيف يتصرّف. أين هو الربّ الحاضر هنا؟ هل نسي مخطّطاته السابقة؟ كلاّ ثمّ كلاّ، ومع ذلك هم لا يفهمون. ويتابع في آية 14: تجعلنا عارًا، آية 15: تجعلنا مَثلاً. يعني الناس يقولون عادة: الله يترك شعبه. مثلاً تركهم سنة 587. وهزّة رأس في الشعوب هي علامة الاحتقار المؤكّد. هنا نتذكّر الإنجيل، كيف كان الكتَبة والفرّيسيّون ورؤساء الكهنة يهزّون رأسهم عند صليب يسوع. خلّصَ آخرين وما استطاع أن يخلّص نفسه. الفكرة ذاتها، هناك اعتبروا أنّ الله يخلّص شعبه ولم يخلّص. هزّوا رؤوسهم، معيّرين هؤلاء الناس الذين جعلوا ثقتهم بالله، جعلوا اتّكالهم على الله. وبالنسبة إلى يسوع هذا الذي استند إلى الله، دعا الله، ماذا فعل له أبوه؟

إذًا، وهزّة رأس في الشعوب مثلاً في الأمم وهزّة رأس في الشعوب. هواني أمامي نهارًا وليلاً والخزي يكسو وجهي من كلام المعيرّين الشاتمين ومن كلّ عدوّ منتقم. هواني أمامي نهارًا وليلاً، يعني لا شيء يدعوني إلى الثقة، إلى الفرح، إلى البهجة، إلى الاتّكال على الله لا شيء أبدًا لا شيء. لا شيء أمامي سوى الهوان نهارًا وليلاً.

هنا نحسّ كيف يعيش هذا المنفيُّ في أرضه: مرّة سألوه أن ينشد نشيد صهيون. فقال: كيف أنشد الله في أرض غريبة. هل أنا لديّ القدرة بأن أنشد، ليس لديّ القدرة، لا أريد، لا أستطيع أن أنشد، أفي المنفى ننشد؟ هذا مستحيل يجب أن نعود إلى أرضنا. وفي الوقت الحاضر الأرض بعيدة عنّا.

نهارًا وليلاً، الخزي يكسو وجهي. عادة، الإنسان الناجح يرفع رأسه، على وجهه النور، على وجهه ملامح الحياة، ملامح الصحّة. أمّا هنا فالخزي يكسو وجهي. ممّن؟ هناك كلام المعيّرين الشاتمين. ما إن أرفع وجهي إلاّ ويقولون لي: ماذا فعل ا؟ لك؟ هم يعيّرونني، يعتبرون أنّي اتّكلت على الله فصار اتّكالي على الله عارًا. ولا يكتفون بذلك بل يشتمونني، «ومن كلّ عدوّ منتقم».

4 - هل ترك الله مسيحه؟

هذا القسم الثاني من المزمور يمكن أن يطبّق على يسوع المسيح. وهو قريب في بعض أموره من المزمور 22. كما أحسّ الشعب أنّه متروك، أنّ الربّ تركه وما عاد يهتمّ له هكذا أحسّ يسوع فقال: إلهي، إلهي لماذا تركتني؟ ولكنّ هذا الإله سيكون حاضرًا بالنسبة إلى يسوع وبالنسبة إلى الشعب.

فالربّ لا يمكن أن يخذل أتقياءه. غير أنّ المؤمن ينتظر خلاصًا يُرى، والربّ ينظر إلى خلاص لا يرى. الناس ينتظرون خلاصًا سريعًا، أمّا الربّ فيعرف أن ينتظر، ألف سنة في عينيه كيوم أمس الذي عبر. مات يسوع على الصليب وما نزل عن الصليب كما طلب منه خصومه لكي يصفّقوا له، كلاّ، لكن مات في الخفاء، مات وقام في اليوم الثالث. هكذا يفعل الله مع المؤمنين.

لا شكّ، تذكُّر الماضي يُعيد إلى المؤمن الثقة بأنّ الربّ هو الإله الأمين. ما فعله في الماضي يفعله الآن ويفعله فيما بعد. ولكن مرّات عديدة يا ربّ نضيع، لا نعرف كيف نتصرّف، الظلمة كثيفة لا نرى شيئًا أبدًا، أنت يا ربّي كن نورنا الحقيقيّ، كن نورنا القويّ، الثابت، واجعلنا نعود إلى أعماق قلوبنا حتّى نكتشف مثل المجوس الطريق إليك: ومضوا وهناك سجدوا لك. ونحن، يا ربّ، نحتاج إلى نورك لكي نصل إلى من هو صاحب النور، إلى ربّنا وإلهنا يسوع المسيح الذي سمّى نفسه نور العالم، وقال لنا: لا تخافوا! إن مشيتم ورائي لن يدرككم الظلام. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM