صرخة الشعب في الزمن الحاضر

 

صرخة الشعب في الزمن الحاضر

المزمور الرابع والأربعون

أحبّائي، حياتنا تتوزّع بين الماضي والحاضر والمستقبل. الماضي اختبرنا فيه حضور الله وعمله. وهنيئًا لنا إن رأينا الخير الذي فعله الله من أجلنا. ولكن نحن تعساء إن نظرنا فقط إلى السواد الذي رافق حياتنا وأعمالنا.

في أيّ حال، الماضي لم يعد لنا. الماضي صار في قلب الله سواء كان فيه الخير أو الشرّ. فالربّ يأخذ الخير ويعظّمه، ويحوّل الشرّ إلى خير من أجل سعادة أبنائه وأحبّائه. والمستقبل ليس بعد في أيدينا. لم نصل بعد إليه. لهذا إن نحن تطلّعنا إلى المستقبل فلأنّنا نجعل رجاءنا في الله الذي يهيّئ لنا الطريق من أجل حياتنا اليوميّة. الماضي لم يعد في يدنا، والمستقبل لم يصل بعد إلى يدنا. يبقى لنا الحاضر وهنا يأتي المزمور 44، ليتذكّر هذا الماضي الذي فعل فيه الربّ الكثير من أجل شعبه. ولكنّه يقابل بين هذا الماضي المجيد والحاضر التعيس.

1 - أين هو الله؟

يقابل المؤمن بين هذا الماضي الذي فعل فيه الربّ الكثير، وبين الحاضر. هذا الحاضر المؤلم، ولاسيّما إذا كنّا في إطار سقوط أورشليم سنة 587 ق.م. سقوط أورشليم حيث مات من مات، ومضى إلى المنفى والتهجير من مضى، ولم يبقَ سوى الفقراء الذين لا نفع منهم. إن هجّرهم المحتلّ، فرغت الأرض والمدينة. الماضي كان مجيدًا ولكنّ الحاضر مؤلم.

تلك هي صلاة المرتّل في المزمور 44 الذي يمكن أن نعطيه عنوان صرخة شعب ا؟ في الحاضر، صرخة الشعب في الزمن الحاضر. وهذه الصرخة تقابل بهجة العيد في الماضي. أترى ا؟ تغيّر؟ أترى الله تركنا؟ بعد ذلك الوقت، خذَلنا مرّات عديدة. هذه الصرخة هي صرخة كلّ واحد منّا. نتساءل: أين هو الربّ ولاسيّما إذا كنّا في الضيق، إذا كنّا في الألم، إذا كنّا في الحزن، إذا كانت الكارثة تحيط بنا. إذا كان الأعداء يهجمون علينا، إذا كان القضاء لا يرحمنا، إذا كان الأقوياء يسحقوننا، نصرخ إلى الربّ.

يصرخ شعب كامل. هكذا كانت الحال حين سقطت أورشليم بيد البابليّين. وقد يستطيع كلّ واحد منّا أن يصرخ، أن يصرخ إلى الربّ. أنت يا من حفظتني حتّى الآن، باركتني، قوّيتني، أنميتني. وماذا حدث الآن؟ هل نسيتني؟ هل تركتني؟ هل خذلتني، يا ربّ؟ وتتواصل الأسئلة والربّ لا يجيب كما نشاء. لا يجيب بالكلام ولكنّه يملأ قلبنا سلامًا. يعطينا الجواب الداخليّ: أنا هنا. فهل أنت هنا يا ابني. مرّات عديدة لا نكون نحن حيث يكون الربّ.

ونقرأ الآن المزمور 44: صرخة الشعب في الزمن الحاضر: لكبير المغنّين لبني قورح قصيدة. بني قورح هم جماعة من البوابين والمغنّين. تركوا لنا عددًا من المزامير مع رئيس الجوقة الذي هو كبير المغنّين. ونقرأ، إذًا، آية 2:

بآذاننا سمعنا يا ا؟، آباؤنا هم الذين أخبرونا بجميع الأعمال التي عملتها في أيّامهم، في الأيّام القديمة... فنحن على الدوام نهلّل لك ونحمد إلى الأبد اسمك.

قرأنا، أحبّائي، المزمور 44 من 2 إلى 9. هنا المرتّل يتذكّر الماضي وما عمله الربّ من أجل شعبه. يقول: بآذاننا سمعنا يا ا؟، الشعب كان يتذكّر في الأعياد، كما الصغير يسأل الكبير، يسأل ربّ البيت. وربّ البيت يشرح، يذكّر أهل البيت بما عمله ا؟ من أجل شعبه. بآذاننا سمعنا، آباؤنا هم الذين أخبرونا يا الله. دائمًا نبدأ: يا الله.

2 - الله حاضر وسط شعبه

هو الله الحاضر، ونحن إن صرخنا، إن تأفّفنا، إن اشتكينا، فنحن لا نصرخ أمام البشر ولا نئنّ أمام البشر، بل نصرخ بحضرة الله. كما الصغير، كما الولد الصغير، يصرخ إلى أمّه لأنّه جائع، لأنّه عطشان، لأنّ متألم، كذلك نحن نصرخ إلى ا؟. لا نريد أن نلقي همّنا على البشر فهم أضعف من أن يستطيعوا مساندتنا. ولكن نضع همّنا في الربّ. نرفع صرختنا إلى الربّ. آباؤنا أخبرونا ماذا عملت معهم. وهي جميع الأعمال في أيّامهم، في الأيّام القديمة.

نقطة الانطلاق، عبوديّة مصر. ثمّ عبور البحر والخلاص والحياة في البرّيّة. تلك كانت خبرة الخلاص ثمّ خبرة العناية: أمّنت الطعام، أمّنت الشراب، أمّنت الحماية، أمّنت الانتصار على الأعداء في أيّامهم، في الأيّام القديمة. لماذا أضاف: في الأيّام القديمة؟ لأنّ هذا صار من زمان طويل، وكأنّ الربّ لم يعد معتادًا لأن يساعد شعبه، من زمان هذا كان!

لكن ماذا اليوم؟ هذا منذ زمن طويل، من قديم أنت، يا ربّ، عملت ما عملت. إذًا، هل نسيتَ ما فعلته من زمان بعيد؟ ماذا فعل الربّ؟ تركنا مصر، عبرنا البحر الأحمر، البرّيّة، سيناء، ووصلنا إلى فلسطين. «بيدك اقتلعت أممًا وغرستهم، وأتلفت شعوبًا وأنميتهم«». هنا نلاحظ أنّ إقامة الشعب العبرانيّ في أرض فلسطين كانت وسط بعض الحروب. ولكن في الواقع لم يقتلع الربّ أحدًا. أراد لشعبه أن يقيم وسط الشعوب، وسيكون هؤلاء الشعوب هنا أيضًا مع من دعوا أنفسهم شعب الله.

3 - الله يدافع عن شعبه

هذه الإقامة في فلسطين لم تتمّ بيد بشريّة، بقوّة حديديّة: «لا بسيوفهم ورثوا الأرض ولا بسواعدهم نالوا الخلاص». إذًا، هنا ننتبه كيف أنّ هذا المرتّل ترك السيوف وترك السواعد التي تحمل السيوف. ما بسيوفهم. في أيّ حال، نحن نعرف أنّه في بداية الملكيّة لم تكن الأسلحة كثيرة في يد العبرانيّين. والكلام عن القتل الكثير لا يعني بحسب مفهومنا أنّنا نقتل ألف، ألفين، ثلاثة، خمسة آلاف. كلاّ. هو تغلّب على العالم الوثنيّ.

«ما بسيوفهم ورثوا الأرض ولا بسواعدهم نالوا الخلاص». فالإنسان أضعف من أن ينال هذا، وخصوصًا هذا الشعب الآتي من البرّيّة، الآتي من عالم البدو: معه عصًا لا غير على مثال ما كان بيد موسى. وإن كان موسى أجرى المعجزات وقاد شعبه، فهذا كان بفضل هذه العصا التي تدلّ على عون الربّ، على مساعدة الربّ. لا بسيوفنا ولا بسواعدنا. هنا الإنسان المؤمن يعرف أنّه ضعيف، أنّه أضعف من أن تكون له الأرض، أضعف من أن ينال الخلاص. وإن كان هناك من خلاص بشريّ فهو مؤقّت، وهو مرّات عديدة نفعيّ. أمّا الخلاص التامّ الأبديّ فهو الذي لا يقف عند حدود.

لا خلاص على مستوى الجسد بالنسبة للمرض، بل خلاص على مستوى الروح، على مستوى النفس. ويتابع المرتّل: «يمينك وساعدك ونور وجهك لأنّك رضيت، يا ربّ، عنهم». ثلاث كلمات. أوّلاً يمينك. باليمين يمسك الإنسان السلاح. بالساعد، هو الذي يفعل. وأخيرًا نور وجهك. هو الربّ أنار الطريق أمامهم فمشوا. في المزمور 43 قلنا: أرسل نورك وحقّك بحيث يهديانني. وهنا هذا النور هو الذي خلّص، هذه اليمين هي التي خلّصت، هذا الساعد هو الذي خلّص لأنّك رضيت، يا ربّ، عنهم.

إذًا، الربّ هو الذي نفّذ هذا الخلاص. تجاوب مع نداء المؤمن. وفي أيّ حال الربّ يعجّل، يسرع إلى البائس، إلى المسكين، إلى الفقير الذي لا ناصر له. «ملكي أنت يا الله، تأمر بخلاص بني يعقوب». بنو يعقوب يعني جميع قبائل بني إسرائيل. كانوا اثني عشر ولدًا. إذًا، القبائل كانت اثنتي عشرة من أجل خدمة المعبد، وكلّ قبيلة تؤمّن الخدمة شهرًا واحدًا. هنا يطلب الخلاص لبني يعقوب. لماذا؟ لأنّه بعد المنفى، بعد 587، لم يكن هناك من ملك. بدأ الملوك في الشعب العبرانيّ مع شاول، داود وسليمان وظلّت الملكيّة حاضرة تقريبًا 400 سنة. كانت مفتّتة ولكنّها بقيت ملكيّة. أمّا بعد المنفى فلم يعد هناك من ملك.

4 - الربّ هو الملك

إذًا، الربّ يعود فيكون هو الملك. هو الملك علىكلّ واحد منّا. هو الملك على الشعب. أنت ملكي يا الله وأنت تحمل الخلاص إلى شعبي. الملك مضى إلى المنفى، وقُتل من قُتل من الملوك، والذي عاد من السبي زرابّابل لم يقدر أن يفعل شيئًا. ملكي أنت يا الله إذًا، لن أستند إلاّ عليك لكي أجد الخلاص الذي أنتظر. وكيف يتمّ الانتصار؟ »بك أنت نصدّ خصومنا، وباسمك ندوس القائمين علينا«. يكفي أن نتطلّع إليك، يكفي أن نذكر اسمك، لكي نتغلّب، نصدّ الخصوم، ندوس القائمين، ننتصر انتصارًا تامٌّا. قد تكون هزيمة. وهنا أكثر من هزيمة. هي هزيمة ووضعُ اليد على الخصوم، بحيث لا يعودون يسيئون إلينا.

ويعود المؤمن إلى ما قاله أعلاه: «على قوسي لا أتّكل وسيفي لا يخلّصني»، إذًا، انتهى هذا الاتّكال على السلاح، السلاح البشريّ. فالمزمور 20 قال: هؤلاء بالعجلات وهؤلاء بالخيل، أمّا نحن فنتّكل على اسم الربّ. وهنا قال المرتّل: باسمك ندوس القائمين علينا. إذًا، لا حاجة إلى القوس، لا يمكن أن أتّكل على القوس، لا حاجة إلى السيف، لا يمكن أن أتّكل على السيف. وفي أيّ حال لا القوس ولا السيف يمكنهما أن يحملا إليّ الخلاص. إذًا، الوسائل البشريّة ليست بكافية لكي تحمل إليّ الخلاص. وحده الله، وحده المخلّص. فيقول المرتّل في آية 8: «أنت خلّصتنا من خصومنا وأخزيت الذين يبغصوننا».

هي فكرة حاضرة عمّا حصل في ذلك الوقت. «أنت خلّصتنا من خصومنا». هنا الخلاص لم يأتِ بيد البشر، وكلّهم عرفوا بأنّ موسى خلّص بعصا الربّ. العصا ترمز إلى قوّة الربّ، والشعب نال ما نال من خلاص. «وأخزيت الذين يبغضوننا». كان لهم الخزي وخيبة الأمل.

5 - التهليل للربّ

اعتبروا أنّ المعركة لهم. في الواقع لم تكن لهم. آية 9: «فنحن نهلّل على الدوام لك ونحمد إلى الأبد اسمك« إذًا، هنا حمدٌ لما عمله الله في الماضي، حمد ثابت عن كلّ ما أخبرَنا به الآباء. نحن نحمدك على أعمال عملتها في وقتهم، في الأيّام القديمة. حمد على الماضي وحمد على المستقبل. كأنّي بالمرتّل يشكر الله مسبّقًا لما يمكن أن يناله الشعب في المستقبل من عون وخلاص. فنحن على الدوام نهلّل لك. يعني لا نهلّل لك فقط عندما تساعدنا، تخلّصنا. نهلّل لك حتّى في وقت الضيق، في وقت الشدّة. في وقت اليأس نهلّل لك. هذا ما قاله يسوع: صلّوا ولا تملّوا.

الصلاة هي ترافقنا في كلّ حالة من حالاتنا على هذه الأرض. ونحن على الدوام نهلّل لك، لا فترة واحدة بل على الدوام، ونحمد إلى الأبد اسمك الذي فعل فينا عجائب.

هذا، أحبّائي، هو منطق القسم الأوّل من المزمور. فيه يعلن المرتّل عن رغبته في أن يكون في الهيكل. يصوّر تأوّهه، أنينه، صلاته المتواصلة. وخصوصًا يذكر الماضي المجيد الذي عرفه بقرب الربّ. دائمًا اعتاد العبرانيّون أن يتذكّروا الإقامة في البرّيّة مع موسى، التي كانت مثل شهر العسل بالنسبة إلى الزوجين، إلى العروسين. هي فترة فريدة، عرف فيها الشعب الإقامة مع الربّ، الحياة مع الربّ. لهذا السبب، يمكننا كلّنا أن ننشد: فنحن على الدوام نهلّل لك ونحمد الربّ، ونحمد إلى الأبد اسمك.

هذا،أحبّائي، هو معنى القسم الأوّل من المزمور. في القسم الأوّل، هو المؤمن الذي يتمنّى أن تكون الأيّام الحاضرة شبيهة بالأيّام الماضية. وهكذا يستطيع الحمد والتسبيح أن يتواصلا، لا فقط لما عملتَه يا ربّ في الماضي، في الأيّام القديمة لآبائنا. بل لما تعمله اليوم من أجلنا نحن، حتّى نستطيع أن نخبر أولادنا بالأعمال التي عملها الله بنا في كنيسته، في جماعته، وفي كلّ واحد منّا. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM