لماذا تكتئبين يا نفسي؟

 

لماذا تكتئبين يا نفسي؟

المزمور الثالث والأربعون

أحبّائي، قراءتنا للمزامير هي صلاتنا اليوميّة وقت الكآبة، وقت الشدّة، وقت الفرح، وقت النجاح، وقت الفشل، صلاتنا هي هنا. وكم يجب على المؤمن أن يتساءل: لماذا، وأكثر من لماذا. لماذا يترك الله الأمور تسيطر علينا؟ لماذا لا يحسب حساب الظروف؟ يكفي أن يرتمي بين يدي الربّ ليعرف أنّ الربّ يخرجه من الضيق، من الصعوبات. في هذا نقرأ المزمور 43 الذي هو امتداد للمزمور 42. فالمزموران اللذان هما مترابطان يحدّثاننا عن الموضوع الواحد: المضمون هو ذاته، والمناخ الروحيّ هو ذاته. يحدّثاننا عن وضع المؤمن الذي يعرف الضيق وعنوان مزمورنا يكون: لماذا تكتئبين يا نفسي؟ ونقرأ المزمور 43:

«خاصم يا الله من يخاصمني وأنصفني من قوم لا يرحمون، ومن أهل المكر والجور نجّني... مخلّصي هو وإلهي».

إذًا، قرأنا المزمور 43. هذا المزمور الذي ينظر إلى المستقبل بعد الماضي بما كان فيه من صعوبة، من ضيق. والصلاة صلاة المؤمن الذي انتظر الخلاص من الربّ. كان هناك قسمان في مز 42، وها هو هذا القسم الثالث، يعني المزمور 43 الذي يصوّر لنا من جديد توسّل المؤمن إلى الربّ قبل أن يحمده على الخلاص الذي تمنّاه.

1 - أنصفني، نجّني

«خاصم يا الله من يخاصمني». إذا كنت أنتَ معي، أنت من جهتي، وإذا كان هناك خصوم لي لا أخاف. يقفون ضدّي ولكن لا أرتعب لأنّي أنا لك. نلاحظ منذ البداية «يا الله». المزمور يبدأ دومًا بنداء إلى الله. إذًا، لا يطلب المؤمن أن ينتصر على خصمه، بل هو يطلب من الله أن يكون بجانبه. لماذا؟ لأنّه أحسّ أنّه مظلوم وهو يحتاج إلى الإنصاف: أنصفني. عادة يُطلَب من القاضي أن يُنصف، يُطلَب من الكبير، من السيّد، من الملك أن ينصف. أمّا المؤمن هنا فيطلب من الله. الله وحده هو العادل العادل. البشر يمكن أن يرتشوا، يمكن أن يؤخذوا بالعاطفة، يمكن أن يتهدّدهم القويّ أو صاحب السلطة. وحده الله يُنصف ولا أحد يؤثّر عليه.

والمؤمن يحتاج الإنصاف الكثير، لماذا؟ لأنّ الذين يخاصمونه قوم لا يرحمون. لو كان في الذين هم تجاهه ذرّة من الرحمة، ربّما ما كان هذا المرتّل طلب وألحّ وأظهر ألمه وكآبته. أنصفني من قوم لا يرحمون، ليس في قلوبهم ذرّة من الرحمة. وأنصفني، نجّني من أهل المكر والجور. إذًا، نلاحظ: أنصفني، نجّني، هي النجاة التي يطلبها المؤمن. أهل المكر والجور. يعاملونني بالمكر، بالخبث، بالكذب وخصوصًا يجورون عليّ، يظلمونني. لا ينتظر المؤمن نجاة من لدن البشر. بل ينتظر كلّ خلاص من عند الربّ. الربّ وحده هو من يحمل ملء النجاة وملء الخلاص. يطلب المرتّل إذًا الإنصاف، يطلب المرتّل النجاة، فتجاهه غياب الرحمة. تجاهه المكر والغشّ والكذب، تجاهه الجور والظلم.

2 - الله حصني

يا ربّ قفْ بجانبي، حاربْ معي، كنْ معي. كان الأعداء منظورين. ويمكن أن يكون الأعداء غير منظورين. لكنّ طلب المعونة، طلب المساعدة هو هو. ولماذا يستطيع هذا المؤمن أن يطلب عون الله؟ هو يعطيه. أوّلاً «إلهي وحصني أنت». إذًا، هذا الإله هو الحصن الذي يمكن أن يلتجئ إليه الإنسان. لكن من خلال كلام المرتّل، هناك نوع من العتاب. هذا الحصن لا يحصّن، هذا الحصن لا يحمي. قل له: إلهي وحصني أنت، لماذا خذلتني؟ أترى الله يخذل الإنسان، حاشى وكلاّ. ومع ذلك هو يقول له: خذلتني يا الله. يعني لم تدافع عنّي، يعني تركتني وحدي.

تلك حالة الإنسان الذي يمسي في نفق مظلم، فلا يعرف إلى أين يسير. فيا ليته يعرف أن ينتظر الخروج من النفق، الخروج من الظلمة ليكتشف الطريق التي سار فيها بقدرة الله. إلهي وحصني أنت لماذا خذلتني؟ لا، الله لا يخذلنا، الله لا يتركنا. نحن نظنّ أو، لا سمح الله، نحن نرفض يد الله التي تمسك بيدنا. وهذه أكبر مصيبة وهنا أكبر خطر حين يترك الابن يد أبيه التي تريد أن تمسك بيده. نترك الربّ فنحسب أنّه تركنا. نبتعد عن الربّ فنحسب أنّه خذلنا. تكفي صرخة، كلمة، نظرة، إشارة، حتّى يكون الربّ حاضرًا معنا.

إلهي وحصني أنت فلماذا خذلتني. لا، الله لا يخذلنا. هذا هو العتاب الذي يقوم به المرتّل ليدلّ في الواقع على الثقة الكبيرة: لا يمكن. كأنّي بسؤاله، بعتابه، يقول له: لا يمكن أن تخذلني، مستحيل أن تخذلني. جعلت فيك كلّ ثقتي، كلّ اتّكالي. ويتابع: أتريد أن أمشي في الحداد من اضطهاد العدوّ، أن أمشي بالحزن، أن أبقى حزينًا؟ كلاّ. والسبب اضطهاد العدوّ، الملاحقة التي يقوم بها العدوّ. إذًا، هنا في الآية 2 إلهي وحصني أنت، لماذا خذلتني، ألأمشي بالحداد من اضطهاد العدوّ؟ في الواقع هو عتاب، وعتاب يدلّ على ثقة كبيرة بالربّ. لا أريد أن تخذلني، لا أريد أن أمشي بالحداد مهما كان اضطهاد العدوّ كبيرًا، قاسيًا.

3 - أرسل نورك

آية 3: أرسل نورك وحقّك ليهدياني ليقوداني إلى جبلك المقدّس وإلى مذبحك. أرسلْ، أرسلْ. هذا الإرسال مهمّ جدٌّا، هذا الإرسال ضروريّ. الربّ يرسل نوره، والنور هو الذي يضيء الطريق. النور هو الذي يوجّه الإنسان فلا يكون في الظلمة. أنا نور العالم، قال الربّ يسوع، من يتبعني لا يمشِ في الظلام. والربّ هو الذي اعتاد أن يرسل نوره، وما زال يرسله في أعماق قلوبنا، في حياتنا، في تصرّفاتنا، في مخطّطه بالنسبة إلى كلّ واحد منّا.

أرسلْ نورك وحقّك، أو إذا أردنا أمانتك، نورك هو حقّ، نورك هو ثابت، نورك لا يتبدّل. أرسل نورك وحقّك ليهدياني. إذًا، أنتظر الهداية منك وأنت تهديني بنورك الحقيقيّ، بنورك الثابت، بنورك الذي لا يتبدّل. هنا نكتشف، يا ربّ، الخبرة التي عاشها العبرانيّون في البرّيّة. كنتَ نورًا، كنتَ نارًا أمامهم، تسير في الليل أمامهم كالقائد يسير أمام جنوده. وأنت يا ربّ ترسل نورك. تكون أنت النور الذي يهديني الطريق لأنّ حياتي مليئة بالظلام، لأنّ حياتي نفق مظلم؛ نورك وحده يكفيني. أرسل نورك وحقّك ليهدياني، ليقوداني. إلى أين؟ إلى جبلك المقدّس، وإلى مسكنك. كما الأب يقود ابنه، يمسكه بيده، كذلك أنت يا ربّ تقودني، تمسكني بيدي إلى جبلك المقدّس يعني مركز حضورك، الجبل المقدّس حيث يقوم الهيكل.

إذًا، الملجأ الوحيد في النهاية هو الله إلى جبلك المقدّس وإلى مسكنك. الربّ أراد أن يجعل مسكنه وسط البشر. إذًا هنا «ليقوداني» إلى جبلك المقدّس وإلى مسكنك. فادخل إلى مذبحك يا الله، يا إله فرحي وابتهاجي. بالكنّارة أحمدك يا الله إلهي. تقودني فأدخل إلى مسكنك يا الله، إلى بيتك، إلى حيث تقيم. ولا أقف من بعيد بل أنت تقرّبني من مذبحك حيث يقيم الكهنة، حيث يقيم المكرّسون لك. فأدخل إلى مذبحك يا إله فرحي وابتهاجي.

نلاحظ: فيما مضى كان أوّل شيء العنوان: لماذا تكتئبين يا نفسي. ثمّ يتكلّم المرتّل عن الخذلان وخصوصًا الحداد. عندما نكون في بيت ا؟ لا مكان للحداد، لا مكان إلاّ للفرح وللبهجة. وكيف نعبّر عن هذا الفرح وهذه البهجة؟ بالكنّارة، بآلات الترنيم نحمدك يا ا؟. ويتابع: إلهي، ليس ذاك الإله البعيد، ليس ذاك الإله الذي لا علاقة له بي، ليس ذاك الإله الذي لا وجه له ولا يد ولا ملامح. هذا الإله هو قريب منّي. هو إلهي.

4 - الله أبو الجميع

هنا الخطر يكمن في أن نقول إلهي أنا وليس إله الآخرين، يعني بدل أن أكون أنا ؟، وكلّ واحد من البشر يكونون لله أعتبر أنّي وحدي أنا لله، أعتبر أنّ طائفتي، أنّ فئتي، أنّ جماعتي وحدها لله. لها الله ولكنّه ليس للآخرين. ماذا علينا؟ ذاك الذي خلق جميع البشر، جميع البشر يستطيعون أن يقولوا: الله إلهي، ولكن عندما نريد أن نحصر الله في فئة من الفئات لن يعود هذا الإله الله، يصبح صنمًا من الأصنام. كلاّ، يا ربّ، عندما أناديك، يا إلهي، أعرف قرابتي إليك ولا أنكر أنّ الجميع هم قريبون منك.

وأمّا قرابتي فلا تكتفي بالكلام، فلا تكتفي بالإنشاد، قرابتي تقول بأن أعيش بحسب مشيئتك، بحسب إرادتك، بحسب وصاياك. هذه هي القرابة الحقيقيّة. عندئذ أقول: ذاك الذي هو الله بالنسبة إليّ هو إلهي أنا، لأنّي ارتبطت به ارتباطًا حميمًا. وهكذا عندما أكون في الهيكل، عندما أكون على الجبل المقدّس، حين أكون في مسكن الله أو قرب مذبحه كما يقول المزمور 15 والمزمور 23. إنّه إن لم يكن كذلك، إن لم أكن نقيّ الكفّين، نقيّ القلب، لا يحقّ لي أن آتي إلى المذبح. ولكن إذا كان الله هو الذي أرسل نوره وهداني، إذا كان الله هو الذي قادني إلى جبله المقدّس، هو الذي أوصلني لا إلى هيكله وحسب بل إلى مذبحه، فلأنّه رضي عنّي، فلأنّه غفر خطيئتي، وهذا منبع فرح ومنبع ابتهاج لكلّ مؤمن.

5 - فرح اللقاء بالربّ

إذا كانت الحالة هي هنا، فلم يعد من مكان للاكتئاب وللحزن. لهذا السبب يهتف المرتّل: لماذا تكتئبين يا نفسي. يعني ليس لك الحقّ بأن تكتئبي يا نفسي، ليس لك الحقّ أبدًا. الاكتئاب صار من الماضي، ليس من الحاضر وخصوصًا ليس هو للمستقبل. المستقبل هو الفرح، هو البهجة في رفقة الله.

لماذا تكتئبين يا نفسي، لماذا تئنّين في داخلي؟ يعني أن لا تئنّي من بعد، والصراخ الداخليّ والأنين الداخليّ هو أقصى ما في الإنسان، لأنّ الحزن عندما يكون صغيرًا يمكن أن نبكي، يمكن أن نتأوّه، يمكن أن نتشكّى، لكن حين يصبح الحزن كبيرًا وقريبًا من اليأس فلا يمكن أن يخرج إلى الخارج، هو يكون في الداخل.

لماذا تكتئبين؟ لا تكتئبي يا نفسي. لماذا تئنّين؟ لا تئنّي يا نفسي وخصوصًا لا فقط هذا الأنين الخارجيّ بل هذا الأنين الداخليّ الذي يدلّ على عمق الألم. اجعلي حالك في الرجاء. ارتجي الله لأنّي سأحمده بعد. وهنا تعود الردّة. ارتجي الله، الرجاء هو الذي يعطينا الفرح لأنّنا لا نمتلك كلّ الامتلاك ما يريد الله أن يعطينا. لكنّنا بالرجاء نمتلك كلّ شيء. لهذا السبب انطلاقًا من هذا الرجاء، أنا أحمد الله. لماذا؟ هذا الذي دعوتُه إلهي، يعني ارتبطت به ارتباطًا حميمًا، هو في الوقت عينه مخلّصي. هذا الذي دعوته أن ينجّيني من أهل المكر والجور، هو مخلّصي أنا.

هي خبرة شخصيّة عاشها المؤمن، خبرة خلاص عاشها المؤمن: مخلّصي هو وإلهي. ضمير المتكلّم: هو إلهي أنا. مخلّصي أنا. هذا لا يعني أنّه لا يخلّص آخرين، ولكن أنا أختبر هذا الشيء، وأفرح بهذا الشيء وأنشد وأخبر الجميع، أيّ خلاص فعله الله من أجلي.

هذا، أحبّائي، هو معنى المزمور 43 الذي أعطيناه عنوان: لماذا تكتئبين يا نفسي؟ ليس لكِ الحقّ بأن تكتئبي ولا بأن تئنّي لأنّ الربّ حمل إليك الخلاص. الماضي محاه، والحاضر أنت تعيشينه، ولا تخافي أبدًا من المستقبل. فهذا الإله ليس الإله بالمعنى العامّ. هو إلهي أنا وهو مخلّصي أنا. ما سمعتُ فقط من الآخرين عن العمل الذي عمله، بل اكتشفت أنا في خبرتي اليوميّة أيّ خلاص فعل. فلا يبقى لي إلاّ أن أحمده، أن أشكره، أن أعبّر عن فخري وابتهاجي بأن أكون له. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM