صلاة المؤمن في منفاه
المزمور الثاني والأربعون
- المقدّمة
أحبّائي، هذه الصلاة التي نقرأها في المزمور 42 نستطيع أن نعطيها عنوان: صلاة المؤمن في منفاه. المؤمن هو في المنفى، يعني في البعيد. والمنفى يرتبط بالنفي: كأنّ لا وجود له. كأنّ لا شخصيّة له، صار كلا شيء. لا يحقّ له أن يتصرّف كما يريد، بل هو يتبع إرادة ذاك الذي أسره، أخذه إلى المنفى. ولهذا فهو يتمنّى العودة إلى أمام الربّ. فيَبدو هذا الرجوع، وتبدو هذه العودة كأنّها حجّ يقوم به المؤمن إلى حيث الله حاضر. يريد أن يكون هنا حيث الله.
يبدأ المؤمن فيعلن رغبته أن يكون في الهيكل ويصوّر لنا التأوّه، الأنين، الصلاة المتواصلة. ولكنّ هذه الرغبة، هذا الشوق، دونه حواجز وحواجز. أترى الربّ ينزع هذه الحواجز، ويُشبع هذا الحنين إلى الهيكل الذي هو في قلب المؤمن. في أيّ حال، هو واثق ونحن واثقون. إذًا، نقرأ المزمور 42 صلاة المؤمن في منفاه:
«كما يشتاق الأيّل إلى مجاري المياه... أقودهم بصوت الترنيم والحمد، بالهتاف كأنّهم في عيد» (آ 2-5). انطلقنا من الشوق فانتهينا إلى الفرح وإلى العيد. ذاك كان الماضي حين كان المؤمن في أورشليم وبقرب الهيكل يخدمه، يوجّه المصلّين، ينشد أمامهم المزامير، يخبرهم بمآثر الله العظيمة، ولكن انقلب كلّ شيء.
ونتابع القراءة: «لماذا تكتئبين يا نفسي؟» (آ6) أُنشد وأصلّي للإله الحيّ. كانت الدموع ليلاً ونهارًا، أمّا الآن فهي الصلاة، فهو النشيد، فهي الرحمة التي تضيء على المؤمن. أقول: الله لماذا نسيتني؟ ألأمشي بالحداد من اضطهاد العدوّ؟ ترضرضت عظامي فعيّرني خصومي نهارًا وليلاً. يقولون: أين إلهك، فلماذا تكتئبين يا نفسي؟ لماذا تئنّين في داخلي، ارتجي الله لأنّي سأحمده بعد، مخلّصي هو وإلهي».
2 - الجبل الحاجز والنهر
هذا هو المزمور 42 الذي أعدنا قراءته مرّة ثانية. هذا المؤمن يعيش بعيدًا عن الهيكل. ما الذي يمنعه من الاقتراب من الهيكل؟ هناك الجبال، جبل حرمون الذي جعله ينسى مصعر، الجبل الصغير، جبل أورشليم. هو جبل عالٍ مغطّى بالثلوج وبالمياه، يرتفع 2600، 2700 م فوق سطح البحر، هو أكبر بكثير من مصعر الجبل الصغير، من جبل أورشليم وجبل الهيكل.
هناك حاجز. وأرض الأردنّ، وادي الأردنّ هو أيضًا حاجز. كيف نستطيع أن نعبر المياه؟ الجبل هو حاجز والماء هو حاجز أيضًا. يمنع المؤمن من الوصول إلى الله ليكون في حضرته. لماذا تكتئبين يا نفسي؟ لماذا تئنّين في داخلي؟ الآن عرفنا لماذا هذا الاكتئاب وهذا الأنين، لأنّ الحواجز تمنع المؤمن من العودة إلى أرضه ومن الحضور أمام الربّ.
ولكنّ المؤمن لا يترك الكآبة تسيطر عليه، بل هو يلتجئ إلى الرجاء إلى الثقةبالله. اختبرَ في الماضي هذه الثقة، ويمكن أن يختبرها اليوم وكلّ يوم. «ارتجي الله لأنّي سأحمده بعد». الحمد ما زال ينتظرنا في النهاية رغم الصعوبات التي نعيشها، الحمد يدعونا النهاية. ارتجي الله لأنّي سأحمده بعد. لماذالله مخلّصي هو وإلهي. من قلب المحنة، من قلب العذاب، من قلب السبي والمنفى، يعلن المؤمن: من هو مخلّصي ومن هو إلهي؟ مخلّصي هو الربّ، إلهي هو الربّ، فلا أستند إلى أحد غيره. ولكنّه يعود إلى الكآبة مع أنّه جعل رجاءه في الربّ. مع أنّه تأكّد أنّه المخلّص والإله. مع أنّه استعدّ لأن يحمده من أجل خلاص يتمّ له ولسائر المؤمنين، مع ذلك يعود.
آية 7: «نفسي تكتئب فأذكرك من حرمون وأرض الأردنّ، ومن مصعر الجبل الصغير«». ونلاحظ في آية 8: «الغمر يشكو الغمر سقوط أمطارك». كأنّنا أمام الطوفان، والمياه الكثيرة تشكو حالها إلى المياه الكثيرة، والغمر يشكو حاله إلى الغمر. لماذا؟ لأنّ الأمطار تتساقط وتتساقط وتجرف كلّ شيء أمامها. الأمطار، الأمواج، التيّارات، كلّ هذا يذكّرنا بالطوفان، وما خلّف وراءه من قتلى غرقوا في الماء. هنا الأمواج والتيّارات عبرت عليّ، ولا سبيل إلى الخلاص إلاّ بالالتجاء إلى الربّ.
آية 9: «في النهار يضيء الربّ رحمتَه، وفي الليل أنشد وأصلّي للإله الحيّ». هل الله حاضر في أرض بعيدة عن أرض الربّ، عن هيكل الربّ؟ نعم هذا ما اختبره يونان لمّا مضى إلى نينوى هذه المدينة الوثنيّة، هذه المدينة الآثمة، وهناك اكتشف رحمة الله. أراد هو أن تفنى المدينة الكبيرة، ولكنّ الله ما أراد، فيها فوق المليون نسمة كما تقول النصوص، وبعضهم لا يعرف شمالهم من يمينهم، فكيف يرضى الله أن يهلك هؤلاء، ولو كانوا خارج أرض الربّ وبعيدين عن أرض الربّ.
»«الغمر يشكو الغمر سقوط أمطارك، أمواجك وتيّاراتك عبرت عليّ». هناك الطوفان، ونوح استعدّ لهذا الطوفان حين أمره الربّ أن يبني له فلكًا، أن يبني له سفينة، وهكذا نجا من الخطر المباشر. أمّا المؤمن هنا، فيقول: الأمطار، الأمواج، التيّارات كلّ هذا عبر عليّ، يعني صرت تحت المياه. ثلاث كلمات: الأمطار، الأمواج، التيّارات. ما العمل؟ ليس لي سوى الاتّكال على رحمة الله وعلى محبّته.
3 - رحمة الربّ في قلب الخطر
يقول الكاتب: «في النهار يضيء الربّ رحمته وفي الليل أنشد وأصلّي للإله الحيّ». هنا التلاعب الموسيقيّ، في النهار يضيء الربّ رحمته. وفي الليل أيضًا يضيء الربّ رحمته. في الليل أنشد وأصلّي، وفي النهار أيضًا أنشد وأصلّي. طريقة شعريّة تذكر كلّ عنصر مع شطر من المزمور، ولكن في الواقع كلّ عنصر يرتبط بالشطرين معًا في هذا المزمور. في النهار يضيء الربّ رحمته، وفي الليل أيضًا يضيء الربّ رحمته. في الليل وفي النهار أنشد وأصلّي للإله الحيّ.
نلاحظ أكثر من مرّة: في الآية 3: إليك، إلى الإله الحيّ عطشت نفسي. وهنا في آية 9: في الليل أنشد وأصلّي للإله الحيّ. لا ننسَ أنّ المؤمن يعيش في أرض وثنيّة. في تلك الأرض، الأصنام كثيرة والأصنام هي ميتة لأنّها بنت الحجر وبنت الخشب وليست أبدًا بآلهة. هذه الأصنام، هي حجر، خشب، ولا شيء غيره. أمّا الإله فهو الحيّ، يقول المؤمن أو النبيّ: هذه آلهة من حجر، من خشب، لها أذن ولا تسمع، لها عين ولا ترى، لها قلب ولا يُدرك. أمّا هذا الإله الذي نرفع إليه الصلاة فهو الإله الحيّ وهو الذي يفعل. الأصنام ربّما بعضها اختفى وحلّ محلّه صنم آخر بل جاء بقربه صنم آخر كعهد بين بلدين، إذا كان هناك من تفاهم واتّفاق: آخذ أصنامك وتأخذ أصنامي.
غير أنّ هذا الإله الحيّ ليس صنمًا نأخذه من موضع إلى آخر، بل هو الذي يأخذنا، هو الذي يسيطر علىحياتنا. الصنم بين يديّ أتصرّف به كما أشاء، أوسّخه، أنظّفه، أطبعه بطابعي، أغمره، أعمل به ما أريد لأنّه طوع يديّ؛ أمّا الإله الحيّ فأنا خادم له: فهو يوجّهني، يوجّهني برحمته. هي الرحمة التي تدفعه إلى العمل لأنّه يعرف ضعف الإنسان وخصوصًا ضعف هؤلاء المؤمنين الذين يعيشون في المنفى. في النهار يضيء الربّ رحمته. عندنا نور النهار. لا شكّ فيه، ولكنْ هناك نور أهمّ من نور النهار. الربّ هو الذي يضيء علينا بوجهه. وفي الليل أُنشد وأصلّي للإله الحيّ.
4 - الالتجاء إلى الآية 10: «أقول ؟ خالقي لماذا نسيتني؟ ألأمشي بالحداد من اضطهاد العدوّ». المؤمن تارة يكلّم نفسه بنفسه، كما في حوار ذاتيّ وطورًا يكلّم الله أو يكلّم المؤمنين بما يعرف عن الله. ترضّضت عظامي فعيّرني خصومي ونهارًا وليلاً يقولون: أين إلهك؟
«أقول الله خالقي لماذا نسيتني؟ ألأمشي بالحداد من اضطهاد العدوّ»؟ تركني الربّ فاضطهدني العدوّ وقتل أحبّائي، قتل زوجي وأولادي، صرت في الحداد. أمشي مطأطئ الرأس، مغلق العينين، ضعيف البنية، ضائع العقل، مسحوق الروح. لماذا نسيتني. إذا نسيتني، يا ربّ، أصل إلى هذه الحالة. ولكنّ الربّ لا ينسى. وكيف يعرف المؤمن أنّ الربّ نسيه؟ آية 11: «ترضضت عظامي فعيّرني خصومي»، نعم، عيّره الخصوم، لأنّهم اعتبروا أنّ إلهه لا يستطيع أن يفعل شيئًا. والخصوم ينتظرون لكي ينقضّوا عليه.
ترضَّضت عظامي فعيّرني خصومي. المرض هو هنا، صار الضعف ضعفين. ضعف على مستوى الجسد وضعف على مستوى الخطيئة. أترى يعامل المؤمن المضطهِدين بالعنف؟ يقابل العنف بالعنف؟ ترضَّضت عظامي فعيّرني خصومي. وتعود الردّة كما من قبل نهارًا وليلاً يقولون أين إلهك؟ لماذا تكتئبين يا نفسي؟ لماذا تئنّين في داخلي؟ ارتجي الله لأنّي سأحمده بعد، مخلّصي هو وإلهي. عادت الكآبة إلى المؤمن وعاد الأنين والبكاء. ولكن خصوصًا عاد الرجاء: ارتجي الله لأنّي سأحمده بعد. مخلّصي هو وإلهي.
5 - الله القريب البعيد
أحبّائي، عندما نقرأ هذا المزمور أو نصلّيه، نلاحظ كيف تسير الأمور. نحن هنا كما في نشيد الأناشيد: يعتبر المؤمن أنّه وصل إلى الهدف ولكنّه لم يصل. عليه أن يخطو خطوات أخرى. وعندما ينهي هذه الخطوات لا بدّ أيضًا أن يدخل، أن يعرف من هو هذا الإله الذي يريدنا له، الذي لا يقدر أن يسمع مرّة ثانية أين هو إلهنا. إنّ إلهنا في السماء كلّما شاء صنع. هكذا يقول المزمور: إلهنا في السماء كلّما شاء صنع. وحين نعتبر أنّنا أمسكْنا الله أنّه صار بمتناول أيدينا، يكون بين أيدينا فقط صنم من الأصنام أو تمثال من التماثيل.
هنا يتراجع المؤمن كما فعل أيّوب: قلت مرّة، أقول مرّتين، لن أعيد. أو أضع يدي على فمي. وهنا هذا المؤمن تكلّم المرّة بعد المرّة ونسيَ أنّ الذي هو إلهه، من بطن أمّه، هذا الإله هو حاضر في حياته، وفي المنفى لم يترك الربّ الشعب وحده. يخبرنا حزقيال أنّ الربّ خرج من أورشليم، خرج من الهيكل ليرافق المنفيّين إلى المنفى. فالربّ هو دومًا مع شعبه سواء كانوا في الضيق أو في الراحة، في الحزن أو في الفرح. الربّ هو حاضر هناك. الربّ هو الإله الحيّ وهو الذي يعمل. ومهما كانت الظروف فهو الذي يعمل.
نعم يا ربّ مرّات عديدة نكون بعيدين عنك ولا نفهم ماذا تطلب منّا. ولا نعرف كيف نتصرّف. أنت تكون معنا، ونحن نعرف أنّنا حين نبكي، أنت تبكي معنا كما بكيتَ مع مرتا ومريم. عندما نكتئب تكتئب معنا كما فعلتَ في بستان الزيتون. عندما نئنّ في داخلنا تئنّ معنا كما تصرّفتَ على الصليب. وحين تكون الصعوبات أمامنا، تفعل المستحيلات يا ربّ حتّى تُبدّل حياتنا وتعطيها الزخم اللازم. هكذا نعرف أنّه مهما كان الوضع، الرجاء هو الذي يسيطر على حياتنا، فالله مخلّصنا والله فادينا. هو لا ينسانا أبدًا. فيبقى علينا أن نسير وأن نسير إليه حتّى نكون في حضرة ذاك الذي هو الإله الحيّ الذي يعطينا الماء الحيّ. عطشتُ يا ربّ فاملأ عطشي، ظمئتُ إليك يا ربّ فاملأ ظمئي، ما أجمل حياتي حين أجيء وأرى وجهك يا الله. آمين.