طلب العون من الربّ

 

طلب العون من الربّ

المزمور الأربعون

أحبّائي، قراءتنا للمزامير هي صلاة متواصلة خلال نهارنا. يمكن أن نكرّر عبارة من هنا وعبارة من هناك إلى أن يسكت لساننا وينفتح قلبنا. والقراءة الأخيرة اليوم هي للمزمور 40، هذا الذي تأمّلنا فيه أكثر من مرّة في السابق. ولكنّنا اليوم نريد أن نقرأه مع آباء الكنيسة. فآباء الكنيسة هم الذين عرفوا أن يصلّوا هذه المزامير ويُدخلوها في حياتهم وفي حياة الجماعة. لهذا، نبدأ فنقرأ المزمور كلّه ثمّ نتأمّل في نصّ أحد الآباء واسمه «أمبروسيوس أسقف ميلانو» في إيطاليا.

1 - الشكر للمسيح

إذًا، قرأنا المزمور 40، ونودّ أن نصلّيه مع القدّيس «أمبروسيوس أسقف ميلانو» في إيطاليا في القرن الرابع. هذا الأسقف القدّيس الذي عرف أن يدافع عن الحقيقة حتّى في وجه الإمبراطور الذي قتل من قتل في مدينة كورنتوس. نقرأ معه شرح المزمور 40. شكرًا للربّ يسوع، لابن الله الوحيد، لفادينا. نشكرك، يا ربّ، لأنّك أردت أن تأخذ هذه الصور من المزمور، وتجعلها في حياتك. أنت ابن الله الوحيد. أنت الإنسان. أنت يسوع. أنت الإله الربّ وابن الله الوحيد. بالتجسّد صرت لنا يسوع، وبالفداء صرت لنا المسيح. أنت يا فادينا ومخلّصنا.

أراد يسوع أن يغفر لنا كلّ خطايانا فنزل من السماء وانتشلنا من الهوّة وطين هذا العالم، من المستنقع الموحل ومن جسد الموت. نعم، يا ربّ، نزلتَ من أعلى سمائك، نزلت من مجدك، نزلت من قداستك ومن عظمتك، ونزلت إلى العالم ليس فقط إلى العالم بل إلى الهوّة. ففي الخطيئة فتحنا أمامنا هوّة. في الخطيئة غرقنا في هذا الطين، في هذا المستنقع، غرقنا في جسد الموت. ثبّت، يا يسوع، في جسدنا رِجلَين داخليّتين من السماء. صارت النفس كأنّها إنسان تحتاج إلى رجلين: رجلين داخليّتين، رجلين لا نستطيع أن نراهما. وهكذا، بعد أن تقوّينا بكلمة الله ونجونا بالصليب الذي تألّم عليه جسد الربّ، نستطيع أن نمشي لا في ظلّ العار، بل في حالة الخاطئين الذين نالوا المغفرة.

تقوَّينا بكلمة الله، هي المائدة الأولى الموضوعة أمامنا. نهتدي بالكلمة التي هي نورٌ والتي هي حياة. تقوَّينا بكلمة الله ونجونا بالصليب الذي عليه تألّم جسد الربّ. الصليب هو في قلب حياتنا وفي قلب العالم، وبعد أن سمعنا كلام الربّ في إنجيله، وبعد أن تطلّعنا إلى الصليب، نستطيع أن نمشي لا في ظلّ العار بل في حالة الخاطئين الذين نالوا المغفرة. نستطيع أن نمشي مرفوعي الرأس، لا منحني الجباه نحو الأرض، لا لأنّنا أبرياء بذاتنا، بل لأنّنا نلنا المغفرة. لا شكّ، نحن في حالة الخطيئة. فما من إنسانٍ بارّ، بل كلّنا خطأة، ولكنّنا خطأة نالوا المغفرة.

ويتابع القدّيس أمبروسيوس: فالذي تجذّر وتقوّى بالمسيح، يجب أن يتذكّر أنّ رجليه تثبّتا على صخرة متينة. هو تقوّى، تجذّر بالمسيح. معونتنا باسم الربّ. يمكن أن نستند إلى المسيح، عندئذٍ نعرف كم نحن ثابتون. إنّنا على صخرةٍ متينة لا تستطيع الرياح، لا تستطيع المياه أن تزعزعها، أبدًا. وهذا ما يقول الرسول: «وكانوا يشربون من صخرةٍ تتبعهم وهذه الصخرة هي المسيح».

2 - يسوع هو الصخرة

هنا تعدّينا العهد القديم، لم تعد الصخرة حجرًا ميتًا، صارت الصخرة ينبوع ماء، صارت الصخرة شخصًا حيٌّا هو المسيح. هذا الصخر الذي تحدّث عنه العبرانيّون لأنّه رافقهم في البرّيّة، هذا الصخر هو المسيح في العهد الجديد، يتبع العطاش، يقوّي الذين يزلّون. وهكذا لم تنقص المياه العطاش، ولم ينقص السند للّذين يزلقون. نعم، إذا كنّا نحن لم نمت بعد من العطش، إذا كنّا بعد لم نتحطّم على الطريق ولم ننزلق في الطريق، فلأنّ الربّ هو هنا.

المياه لا تنقصنا والسند لا ينقصنا. «انتظرتَ، أيّها الربّ يسوع، وجئتَ إليّ في أحد الأيّام»، تلك خبرة أمبروسيوس وخبرة كلّ واحد منّا. انتظرتَ، أيّها الربّ يسوع، وجئت إليّ في أحد الأيّام، قدتَ خطاي على طريق الإنجيل، ووضعتَ في فمي نشيدًا جديدًا، نشيد العهد الجديد. وها نحن ننشد بفرحٍ مديحًا لإلهنا، الذي عرّفنا بفرائض الفضائل الجديدة. قدتَ خطاي على طريق الإنجيل. نحن نبتعد، نحن نزلّ، نحن نضلّ، أنت يا ربّي تقود خطانا، أنت، يا يسوع، تشدّد خطانا، وتجعلنا ننشد النشيد الجديد، نشيد العهد الجديد، لا في فمنا فقط، بل في حياتنا. ها نحن ننشد مديحًا لإلهنا الذي عرّفنا بما يطلبه الآب، فنترك كلّ مقتنياتنا ونتبع المسيح ونحبّ أعداءنا.

3 - العادات الجديدة

تلك هي العادات الجديدة: أن نترك كلّ مقتنياتنا: «من أراد أن يتبعني يبيع كلّ ماله، يعطيه للمساكين فيأتي ويتبعني». نحبّ أعداءنا، لأنّ المؤمن لا عدوّ له، وعندئذ نستطيع أن نتبع المسيح. الإنجيل علّمنا عادات جديدة. فما هي هذه العادات تجاه الذين يضطهدوننا؟ نقدّم للربّ صلاتنا، نصلّي من أجلهم، ونبارك الذين يلعنوننا. إذا كان الربّ هو الذي يبارك، فنحن نحمل بركة الله في حياتنا، ولا نتوقّف أبدًا عند اللعنة. بالعادة الجديدة، لا نعرف أن نفتخر بأعمالنا الصالحة، ولا أن نخفي خطايانا، كلاّ. لا نفتخر بأعمالنا الصالحة، فالربّ هو الذي فعلها فينا. ولكنّنا لا نخفي خطايانا، لأنّ خطايانا تدلّ على أنّنا ضعفاء وأنّنا نحتاج إلى عون الربّ.

ويتابع أمبروسيوس: فلماذا نطيل الحديث، فالخاطئ البائس صار رجلاً سعيدًا، لا ينظر بعد إلى المظاهر الباطلة في هذا العالم الدنيء. من قبْل، كان يهتمّ بالأمور الباطلة، أمّا اليوم فكلاّ. فقد وجد السعادة في غفرانٍ ناله، في تجرّدٍ عاشه ليتبع المسيح وليعيش الفضائل الجديدة، العادات الجديدة. باطل الأباطيل وكلّ شيء باطل. هذا هو عالمنا وهكذا تكلّم «سليمان» في سفر الجامعة. أليس باطلاً أن نلاحق خيراتٍ زائلة تهرب كالظلّ، أليس جنونًا كاذبًا هذا الصراع المسلّح الذي نُغرق فيه الدماء من أجل ممتلكاتٍ زمنيّة، وهذه الخصومات التي تولَد بمناسبة جدالات عن المسرح أو الألعاب. والشهوة في هذه الأمور تقرُب من الجنون. وهذا التعلّق بتعاليم الهراطقة وحركات وأقوال الأنبياء الكذبة الذين يقلّدون أقوال الله هذا ما يتكلّم عنه المزمور هنا: طوبى للرجل الذي وضع رجاءه في يد الربّ، الذي لم يوقف نظره على أباطيل وجنون. ولكنّ جنون العالم يقود إلى الموت. أمّا الجنون الذي يأتي من الله فهو الجنون الحقيقيّ، الجنون الذي عرفه الأنبياء. حين كانوا يتنبّأون كان عقلهم ينتقل، ويمتلئون من روح الله فيَبدون للبعض مجانين. نسوا أنّهم رجال ونساء، فراحوا مرّاتٍ مثل أشعيا القدّيس عراة وحفاة، ركضوا وسط الجموع وصرخوا لا حسب ما أرادوا بل حسب أمر الربّ. فمنهم ظهر كالضياء دواء الخلاص لأنّ الذي انتظروه هو هنا. نعم، النبيّ لا يتكلّم باسم أشخاص بل باسم الله، لا يقول ما يريده هو، بل ما يريده الربّ. وما يقوله الأنبياء ها نحن نمتلكه في شخص يسوع المسيح.

4 - المسيح آدم الجديد

هذا المسيح انتظره آدم المطرود من الفردوس فنجا بعد حياةٍ طويلة في المنفى. أجل، جاء المسيح وحمل النجاة إلى آدم. وانتظره نوح البارّ الذي حُفظ كبذارٍ للكائنات الآتية، فمنه سينتشر عند البشر بذار البرّ. كان يمكن أن يُحسَب مؤسّس الخلاص العامّ، لأنّه استحقّ أن يبقى حيٌّا في الطوفان، ويُعتبَر أوّل حكيم لأنّه زرع الكرمة وسكر من ثمرها. والكرمة هي الحكمة. فقد قال داود المفسّر الملهم: «زوجتك تكون مثل كرمة خصبة في قلب بيتك». وهذه الحكمة الفيّاضة انتظرناها في المسيح الذي امتلأ من تعليم حكمة وكشفه لنا وحيًا خارقًا. ما لم تره عين ولم تسمع به أذن. هي الحكمة التي تصل إلينا بواسطة المسيح. وكان انتظار المخلّص في موسى الذي فلق أمواج البحر، وهو عمل يتجاوز قوى البشر وفتح وسط الأمواج طريقًا للراجلين، وتبعهم صخرٌ يُخرج المياه التي تروي جسد آبائنا اليابس في مسيرتهم وسط البرّيّة.

آدم انتظرك، يا يسوع، ونوح أيضًا، وموسى أيضًا. وكان انتظار الخلاص أيضًا في هارون الكاهن الأعظم الذي وقف وسط الأحياء والأموات، وقرّر أن يُسقط الوباء على الحيّة لكي لا ينتقل الموت بعد من الأموات إلى الأحياء. وهذا ما يميّز المسيح الذي يقف أمام الله الآب محاميًا للشعوب، ويقدّم موته عنهم جميعًا ويغلب هذا الموت ويخلق الحياة للذين سيموتون. وانتظار يسوع كان في يشوع بن نون الذي دخل مع الشعب إلى أرض كنعان. جاء في الحقيقة في ذلك الذي قبل اسمَه وقدرته، فأدخل الشعب إلى أرض المعاد وسُمّي حقٌّا يسوع. نشّف مجرى الماء وأصعد الأمواج إلى ينابيعها، وأوقف الشمس إلى أن قاد إلى النهاية ذاك النصر العجيب. لكنّ هذا النصر كان رمزًا لا حقيقة. بعدها تجلّى أمام عينيه القائد الحقيقيّ لجند السماء فسجد يشوع أمامه.

ولكنّ يسوع الحقيقيّ لم يكن بعد قد قام في الجسد بل في الرمز، فمتى جاء إذًا المخلّص الحقيقيّ لنسمعه يتكلّم؟ أردت أن أعلن عجائب الله، إنّها لا تُحصى. ما أردت ذبيحةً ولا تقدمة، بل كوّنت لي جسدًا، حينئذٍ قلت: «ها أنا آتٍ، فقد كُتب عنّي في بداية الكتاب أنّه يجب عليّ أن أتمّم إرادتك، لقد أردت ذلك، يا إلهي»

الأمر واضح، جاء يسوع الحقيقيّ لأجلنا مع عطيّة إنجيله. بدأ يتكلّم فتعجّبت شعوب المؤمنين العديدة بعد أن كان المؤمنون قلّة قليلة. جاء مع جسد، فصارت ذبائح اليهود بدون جدوى، صارت بلا فائدة التقدمةُ عن الخطيئة، لأنّه وصل ذاك الذي يغفر الخطايا. لم يعد من حاجة إلى دواء الشريعة، بعد أن حضر باري الشريعة. وكُتب في بدء الكتاب: «افرزوا حملاً لا عيب فيه،كاملاً، تامٌّا، ذكرًا ابن سنة يذبح أمام الجماعة كلّها». من هو هذا الحمل؟ سمعتم القول: «هذا هو حمل الله»، هذا هو الذي يزيل خطيئة العالم، هذا هو الذي قتله كلّ شعب اليهود، ويلاحقونه اليوم ببغضٍ شيطانيّ.

للحقيقة، وجب عليه أن يموت من أجل كلّ البشر، وجب أن يُتمّ على صليبه غفران الخطايا، وأن يغسل بدمه العالم من أوصابه. ولكن ما أتعس الذين أنكروا، يا ربّي، خلاصهم الشخصيّ!

هذه هي صلاة الكنيسة، يا ربّ، هذه هي صلاة آباء الكنيسة وصلاة أمبروسيوس بشكلٍ خاصّ: انطلق من حياة في الخطيئة وعرف الغفران. وهذا الغفران بدأ معك منذ أتيت إلى العالم. جئت لتصنع مشيئة الربّ، ومشيئةُ الربّ هي خلاص المؤمنين وحمْل الغفران لهم عن خطاياهم. شكرًا لك يا ربّ، شكرًا لك. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM