شكر واستغاثة
المزمور الأربعون
أحبّائي، ما زلنا نقرأ المزمور 40 وفيه قسمان كبيران: شكر من جهة، واستغاثة من جهة ثانية. ربّما كانت صلاة من هنا وصلاة من هناك، فجمعها المؤمن في صلاة واحدة، في مزمور واحد. وإذا أخذنا بالمنطق البشريّ، يجب أن يكون القسم الثاني أي من الآية 13 حتّى الآية 18 في البداية، لأنّه يتحدّث عن استغاثة المؤمن، عن طلب العون من الربّ. والقسم الأوّل من 1 إلى 12 هو عمليٌّا فعل شكر.
إذًا، يأتي الشكر بعد الطلب وبعد الاستغاثة، ولكنّ المزامير، ولكنّ الصلة بالربّ لا تتبع منطق البشر، وهو قال في إشعيا: »طرقي ليست طرقكم، وأفكاري ليست أفكاركم«. وهذا مهمّ جدٌّا أن نعرف أنّنا نصلّي إلى الربّ كما يريد الربّ، لا كما نريد نحن. لا شكّ في أنّنا نرفع صلاتنا إلى الربّ، والربّ هو الذي يأخذها ويعطينا ما نحتاج إليه. قد لا يعطينا ما نطلبه لأنّه وحده يعرف ما هو لخيرنا.
1 - صلاة الشكر
إذًا، القسم الأوّل هو صلاة شكر تأمّلنا فيه من قبل: الرجاء، الشكر، النشيد، السعادة، التهنئة. وفي النهاية: أيّها الربّ، لا شبيه لك. لم نصل بعد إلى الوحدانيّة التامّة حيث الإله وحده الإله. هناك آلهة يؤمن بها سائر البشر، أمّا بعد اليوم، فلا إله سوى الربّ الإله، وحده هو الإله، والباقي هم بشر، هم أصنام من حجر، من خشب. وما يمكن أن نقدّمه من ذبائح لهم، يقول مار بولس، إنّما نقدّمه للشياطين لأنّ الأصنام في الواقع هي تجسيد لشهواتنا، لحاجاتنا... فبدل أن نصل إلى ا؟، نتوقّف عند الخليقة التي خلقها ا؟. بدل أن نصل إلى الإله العظيم، نتوقّف عند عظمة هذه المخلوقات. بدل أن نصل إلى الإله الكلّيّ الجمال، نتوقّف عند جمال الطبيعة. ونفكّر أنّ الإنسان هو فقط جسدٌ ونفس. يعني هو جسد يلتصق بسائر الأجساد، بالحجر، بالخشب، بالذهب، بالفضّة، بالشجرة، بالحيوان. والإنسان فقط نفس، يتنفّس، يشعر، يبكي، يضحك، إلخ... على مستوى الحيوان فقط.
2 - الصلاة عمل الروح
إن ظلّ الإنسانُ على مستوى الخليقة بما فيها من عظمة وتناسق وجمال، لا يتعدّى مستوى الحيوان. فإذا أراد أن يكون إنسانًا، يعني يرتفع فوق الحيوان، فلا بدّ له أن يمارس عمل الروح، لا فقط عمل الجسد، لا فقط عمل النفس والتنفّس، عليه أن يرتفع إلى مستوى الروح.
عندئذٍ، ترتفع الصلاة من قلبه، حينئذٍ يرتفع إلى مستوى الروح القدس. بدورنا نرتفع إلى مستوى الروح القدس، وهو يُدخلنا إلى قلب الثالوث الأقدس، يُدخلنا إلى حياة الحميمة. عندئذٍ لن تكون صلاتنا فقط تمتمات، كلمات نردّدها ولا نفهم معناها، كلاّ.
إنّ صلاتنا هذه تصبح حوارًا بين الابن وأبيه، على مثال يسوع المسيح الذي هو بكرنا، بكر إخوةٍ كثيرين، ونحن إخوته. فهنيئًا لنا وما أعظم سعادتنا!
ونقرأ، أحبّائي، المزمور 40: 13 - 18: »أحاطت بي شرور لا تُحصى، ولحقت بي آثام فلا أبصر، فهي أكثر من شعر رأسي، وها قلبي، يا ربّ، تركني...«. نلاحظ هذا التقابل بين قسمَي المزمور أي من الآية 2 إلى آية 12 مزمور الشكر. والآية 13 ترتبط بين القسم الأوّل والقسم الثاني، والقسم الثاني من الآية 14 إلى 18 هو صرخة الاستغاثة، أو طلب النجاة.
نلاحظ أوّلاً كما قال في الآية 6: »فهي أعظم من أن تُحصى«. عجائب الله هي لا تُحصى، تدابير الله لا تُحصى.
ونقرأ هنا عندما المؤمن يتحدّث عن نفسه فيقول في الآية 13: »أحاطت بي شرور لا تُحصى«، الشرور لا تُحصى بالنسبة إلى المؤمنين، ولكن من قبل الله العجائب والتدابير لا تُحصى. ويتابع المؤمن في الآية 13: »هذه الشرور، هذه الآثام أكثر من شعر رأسي«. وكان قد قال في الآية 6: »ما أكثر عجائبك«. هنا، ما أكثر آثامي، ما أكثر خطاياي. وهناك »ما أكثر عجائبك«!
هذه المقابلة تُفهمنا أنّ الإنسان حين يكون وحده، يُحسّ أنّ خطاياه كثيرة، أنّ شروره لا تُحصى. فإن لبث وحده، إن ظلّ وحده، ناله اليأس، ناله القنوط. لا تبقى عنده شجاعة ولا عزم، أبدًا. لأنّ الشرور تطوّقه، والخطايا والآثام تطوّقه، لا يبقى له شيء سوى اليأس والانتحار لأنّه وحده، وهو أضعف الضعفاء. وهذا ما يقوله في نهاية المزمور 40: 18: »أنا مسكينٌ وبائس«. إذًا الخطيئة تطوّقني من كلّ جهة، كأنّني في سجن، كأنّني في معركة لا بدّ أن تنتهي بموتي، بهلاكي. ولكن لا.
3 - الربّ يهتمّ بالجميع
في النهاية يقول المزمور 40: 18 »أنا مسكين وبائس، لكنّك، يا ربّ، تهتمّ بي. نصيري ومنقذي أنت، فلا تتأخّر يا إلهي«. أنت تهتمّ بي. هذا ما اكتشفه أيّوب في نهاية الصراع بينه وبين الربّ. هو المتألّم، هو المريض، هو الذي خسر كلّ شيء، هو المسكين، هو البائس اكتشف أنّ الربّ يهتمّ بجميع الخلائق، بأصغر الخلائق وبأكبرها، وبالتالي يهتمّ بالإنسان، يهتمّ بالمؤمنين.
إذًا، الشرور تكون كثيرة، الآثام لا تُحصى، ولكنّ عجائب ا؟ وتدابيره كثيرة وهي لا تُحصى، وإن ارتفعت خطايانا وآثامنا حتّى الجبال، فعجائب الربّ وتدابير الربّ تتعدّى الجبال فرحمته تتعدّى كلّ خطايانا، تتجاوز كلّ خطايانا، كما يقول النبيّ ميخا: »ترمي خطايانا في أعماق البحر«. فكأنّها ما كانت. شكرًا لك، يا ربّ، شكرًا لك.
ونعود أيضًا إلى الكلمات ذاتها، في الآية 3: »أصعدني من جبّ الهلاك، ومن مستنقع الطين انتشلني« وهنا في آية 14 نقرأ: »أن تنجّيني«. وفي الآية 18: »أنت مصيري، أنت منقذي«. وهكذا بين الخبر، خبر الخلاص الذي ناله المؤمن، وبين الصلاة الأخيرة يأتي فعل الشكر والاستغاثة: »ها أنا آتٍ لأصنع مشيئتك يا ا؟«.
4 - أربع كلمات
ونعود، أحبّائي، إلى قراءة المزمور الآية 13 مع أربع كلمات مهمّة في الآية 17: الخزي والعار، الهزيمة والهوان. ماذا قرأنا في آية 11؟ أمانتك وخلاصك، رحمتك وحقّك. والآن، أربع كلمات تجعل الإنسان أقلّ من إنسان. الخزي، العار، الهزيمة، الهوان. هذا ما يتمنّاه الإنسان لأخيه الإنسان، ولاسيّما إذا كان الإنسان صنع به شرٌّا. آية 18: »الخزي والعار لمن يطلب هلاكي، والهزيمة والهوان لمن يطلب الشرّ لي«. لكنّ الربّ نادى، طلب أن نقول. لماذا؟ طلب منّا أن نتحدّث بالأمانة، بالخلاص، بالرحمة، بالحقّ. هذه هي الصلة بين ا؟ والإنسان. ولماذا لا تكون هي الصلة بين الإنسان والإنسان؟ أكون أمينًا لإخوتي وأخواتي. لا أعاملهم كما يعاملونني. أحمل الخلاص إلى الآخرين. وإن يكن خلاصًا بشريٌّا فهو رمز إلى خلاصٍ آخر. أعامل إخوتي وأخواتي بالرحمة والحقّ، أما هكذا ا؟ يعاملني؟ أما هكذا نقتدي با؟ كالأبناء الأحبّاء؟ أترى انقلبت الأمور؟
ونلاحظ أخيرًا أنّ هذا المؤمن الذي نال الخلاص يُنشد النشيد. أمّا الذين يهاجمون المؤمن فيضحكون عليه، يقهقهون. في الآية 16: »ويرتدّ على أعقابهم خزيًا القائلون لي: هه! هه«. أمّا المؤمن فيقول: يا ربّ! ها أنا آتٍ لأعمل مشيئتك يا الله. أذناي مفتوحتان، قلبي مفتوح، حياتي كلّها في تصرّفك. وعندما يفعل، تقول الآية 17: »ينشرح صدر كلّ من يطلب الربّ. مزمور 39: »وسّع لي فأنشرح«. وهنا النتيجة، وسّعَ الربّ لي، انشرحتُ، انشرحَ صدري. انشرح كلّ من يطلبك بفرح، كلّ من يحبّ خلاصك.
5 - الخوف من الخطايا
في هذا المقطع الأخير، آية 13 إلى 18، نكتشف صورة عن الشرّ الذي يحيط بالمؤمن. وهذه الشرور هي من الكثرة بحيث لم يعد المؤمن يرى أمامه، أن يعرف كيف يتصرّف. »لحقت بي آثامي فلا أبصر«. فالخوف سيطر عليه. هناك خوف، في آية 4 الناس يرون خلاص المؤمن، يسمعون نشيد شكره، يخافون ويتوكّلون على الربّ. أمّا هنا في الآية 13: »ها قلبي، يا ربّ، تركني«.
لم تعد عندي قوّة، لم يعد عندي عزم، لم يعد عندي ثقة، كنت قريبًا من اليأس. اقبل يا ربّ أن تنجّيني وأن تأتي سريعًا إلى نجدتي. طلب منه المؤمن، والربّ سوف يستجيب. هناك أعداء يطلبون هلاكي فنجّني منهم. هناك ضعف عندي، وأنت تسرع إلى نجدتي، تكون حاضرًا معي.
يقول القدّيس بولس: »درعًا لي على صدري، خوذةً لي على رأسي تحميني من كلّ شرّ«. أمران يتربّصان بي: الهلاك والشرّ. »الخزي والعار لمن يطلب هلاكي والهزيمة والهوان لمن يريد الشرّ لي«. هم يطلبون الهلاك للمؤمن. أمّا المؤمن فيطلب الربّ. آية 17: »كلّ من يطلبك ينشرح«. هم يحاولون أن يضعوا حاجزًا بينهم وبين المؤمن. الهوان، العار، الخزي. أمّا المؤمن فيحبّ الخلاص الذي يحمله إليه الربّ. والخلاص يتبعه الفرح، كأنّي به لا يريد أن يتكلّم عن نفسه. كما يُقال: »الأنا« غير مرغوب فيها. لهذا يقول في الآية 17: »ينشرح صدر كلّ من يطلبك«، كأنّي به يقول: »أنا، يا ربّ، طلبتك وأنا، يا ربّ، انشرح صدري، أنا، يا ربّ، أحببت خلاصك، وأنا، يا ربّ، فرحت بك«.
وما اختبرتُه أنا يستطيع الجميع أن يختبروه. لذلك جاءت ثلاث مرّات »كلّ«: ينشرح صدر كلّ من يطلبك، يفرح بك كلّ من يحبّك، يهتف الكلّ ما أعظم الربّ«. هذا الـ »كلّ» يتكرّر 3 مرّات، مرّتين بالنسبة للمؤمن، ومرّة بالنسبة إلى الزمن الذي يعيشه المؤمنون. هي صلاة متواصلة، هو نداء لا يتوقّف، يهتف كلّ حين: «ما أعظم الربّ»!
إذًا، نفهم كيف أنّ هذا المرتّل في القسم الأوّل والثاني من المزمور، الآية 13، هو أيضًا ينشد الربّ، يمتدح الربّ، ويقول: »مديحي غير كافٍ، أنا مسكين، أنا بائس، فأنت أيضًا اجعل في فمي النشيد الحقيقيّ، النشيد الذي تريده أنت. أنت تهتمّ لي، أنت نصيري، أنت منقذي. ولكنّ الربّ يتأخّر! فيقول له المؤمن: »لا تتأخّر يا إلهي«.
مرّات عديدة نستعجل الله»عجّل يا ربّ، حالتي تعيسة، أنا مسكين، أنا بائس، أنا مريض، الأعداء يحيطون بي، الخطر يهدّدني«. يتأخّر الربّ لكي يحفر في قلبنا الإيمان العميق، ليحفر في قلبنا الحاجة إليه. مرّات عديدة نأخذ ما يقدّمه لنا الربّ وننسى الربّ نفسه. نطلب شيئًا وننسى الربّ الذي يعطي هذا الشيء. وتأخُّر الربّ هو في تدبيره وعنايته لكي نفهم أن نطلب لا خيرات الربّ فحسب بل أن نطلب الربّ. هو رجاؤنا كلّه، هو خلاصنا كلّه، هو حياتنا، هو نورنا، هو سعادتنا. آمين.