ها أنا آتٍ لأعمل مشيئتك
المزمور الأربعون
1 - نحن نصلّي المزامير
أحبّائي، قراءة المزامير تتجاوب مع حاجاتنا. مرّات نحتاج إلى أن نشكر الله على عطاياه وما أكثرها. ومرّات أخرى نحتاج أن نستغيث بالله، أن نطلب عونه ومساعدته، ساعة يسيطر علينا الضيق، ساعة تسيطر الصعوبات. نحن يمكن أن نختار المزمور الذي نريده بحسب الحالة التي نعيشها، وهذا ممكن بشكلٍ خاصّ عندما نعتاد على صلاة المزامير، على تلاوتها، على إنشادها، على تكرارها. ويمكن أن نكون من المبتدئين فيمكن أن نجد في العنوان ما يساعدنا على اختيار المزمور الذي نصلّيه في ساعةٍ من الساعات.
نتذكّر هنا أحد الكهنة الذي أُرسِل إلى الرسالة وأحسّ بصعوبة المهمّة التي يعيشها أو التي يستعدّ للأخذ بها. فأخذ المزمور 22: «إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟». انطلق من هذا المزمور الذي هو مزمور الألم العميق أمام الشدّة، أمام العذاب، ولكنّه وصل في هذا المزمور: «أخبر في الجماعة باسمك»، أحمل اسمك إلىالبعيد. وكان هذا المزمور قوّةً هدّأت من غليانه الداخليّ وانتهى بلا شكّ مع مشهد يسوع في بستان الزيتون حيث يقول الربّ: «لا مشيئتي بل مشيئتك». تلك هي العواطف التي يمكن فيها أن نرتّل المزامير، أن ننشدها.
واليوم ننشد المزمور 40 الذي يبدأ: «رجوتُ الربّ كثيرًا، فمال إليّ وسمع صراخي». أمّا اليوم فعنوان حديثنا هو «صلاة شكرٍ بعد خطر الموت». ونقرأ المزمور 40.
«أصعدَني من جبّ الهلاك، ومن مستنقع الطين انتشلني. أقام على الصخرة قدميّ، وثبَّت لي خطواتي. لقّنني نشيدًا جديدًا، نشيد تهليل إلهنا. يرى الكثيرون هذا فيخافون، وعلى الربّ يتوكّلون» (آ 3 - 4).
قرأنا المزمور 40 الذي هو مزمور الشكر والاستغاثة، وسوف نشرح القسم الأوّل وهو شكرٌ للربّ الذي يخلّصنا من خطر الموت.
1 - رجوت الربّ
آية 2: «رجوت الربّ كثيرًا فمال إليّ وسمع صراخي». نستطيع أيضًا أن نقول: »رجوت الربّ رجاءً». هذا الرجاء الذي تحدّث عنه المزمور 39 فقال المرتّل: »من أرجو وأنت رجائي كلّه». وها هو الآن أيضًا يقول: «رجوت الربّ كثيرًا». يعني لا نجعل رجاءنا في الله وفي البشر معًا، ولا يكن رجاؤنا صلاةً نتمتمها برؤوس شفاهنا. كلاّ. إمّا رجاؤنا يكون كبيرًا وإمّا هو ليس برجاء. إمّا يكون عميقًا وإلاّ هو ليس برجاء. »رجوت الربّ كثيرًا«، وكان الجواب سريعًا من عند الربّ: «فمال إليّ وسمع صراخي». هذه الصورة الرائعة: «مال إليّ»نتطلّع مثلاً إلى أبٍ يناديه ابنه أو ابنته الصغيرة، ماذا يفعل؟ يميل، ينحني، حتّى تصبح أذنه على مستوى فم الولد. ينحني، ينزل. كدت أقول: يسمع إلى ابنه، وقد يرفعه على يديه كما يقول هوشع النبيّ: »يجعل وجه ولده على وجهه«. «فمال إليّ»، صار الأب على مستوى الابن، هذا ما نقول عن الربّ. هو الإله العظيم، الرفيع، الساكن في السماوات «مال إليّ». وأستطيع أن أتوجّه إليه، أن أصرخ إليه، أن أناديه لأنّه يسمع صراخي.
والمهمّ هنا أنّ هذا المؤمن ليس فقط على مستوى الأرض، هو تحت الأرض، هو في الجبّ، في البئر. يشبه إرميا إلى حدٍّ كبير. إرميا أمسكه الملك وجعله في قعر الجبّ، في قعر البئر. والربّ نزل إليه، مال إليه. لم يكتفِ بأن يقف على الأرض وينادي حبيبه، بل وصل إليه، أوصل أذنه إلى فم تقيّه. وهذا الجبّ ليس فقط الجبّ الخارجيّ الذي خرج منه إرميا، جبّ أخرجه منه أحد موظّفي الملك، هذا الجبّ هو جبّ الهلاك. هي صورة ملموسة، ولكنّها تحمل العقاب الكبير: جبّ الهلاك. جبّ الموت. يهلك الإنسان، يموت الإنسان، ولكن الربّ لا يسمح. يقول المزمور: «أصعدَني من جبّ الهلاك». ما تركني هناك، وما انتظر البشر أن يُصعدوني من هناك، أن ينقذوني. أبدًا. نزل وأصعدني. ويتابع: «ومن مستنقع الطين انتشلني». إذًا، هناك الطين. وأنا أغرق في هذا الطين. وغرقُ الطين معروف. فالإنسان يموت خنقًا. لكن الربّ جاء إلى مستنقع الطين يقع الولد في المستنقع، يأتي والده أو والدته. ينتشله من هناك.
2 - أقامني على الصخرة
وهذا ما فعل الربّ من أجل صفيّه، أصعدني، انتشلني. كنت تحت، صعدت. كنت غريقًا، انتشلني. وما اكتفى بأن ينتشلني ويجعلني على الأرض اليابسة، كلاّ. بل جعلني على صخرة «أقام على الصخرة قدميّ». هي الأمانة، هي المتانة. يكفي أن أكون مع الربّ، أن تكون حياتي في يدي الربّ لأحسّ أنّني على صخرة قويّة، فلا تصل إليّ المياه الغامرة ولا طين المستنقعات. «أقام على الصخر قدميّ وثبّت لي خطواتي». خطواتي لم تكن ثابتة في جبّ الهلاك. في المستنقع، لا شكّ، الإنسان يزلق، يزحط، يقع. لكن عندما جعلني الربّ على الصخرة ثبّت لي خطواتي. بعد هذا لن أخاف أبدًا.
ويقول المزمور: «جعلني على صخرةٍ أعلى من كلّ أعدائي». هنا، العدوّ هو جبّ الهلاك أو مستنقع الطين. وقد يكون هناك أعداء من نوع آخر، لكنّ الربّ جعلني على صخرة، رفعني، حماني، منع عنّي كلّ شرّ. وثبّت لي خطواتي: منذ الآن أستطيع أن أمشي، أستطيع أن أسير على نور الربّ. لا شكّ، الربّ هو الذي يثبّت خطوات المؤمن، ولكن على المؤمن أن يعرف أنّ حياةً مبنيّة على وصايا الله لا يمكن إلاّ أن تكون ثابتة. وهكذا يتجاوب المؤمن مع ما يفعله الله من أجله. هو لا ينعم بما يعطيه الله كالكسلان، كالذي لا يريد أن يعمل عملاً، بل هو يتجاوب مع الربّ. »أقامه الربّ« فقام معه، «رفعه الربّ» فارتفع معه، جعل خطواته ثابتة فثبّت خطواته في قلب وصايا ا؟، هذه الوصايا التي هي نورٌ والتي هي حياة. وبعد هذا الخلاص الذي ناله المرتّل، لا بدّ من النشيد، لا بدّ من نشيد الشكر.
3 - نشيد جديد
ولكنّ المؤمن لا يعرف أن ينشد، ونحن يحدث لنا مرارًا أن لا نعرف أن ننشد، أن نمدح الربّ. نُتبع الطلب بالطلب، وإن نحن أنشدنا، لا يكون نشيدنا على مستوى ذاك الذي ننشده. لذلك نقوله له: «أنت علّمنا يا ربّ، أنت لقّنّا كيف ننشد». وهنا يكون نشيدي جديدًا، لأنّ الخلاص الذي نلتُه هو خلاص جديد. بأيّ حال، كلّ خلاص هو جديدٌ بالنسبة إليّ، لهذا فهو يتطلّب نشيدًا جديدًا مع العلم أنّ كلمة «جديد» تربطنا دائمًا بنهاية الأزمنة. في نهاية حياتنا، في نهاية العالم، ننشد النشيد الجديد عندما نقول: «الأرض الجديدة والسماوات الجديدة»، كما يقول أشعيا أو سفر الرؤيا: «ها أنا أصنع أرضًا جديدة وأشيد سماوات جديدة». عندئذٍ يقول المؤمن النشيد الجديد والجديد وملء الجديد في حياة، ليس فقط نشيد شخص واحد أو مؤمن واحد، بل، البشريّة كلّها: «لقنّي نشيدًا جديدًا، نشيد تهليل إلهنا». نشيد التهليل لإلهنا لا إله لنا سواه. نحن نهلّل الله، نشكر الله
يرى الكثيرون هذا، فيخافون وعلى الربّ يتوكّلون. نلاحظ هنا أنّنا عكس ما قرأنا في المزمور السابق، مزمور 39. في 39 خاف المؤمن أن يعيّره الجُهّال، أن يعيّره الغادرون لأنّ الربّ لم يفعل له، هذا ما يظنّونه. أمّا هنا فالربّ فعل له. لهذا عندما يرى الكثيرون ما فعله الربّ لصفيّه، يخافون إن هم أرادوا أن يتصرّفوا تصرّف الجُهّال، المنكرين لوجود الله وعمله. إنّهم لا يتجاسرون. يرى الكثيرون أعمال الربّ، فيخافون المخافة الحقيقيّة، لأنّهم يكتشفون حضور الربّ من خلال هذا العمل، حضور الربّ من خلال أبراره.
هذه المخافة لا تُولد من لا شيء، هي لا تولد إلاّ إذا رأى الإنسان عمل الله حضور الله. وهو فيما عمله لتقيّه يرى هذا الإنسان فيخاف ويقول: «اتّكل هذا المؤمن على الربّ فنال حاجته»، نال المساعدة التي انتظرها وأنا أيضًا سأتوكّل.
4 - الاتّكال على الربّ
إذًا، هؤلاء الكثيرون رأوا ما فعله الربّ، خافوا حين اكتشفوا حضور الربّ فما بقي عليهم إلاّ أن يتوكّلوا على هذا الربّ القدير، الذي يقول فيفعل. عندئذٍ يقول المرتّل لي، لكَ، لكِ، لكلّ واحد منّا: »أنت توكّلت على الربّ، هنيئًا لك«، هنيئًا لمن يتوكّل على الربّ لا على البشر. ماذا ينفع الاتّكال على البشر وهم نفخة ريح؟ ماذا ينفع الاتّكال على العظماء؟ هم كالقشّ في النار، أمّا المؤمن فيتوكّل على الربّ فقط. جعلتُ في الربّ رجائي، هو متّكَلي وحدي من بطن أمّي، هو رجائي ولا رجاء لي في سواه. يرى الكثيرون ويخافون وعلى الربّ يتوكّلون، «هنيئًا لمن يتوكّل على الربّ» ولا يداري الطغاة الكاذبين أو الآلهة الكاذبة أو من يضايقونني.
إذًا، العبارة تحمل المعاني العديدة. أوّلاً، الطغاة الكاذبون كذبوا ويريدونني أنا أيضًا أن أكذب أو على الأقلّ أن أسكت، أن لا أقول ما صنعه الربّ من أجلي، هم يستبدّون! أمّا هذا المؤمن المتّكل على الربّ، فلا يداري هؤلاء الطغاة، لا يسمع لهم، لا يُساوم. كما لا يُداري الآلهة الكاذبة. يعني هؤلاء الناس الذين يذهبون يومًا إلى هيكل الربّ الإله ويومًا آخر إلى هيكل الأصنام حتّى لا يخاف من أحد وينال الفائدة هنا وهناك.
وربّما هؤلاء الطغاة يضايقون المؤمن. هذا ما فعله الكتبة والفرّيسيّون حين قام يسوع من بين الأموات. ماذا فعلوا؟ أعطوا رشوةً للجنود حتّى يُنكروا أنّ المسيح قام. وهنا، قد يطلب هؤلاء الطغاة أو المضايقون، قد يطلبون من المؤمن أن يسكت عمّا رأى، عمّا اختبر من حضور الربّ في حياته.
آية 6: «ما أكثر عجائبك لنا وتدابيرك، أيّها الربّ». مرّات عديدة نعتبر أنّ زمن العجائب ولّى مع المسيح وبعض القدّيسين: من هنا عجيبة، من هناك عجيبة. ولكنّنا لا ننسى العجيبة الكبرى، حياة الإنسان التي هي مجد الله. الكون مليء بالعجائب، ولكنّنا نحن لا نعرف أن نكتشف هذه العجائب في حياتنا، في جماعتنا، في كنيستنا، في العالم، مع الضعفاء، مع الفقراء، مع المشتّتين، مع المصدومين، »وتدابيرك، أيّها الربّ»: يعني أنت تدبّر الأمور، ترتّب الأمور، تنظّم الأمور. عجائبك كثيرة وأنت ترتّبها، تدبّرها، يا من لا شبيه له.
ويتابع المرتّل: «كيف لي أن أحدّث بها فهي أعظم من أن تُحصى». أجل، عجائب الربّ كثيرة جدٌّا، يكفي أن أنعم بها، يكفي أن أتذكّرها، يكفي أن أعرف أنّني مهما فعلت لا أستطيع أن أستنفد عطايا الله في حياتي، شكرًا لك يا ربّ، شكرًا لك. آمين.
نحن نصلّي المزامير
أحبّائي، يتساءل العديدون: لماذا نحن نصلّي المزامير، ولا نصلّي صلوات جديدة من العهد الجديد ونكتفي بها بعد أن تجسّد يسوع المسيح، وصار إنسانًا وعاش بيننا. لماذا نعيد الصلاة إلى أمور قبل يسوع المسيح؟ ففي يسوع الكمال بالذات، معه نتعلّم أن نصلّي، وهو الذي سأله تلاميذه يومًا: «علّمنا أن نصلّي كما علّم يوحنّا تلاميذه»، فقال: «أبانا الذي في السماوات... ». إذًا يُطرح السؤال: »لماذا أنا المؤمن المسيحيّ، بعد ألفي سنة على موت يسوع وقيامته أصلّي هذه الصلوات القديمة؟«. الجواب: لأنّ يسوع نفسه صلاّها.
فعندما أقتدي بيسوع، أقتدي به في كلّ شيء، أقتدي به في تواضعه، في وداعته: »تعلّموا منّي أنا الوديع والمتواضع القلب«. أقتدي به في تعاليمه، أقتدي به في حياته كلّها ولاسيّما حين حمل الصليب وقال لنا: »من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني«. ولماذا لا أقتدي به أيضًا في صلاتي؟
هو نفسه صلّى المزامير. وكلّنا يعرف صلاته على الصليب: »إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟«: وما اكتفى بهذه العبارة وحدها، بل صلّى المزمور كلّه: »أبشّر باسمك في الجماعة«. بدأ بصلاة المتألّم، وانتهى بصلاة الجاعل رجاءه بالربّ، لأنّ بعد الألم والعذاب هناك المجد، وبعد الموت القيامة. وفي إنجيل لوقا نسمعه يقول في المزمور: »يا أبتي، في يديك أستودع روحي«. كما ينام الولد عند المساء، ويستيقظ في الصباح، هكذا نام يسوع على صليبه يوم الجمعة ليستيقظ، ليقوم يوم الأحد يوم القيامة. والمزمور 40 الذي بدأنا التأمّل فيه في المرّة السابقة ردّده يسوع، أو بالأحرى جعلته الرسالة للعبرانيّين في فم يسوع.
2 - كما صلاّها يسوع
هنا نقرأ الرسالة إلى العبرانيّين الفصل 10. فهذه الرسالة طبّقت كلام المزمور 40 علىحياة يسوع في معرض الكلام عن الذبائح: الذبائح القديمة التي كانت تقدّمها الجماعات اليهوديّة في هيكل أورشليم، تُقدّمها سنة بعد سنة ولكن هذه الذبائح، كما تقول الرسالة إلى العبرانيّين الفصل 10: 4: »لأنّ دم الثيران والتيوس لا يقدر أن يزيل الخطايا«. كانوا يقدِّمون الثور والتيس والغنم والحمل، وكلّ هذا لا يقدر أن يزيل الخطايا. هو يهيّئ المرء أن يُقرّ بذنبه، وكأنّه يُذبح هو على مذبح الربّ. لكن الدم في ذاته - دم الثيران ودم التيوس - لا يقدر أن يزيل الخطايا.
ويقول صاحب الرسالة إلىالعبرانيّين في 10:5: »لذلك قال المسيح ؟ عند دخوله العالم: »ما أردتَ ذبيحةً ولا قربانًا، لكنّك هيّأتَ لي جسدًا. لا بالمحرقات سُررتَ ولا بالذبائح كفّارةً للخطايا، فقلت - والمسيح
يتكلّم -: ها أنا آتٍ يا أ؟ لأعمل بمشيئتك، كما هو مكتوبٌ عنّي في طيّ الكتاب«. قرأنا الرسالة إلىالعبرانيّين 10: 5 - 7. هذا الكاتب جعل المزمور 40 في فم يسوع المسيح. وإذا كان يسوع طبّق هذا المزمور على حياته، إذا كان ردّده في أعماق قلبه حين قال: »لا مشيئتي، أيّها الآب، بل مشيئتك«، فنحن في خطى المسيح نتلو هذا المزمور وغيره من المزامير التي تتلوها الكنيسة بمؤمنيها ولاسيّما برهبانها وراهباتها في صلواتهم اليوميّة، في صلوات الفرض.
وها نحن، أحبّائي، نعود إلى قراءة مزمور 40 في القسم الثاني أي آية 7 وما يلي وعنوان حديثنا: »ها أنا آتٍ لأعمل مشيئتك«. تلك كانت كلمة يسوع المسيح حين تجسّد، حين أتى إلى العالم: ما جاء ليعمل مشيئته بل مشيئة الذي أرسله، فقال: »طعامي أن أعمل مشيئة الآب الذي أرسلني«. إذًا، نعود إلى قراءة المزمور من البداية، المزمور 40 آية 2: »رجوتُ الربّ كثيرًا، فمال إليَّ وسمع صراخي« ونصل إلى آ6: »ما أكثر عجائبك لنا، وتدابيرك أيّها الربّ، يا من لا شبيه له. كيف لي أن أتحدّث عنها، فهي أعظم من أن تحصى«.
هذا المقطع تأمّلناه في المرّة السابقة وقلنا: »هو شكرٌ ؟«. ويُخبر المرتّل المؤمن كيف نجّاه ا؟، أصعده من الهلاك، من جبّ الهلاك، انتشله من مستنقع الطين، وأعاد إليه الحياة.
3 - تحدّث بأعمال الربّ
في مرحلة ثانية علّمنا المرتّل كيف ننشد نشيد الشكر. عندئذٍ أنشدَ المرتّل نشيده. فالخلاص الذي لا نتكلّم عنه، يبقى مخفيٌّا، فالكلمة هي التي تُعبّر عمّا نعيشه في داخلنا. نجّى ا؟ المؤمن، أخبر، أنشد. عندئذٍ وعى الناس، وعى الكثيرون ما فعله الربّ وما يمكن أن يفعله. لهذا، حلّت مخافة الربّ على الكثيرين. اتّكل الناس على الربّ، واعتبروا أنّ كلامهم عمّا يفعله ا؟ لهم يجب أن يتوّج هذه الخبرة الداخليّة التي يعيشونها. هي الشهادة التي يؤدّونها لما فعله ا؟ لهم.
وينتهي هذا القسم الذي تأمّلنا فيه المرّة السابقة: ما أكثر عجائبك لنا، أنت يا ربّ لا شبيه لك، لا أحد يشبهك. تعبّد الناس للآلهة، تعبّد الناس للأصنام. ماذا استطاع الأصنام أن يفعلوا لهؤلاء المؤمنين؟ لا شيء. ويتعبّد الناس للناس بعض المرّات، يتعبّدون للأقوياء، للأغنياء، للزعماء، للأحزاب، للمعتقدات وغيرها. كلّ هؤلاء لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا. وحده الربّ يصنع العجائب، وحده الربّ يصنع عجائب لا تُحصى. هنيئًا لنا إن اكتشفناها في حياتنا وتحدّثنا عنها حتّى يخاف الذين يسمعون، وعلى الربّ يتوكّلون كما توكّلنا نحن. فكم يكونون سعداء إن توكّلوا على الربّ. ونتابع قراءة المزمور 40: »بذبيحة وتقدمة لا تسرّ«... فقلت: »ها أنا آتٍ لأعمل ما يرضيك. في هذا مسرّتي، يا ربّ« (آ 7-9).
»ها أنا آتٍ لأعمل مشيئتك«. هذا الكلام الذي قاله المؤمن منذ زمنٍ بعيد ودخل في كتاب الصلوات، في الكتاب المقدّس، صار بعد التجسّد كلام يسوع المسيح، صار صلاة يسوع المسيح، الذي استعدّ منذ بداية تجسّده أن يعمل مشيئة الربّ. »بذبيحة وتقدمة لا تُسرّ«. هنا نتذكّر أيضًا المزمور 51، يقول المزمور: »القلب المتخشّع المتواضع لا ترذله، يا أ؟«. كأنّي بهذا المرتّل يُفهِم المؤمنين أنّ الذبائح العديدة يعني ما يُذبح على المذبح من شاةٍ، من حمل، من تيس، والتقدمات التي هي أمور مأخوذة من الحقل: الخبز، القمح، الحنطة، الخمر، الزيت وما شابه ذلك. كلّ هذا لا يُسَرّ ا؟ به. وسوف يقول في المزمور 50: »أتظنّ أنّي أحتاج إليك؟« الطبيعة كلّها لي، الكون كلّه لي. هل أحتاج إليك، إلى تقدمتك، إلى ذبائحك؟ كلاّ ثمّ كلاّ.
4 - ونقدّم له ذواتنا
أنا أحتاج إلى أن تقدّم لي ذاتك. يا بنيّ، أعطني قلبك، أعطني حياتك. »بتقدمة وذبيحة لا تُسرّ«، نعم ليس هنا مسرّتك يا ربّ. وتتابع الآية 7: »ومحرقة وذبيحة خطيئة لا تطلب«. المحرقة هي ما يُحرق على المذبح تكفيرًا عن الخطايا. الذبيحة كلّها تُحرق بسبب خطيئة عظيمة. يقول الربّ: »مهما كانت الخطيئة عظيمة، فأنا لا أطلب محرقة، أطلب الندامة، أطلب العودة«. أنت يا ربّ، لا تطلب محرقة ولا ذبيحة خطيئة. هناك خطايا عديدة نقترفها عمدًا أم سهوًا، فكان المؤمن يقدّم ذبيحة الخطيئة أو الذبيحة عن هذه الخطيئة. مهما كانت خطايانا، الربّ لا يطلب عنها محرقة ولا ذبيحة. ما يطلبه الربّ هو أمرٌ من نوعٍ آخر. ماذا يطلب الربّ؟ »أذنان مفتوحتان وهبتني«، يطلب منّا أذنًا تسمع. نفتح أذنينا، يعني باللغة المصوّرة نختن أذنينا، ننزع الغشاء عن آذاننا. إذًا، يطلب الربّ أذنًا تسمع، عينًا ترى، قلبًا يفهم. »أذنان مفتوحتان وهبتني«. لكي أسمع نداءك، والمؤمن هو من يسمع نداء الربّ.
3 - سماع كلمة ا؟
آية 8: »فقلت ها أنا آتٍ«. ما اكتفى بأن يسمع ويبقى مكانه. ما اكتفى بأن يسمع، بأن يفتح أذنيه بشكل خارجيّ، كلاّ. في أعماق قلبه سمع. كان يقول إرميا النبيّ: »كلمة الربّ مثل النار في أحشائي«. وهذه هي الكلمة التي وصلت إلى المؤمن، فجاء الجواب: »ها أنا آتٍ، أما كُتب عنيّ في طيّ الكتاب أن أعمل ما يُرضيك يا إلهي«. إذًا أنا جئت يا ربّ لأعمل ما يرضيك، لكي أعمل مشيئتك. ثمّ يا إلهي هناك علاقة حميمة: لا نقول مثلاً الولد، ولكن نقول ولدي أنا، ابني، ابنتي. أنا وهنا إلهي أنا. هناك علاقة وثيقة بين المؤمن وبين ا؟، وخصوصًا حين يعمل هذا المؤمن ما يرضي ا؟. قال: »لا تُسرّ أنت...« لا ترضى أنت بالذبائح، بالتقدمات، بالمحرقات، بل ترضى عمّن يعمل مشيئتك: في هذا مسرّتي يا ربّ، في صميم قلبي شريعتك.
في الآية 7 الربّ لا يُسرّ، في الآية 9 المؤمن يُسرّ. يُسرّ متى؟ حين تلتصق مشيئته بمشيئة ا؟، وخصوصًا حين تصبح الشريعة في قلب المؤمن: في صميم قلبي شريعتك، وصاياك. ما تطلبه منّي، ما شرّعته، ما علّمتني إيّاه، هذا في صميم قلبي. ما اكتفى المؤمن بأن يسمع بأذنيه. في أيّ حال، السماع في تقاليدنا هو العمل. ولكن مع ذلك لم يكتفِ المؤمن بأن يسمع بأذنيه. بل هو يفهم بقلبه، يريد أن تنطبع وصايا ا؟، شريعة ا؟، كلمات ا؟ لا في الورق فقط، ولا في الأذنين فقط، بل أن تُطبع في صميم القلب، في أعماق القلب. وعندما تنطبع شريعةُ الربّ، تنطبع كلمةُ ا؟. بهذا لا يستطيع المرتّل أن يسكت.
5 - برّ ا؟ وعدمه
يقول في الآية10: »بشّرتُ بعدلك أو ببرّك في الجموع الكبيرة، وما أطبقتُ شفتيّ«. أجل، الصمت خطيئة. أن نصمت عن أعمال ا؟، عن عجائب ا؟، عن تدابير ا؟، خطيئة كبيرة. كان يقول إرميا: »لا أستطيع أن أصمت«، مع أنّ هذا الكلام يكلّفه كثيرًا. وهنا يقول المرتّل: »ما أطبقت شفتيّ بل أخبرت، بشّرتُ« والبشارة هنا تعني الخبر الطيّب. أخبرتهم بما فعل الربّ من أجلي وما يفعله من أجل المؤمنين. وأنت يا ربّ تعرف القلوب، لا تعرف فقط كلام الشفتين، بل تعرف القلوب. ما كتمت عدلك في قلبي، بل بأمانتك وخلاصك تحدّثت. أجل، على المؤمن أن يُخبر بما فعله ا؟ له، أن يُعلن أمانة ا؟.
هو لا يتبدّل يومًا بعد يوم. ا؟ هو ا؟. المتبدّل هو الإنسان، يكون يومًا بهذه الطريقة ويومًا في طريقة أخرى. يتحدّث المؤمن بخلاص الربّ، بخلاص ناله، فكأنّ خلاصه صورة عن الخلاص الأوّل مع موسى وعن الخلاص الأخير مع يسوع المسيح.
»وما أخفيت رحمتك وحقّك يا ربّ في الجموع الكبيرة«. هنا، المؤمن لا يكتفي بأن يكلّم شخصًا أو شخصين. في آية 4 تحدّث عن الكثيرين الذين يرون ما فعله الربّ، الذين يسمعون النشيد الجديد، نشيد التهليل. وهنا يقول: »في الجموع الكبيرة«. الجموع الكبيرة هي التي ستسمع كلامًا عن أمانتك، أنت الإله الرحيم، عن حقّك يا إله كلّ حقّ. يا من صرت في يسوع المسيح الطريق والحقّ والحياة. هو الربّ يرافق المؤمن، يرافق يسوع المسيح في حياته البشريّة. ووحده يسوع يستطيع أن يصلّي هذا المزمور بصدقٍ كامل. أنا يمكن أن أقول فتحتَ أذنيّ، يمكن أن أقول فتحت قلبي، يمكن أن أقول بشّرت بعدلك، حدّثت بأمانتك. ولكن وحده يسوع يستطيع أن يصلّي هذا المزمور لأنّه عاشه عيشًا تامٌّا منذ بداية حياته لمّا قال: »ها أنا آتٍ لأصنع مشيئتك يا ا؟« وعند النهاية، عندما قال: »تمّ كلّ شيء«، تمّ ما أمرته، أيّها الأب، فصارت مشيئتك طعامًا في حياتي ومماتي. آمين.