المزمورالثالث عشر : إلى متى تنساني، يا ربّ؟

 

المزمور الثالث عشر

إلى متى تنساني، يا ربّ؟

1- كتاب، صلاة النشيد

أحبّائي، نتابع قراءة المزامير. هي صلاة شعب ا؟. شعب ا؟ في العهد القديم وشعب ا؟ في العهد الجديد. وهي في الأساس صلاة جميع الشعوب. جميع الشعوب كانت تصلّي إلى إلهها: الإله الأوّل الذي يخدمه آلهة عديدون. وجُمع القسم الكبير من هذه الصلوات الآتية من عالم الشرق، من مصر، من أوغاريت من فنيقية من بلاد الرافدين وغيرها من المدن الصغيرة أو الكبيرة.

كتاب المزامير هو كتاب الصلاة وكتاب النشيد وكتاب الترنيم. هو كتاب الإنشاد للربّ العظيم. كتاب المزامير، فيه نصلّي إلى ا؟ بكلام ا؟، فيه نرفع صلاتنا إلى الربّ، في ساعة الضيق كما في ساعة الفرح، في ساعة النجاة كما في ساعة الفشل. كلّها صلوات وصلوات لأوقات متعدّدة وفي ظروف متعدّدة.

واليوم، أحبّائي، نقرأ المزمور »13« كما في النسخة العبريّة »12« في كتب الصلوات في كتب الفرض الإلهيّ. عنوانه إلى متى تنساني يا أ؟. لكبير المغنّين. مزمور لداود. وهو مزمور الثقة التامّة والاتّكال على ا؟.

هذا المزمور يبدأ بعنوان: لكبير المغنين. رئيس الجوقة هو الذي نظّم هذا المزمور. يمكن أن يكون أنشده أحد المؤمنين، ولكنّ رئيس الجوقة وكبير المغنين هو الذي جعل له موسيقى، ونظّمه بهذا الشكل السليم. ونزع منه كلّ الأمور الخاصّة، لكي يستطيع كلّ مؤمن أن يصلّيه مهما كانت حالته، مهما كانت صعوباته.

وارتبط هذا المزمور كما ارتبط عدد من المزامير بداود، لأنّ التقليد يعتبر أنّ داود لم يؤلّف فقط 150 مزمورًا، ولكن 3600 مزمور. أجل جُعل على اسم داود العدد الكبير من المزامير. وفي أيّ حال، لم يبقَ لنا في الكتاب المقدّس سوى 150 مزمورًا. بالإضافة إلى خمسة مزامير نجدها في التراث السريانيّ، ومزامير أخرى نجدها لدى جماعة قمران. وأيضًا مزامير سليمان التي هي قريبة في صلاتها. سفر المزامير كما نقرأه في الكتاب المقدّس.

2 - مزمور توسّل

المزمور 13، أحبّائي، هو مزمور توسّل وصلاة وتضرّع. ينشده أحد الأتقياء، أحد خائفي الربّ، الذي لا يريد أن يأخذ ثأره بيده، لا يريد أن ينتقم بيده. كلاّ. هو يخاف ا؟. يعيش في مخافة ا؟. بما أنّه تقيّ من الأتقياء، فهو لا يشكو أمره إلى البشر، كلاّ، بل يشكو أمره إلى الربّ الإله. فإن شكونا أمورنا إلى البشر، إن كانوا يحبّوننا فهم يحزنون ولكن لا يستطيعون شيئًا. وإن كانوا لا يحبّوننا قد يشمتون بنا. إذًا هذا المؤمن ما أراد أن يشكو أمره إلاّ إلى الربّ.

وإذ يشكو ينتظر، ينتظر، يتطلّع إلى ا؟ بثقة، ويعد في النهاية أنّه سيقدّم له ذبائح الشكر. أرنّم للربّ لأنّه أظهر رحمته إليّ. والمرتّل إنسان يتألم وسط أعدائه. بذكرهم هنا في آية 3: »ينتصر عدوّي عليّ«. وفي آ 5: »يقول عدوّي« وفي آية 5 أيضًا: »ويبتهج خصومي«. يرى الأعداء يحيطون به. لهذا فهو يتألّم ولكنّه لا يذكر سببًا لألمه. هم أساؤوا إليهم، هم افتروا عليه، هم دفعوه دفعًا إلى المحكمة لكي يُجعل في السجن. هم أخذوا ماله.

المزمور لا يقول شيئًا، بل يكتفي بأن يقول: يا ربّ، أعدائي هم حولي، الذين لا يحبّونني، الذين يريدون بي شرٌّا. وأنا أسلّم ذاتي إليك، وأنت تعرف أن تأخذ لي حقّي. في آية 5 يقول: »عدوّي تغلّب عليَّ«. كلاّ أنا التقيّ، أنا الذي أخافك يا ربّ، أنا أريد أن أتغلّب عليه. لا بقدرتي، لا بقوّتي، بل بقدرتك وقوّتك، بحضورك بيمينك بذراعك أنا أنتصر.

3 - مزمور البهجة بالنصر

هو يبتهج، كلاّ. بل أنا الذي سأبتهج. وهذا ما يقوله في الآية 6: »وقلبي يبتهج بخلاصك«. لو أنّ هذا المؤمن قُهِر، لو أنّ هذا المؤمن تغلّب عليه خصومه، أعداؤه؛ عندئذٍ سيزداد ألمه ألمًا. من هو هذا الإله الذي جعل عليه اتّكاله؟ أهو إله ضعيف لا يستطيع أن يعمل شيئًا من أجل أحبّائه؟ ولكنّه لن يكون أبدًا هكذا. فالإله الذي وثق به هو الإله القدير، إله الصباؤوت، إله الجنود، إله القوّات، إله الأكوان. هو الإله الذي لا يُقهر أبدًا.

ولكن يمكن أن يكون المرتّل خاطئًا، والربّ يسمح بهذا الألم، بهذه العداوة، لكي يعود إلى ربّه. فلا بدّ من التوبة والعودة إلى الربّ حتّى يعود الربّ إليه، كما يقول النبيّ: »عودوا إليّ فأعود إليكم«. ولكن يبقى السؤال الأساسيّ. السؤال الأساسيّ أنا ضعيف وأقف أمام الربّ، والأقوياء يحيطون بي. ويُطرح سؤال لن نجد عنه جوابًا هنا. ولكن سنجد الجواب في مزامير أخرى.

السؤال المطروح: أيكون ا؟ مع الأقوياء؟ وهذا السؤال يجرح قلب المؤمن. ونفهم هنا أنّ الربّ لا يقدر أن يكون مع الأقوياء مهما كانت الظواهر أمامنا. يقول نشيد العذراء: حطّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين. هذا المزمور، أحبّائي، قبل أن نقرأه عبارة عبارة، نفهم أنّه صلاة الثقة الحارّة. الثقة الحارّة لأنّ هذا المؤمن لا يتضايق فقط من أمور بسيطة، من افتراء من كلام كاذب، أو ربّما من ظلم بسيط. هذا المؤمن وصلت به الأمور إلى الموت إلى أبواب الموت. في آية 4 يقول: »أنِرْ عينيّ فلا أنام نومة الموت«. أتراه مرضَ، أتراه حُكم عليه بالإعدام؟ لا يقول المزمور شيئًا، ولكن يرى هذا المؤمن أنّ موته صار قريبًا إن لم يتدخّل الربّ. ولكن الربّ سيتدخّل. لماذا؟ لأنّ المؤمن اتّكل على رحمة الربّ. لهذا ينشد قبل أن ينجو، وربّما بعد أن ينجو: قلبي يبتهج بخلاصك. للربّ أرفع نشيدي، لأنّه أحسن إليّ، لأنّه فعل الخير من أجلي. إذا كان صاحبنا يرفع نشيده إلى الربّ، فهذا يعني أنّه لا يموت. هو لم يمت، لأنّ الأموات لا يستطيعون أن يسبّحوا الربّ، ولا الهابطون إلى الجحيم. إذا كان المؤمن يستطيع في النهاية أن يرفع نشيده إلى الربّ، فهذا يعني أنّه نال الخلاص الذي كان ينتظره.

4 - مزمور الثقة

وما استطاع عدوّه أن يشمت به: للربّ أرفع نشيدي لأنّه أحسن إليّ. كيف تبدو أحبّائي مسيرة هذا المزمور، مزمور 13. مثل ما قلنا: هناك أربع مرّات. أربع مرّات: إلى متى؟ لهذا أعطينا العنوان: إلى متى تنساني يا ا؟، إلى متى يا ربّ تنساني، إلى متى تحجب وجهك عنّي، إلى متى أحمل الغصّة في نفسي والحسرة في قلبي. إلى متى ينتصر عدوّي؟ أربع مرّات تتردّد إلى متى يا ربّ؟ هذا يعني أنّ المؤمن قاسى محنةً طويلة. ما عاد يقدر أن ينتظر؟ نفذ صبره. وهي من أكبر التجارب التي يمكن أن نعيشها: ينفذ صبرنا فلا نستطيع بعد أن نحتمل. إلى أيّ حدّ سوف نحتمل؟

وحين ينفذ صبرنا نيأس. نحسّ أنّ الربّ بعيد عنّا، لا يريد أن يفعل، أو هو علينا لا معنا، مع أنّه عمّانوئيل، ا؟ معنا. التجربة الكبرى: عندما ينفذ صبرنا، عندما لا نستطيع بعد أن ننتظر. ولكن حين نقرأ الكتاب، المقدّس نفهم أنّ الربّ لا يسرع، نفهم أنّ الربّ لا يعجّل أبدًا. »كنت رح قول يأخذ وقته.« يأخذ وقته ليعمّق فينا الإيمان. يأخذ وقته لكي يفتح قلوبنا كلّ الانفتاح على عطاياه، على حضوره. فلو مرّ الربّ وبابُنا مقفل، فلو مرّ الربّ وقلبنا قاسٍ، فلو مرّ الربّ وآذاننا مغلقة، فلو مرّ الربّ والعيون عمياء، يكون نوره كأنّه لم يمرّ.

فإن الإنسان انتظر الربّ، فلو تأخّر الربّ، فلكي نفتح عيوننا عيون الجسد وعيون القلب وعيون البصيرة. فلنصبح كلّنا عيونًا مثل العبد الذي عينه على يد سيّده والأمة التي عينها على يد سيّدتها. نصبح كلّنا آذانًا صاغية إلى همسات الربّ. إلى كلامه في الصمت. يصبح قلبنا مفتوحًا، يصبح قلبنا مختونًا بالختانة الحقيقيّة، التي لا يمكن أن تجعل أيّ حاجز بين حضور الربّ وكلام الربّ وتصرّف الربّ.

إذا كان الربّ يتأخّر، فلكي نفتح قلبنا له انفتاحًا تامٌّا. حين ينتظر الربّ، فلأنّه يرى أنّنا نحن لا ننتظر. هنا نتذكّر في الأناجيل بعض المعجزات التي أجراها يسوع المسيح. لم يفهمها اليهود. هل لأنّها لم تكن معبّرة؟ كلاّ. هل لأنّ الربّ كان غائبًا عنها؟ كلاّ. لأنّ ذلك الشعب لم يكن ينتظر. جرت المعجزة قربه ولم يرَها. مرّ يسوع بقربه وما رآه. وكلّنا نعرف خبر نيقوديموس الذي جاء في الليل ومضى في الليل، ولم يرَ في يسوع ذلك المسيح الذي أرسله الآب، لا ليُهلك البشر، ليدين البشر، بل ليخلّصهم.

5 - تجربة نفاذ الصبر

نفذ صبر المؤمن. وهذه من أكبر التجارب التي يمكن أن تهدّد المؤمن. المؤمن هو الذي ينتظر، وينتظر بثقة تامّة واتّكالٍ تامّ، مهما كانت الظواهر. في النهاية القوّة للربّ. في النهاية النصر للربّ. ليس له الحقّ أن يقول هذا المهتدي: حتّى متى ينتصر عدوّي عليّ؟ ربّما ينتصر في وقت محدّد. في أيّ حال، المسيح انتصروا عليه في وقت محدّد، لمّا جعلوه على الصليب. ولكنّه كان انتصارًا قصير المدى. لم يكن انتصارًا دام طويلاً. ما إن مات يسوع حتّى قام. فموته لم يكن النهاية، بل كان بداية القيامة والصعود والمجد، حسب ما يقول بولس الرسول في الرسالة إلى فيلبّي: »صار عبدًا طائعًا حتّى الموت والموت على الصليب، لكن الربّ رفعه وأعطاه الاسم الذي يفوق كلّ الأسماء لتسجد لاسم يسوع كلّ ركبة في السماء وعلى الأرض وتحت الأرض«.

لا، الربّ لا يُقهَر إلى النهاية. يظنّ الناس أنّهم غلبوه، أنّهم قهروه. يفتكر العالم أنّه تغلّب على يسوع. ولكن الشرّ الذي يتميّز به العالم لن يدوم. وإن يكن لهذا العالم سيّد، فهذا العالم، يقول يوحنّا، »دين«. نال الدينونة، حُكم عليه. فالقضيّة قضيّة وقت. قضيّة أيّام أو سنين. لا يهمّ، لأنّ ألف سنة في عيني الربّ كيوم أمس الذي عبر. يكفي أن ننتظر، وانتظارنا هو صلاة، وانتظارنا هو ثقة، وانتظارنا هو بداية النصر، هو بداية الغلبة. إذا حسبنا أنّنا غلبنا نُغلب. إذا حسبنا أنّ عدوّنا قهرنا نُقهر. أمّا إذا تأكدنا أنّ الربّ هو بجانبنا لن ننغلب لن نُقهر أبدًا.

على كلّ حال هو قال لإرميا: »جعلتُك سورًا من نحاس، بابًا من حديد، يهاجمونك ولا يقدرون عليك« مهما كانوا كثيرين. وهنا يتساءل المؤمن: إلى متى ينتصر عدوّي عليّ؟ هو يظنّ أنّ العدوّ ينتصر عليه. في الواقع، الربّ هو الذي يعمل في الداخل حتّى يعطيه الغلبة ويحرّره من كلّ شرّ ومن كلّ خطيئة. ولكن من خلال: إلى متى تنساني، وإلى متى تحجب وجهك، إلى متى أحتمل الغصّة، إلى متى ينتصر عدوّي. من خلال هذه الـ »4 مرّات« إلى متى، نرى أنّ المؤمن يعاتب الربّ كما الحبيب يعاتب حبيبته أو الحبيبة تعاتب حبيبها. أترى نسيه؟ أترى الربّ ينسى؟ كلاّ ثمّ كلاّ.

إلى متى يا ربّي تنساني؟ الربّ لا ينسى أبدًا. الربّ يذكر دائمًا جميع البشر، ويذكر بشكل خاصّ أحبّاءه، بشرط أن لا ننساه نحن. في الواقع ليس هو الذي ينسانا، نحن من ينسى الربّ. ويتابع المرنّم: تحجب وجهك عنّي، تواري وجهك، وتخفي وجهك، وكأنّك لا تريد أن تراني. كلاّ، الربّ يرانا دائمًا كما يقول المزمور: إن صعدنا إلى السماء هو هناك. إن نزلنا إلى أعماق الأرض هو هناك. أينما كنّا فالربّ رفيقنا رفيق دربنا. يعرف حياتنا يعرف صعوباتنا. فلن نستطيع أبدًا أن نقول. يا ربّ لا تحجب وجهك عنّي.

هنا نتذكّر المزمور 51: لا تحجب وجهك عنّي. لا تتظاهر وكأنّك لا تراني. ظنّ المرتّل لوقت قليل كما قال إيليّا لأنبياء البعل أنّ ا؟ هو البعيد. كلاّ. ا؟ هو القريب، والقريب القريب من أحبّائه. وهو أقرب إلينا ممّا نحن أقرب إلى نفوسنا. ويدعوه في آية 4 انظر، انظر، انظر إليّ .نظرة منك تكفيني. كان قد قال في آ 2: أنت لا تريد أن تنظر، تحجب وجهك عنّي. »أنظر إذا بتريد«. في الواقع يجب أن ننظر نحن إلى الربّ، أن نرفع عيوننا إليه وهو الذي يكون حاضرًا. هو الحاضر لكنّنا نحن لا ننتبه إلى حضوره. انظرْ إليّ، أعطِني جوابًا أنّك عن يميني. أعطني الحياة فلا أكون في ظلمة الموت.

ذاك، أحبّائي، هو معنى المزمور 13: هو صرخة المرتّل في الضيق: إلى متى يا ربّ. هو التقاء بين شعورين: شعور بالضيق من جهة، وشعور بالثقة من جهة أخرى. ولكنّ الثقة سوف تتغلّب على الضيق، ليستطيع المؤمن أن يقول: أنا لا أتّكل على قوّتي بل على رحمتك. أنا لا أتّكل على خلاص يأتي من البشر. بل قلبي يبتهج بخلاصك. أنا لا أنشد لأحدٍ أبدًا. أنشد فقط للربّ، أرفع نشيدي إلى ا؟، لأنّه أحسن إليّ. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM