المزمور الرابع عشر: قال الجاهل: أين إلهكم؟

المزمور الرابع عشر

قال الجاهل: أين إلهكم؟

في المزمور 14، ننتقل ربّما من أرض فلسطين حول الهيكل حول أورشليم القدس، لنصل إلى أرض بابل حيث ذهب المنفيّون، وعاشوا هناك عيشة الذلّ بأعمال الأرض، بأعمال البناء. وسمعوا كلامًا قاسيًا من الذين سبوهم، من الذين يفرضون عليهم الأشغال الشاقّة. أين هو إلهكم؟ إلهكم أضعف من أن يفعل شيئًا. فماذا يكون جواب المؤمن في هذه الشدّة، في هذا الضيق؟ أن أكون أنا ضعيفًا. لا بأس. كلّ إنسان ضعيف. لكن أن يكون إلهي ضعيفًا، فهذا يعني نهاية حياتنا نهاية حياة شعبنا. فلم يعد لنا شيء ننتظره إطلاقًا. ونبدأ فنقرأ المزمور 14 في كتاب الصلاة 13.

1 - وسط عالم فاسد

المؤمنون وسط عالم فاسد، المؤمنون يعني شعب ا؟ وسط عالم فاسد، عالم من الشر، عالم لا يعرف وصايا ا؟. وخصوصاً لا يعرف ا؟ ولا يريد أن يعرف ا؟، ويريد أن يعيش كأن ا؟ غير موجود.

إذًا نقرأ المزمور ..14. والإطار الذي يمكن أن نقرأ فيه هذا المزمور هو الآية 7: حين يردّ الربّ شعبه من السبي، لن يستطيع بعد ذلك أن يقول أحد: لا إله يعتني، لا إله يفعل. فالإله الذي لا يفعل، الإله الذي لا يقدر أن يفعل، ليس بإله بل صنم. الإله الذي لا يسمع صراخ البائسين، الذي لا يرى الشرّ في العالم، ما هو إله. هو صنم الأصنام. لا عيون لها، وإن كانت لها عيون، فهي لا ترى بها، ولا آذان لها وإن كانت له آذان فهي لا تسمع بها، ويدها لا تفعل، وقلبها لا يحسّ ولا يشعر بآلام أحبّائه وضيقهم وذلّهم.

هذا المزمور إذًا هو مزمور توسّل، تضرّع. صلاة من أعماق القلب، من أعماق الضيق. المرتّل يعيش الضيق الذي يتعرّض له شعبه في بابل. في أيّ حال، يمكن أن يكون هذا المزمور أُنشد في بابل، ساعة كان الشعب في المنفى، ودخل في صلوات الهيكل، صار إحدى صلوات الهيكل.

يستطيع أن ينشده كلّ إنسان. في الواقع، كلّ إنسان هو في السبي. كلّ إنسان يمكن أن يكون بعيدًا عن أرضه. المهاجرون، المهجّرون، المبعَدون، كلّ هؤلاء يمكنهم أن ينشدوا هذا المزمور، ويمكن أن يقول لهم أعداؤهم: أين هو إلهكم؟ ا؟ غير موجود. وإن كان إلهكم موجودًا فهو لا يفعل، فهو أضعف من أن يفعل. هل المزمور هذا يمكن أن يكون حكرًا على هؤلاء الذين يرفضون ا؟؟ بل يمكن أن يكون حكمًا على الذين يعتبرون أنّهم يؤمنون. فالجميع يمكن أن تكون أعمالهم فاسدة، أعمالهم رجسة. يمكن لعدد كبير منّا أن لا يعمل الخير. مرّات عديدة، يمكننا أن نسأل في رعيّة من الرعايا، في كنيسة من الكنائس، في تجمّع من التجمّعات: مَن منكم مثلاً في زمن الضيق، في زمن الحرب، لم يتاجر بإخوته، لم يرفع الأسعار. لم يسلب، لم يسرق، لم يقتل، لم يضرّ، لم يسئ، لم يتكلّم بالسوء؟

2 - ما من أحد يعمل الخير

يقول النصّ: وما من أحدٍ يعمل الخير. كلام قاسٍ وقاسٍ جدٌّا. ونتذكّر كلام الإنجيل لمّا كان يسوع في الناصرة في بلده: لم يجد عندهم إيمانًا. لا شكَّ، الكلمة قاسية، والكلمة معمّمة. وهنا أيضاً ما من أحدٍ يعمل الخير. فسدوا، صاروا فاسدين. رجسوا، صاروا أرجاسًا بأعمالهم. أعمالهم لم تعد أعمال الربّ، لم تعد أعمال الحياة، لم تعد أعمال الطهارة والنقاوة والقداسة، صارت أعمالاً رجسة، أعمالاً فاسدة، وما من أحد يعمل الخير. هذا التعميم مزعج، مقلق. ونرجو أن لا يكون في أيّ مجتمع من مجتمعاتنا مثلُ هذا الكلام.

أن يطبّق مثل هذا الكلام على أيّ مجتمع من مجتمعاتنا حسب ما تقول الآية 2: الربّ في السماء يشرف على البشر، يرى من فوق، يرى الجميع، يرى أفكارهم وأقوالهم، أعمالهم وتصرّفاتهم وحياتهم. يشرف على البشر ليرى هل من عاقلٍ يطلب ا؟. يرى هل من حكيم يطلب ا؟. فالحكيم يذكّرنا بقول سفر الأمثال: رأس الحكمة مخافة ا؟، العاقل، الحكيم، هو من يخاف ا؟، من يطلب ا؟. أترى غاب هؤلاء، فلم يعد أحد منهم حاضرًا.

كلّهم يقولون: لا إله. الجاهل يقول لا إله. الجاهل لا يطلب ا؟. الجاهل لا يخاف ا؟. العاقل والحكيم يطلبان ا؟ فيقولان: ا؟ موجود، ا؟ حاضر، ا؟ يفعل. ويعود المرتّل إلى ما قاله في آية 1: فسدوا، رجسوا بأعمالهم، وما من أحدٍ يعمل الخير. وفي آية 3: ضلّوا كلّهم، فسدوا جميعًا، ما من أحدٍ يعمل الخير. نحسّ هنا، أحبّائي، بهذه النظرة التشاؤميّة إلى البشر، إلى أعمالهم الشرّيرة، إلى أعمالهم الفاسدة. يمكن أن ننظر إلى هذا الواقع، ولكن يجب أن نكمّله بواقع آخر.

3 - الويل ينتظرهم

يمكن أن نتوقّف عند هذه النظرة ويمكن أن ننظر نظرة أخرى، نتوقّف عند نظرة ثانية. كلّهم فاسدون، كلّهم رجسون بأعمالهم، كلّهم لا يعملون الخير، كلّهم ضالّون: هذا هو الوجه الفاسد، الوجه المتشائم في المجتمع. ولكن هناك كما قلت الوجه الآخر، هناك مَن أعماله نقيّة، مَن أعماله مقدّسة، هناك مَن يطلب الخير.

ولكنّ اللغة التي نقرأها هنا هي لغة الأنبياء الذين يهدّدون شعب ا؟ أوّلاً، ثمّ يهدّدون الشعوب الوثنيّة، ويأتي الجواب قاطعًا: هل هناك من يفعل الخير؟ هل هناك من ليست أعماله رجسة أو فاسدة؟ الجواب: كلاّ، ولا واحد. كلام قاسٍ جدٌّا، والويل لنا إن وقعنا في هذا الحكم القاسي الذي يذكّرنا بالأناجيل: »اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار المؤبّدة المحفوظة لإبليس وأعوانه«. كلام قاس. فيه التهديد كما اعتاد الأنبياء أن يفعلوا لكي يتوب الناس، لكي يعود الناس إلى ا؟.

قال ما من أحد يعمل الخير وشدّد: »كلاّ، ولا واحد«. ويعطينا فكرة عمّا يعمل هؤلاء الأشرار، الذين تناسوا ا؟ واعتبروا أنّ ا؟ لا يفعل: »ألا يفهم الذين يفعلون الإثم، ويأكلون شعبي كما يؤكل الخبز وبالربّ لا يعترفون؟«. ألا يفهمون أنّ الرعب يستولي عليهم، لأنّ ا؟ مع جيل الصدّيقين (آ 4). هنا نلاحظ دومًا مقابلة بين الأشرار والأبرار، بين القدّيسين والصدّيقين والأتقياء من جهة، وبين الذين يرفضون ا؟ ويقولون لا وجود ؟. ا؟ هو مع جيل الصدّيقين.

لكنّ الواقع هو غير ذلك كما سبق وقلنا: الشعب سنة 587 مضى إلى المنفى وهو يعمل في الأشغال الشاقّة، في الحقول، في البناء، وفي كلّ عملٍ مذلّ. اعتبر أنّ إلهه هو الإله القويّ فبدا ضعيفًا أمام إله البابليّين. لهذا قال البابليّون: أين هو إله هذا الشعب، شعب إسرائيل؟ أين هو إله الهيكل؟ في كلّ حال الهيكل دُمّر. كان الهيكل موضع حضور ا؟، كان رمز حضور ا؟. زال الهيكل، هُدم، أُحرق، فلم يكن من موضع ؟. وحالاً نستطيع القول ليس من إله. وإن وُجد فهو يطوف من مكان إلى آخر ليجد موضعًا يحلّ فيه، ليجد هيكلاً جديدًا يحلّ فيه محلّ الهيكل القديم.

4 - لا موضع بعد ؟

أجل مضى الهيكل، دُمّر الهيكل، أُحرق الهيكل، فلم يعد من شيء يدلّ على حضور ا؟. هنا نتذكّر أوّلاً النبيّ حزقيال الذي يقول: حيث شعب ا؟، هناك حضور ا؟. فهيكل ا؟، ليس الهيكل الذي من حجر. والكنيسة ليست فقط تلك المبنيّة من حجر. الهيكل الحقيقيّ، هو الهيكل المصنوع من بشر، والكنيسة الحقيقيّة هي المصنوعة من بشر. يسمّيها القدّيس بطرس، يسمّي كل واحد منّا: حجارة حيّة في بناء أساسُه يسوع المسيح.

هنا نحسّ بصرخة الإيمان عند هذا الشعب الذي يعيش الذلّ. يقول: أيّها البابليّون، أنتم جهلة، أعمالكم فاسدة، أعمالكم رجسة أيّها البابليّون أنتم لا تفعلون الخير. أيّها البابليّون أنتم ضالّون أنتم هدمتم هيكلاً على الأرض، ولكنّ هيكل الربّ هو في السماء: الربّ من السماء يشرف على البشر.

حاول بعضهم نمرود مثلاً الذي هو تحريف للإله مردوك إله بابل، أن يرسل سهامه على ا؟ ليصيب ا؟ في كبده. ولكنّ سهام البشر ضعيفة ويدهم أضعف من أن تفعل. وهو الربّ إن لم يفعل فليس لأنّه ضعيف، لكن لأنّه إله الرحمة، لا يريد موت الخاطئ سواء كان من الشعب العبرانيّ أو من الشعوب الوثنيّة. هو يريد للجميع الحياة وقد أرسل يونان إلى نينوى الخاطئة القاتلة الظالمة، يدعوها إلى التوبة.

حزقيال نفسه تنبّأ في أرض بابل: لا، ا؟ ليس بغائب، ا؟ هو حاضر في السماء، يُشرف على البشر على جميع البشر، لا يشرف على فئة دون أخرى. وهنا نتذكّر كلام الإنجيل، يرسل شمسه على الأخيار والأشرار، يرسل مطره على القدّيسين والضالّين، يرسل شمسه على الجميع، ومطره على الجميع. هو يشرف على الجميع، ليرى هل من عاقل يطلب ا؟. هل من عاقلٍ في شعبه أوّلاً، من عاقلٍ في الشعوب الوثنيّة؟

5 - بل ا؟ حاضر فاعل

فكلّ من يطلب ا؟ يجد الخلاص، كلّ من يدعو باسم الربّ يحيا، ينجو، يخلص. هذا ما قاله هوشع النبيّ. وقاله بعده بولس الرسول في الرسالة إلى روما: كلّ من يطلب ا؟، ا؟ يراه. ومقابل ذلك، كلّ من يفعل الشرّ أيضاً ا؟ يراه. ويكون حكمُه قاسيًا على الذين لا يعملون الخير: كلاّ، لا ولا واحد.

ويطرح السؤال: هؤلاء ألا يفهمون حضور ا؟ في الكون، حضور ا؟ في هؤلاء المؤمنين، الذين خسروا كلّ شيء، ومع ذلك ظلّوا واثقين با؟، متّكلين عليه؟ ألا يفهم هؤلاء أنّهم لن يستطيعوا أن يذهبوا في الإثم والظلم حتّى النهاية؟ في النهاية الرعب يستولي عليهم، في النهاية الهلاك الأبديّ يستولي عليهم. وتقول آ 6: »يستخّفون بهموم المساكين لكن الربّ هو الذي يحميهم« يحمي المساكين. وكيف؟ يُمسك بيد الأشرار والظالمين كي لا تفعل من بعد. فالربّ لا يساوي بين الظالم والمظلوم. بل يمسك يد الظالم حتّى لا تظلم الآخر، حتّى، لا تظلم الصدّيق، حتّى لا تظلم المساكين. الربّ هو الذي يحميهم.

من هناك من هيكل الربّ ما زال الخلاص آتيًا. وكيف يأتي الخلاص؟ هناك خلاص من الوجهة المادّيّة: يعود الشعب من السبي. وسوف يبني مذبحه، ويبني هيكله بعد تقريبًا خمسين سنة في المنفى. سيعود فيبني هيكله، مركز حضور ا؟ في شعبه، وحين يبني الهيكل تعود البهجة، يعود الفرح إلى الجميع، إلى الشعب الذي هو ضعيف وجعل كلّ اتّكاله على الربّ، جعل كلّ ثقته في الربّ.

هذا معنى المزمور 14: المؤمنون يعيشون وسط عالم فاسد. هذا العالم الفاسد يمكن أن يكون عالم شعب ا؟. هنا نتذكّر كلام الأنبياء وما فيه من تهديد ونداء إلى التوبة. ويمكن أن يكون هذا الفساد خارج شعب ا؟، في الشعوب الوثنيّة، عند الأشوريّين والبابليّين وغيرهم. فكما أنّ الربّ يشرف من السماء على شعبه، هو يشرف من السماء على جميع الشعوب. وكما يجازي بالخير أبناء شعبه، يجازي بالخير جميع الشعوب، وكما يعاقب أبناء شعبه يعاقب الجميع إن لم يجد من يفعل الخير.

هذا المزمور هو لنا نحن أيضاً: هل نترك العالم يجرّنا بفساده ورجسه، أم نعرف أن نعمل الخير مهما كان الذين حولنا. أجل، نعرف أنّ الربّ هو مع جيل الصدّيقين. هو الذي يحمي شعبه. إن عرفنا ذلك نستطيع أن نفرح مع الفرحين ونبتهج مع الشعب الذي انتظر خلاصه، لا من ظروفٍ مادّيّة أو عاديّة، بل من ذاك المخلّص الوحيد يسوع المسيح. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM