المزمور الحادي عشر: نحسب أنّ كلّ شيء ضاع

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA MicrosoftInternetExplorer4 /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:11.0pt; font-family:"Calibri","sans-serif"; mso-ascii-font-family:Calibri; mso-ascii-theme-font:minor-latin; mso-fareast-font-family:"Times New Roman"; mso-fareast-theme-font:minor-fareast; mso-hansi-font-family:Calibri; mso-hansi-theme-font:minor-latin; mso-bidi-font-family:Arial; mso-bidi-theme-font:minor-bidi;}

المزمور الحادي عشر

نحسب أنّ كلّ شيء ضاع

1 - صرخة الثقة

في كلّ المزامير المؤمن يصرخ، وهو يثق بالربّ ساعة يحسّ أنّ كلّ شيء ضاع. على المستوى المادّيّ، لم يبقَ له شيء. على المستوى الخلقيّ لم يعد هناك من أخلاق. على المستوى الأدبيّ والروحيّ، أين هي أورشليم؟ أين هي سلالة داود؟ أين هو الهيكل؟ أين هي الذبائح؟ كلّ شيء قد ضاع. لهذا السبب يصرخ المؤمن.

لا شكّ. هناك صعوبات شخصيّة مادّيّة، صعوبات خاصّة، ولكنّ الصعوبات الكبرى هي التي تؤلم صاحب المزامير، فتجعله يصرخ إلى الربّ، وصراخه يدلّ على أنّ الربّ سوف يتدخّل. متى؟ هذا يتعلّق بالربّ. الربّ يتدخّل وهو ينتظر ساعته لكي يتدخّل. وخصوصاً عندما يبدو الشرّ وكأنّه يحيط بالكون، يُريد أن يعيده إلى العدم كما كان الأمر في زمن الطوفان.

إذا انهدمت الأسس، إذا مات الأحياء، إذا غمرت المياه الأرض، فماذا يبقى؟ ولماذا لا يفعل الربّ؟ ولماذا ينتظر، ولماذا يتأخّر؟ أتراه البعيد؟ كلاّ. هو القريب. أتراه نائمًا؟ إلهنا لا ينعس ولا ينام. أتراه لا يرى؟ وحده الصنم لا يرى. أتراه لا يسمع؟ الوثن لا يسمع. لكن الربّ يرى، يسمع، يفعل ويتدخّل. هذا هو معنى المزمور 11.

بالربّ احتميت فكيف تقولون لي: »اهرب إلى الجبال كالعصفور. لا أريد أن أهرب أبدًا. حمايتي هي الربّ، عوني هو الربّ، ملجإي هو الربّ. نحن أمام مزمور توسّل فيه يطلب المؤمن، فيه يطلب المرتّل عون ا؟ على الأشرار، أن يقوى الأبرار على الأشرار. وهذا النشيد فيه الكثير من الثقة با؟، فيه الكثير من الاتّكال على ا؟. وإن أنشده المؤمن فلكي يعطي التعليم للحاضرين ويقدّم لهم العبرة. يقول لهم: أنتم تحاولون الاحتماء لدى الناس، فلن تجدوا لديهم الحماية. تطلبون الحماية عند الأقوياء. لن تجدوا عندهم القوّة، وعند العظماء لن تجدوا العظمة، لا حماية إلاّ عند ا؟، لا ملجأ إلاّ الهيكل.

2 - ولجوء إلى الهيكل

نذكر هنا أن من اعتُبر مخطئًا ولاحقه الناس، يستطيع أن يدخل إلى الهيكل، يتمسّك بالمذبح فيصبح في حماية ا؟ ولن تمسّه يدٌ. لكن بشرط أن لا يكون خاطئًا، مجرمًا، فيحكم عليه قضاة الشعب وشيوخ المدينة. الهيكل مكان حضور الربّ. هناك يذهب المؤمن، وهناك يجد الملجأ الذي يحميه من كلّ خطر. بالربّ احتميت فكيف تقولون لي: »اهرب للجبال كالعصفور«. أعطوه رأيًا، أعطوه نصيحة: »اهرب« إلى الجبال كالعصفور. العصفور هو هذا الحيوان الخائف. يخاف على نفسه. يهرب »إلى الجبال« هذه الجبال البعيدة. هناك تحتمي (أيّها المؤمن) بين الصخور، تبتعد عن الناس فيبتعد عنك الأشرار.

ولكنّ في كلام هذا المؤمن بسؤاله رفضًا: تقولون لي وأنا لن أسمع لكم. الجبال مهما كانت عالية، شاهقة، مرتفعة لا تستطيع أن تحميني. فلماذا الهرب إليها وما الفائدة؟ أمّا الربّ فهو سيّد الجبال وبه وحده أحتمي، بالربّ احتميت، إلى الربّ لجأت. هو حمايتي الحقيقيّة. ولماذا يجب على هذا المؤمن أن يهرب إلى الجبال؟ (آية 2).

أوّل شيء نلاحظه هو أنّ من يُرمى بالافتراء، من يُستهدف ليس بإنسان مجرم، قاتل، زانٍ. كلاّ. هو إنسان مستقيم القلب. نتذكّر هنا سفر الحكمة حيث الأشرار لا يرضون عن حياة الأبرار. حياة الأبرار تزعجهم، تشكّكهم. وهنا يريد الشرّير أن يرمي بسهامه كلّ مستقيم القلب، نتذكّر القدّيس بطرس في الرسالة الأولى: إذا أنتم حكم عليكم لأنّكم خطأة، تستحقّون. ولكن إذا اضطُهدتم لأنّكم للربّ فهنيئًا لكم. المستقيمُ القلب إن هو ظُلم على يد الأشرار، يفتخر كما يقول الإنجيل: »إذا اضطهدوكم سرّوا وافرحوا لأنّ أجركم عظيم في السماء، هكذا اضطهدوا الأنبياء الذين كانوا من قبلكم«.

3 - من وجه الأشرار

الأشرار يستعدّون للحرب، يحنون القسيّ ويسدّدون سهامهم في الظلام. تلك كانت وسائل الحرب. وما نلاحظه بشكل خاصّ كلمة »في الظلام« لا في النور. في الظلام لا يراهم أحد، لكنّ ا؟ يراهم وهو النور، في الظلام حيث الإنسان لا يعرف كيف ينجو، كيف يخلص من الشرّ. عالم الظلام هو عالم الخطيئة، هو عالم الشرّ، عالم الكيد، عالم المكر. انتبه أيّها المؤمن: الأشرار يستعدّون لكي يرموك.

»إذا انهدمت جميع الأسس، فماذا يعمل الأبرار؟«. (آية 3) هنا الأسس. أسس الحياة. أسس الأخلاق. أسس التعايش بين البشر. لا وصايا، لا فرائض، لا أحكام، لا قضاء. فماذا يعمل الأبرار؟ فَهُم سوف يُظلَمون ظلمًا، لا يستطيعون أن يردّوا على الشرّ بالشرّ كما يقول القدّيس بولس، فلهذا هم يُظلَمون ويموتون وليس من يدافع عنهم. فالبشر أضعف من أن يدافع بعضهم عن بعض، فأين يضع المؤمن ثقته وأين يضع اتّكاله؟

تجيب الآية 4: »الربّ في هيكله المقدّس، الربّ في السماء عرشه«. نتذكّر هنا أنّ الهيكل هو موضع حضور ا؟، هو رمز عن حضور ا؟. إذًا الربّ ما زال في هيكله، الربّ لم يترك هيكله، والمؤمن يستطيع أن يذهب إليه ويحتمي به، أن يشكو قضيّته إليه. »الربّ في هيكله المقدّس، الربّ في السماء عرشه«. فكما هو حاضر في الهيكل المقدّس هو حاضرٌ في السماء، عرشه فوق الأرض، عرشه فوق الغيوم، فوق المياه العلويّة. فهذا يعني قدرته، عظمته وما يستطيع أن يفعله.

4 - ويبقى الخوف

ولكنّ الخوف أن يكون الربّ مختبئًا في هيكله، أو أن يكون بعيدًا في سمائه. أتراه يهتمّ بالبشر؟ يأتي الجواب: »عيناه تُبصران بني البشر وبطرفة جفن يمتحنهم«. عيناه تبصران. إذًا الربّ هو بعيد كلّ البعد عن الأصنام، عن الأوثان التي لها عيون ولا تبصر. والربّ هو من يبصر بني البشر جميعًا. لا يبصر فقط فئة دون أخرى، ولا يختار فئة دون أخرى، لا يحابي الوجوه. تبصر عيناه جميع بني البشر.

ماذا نقول؟ عيناه؟ طرفة جفن تكفي، وبطرفة جفن يمتحنهم. يجعلهم يمرّون في النار فتظهر أعمالهم إذا كانت أعمالهم من قشّ أو تبن أو خشب فهي تحترق. وإن كانت من ذهب أو فضّة أو حجارة، فهي تتنقّى. الربّ الذي يعرف وحده الخير والشرّ، وحده يمتحن أعمال البشر ويحاسب كلّ واحد، بحسب تفكيره بحسب كلامه بحسب تصرّفاته. تكفي طرفة جفنٍ لكي يمتحنهم. هذا ما يدلّ على قدرة ا؟ وسرعة تدخّله من أجل المساكين، من أجل الفقراء من أجل الضعفاء من أجل اليتامى من أجل الأرامل.

يجعل الجميع يمرّون في المحنة، يجعل الجميع يمرّون في النار، إذًا الأشرار يحاكَمون والأبرار أيضاً. لا شكّ أنّ محنة الأشرار تقودهم إلى الهلاك، إلى العذاب الأبديّ، ومحنة الأبرار تقودهم إلى السعادة، إلى الحياة مع ا؟، إلى حياة لا تزول، الربّ يمتحن الأشرار والأبرار، يمرّ بين الأشرار والأبرار.

نتذكّر هنا إنجيل متّى 25: »يجعل الخراف عن يمينه والجداء عن شماله«. يجعل الأبرار عن يمينه، في مركز الصدارة، والأشرار عن شماله. يقول للأبرار: »تعالوا يا مباركي أبي«. وللأشرار: »ابتعدوا عني يا ملاعين إلى النار المؤبّدة المعدّة لإبليس وجنوده«. الربّ يختار، يميّز الأشرار والأبرار. لا شكّ أنّ محبّته تتوجّه إلى الأبرار. أمّا من يحبّ العنف، من يحبّ الشرّ، من يحبّ القتل، فالربّ يبغضه أي لا يحبّه أي يريد أن يبدّل له حياته.

5 - »بغض« ا؟ وعقابه

كلمة أبغض تحلّ محلّ فضَّل. هذا يعني أنّ ا؟ يفضّل الأبرار على الأشرار ولا يفضّل أبدًا من يحبّ العنف، من يحبّ الشرّ. ويعطينا الكتاب مثلاً حصل لسدوم وعامورة كما نقرأه في سفر التكوين: يمطر على الأشرار جمرًا وكبريتًا. هذا ما حدث لسدوم التي تلقّت حمم بركان عظيم. فظلّ هذا الخبر في مخيّلة الشعوب آلاف الأجيال، إلى أن جاء الكاتب الملهم، وانطلق من هذا الخبر ليدلّ على أنّ شرّ سدوم فاق كلّ شرّ، لهذا جاء عقابها يفوق كلّ عقاب كان جمرًا وكبريتًا.

نحن هنا أمام أصعب عقاب يمكن أن يحصل لمدينة من المدن أو منطقة من المناطق: الربّ يمطر على الأشرار جمرًا وكبريتًا. نتذكّر أنّه دعا لوطًا وابنتيه فخرجوا من عالم الشرّ، من الجمر والكبريت وابتعدوا عن مثل هذا الموت العنيف، غير أنّ أُناسًا رفضوا الخروج.أقلّه صهرا لوط. فضّلا النار في سدوم، على العيش في البرّيّة الفقيرة. أمّا في الإنجيل المقدّس فيقول لنا يسوع: الآب يحبّ الجميع. لا يحقّ لنا أن نبغض أحدًا. فالربّ يرسل شمسه على الأشرار والأخيار، ويمطر غيثه على الأبرار والفجّار.

المطر في المعنى الأوّل هو علامة البركة. يتقبّلها كبركة ذاك الذي يكون بارٌّا، أمّا الأشرار فتنقلب لهم الأمطار طوفانًا. لن تصبح مياه مباركة بل جمرًا وكبريتًا. كما قلنا في المزمور الثاني: العصا التي هي في الأساس أداة يقود بها الراعي قطيعه، تصبح أمام المتمرّدين عصًا من حديد، ويصبح المتمرّدون آنيةً من فخَّار. يكفي أن تسلّمهم العصا كي يحطّموا لكي يدمّروا. وهنا الربّ لم يمطر المياه التي هي أساس البركة، بل الجمر والكبريت على الأشرار، حتّى يمحي من الأرض ذكرهم (آية 6).

نحن هنا عكس البركة، أو رضى الربّ. يعبّر عنه بالمطر، يعبّر عنه بالطقس، هنا فينال الأشرار ريح السموم، يعني الجفاف التامّ، الذي يجعل الأرض مشقّقة والمزروعات يابسة وكلّ شيء بدون ثمر. أصحاب العنف هؤلاء ينالون كلّ هذا العقاب. لا نتعجّب إن سمعنا مثل هذا العقاب، الذي يبدو كلا شيء تجاه عقاب جهنّم الذي تحدّث عنه الإنجيل يوم قال الديّان للذين هم عن شماله: اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار الأبديّة المعدّة لإبليس وجنوده. يبقى في أيّ حال هذا العقاب بسيطاً تجاه عقاب جهنّم ويقول فيها يسوع: نارهم لا تطفأ، دودهم لا يموت، فيدلّ على العذاب الذي يصيب الأشرار بعد الموت في الخطايا المميتة.

إذًا الربّ لا يمطر المطر الخيّر، بل يمطر الجمر والكبريت. ولا يعطي البرودة التي أرادها له يوم كان يتمشّى في الفردوس. بل يعطي روح الجفاف روح القحط الذي يمنع كلّ حياة على الأرض.

وينتهي المزمور بفعل إيمان: الربّ عادل ويحبّ العدل، والمستقيمون يبصرون وجهه. نتذكّر آية 2 والكلام عن كلّ مستقيم القلب. الأشرار يلاحقون المستقيم القلب، والمستقيمون يبصرون وجه ا؟، لأنّه الإله العادل ويحبّ العدل. نحسب أنّ كلّ شيء ضاع، نحسب أنّ لا أمل في الحياة فلا يبقى لنا سوى الهرب. ولكن كلاّ. ا؟ هو في هيكله المقدّس، هو كلّيّ القدرة. ا؟ يشرف على الكون، ا؟ يشرف حتّى على الطوفان. الربّ يمتحن الأشرار والأبرار، وكلّهم بين يديه. يبقى على المؤمن أن لا يطلب حماية إلاّ من الربّ، أن لا يجعل ثقته إلاّ في الربّ، وأن لا يتّكل إلاّ على الربّ الجالس في هيكله المقدّس.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM