المزمور التاسع
الربّ ملجأ للمساكين والمقهورين
1 - نشيد الفرح رغم الشدّة
الربّ ملجأ للمساكين والمقهورين. في الواقع المسكين وحده يرفع نظره إلى الربّ، الفقير وحده يقول: أنا بحاجة لمساعدة الربّ، أمّا الغنيّ فيحاول أن يستغني عن الربّ ويعتبر أنّ عنده ما يكفيه. لا حاجة له إلى أن يسأل. والمقتدرون أيضاً، العظماء، لا يحتاجون إلى من يساعدهم. أمّا المقهورون فَهُم يحتاجون إلى المساعدة. وعندما يَرَوْن أنّ الناس يتركونهم وحدهم، يحتقرونهم لضعفهم، حينئذٍ يلجأون إلى الربّ.
وهنا نقرأ المزمور 9: »أحمدك يا ربّ...«. هذا المزمور يُنْشِدّْ أحكام ا؟ العادلة. وهذا الحكم عادل لأنّه يحفظ حقّ البائس والمسكين. العدالة لا تعني أنا أعامل الجميع بعضهم مثل بعض، إذا كان هناك من ظالم أو مظلوم يجب أن أنزع الظلم. إذا كان هناك من قويّ يدوس الضعيف، يجب أن أبعد القويّ. لهذا فعدالةُ ا؟ تهتمّ أوّل ما تهتمّ بالبائس، بالمسكين، بالمقهور، بالغريب، بالضعيف، بالمريض.
والجمال في هذا المزمور، هو أنّ صاحبه يتألّم فيلجأ إلى الربّ. يلاحقه الضيق. ربّما التهديد. لا يشتكي، بل يبدأ فيقول: أحمدك وأفرح بك. أبتهج بك، أرتّل لاسمك. منذ البداية هذا المزمور يدلّ على الفرح، الفرح هو هنا، لأنّ المؤمن يستند إلى الربّ ولا يستند إلى البشر. وبما أنّه يعرف أنّ الربّ هو القدير، الربّ هو الحنون أنّ الربّ هو الذي يرحم، يستطيع أن يفرح، وأن يبتهج وأن يرتّل ويقول منذ البداية: أحمدك يا ربّ من كلّ قلبي«. لا ننسَ. القلب هو مركز الإرادة والعاطفة والفكر. كأنّه يقول: يا ربّ أحمدك بكل شخصيّتي، بجسمي، بعقلي، بنفسي، بقلبي، بكلّيّتي. أنا أحمدك بكلّيّتي. أنشد أعمالك العظيمة.
2 - فعجائب ا؟ كثيرة
ويكمّل: »أحدّث بجميع عجائبك«. عجائب الربّ كثيرة وما أعظم المؤمن الذي يعرف أن يحدّث بعجائب الربّ! مرّات عديدة في حياتنا تحصل أشياء. حتّى الصغيرة في حياتنا، لماذا لا نكتشف فيها يد الربّ، لماذا لا نخبر بما عمله الربّ من أجلنا، لماذا لا نحمده ونشكره، فشكرنا يدلّ على علاقتنا الحميمة مع الربّ. »أفرح وأبتهج بك، وأرتّل لاسمك أيّها العليّ«. الفرح والبهجة علامة المؤمن ولو كان في الصعوبات ولو كان في الحزن ولو كان في الموت. أفرح وأبتهج بك، وأرتّل لاسمك. الاسم يدلّ على الشخص. عندما نقول باسم الآب والابن والروح القدس، كأنّنا نقول ونتحدّث عن أقنوم الآب وأقنوم الابن وأقنوم الروح القدس.
الاسم يدلّ على الشخص. وعندما نرسم إشارة الصليب نستحضر الآب والابن والروح القدس، وأرتّل لاسمك أيّها العليّ. إنّ ا؟ في العلاء، في السماء. هو الرفيع، هو العظيم، هو الذي لا يتصرّف كما يتصرّف البشر، هو لا ينتقم، لا يغضب وإن قلنا أحيانًا أنّه ينتقم. هو في الواقع يعاقب وإن عاقب فهو يؤدّب، كما يؤدّب الأب ابنه.
آية 4: »عندما ينهزم أعدائي«. لأنّي أنا ضعيف، مسكين، لأنّي أنا مقهور عادَوْني لضعفي، مع ذلك، هم يسقطون ويبيدون، لا بقوّتي، لا بقدرتي، لا بيدي ولا بسيفي: »أنت تدينني بالإنصاف، وعلى عرشك تقضي بالعدل«. اتّكالي عليك يا ربّ، أنت الديّان العادل، وتعرف من هو الظالم ومن هو المظلوم، تدين بالإنصاف، والإنصاف يحتاج إليه الضعيف. فالقويّ لا يحتاج إلى من ينصفه. هو ينصف نفسه بنفسه. »لأنّك تدين بالإنصاف وعلى عرشك تدين بالعدل«. أنت الملك، والملك هو القاضي في الوقت عينه. وهو يكون عادلاً عندما يقضي في الناس.
3 - في عالم لا يعرف العدل
وإذا كان المرتّل يصلّي من أعماق قلبه طالبًا العدل، فلأنّ الموضع الذي يقيم فيه لا يعرف العدل ولا يعرف الإنصاف. وفي أيّ حال ستبقى العدالة هدفًا بعيدًا بالنسبة إلى البشر. كذلك الإنصاف. لا عادل إلاّ ا؟ ولا منصف إلاّ ا؟، أمّا البشر والقضاة منهم، فيؤخذون بما يسمعون وبما يظنّون وبما يُفرض عليهم أن يفعلوا.
»انتهرتَ الأمم وأهلكتَ الأشرار ومحوتَ اسمهم إلى آخر الدهر«. هنا الأمم الوثنيّة التي تريد أن تحارب المؤمنين. وأهلكت الأشرار، أبعدتهم عن الأبرار »ومحوت اسمهم إلى آخر الدهر«. تلك هي طلبة المؤمن، ذاك هو تمنّي المؤمن: أن يزول الشرّ من العالم، أن يُمحى حتّى اسم الشرّ في العالم فلا يبقى إلاّ الخير والبرّ. الذي يريده الربّ هو: »خراب الأعداء تمّ إلى الأبد، وانهارت مدنهم وطواهم النسيان« (آية 7). نلاحظ أنّ الأمور انتهت. الأشرار هلكوا، اسمهم امَّحى، الأعداء خربوا والمدن انهارت. لكن في الواقع ليس كذلك أبدًا، الأشرار ما زالوا حاضرين والأعداء هم هنا ومدنهم رفيعة عالية.
هنا نتذكّر الإنجيل. مع القمح هناك الزؤان. ومع الأبرار هناك الأشرار، وتجاه المؤمنين هناك الأمم الوثنيّة التي تتعلّق بالأصنام، وتجاه الأحبّاء هناك الأعداء. ولكنّ المؤمن يثق كلّ الثقة بانتصار الربّ في النهاية. هو يقول: »أهلكت الأشرار«. إنّ العمل قد تمّ. وفي الواقع لم يتمّ بعد. لكنّه واثق كلّ الثقة أنّ الربّ لن يرضى عن الأشرار بأن يملكوا إلى الأبد، (آية 8): »الربّ يجلس إلى الأبد، وللقضاء ثبّت عرشه ليقضي للعالم بالعدل ويدين الأمم بالاستقامة«. نلاحظ كم مرّة العدل، الاستقامة، الإنصاف، القضاء، الدينونة. والكلمة المهمّة هنا: »للقضاء ثبّت عرشه« عرش الربّ ثابت. هو يقضي ولا يخاف أحدًا. لا يخاف من القويّ إن هو حكم عليه. ونحن هنا بعيدون كلّ البعد عن عالم البشر.
4 - نتّكل على ا؟
ويتابع النصّ (آية 10): »الربّ ملجأ المقهورين، ملجأهم في زمن الضيق. على الربّ يتّكل من يعرف اسمه، وهو لا يهمل الذين يطلبونه«. كم مهمّ في ضيقنا أن نبكي أمام ا؟ لا أمام البشر، أن نتّكل على ا؟ ونحن نعرف على من نتّكل. ولا ننسَ أنّه لا يُهملنا إذا طلبنا منه أو إذا طلبناه. »رتّلوا للربّ الساكن في صهيون، حدّثوا الشعوب بأعماله« (آ 12). هنا نلتقي مع الآية 2: أحمدك يا ربّ أُحدِّثُ بجميع عجائبك. والمرنّم يدعو الناس: تعالوا رتّلوا. ماذا يفعل هذا الإله؟ ينتقم ممّن يسفك الدماء. هو لا يريد القتل، وقد قال في الوصايا، لا تقتل. ويذكر صراخ المساكين. هم يصرخون والربّ يسمعهم، تلك كانت خبرة الشعب العبرانيّ في مصر، صرخ فسمع الربّ له. وسيقول أشعيا: إذا صرخ المصريّون فالربّ أيضاً يسمع لهم.
وبما أنّ المؤمن ضعيف، مظلوم، مقهور، يطلق صلاته: »تحنّن يا ربّ وانظر إلى شقائي على أيدي الذين يبغضونني« تحنّن، تنازل، ارئف يا ربّ، أبعدْني عن أبواب الموت لأهلّل في أبواب أورشليم. نلاحظ هنا هذا التلاعب على الكلام: أبواب الموت يعني المرض، المرض المستعصي الذي يصل به إلى الموت، إذا متّ أنا لا أستطيع أن آتي إلى أورشليم إلى الحجّ لا أستطيع أن آتي وأنشد أمجادك في أبواب أورشليم فيعرف الجميع ما تصنعه من أجل المساكين والوضعاء، أبعدني عن أبواب الموت فأهلّل في أبواب أورشليم وأخبر مبتهجًا بخلاصك.
5 - في وجه الأشرار
ويتابع فيدلّ على الأشرار: حفروا حفرة وقعوا فيها، جعلوا شركًا فعلقت أرجلهم بهذا الشرك، أرادوا الشرّ فإذا الشرّ يسقط عليهم (آية 17). الربّ يُعرَفُ بعدالة أحكامه والشرّير يعلق بعمل يديه«. الربّ هو الإله العادل الربّ هو الذي يحكم بالإنصاف. وإذا كان الربّ من غير هذه الصفات، فهو لم يعد الربّ بل صار صنمًا. عندما نجعل من الناس أربابًا وحكّامًا علينا وآلهة نعبدها، نبتعد عن الإله الحقيقيّ الذي يُعْرف بعدالة أحكامه.
الأشرار يرجعون إلى عالم الموت ومع الأشرار »كلّ أمّة تنسى ا؟«. هنا نلاحظ أنّ الأشرار يرجعون إلى عالم الموت. هم رفضوا الحياة التي يقدّمها الربّ. والأمّة التي تنسى ا؟، التي لا تذكره، وتعتبره غير موجود، لا يمكن أن تكون معه في سعادة. هذا لا يعني أنّ ا؟ يبتعد عنها. إنّها هي التي تبتعد عنه، تبقى في الخارج، خارج الوليمة. تبقى في الظلمة بعيدًا عن النور. لهذا تكون آخرتها الموت. »البائسون لا يُنسَون إلى الأبد (لا ينساهم ا؟) ورجاء المساكين لا يخيب«.
تلك كانت خبرة المؤمن. فهتف في آ 20: »قمْ يا ربّ فلا يتجبّر الإنسان، ودَع الأمم تحتكم إليك«. عندما يقوم الربّ ويطلق صوته، لن يكون هناك من إنسان جبّار، الإنسان هو ضعيف ذاهب إلى الموت، ويُبتلى بالأمراض. عندما يقوم الربّ يعرف الإنسان ما هو موقعه وما هو حجمه. والأمم التي تريد أن تسيء إلى المؤمنين ستأتي في النهاية وتجعلك أيّها الربّ حاكمًا عليها. كيف يكون ذلك؟ املأ قلوبهم بالخوف يا ربّ ليعرفوا بأنّهم بشر. المخافة هي علامة المؤمن الحقيقيّ. ومن يعرف مخافة الربّ يعلم أنّه بشر أنّه ليس بإله. أنّه لا يُسمح له أن يقول ما يشاء، أن يتصرّف كما يشاء، أن يفتخر بقدرته وعظمته وماله. هو بشر مثل سائر البشر. هو يموت كما يموت سائر البشر.
ونحن الذين نؤمن بالقيامة، نعرف أنّ الربّ يجازي كلّ واحد حسب أعماله. يا ليتنا نذكر الربّ ولا ننساه. يا ليتنا ننشد للربّ ولا نتوقّف، فنخبر بأعماله ونتحدّث بعجائبه.