المزمور الثامن : مجد الله وكرامة الإنسان

 

المزمور الثامن

مجد الله وكرامة الإنسان

1- نشيد في عيد المظالّ

أحبّائي، نتابع قراءة المزامير ونقرأ اليوم المزمور 8: مجد ا؟ وكرامة الإنسان. هذا المزمور يختلف عن المزامير التي سبقته. هو ليس مزمور توسّلِ مريض يتألّم، أو شخص يُظلم أو يحكم عليه، كلاّ. هذا المؤمن، هذا المرتّلُ همّه أن ينشد، ينشد عظمة ا؟ الذي خلق الكون وجعل على رأسه الإنسان. هذا المزمور هو لإمام المغنّين، لكبير المغنّين. وهو نشيد القطاف أي يُنشد في عيد المظالّ، في الخريف عندما تُقطف الغلال. ويمكن أن يكون هذا النشيد قد أتى من أرض الفلسطيّين من »جت« التي هي مدينة فلسطيّة، مع آلة موسيقيّة خاصّة تشبه القيثارة. إذًا هذا المزمور يمكن أن يكون وُلد خارج جماعة أورشليم، قد يكون ولد خارج شعب إسرائيل ودخل المزامير. فكتاب المزامير لا يحمل أبدًا صلاة شعب واحدٍ من الشعوب، بل يحمل صلاة جميع الشعوب. في الماضي، هذا العالم الشرقيّ صلّى ودخلت صلواته في المزامير، وفي كتب أخرى وهذه الصلوات سوف تمتدّ حتّى نهاية العالم. إذًا نقرأ المزمور 8: أيّها الربّ سيّدنا... ما أعظم اسمك في كلّ الأرض.

أحبّائي، منذ القراءة الأولى نلاحظ اللازمة، القرار. ما قلناه في البداية، نقوله في النهاية. أيّها الربّ سيّدنا ما أعظم اسمك في كلّ الأرض. هذا في البداية. وفي النهاية نقول الشيء عينه: أيّها الربّ ما أعظم اسمك في كلّ الأرض. ولا ننسَ شيئًا مهمٌّا جدٌّا: إنّ الاسم يدلّ على الشخص. يعني ما أعظمك أيّها الربّ في كلّ الأرض، لا في أرض محدّدة، لا في الهيكل فقط، لا في موضع من المواضع. ولكن في كلّ الأرض، اسمك عظيم، اسمك قدير.

2 - نشيد حمد

هذا المزمور كما قلت هو مزمور حمد، هو مزمور مديح إلى الربّ الخالق. عاد الكاتب إلى سفر التكوين الفصل الأوّل، الفصل الثاني، في البدء خلق ا؟ السموات والأرض، خلق الكواكب والنجوم، خلق الحيوان وأخيرًا خلق الإنسان. إذًا هنا يستعيد الكاتبُ الملهم، المرتّلُ، هذا المصلّي، يستعيد سفر التكوين في الفصل الأوّل فيُطلق صرخة إعجاب إلى ا؟ الذي فعل ما فعل. وخصوصاً إلى ا؟ الذي اختار الإنسان وأعطاه مكانة رفيعة. فجعله وكيلاً على الخليقة باسمه.

نتذكّر في سفر التكوين 2 كيف أنّ آدم أعطى كلّ حيوان اسمه، يعني هو السيّد عليه. هو المسيطر عليه. وهنا في آية 6: نقّصته عن الملائكة. في الأصل نقّصته عن الإله، جعلته تقريبًا مساويًا لك. كما أنت يا ربّ ممجّد ومكرّم، جعلت الإنسان ممجّدًا ومكرّمًا. فما أعظمك ياالله ؟ حين رفعت الإنسان إلى حيث رفعته. مع أنّه تراب مع أنّه ضعيف، مع أنّه ملتصق بالأرض، مع أنّه يخونك. رفعتَه، رفعتَه جدٌّا، كلّلتَه بالمجد والكرامة، نقصتَه عن الإله قليلاً. وهنا نفهم، وهذا ما نعود عليه، أنّ الربّ يختار الضعفاء ليُخزي الأقوياء. يختار الذين ليسوا بشيء ليخزيَ المعتدّين بنفوسهم.

هناك السماء وعظمتها وهناك الأرض، ومع ذلك الأرض وما فيها تنشد للربّ نشيدًا لا تنشده السماوات. ما أعظم اسمك في كلّ الأرض. هي تغنّي جلالك في السماوات... إذًا الأرض بضعفها تنشد نشيدًا لا تنشده السماوات. ثمّ الضعفاء، الأطفال، الرضّع، ينشدون نشيدًا أعظم من نشيد الكبار، الحكماء، العظماء.

تقول الآية 3: أفواه الأطفال والرضّع تغنّي جلالك في السماوات. هنا نتذكّر الربّ يسوع عندما قال: أخفيت هذه عن الحكماء وأظهرتها للأطفال. وهذه الآية بالذات سيعود إليها الربّ في يوم الشعانين لمّا طُلب منه أن يُسكت هؤلاء الأطفال الذين ينشدون له في دخوله إلى أورشليم. الأرض الضعيفة تنشد أحسن من السماوات، الأطفال والرضّع ينشدون أفضل من الكبار والعظماء. وأخيرًا الإنسان الذي هو الضعيف، أضعف الخلائق، هو سيّد الكون، وهو يحمل إلى ا؟ مديح الكون، هو الذي يمجّد باسم الكون.

3 - الطبيعة جوقة بقيادة الإنسان

أيّها الربّ سيّدنا ما أعظم اسمك في كلّ الأرض. تغنّي جلالك السماوات، أفواه الأطفال والرضّع. ويتابع النصّ حتّى يصل إلى الإنسان. الطبيعة كلّها تمجّد ا؟، كلّ الأرض. ويذكر السماوات والقمر والنجوم. ثمّ الغنم، البقر، بهائم البرّ، طير السماء، سمك البحر وكلّ ما يسير في سبل المياه. الطبيعة كلّها هي جوقة، قائدها الإنسان الذي هو قريب من الله. نقّصته عن الملائكة أيّها الإله.

وكيف يرى المؤمن السماوات؟ نعرف نحن في الصيف، في الليالي الصافية، ينظر المرتّل إلى السماء بهدوئها، جمالها، نظامها، الكواكب كلّ كوكب محلّه. يقول العلماء إذا تحرّك كوكب بسيط تكون هناك فوضى كبيرة ويعود الكون إلى العدم. كلّ كوكب هو في موضعه، كلّ نجمة هي في موضعها، هذا النظام، هذا الجمال.

لكن المؤسف أنّ الإنسان في العهد القديم وحتّى اليوم يعبد القمر، يعبد النجوم، يعبد الأبراج والأفلاك. وينسى أنّ هدوء عالم السماء من ا؟، جمال عالم السماء من ا؟، نظام عالم السماء من ا؟. ا؟ هو الذي صنع هذه السماء وكلّ ما فيها من القمر والنجوم والشمس وغيرها. هذه الخليقة تريد أن تتمرّد على ا؟، العالم يريد أن يرفض ا؟. مهما كانت الخطيئة، خطيئة الإنسان، التي جرّت الكون كلّه إلى الفساد، فالربّ أقوى من هذا العالم.

هنا يقول له المرنّم: »تعزّزتَ أو صنعتَ حصنًا لك في وجه خصومك، وأخرست العدوّ والمنتقم«. الطبيعة كلّها لا تقدر شيئًا تجاه ا؟، هو خلقها وهو يسيطر عليها. نتذكّر هنا الطوفان وعظمته، الربّ هدّأه. ويحدّثنا مثلاً أيّوب عن لوياثان وبهيموت اللذين يمثّلان الشرّ في البحر والشرّ في الأرض. يلعب الربّ بهما كما يلعب الولد بلعبته. هذه القوى تريد أن تعارض ا؟ لأنّها مؤلّهة. ومن ألّهها؟ الإنسان.

4 - هي تخضع ؟

هذه القوى التي تريد أن تعارض ا؟ لا يمكنها أن تفعل شيئًا. »وأخرستَ العدوّ والمنتقم«. يعني هؤلاء الذين يعتبرون أنّ الشمس هي إله تجاهك أيّها الإله الحقيقيّ، والقمر هو إله، والكواكب هي آلهة. هؤلاء يجب أن يسكتوا إلى الأبد. وكم نحتاج اليوم ونحن نتعلّق بما تقوله الكواكب والأفلاك والنجوم والأبراج أن نعود إلى الربّ، الربّ الذي اسمه عظيم في كلّ الأرض، الذي يهتمّ بالإنسان، بكلّ إنسان ولاسيّما بالضعيف، بالفقير، بالغريب، بالمهمّش، بالمعاق. هو يهتمّ بالإنسان بشكل عامّ، ويهتمّ بكلّ إنسان بشكل خاصّ. يهتمّ بي وبكلّ الذين يسمعونني الآن، يهتمّ بنا كلّنا.

في أيّ حال، الربّ لا يحتاج إلى حصن يحمي به نفسه، يكفي أن يقول كلمة فتسكت الخليقة كلّها. نتذكّر هنا العاصفة، الرياح تضرب السفينة والموج يكاد أن يبتلعها في إنجيل مرقس فصل 4. وقف يسوع: اخرس، اسكت، فكان سكوت عظيم. هكذا يفعل الربّ بالخليقة كلّها، وهذه الخليقة صنعها بأصابعه كما يصنع الفخّاريّ جرّته أو آنية من أوانيه.

أرى السماوات صنع أصابعك والقمر والنجوم التي كوّنتها. هنا يقابل الكاتب بين عظمة السماوات مع القمر والنجوم. ويقابلها بالإنسان. هو صغير جدٌّا يكاد لا يرى. ما هو الإنسان تجاه الشمس؟ ما هو الإنسان تجاه الأفلاك؟ هل يستحقّ أن تذكره، أن تنتبه إليه، أن تتفقّده. من هو هذا الإنسان؟ ولكنّ الكاتب يعلن أنّ هذا الإنسان هو قريب من الملائكة، هذا الإنسان هو قريب من ا؟. يحمل المجد والكرامة اللذين يحملهما ا؟.

ويذكر سائر خلائق الأرض وما عليها، كما قلت: الغنم، البقر والبهائم، الطيور، الأسماك. كلّ هذا يجب أن يشارك الإنسان في المديح وفي المجد. هذا الإنسان الذي لا يكاد يُرى، يجعل الخليقة كلّها تنشد أناشيد الربّ. هنا نتذكّر مزمور 19: السماوات تنطق بمجد ا؟ والفلك يخبر بأعمال يديه. إذا كانت السماء تتكلّم عن ا؟، إذا كانت الشمس تذيع عظائم ا؟. فماذا لا يفعل الإنسان وهو الذي أعطيَ النطق، أعطي أن ينشد، أعطي أن يمجّد ا؟ الذي خلق كلّ شيء.

5 - الربّ وحده الإله

إذًا ما من شيء إلاّ وصار تحت سلطانه. والذين يتحدّثون عن وجود آلهة في السماء يخطئون، والذين يتحدّثون عن وجود آلهة على الأرض يخطئون، أو آلهة في الماء يخطئون. ولكن اليوم ما زلنا نؤلّه الأشخاص، نؤلّه الفئات، وهذا علامة على أنّنا تركنا خلاصاً يحمله الربّ، وتعلّقنا بخلاص يحمله إنسان لا يستطيع أن يخلّص نفسه. ا؟ عظيم لأنّه خلق السماوات، ا؟ عظيم لأنّه خلق القمر والنجوم، ا؟ عظيم لأنّه خلق البهائم.

لكنّه عظيم بصورة خاصّة لأنّه خلق الإنسان، لأنّه اختار الإنسان، لأنّه نظر إلى الإنسان نظرة خاصّة مع أنّه مصنوع من تراب الأرض. ونتذكّر السفر الأوّل من سفر التكوين. كلّ مرّة يخلق ا؟ شيئًا، يقول الكتاب: ورأى ا؟ أنّ ذلك حسن. ورأى ا؟ أنّ ذلك جميل. ولكن لمّا خلق الإنسان قال: ورأى ا؟ أنّ ذلك حسن جدٌّا. يعني هو كمال الحسن، كمال الجمال. فكمال العظمة نجده في الإنسان. الإنسان هو محدود في الكون ولكن عندما يمجّد ا؟ يصبح بلا حدود، يصبح نشيده أبعد من كلّ حدود.

وهنا نتذكّر أنّ الذي يجعل الإنسان عظيمًا هو ا؟ نفس. يسمّيه أحد الفلاسفة: قصبة مرضوضة، قصبة ضعيفة. ولكن هذه القصبة تحمل الفكر تحمل القلب، تحمل الروح، تحمل الكلام، تحمل النفس، هذا الإنسان صار فوق جميع الخلائق، صار قريبًا من الإله.

6 - يجعل كلّ إنسان كبيرًا

وأعيد وأكرّر. ليس فقط الإنسان بشكل عامّ، الإنسان بشكل مجرّد، لكن الإنسان المحدّد. أنتَ كبير في نظر الربّ، أنتِ كبيرة في نظر الربّ. أنت مجيد، أنتِ مجيدة، أنتَ كريم، أنتِ كريمة في نظر الربّ. كان يقول في يسوع الإنجيل: كلّ ولد، كلّ طفل، ملائكته في السماء يرون وجه ا؟. فإذًا كلّ واحد منّا كريم، كلّ واحد منّا عظيم. والأشخاص الذين يتعلّقون بتواضع كاذب. أنا مين؟ أنا تعيس، أنا ضعيف، هؤلاء لم يفهموا شيئًا من الكتاب المقدّس، من كلام ا؟.

نقّصته عن الإله قليلاً. نحن أقرباء من ا؟ أكثر ممّا نحن أقرباء من الأرض، من الحيوان ومن النبات شرط أن نبقى على المستوى الذي جعلنا فيه ا؟. وهنا نفهم عظمة القدّيسين، رفعهم ا؟ فظلّوا مرفوعين. لم ينزلوا، لم ينحطّوا بالخطيئة، بالحقد بالبغض وغيرهم. لبثوا كبارًا، لبثوا فوق هذا العالم. لهذا السبب بقي القدّيس فرنسيس الأسّيزيّ يكلّم الطبيعة حقٌّا كأنّه سيّدها، يدعوها أن تشاركه في تمجيد ا؟ وفي تسبيحه. هذا الإنسان، يُقال عنه هنا: »بالمجد والكرامة كلّلته«.

نتذكّر في الكتاب المقدّس ما هو المجد. ا؟ وحده هو مجيد والكرامة خاصّة با؟. أمّا هنا فأعطاها المؤمن للإنسان لأنّه جعل الإنسان قريبًا من ا؟. هذا المزمور الذي هو مزمور المديح، الذي قدّم لنا مديح الأرض ترفعه إلى السماوات، الذي قدّم مديح الأطفال أمام الكبار، أمام الفرّيسيّين الذين رفضوا يسوع المسيح حين دخل إلى أورشليم. هذا المديح، مديح الإنسان الذي يفرض نفسه على الكون كلّه. هذا المديح كما قلت ردّده يسوع المسيح لمّا دخل إلى أورشليم، وقال للذين يرفضون نشيد الأطفال بأفواه الأطفال والرضّع: هيّأت لك نشيدًا يا ربّ.

ودخول يسوع على رأس الأطفال والرضّع، على رأس الضعفاء، على رأس الذين ليسوا شيئًا، يدلّ حقٌّا على عظمة ا؟ الذي صار صغيرًا، طفلاً بين أطفالنا. يقول مار بولس أخلى ذاته واتّخذ صورة العبد ومات فوق الصليب فرفعه ا؟. هذا الإنسان في الواقع هو عظيم لأنّه مخلوق على صورة ا؟، وهو عظيم خصوصاً لأنّ هذه الصورة وجدت كمالها في يسوع المسيح. ما الإنسان حتّى تذكره. إن كان الإنسان هو صورة يسوع المسيح على الأرض، حقٌّا نقول وأنت يا ربّ نقصته عن الإله قليلاً، وبالمجد والكرامة كلّلته. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM