المزمور الثالث
يا ربّ، ما أكثر خصومي
أحبّائي، نتابع قراءة المزامير. بعد المزمور الأوّل والكلام عن السعادة الحقيقيّة، هنيئًا لنا إن عشنا بحسب الشريعة، نكون كشجرة مغروسة على مجاري المياه تعطي الثمر الذي يريده الربّ. والمزمور الثاني، الربّ ومسيحه، ضجّت الأمم، هذَّت الشعوب، ثار الملوك، ولكن في النهاية لا ملك إلاّ يسوع المسيح. هو الابن خصوصًا. في وقت العماد قال له الآب: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك. يبقى على المؤمنين أن يكونوا وراء هذا الملك، وراء هذا الراعي الذي يقودهم إلى المراعي الخصبة، وإلاّ يصبح القضيب الذي في يده من حديد. ويصبح الغنم كإناء من خزف يتحطّم بسرعة. وننتقل إلى المزمور الثالث وعنوانه: الأعداء يحيطون به، أو يا ربّ، ما أكثر خصومي. مزمور لداود عند فراره من وجه أبشالوم ابنه.
يا ربّ ما أكثر خصومي، ما أكثر القائمين عليّ... من عندك يا ربّ الخلاص، وعلى شعبك بركتك.
1 - من يشتكي
هذا المزمور، أحبّائي، هو مزمور توسّل، ينشده البارّ. البارّ هو العائش بحسب وصايا ا؟، بحسب مشيئة ا؟. إذًا ليس بخاطئ، ليس بمجرم يستحقّ مثل هذا العقاب. هنا نتذكّر ما قاله القدّيس بطرس في رسالته الأولى: »إن كنتم تضطَهدون، إن كنتم تعاقَبون على شرّ، فأنتم تستحقّون. ولكن إن كنتم تعاقبون ولستم بأشرار فهنيئًا لكم، أنتم تشبهون يسوع المسيح«. ففي النهاية هذا المزمور ينطبق على يسوع المسيح الذي اضطُهد مع أنّه لم يكن خاطئًا، لم يكن شرّ في فمه، تُرِك، تركَه الجميع حتّى أحسّ أنّ أباه السماويّ تركه فقال له: »إلهي، إلهي لماذا تركتني«. حاصره الأعداء من كلّ جهة، ولكنّه اعتبر أنّ الربّ هو بجانبه: أنت يا ربّ ترسٌ لي، تكرّمني وترفع رأسي.
في معنًى أوّل، هذا المزمور ينطبق على كلّ إنسان يعيش حالة من الضيق، وهذا الضيق قد يكون منظورًا أو غير منظور. منظورًا من شخص يشتكي عليه في المحكمة، يضايقه لأنّه جاره. ويكون العدوّ غير منظور، خصوصًا أمام التجربة، أمام الصعوبات الداخليّة التي تجعل من حياة الإنسان جحيمًا أو من عائلته جحيمًا. ولكن جُعل في بداية المزمور عبارة مأخوذة من كتاب صموئيل الثاني. مزمور لداود عند فراره من وجه أبشالوم ابنه. هنا نذكّركم أنّ أبشالوم ابن داود ثار على أبيه وأراد أن يكون ملكًا، وهجم على أورشليم فأُجبر داود على أن يترك العاصمة، أن يترك أورشليم ويمضي. إذًا هذا المزمور طُبّق بشكل خاصّ على داود الذي فرّ من وجه أبشالوم واعتبر نفسه بريئًا، وأنّ ابنه أبشالوم يتعدّى عليه.
2 - الربّ تِرسٌ
أردنا أن نشرح هذه الحاشية. ونجد أمام بعض المزامير مثل هذه الحواشي التي ليست من صلب المزمور ولكنّها تعطيه إطاره، إطاره الحياتيّ الذي يساعدنا على فهمه. ونستطيع نحن اليوم أن نؤوّن هذا المزمور، أن نقرأه وكأنّه كُتب الآن. أنا أصبح داود، أنتَ داود، أنتِ داود، كلّ واحد منّا يمكن أن يكون داود. كلّ واحد منّا يعيش حالة من الضيق، يمكنه أن يتلو هذا المزمور. فيعلن ثقته با؟. والعظمة بالمزامير. أحبّائي، إنّ هذه الثقة كبيرة جدٌّا. هذه الثقة قويّة بحيث يعتبر هذا المصلّي، هذا المتألّم، هذا المتضايق، يعتبر نفسه كأنّه حصل على ما يريد.
والكلمة الأساسيّة هي الربّ تِرسٌ لي. نرى في الأفلام التِرس، هو ما يغطّي المحارب، يمنع عنه سيف الأعداء، رمح الأعداء، سهام الأعداء . يحميه. هذا التِرس الذي كان من نعل، ثمّ من حديد أو نحاس، ومع ذلك يحمي الإنسان. اليوم يقولون في الحرب، هناك الدرع على صدر الإنسان. يحميه. ولكن كلّ تِرس يبقى فيه ضعفه. فالإنسان يمكن أن يموت إذا أُصيب في موضع لا يغطّيه الترس.
أمّا إذا كان الربّ هو الترس فلا يمكن أن تصل إليه سهام الأعداء. يكون الأعداء كثيرين. ما أكثر الخصوم، ما أكثر القائمين، كثيرون يقولون لي. يمكن أن يكون الأعداء كثيرين، هذا لا يهمّ، الربّ نوري وخلاصي فمِمَّن أخاف؟ الربّ حصنُ حياتي فمِمَّن أفزع؟ كما يقول المزمور في موضع آخر.
ونبدأ، أحبّائي، بقراءة المزمور آية آية: »يا ربّ ما أكثر خصومي. ما أكثر القائمين عليّ، كثيرون يقولون لي«. أوّل ما نلاحظ هو الكثرة. أنا وحدي وهم كثيرون. ونلاحظ خصومًا، الخصم، خصمي، عدوّي، من يقف تجاهي، من ينتظرني حتّى أسقط أو يريد أن يُسقطني عن جوادي. القائمين عليّ، الثائرين عليّ. ولماذا أرادوا أن يخاصموني؟ لماذا أرادوا أن يقاوموني؟ لأنّهم اعتبروا أنّ الربّ بعيد، أو إذا كان قريبًا فهو لا يفعل.
يقولون لي: بإلهك لا خلاص لك، يعني لا يستطيع الربّ أن يخلّصك. فهو صنم من الأصنام أو هو بعيد لا يقدر أن يخلّصك أو هو لا يريد أن يخلّصك. وهكذا جعلوا اليأس والقنوط، انتزعوا الشجاعة من قلب هذا المؤمن. بإلهك لا خلاص لك، أنت أضعف من أن تقف في وجهنا. وإن اتّكلت على إلهك فالربّ لن يخلّصك.
3 - لا خلاص إلاّ با؟
نتذكّر أنّ مثل هذا الكلام قيل على صليب المسيح. قال الأعداء: فليخلّصه الربّ إن كان راضيًا عنه. أصعب شيء، أصعب محنة يمكن أن نعيشها حين نعتبر أنّ ا؟ ما عاد يحبّنا، أنّ ا؟ ما عاد يهتمّ بنا، أنَّ ا؟ لا يهمّه خلاصنا. هي تجربة شيطانيّة في قلب كلّ واحد منّا. وكم يجب أن ننتبه إليها ونفهم مهما كانت الظروف، مهما كانت الصعوبات. في النهاية، الربّ هو إله الخلاص، ولا ننسَ اسم يسوع المسيح: الربّ يخلِّص. كثيرون يقولون لي: بإلهك لا خلاص لك.
أتُرى تراجع المؤمن؟ كلاّ. أتُرى خاف المؤمن؟ كلاّ. أتُرى يئس، أحسّ بالإحباط؟ كلاّ. ثمّ كلاّ. فهتف في آية 4: وأنت يا ربّ ترسٌ لي: الربّ هو ترسٌ لي. حالاً توجّه إلى الربّ. نتذكّر هنا الخطيئة الأولى لمّا تطلّعت المرأة إلى الحيّة وسمعت صوت الحيّة وانتظرت كلام الحيّة. أمّا هنا، فالمؤمن تطلّع إلى الربّ. فهو لم يتطلّع إلى الخصوم وإلى القائمين والثائرين. لو تطلّع إليهم لكان يئس، لكان خاف.
ولكنّه تطلّع إلى الربّ، نظر إلى الربّ، وجّه كلامه إلى الربّ وقال له: أنت يا ربّ ترسٌ لي، أنت تحميني. تكرّمني وترفع رأسي. تكرّمني. إذًا الإكرام من عندك. وعندما يكرَّم الضيف يصبح في حماية من يكرّمه. وترفع رأسي. الذليل، المقهور، المهزوم يحني رأسه ولا يريد أن ينظر ولا يريد أن يرى. أمّا المؤمن الذي يعرف أنّ إلهه هو إله الخلاص، فهو يرفع رأسه، فهو يتقوّى، فهو يجد النصرة من عند الربّ. تكرّمني وترفع رأسي.
بصوتي إلى الربّ أصرخ، فينجّيني من جبله المقدّس. تطلّعَ إلى الربّ الذي هو ستر له (آية 5) وأخبر خصومه. أخبر القائمين عليه: أنا أصرخ إلى الربّ فيجيبني من جبله المقدّس. الجبل المقدّس هو أورشليم مركز حضور الربّ. وكما قلنا :الربّ بعيد عن الأصنام. لها عيون ولا ترى، لها آذان ولا تسمع، لها يد ولا تفعل. أمّا الربّ فهو من يسمع، فهو من يرى، فهو من يفعل. بصوتي إلى الربّ أصرخ. هو لم يصرخ إلى أصدقائه،لأنّهم لا يستطيعون شيئًا. لم يصرخ إلى أقربائه، إلى عظيم من العظماء، كلاّ. أرسل صراخه مباشرة إلى الربّ.
4 - لهذا نصرخ إليه
ونتذكّر الشعب العبرانيّ لمّا كان في مصر. يقول النصّ: صرخ إلى الربّ، فسمع الربّ صراخه. وهنا المؤمن: بصوتي إلى الربّ أصرخ. نلاحظ هنا هذا الصراخ الذي يتوجّه فقط إلى الربّ، الذي لا ينتظر خلاصًا إلاّ من الربّ، لا ينتظر معونة إلاّ من ا؟. وكأنّه يقول: يكفي أن أصرخ حتّى يجيبني. الابن يصرخ، أتُرى أبوه لا يردّ عليه؟ الابن ينادي أفلا يجيبه أبوه؟ مستحيل. يقول في الإنجيل: إذا كنتم أنتم الأشرار فما أحرى أبوكم الذي في السماوات.
الربّ هو الذي يسمع، يكفي أن نناديه، يكفي أن نصرخ إليه فيجيبنا من جبله المقدّس، من أقدس موضع هناك. يجيبنا يعني يفعل، حضوره عمل، حضوره قوّة، حضوره عون في الشدّة والضيق. في ضيقي، بصوتي إلى الربّ أصرخ، فيجيبني من جبله المقدّس. وهنا يذهب كلّ خوف. لا مجال بعد الآن إلى الخوف. أستند إلى الربّ، أحتمي بالربّ، فلا موضع للخوف، بسلام أستلقي وأنام. عندما يكون الأعداء حولنا هل نستلقي؟ هل ننام؟ كلاّ. عندما يحيط بنا الأعداء، هل هناك من سلام؟ كلاّ، بل هناك حرب تهيّأ.
أمّا المؤمن الذي هو في حمى الربّ، في هيكله المقدّس، فهو يستلقي وينام ملء عينيه لأنّه في سلام في حضرة الربّ. أستلقي وأنام طوال الليل، ثمّ أفيق. يعني: أنهض من نومي، يعني: لم أمت في الليل، ما زلت على قيد الحياة. لو لم يكن هناك سلام لكنت متّ في ذلك الليل. ولكنّي أفيق كطفل نائم في حضن أمّه أو أبيه. وفي الصباح، نهض، استفاق من نومه وكأنّ شيئًا لم يحدث طوال الليل. في سلام أستلقي وأنام، ثمّ أستفيق، لا بقوّتي، لا بزندي، لا بذراعي، بل لأنّ الربّ سندي، هو حاضر، هو يحرسني كما يقول المزمور: حارسك لم ينَمْ، أنت يمكنك أن تنام ولا تخاف.
5 - ولا نخاف
ويتابع النصّ: »لا أخاف من عشرات الألوف، من ربوات وربوات من هؤلاء الذين يحاصرونني«. يمكن أن ننظر إلى الهيكل، إلى أورشليم يحيط بها الأعداء، يحاصرونها. ولكنّ الربّ هو الذي يحميها. يمكن أن ننظر إلى بلد من البلدان وفيه ما فيه من الصعوبات. لا أخاف من عشرات الألوف، من هؤلاء الذين يحاصرونني. المؤمن لا يخاف لأنّه يستند إلى أقوى الأقوياء، إلى ملك الملوك، إلى ربّ الأرباب، إلى الذي يقول ويفعل ما يقول.
في سلام استلقي وأنام ثمّ أفيق لأنّ الربّ سندي لا أخاف من عشرات الآلاف، من هؤلاء الذين يحاصرونني. نلاحظ هنا هذه الثقة القويّة عند المؤمن، لا شيء يخيفه، لا شيء يرعبه. فهو متأكّد من الخلاص الذي يحمله الربّ له. ونلاحظ هنا أنّ المرتّل لا يطلب شرٌّا لهؤلاء. لا يريد لهم أن يموتوا. كلاّ ثمّ كلاّ. بل أن يُقتل فيهم ما يمكن أن يحمل شرٌّا إلى الآخرين.
»فكّ الأسنان« (آية 8): »قُم يا ربّ، خلّصني يا إلهي، اضرب أعدائي على الفكّ«، هشّم الأسنان التي يمكن أن تحمل الضرر. الفكّ الذي يمكن أن يحمل الضرر إلى الآخرين. هشّم أسنان الأشرار. لا تسمح لهم أن يستعملوا بعدُ هذا السلاح ضدّي أو ضدّ الأبرار الذين يعيشون لك. قُم يا ربّ، الربّ هو دائمًا ذلك القائم، ذلك الحاضر. ونحن نقول له »قُم« حتّى نستعيد الرجاء. إذا كنّا خسرنا بعض الرجاء. قُم يا ربّ، خلّصني يا إلهي. بصوتي إلى الربّ أصرخ في آ 5. هو متأكّد من الخلاص الذي يحمله الربّ.
بهذا ينتهي المزمور، بهذا الكلام: من عندك يا ربّ الخلاص، لا من عند البشر، لا من عند العظماء، فالذين يعتصمون بالبشر لا ينالون شيئًا. فالاعتصام بالربّ خير من الاعتصام بالبشر، خير من الاعتصام بالعظماء. لا خلاص من عند البشر. الخلاص يأتي من الربّ، وكلّ خلاص غير هذا الخلاص، إنّما هو خلاص مزيّف. إنّما هو مخدّر. نحسب نفوسنا بألف خير ونحن في الواقع نعيش كالنعامة ورأسنا تحت الرمل. من عندك يا ربّ الخلاص، وحدك أنت تعطي الخلاص الحقيقيّ، خلاص من الذات، خلاص من كلّ شرّ، خلاص من أشخاص يكيدون لي المكائد.
»وعلى شعبك بركتك«. ما أحصل عليه أنا يحصل عليه شعبي. والبركة هي نعم الربّ. هي خيرات الربّ. النعم، البركة هي كلّ خير يريده الربّ لنا. من عندك يا ربّ الخلاص، وعلى شعبك بركتك. أجل المؤمن لا ينتظر خلاصًا إلاّ من الربّ، ولا ينتظر بركة إلاّ من عنده تعالى.
هذا، أحبّائي، هو معنى المزمور الذي يمكن أن نصلّيه ونردّد كلماته، ونعلن ثقتنا بالربّ الحاضر. بالربّ الفاعل. وكم يريد المؤمن أن يرى الأعداء ما يفعله الربّ، لئلاّ يعيدوا الكرّة ويهاجموه أو يهاجموا غيره. كم يريد هذا المؤمن أن يرى ا؟ وحده ينتزع السلاح. السلاح هو الفكّ، هو الأسنان، من يمكن له أن ينتزع هذا السلاح. السلاح هو الفكّ، هو الأسنان، ما يمكن أن يضرّ الآخرين. ويمكن أن يكون السمّ وغيره من الشرّ. هذا المؤمن ينتظر الخلاص من الربّ. من عندك يا ربّ الخلاص، لا أنتظر خلاصًا إلاّ منك، ولا أنتظر بركة لي ولشعبي إلاّ من عندك. آمين.