المزمور الثاني :الملك الذي مسحه الربّ

 

المزمور الثاني

الملك الذي مسحه الربّ

أحبّائي، نتابع قراءة المزامير. بعد المزمور الأوّل، المزمور التعليميّ الذي يفتح لنا طريقين: طريق الأبرار وطريق الأشرار. هو يعلّمنا ويطلب منّا أن نختار طريق الربّ أو طريق الشرّ. بعد المزمور الأوّل، المزمور الثاني. المزمور الثاني عنوانه: الملك الذي مسحه الربّ أو الملك الذي هو مسيح الربّ. ويبدأ بهذه الآية القويّة:

لماذا تضجّ الأمم (الأمم الوثنيّة)؟ الأمم التي ترفض شريعة الربّ على مثال ما نعرف في إنجيل يوحنّا: إنّ يسوع جاء إلى العالم ولكنّ العالم لم يقبله. وقبل أن نتوقّف عند غنى هذا المزمور الثاني نقرأه: الملك الذي مسحه الربّ.

لماذا تضجّ الأمم وتلهج الشعوب بالباطل؟... لئلاّ يغضب فتهلكوا سريعًا، هنيئًا لجميع المحتمين به.

1 - مسحة بالزيت

إذًا، أحبّائي، قرأنا المزمور 2. هذا المزمور يتحدّث عن الملك الذي اختاره الربّ ومسحه بالزيت المقدّس. في الماضي وحتّى اليوم يبقى صوت الشعب هو صوت ا؟. وعندما يختار الشعب ملكًا من الملوك، رئيسًا من الرؤساء فكأنّ الربّ اختاره، وكانوا يدلّون على هذا الاختيار بأن يأتي الكاهن ويمسح الملك بالزيت المقدّس، كما يُمسحَ الكهنة اليوم. في الماضي، في مملكة يهوذا ومملكة إسرائيل، كان الملوك يُمسحون بالزيت. وكذلك في ممالك مصر وأدوم وعمّون وأوغاريت وسائر الممالك. وهذه المسحة من قبل الكاهن تدلّ على أنّ الربّ هو الذي يمسحه. وعندما يمسحه الربّ يصبح كأنّه له.

لا شكّ، نقطة الانطلاق في هذا المزمور، مسحة أحد الملوك، داود، سليمان، حزقيال، لكنّ الكاتب لا يهتمّ بهذا الملك أو ذاك. الكاتب يتطلّع إلى الملك الآتي، إلى الملك الذي ينتظره الشعب. فالشعب تعب من ملوك، طُلب منهم أن يجعلوا العدالة، فإذا الظلم. طُلب منهم أن يُحلّوا السلام فهيّأوا الحرب. طُلب منهم أن يهتمّوا بالضعيف، بالفقير، باليتيم، بالأرملة، فإذا هم يهتمّون بالأغنياء والعظماء والكبار، وينسون الصغار. لهذا السبب حين أنشد المؤمنون هذا المزمور نسوا هذا الملك أو ذاك، وتطلّعوا إلى ملك يرسله الربّ. فالربّ وعد بأنّه سيرسل ملكًا من عنده. وهذا الوعد سيبقى وعدًا في العهد القديم ولن يصير حقيقة إلاّ في يسوع المسيح الذي جاء يبشّر بملكوت ا؟. وهو سيقول أمام بيلاطس: »نعم أنا ملك، وجئت لأشهد للحقّ، فمن كان من الحقّ يسمع صوتي«. ولكن مثل هذا الملك ترفضه ملوك الأرض. هذا الملك يوبّخ بسلوكه، بحياته، بتصرّفاته، سائرَ الملوك.

هنا نتذكّر سفر حزقيال فصل 34 حين يتحدّث عن الرعاة، الرعاة يعني الملوك. ويبيّن كيف أنّ هؤلاء الرعاة يرعون نفوسهم ولا يرعون الرعيّة ولا يرعون الغنم. حينئذٍ يقول الربّ: »أنا سأكون الراعي«. وفي هذا المزمور هناك انتظار للراعي الحقيقيّ للملك الحقيقيّ الذي يقول له الربّ: »أنتَ ابني وأنا اليوم ولدتك«.

وهذا ما حدث بالفعل عند عماد يسوع في نهر الأردنّ، قال الربّ: »أنت ابني الحبيب بك سررت«.

2 - ثورة باطلة

ونعود، أحبّائي، إلى شرح المزمور في آياته. في آية 1 - 3 نرى ثورة العالم الوثنيّ على ا؟ والملك المسيحيّ. نقرأ: »لماذا تضجّ الأمم وتلهج الشعوب بالباطل؟«. ضجّ: ضجّته، لكنّها لا تفعل شيئًا. كمن يقول تمخّض الجبل فولد فأرًا. هي ضجّة وتبقى ضجّة فلا تفعل أبدًا، »ويلهج الشعوب بالباطل«، الباطل يعني الشيء الذي لا نفع منه، الشيء الذي لا يقود إلى هدف. هو المرنّم يقول لهم منذ البداية، مهما فعلتم لا تنفعوا شيئًا. اتعبوا، ضجّوا، صيحوا، اصرخوا، سيروا في مظاهرات، لن تفعلوا شيئًا.

ويتابع النصّ في آية 2: »ملوك الأرض يثورون، وحكّامها يتآمرون معًا على الربّ«. هذه الصورة واضحة في برج بابل. في برج بابل اجتمع الناس فتآمروا معًا على الربّ، أرادوا أن يبنوا برجًا يصل إلى السماء، ومن هناك يهاجموا الربّ، كما يهاجم ملكٌ مدينة ويقف قرب أسوارها. حكّام الأرض يتآمرون معًا على الربّ وعلى الملك المسيح، أو الملك الذي مسحه الربّ.

نلاحظ الأمم، الشعوب، الملوك، الحكّام. هم الأقوياء، هم عظماء في هذا العالم. ولكنّ سفر الرؤيا سيقول لنا إنّ هؤلاء سيخافون ويطلبون من الجبال أن تنزل عليهم وتخفيهم من وجه ا؟ ومن وجه الحمل. يضجّون، يثورون، يتآمرون، ولكنّ كلّ أعمالهم لا فائدة منها.

يقولون: تعالوا نقطع قيودهما ونطرح نيرهما عنّا. ما معنى هذا الكلام؟ تحالفت قوى الشرّ. ما هي القيود؟ هي الوصايا، الوصايا التي تقيّد أعمال الملوك، تقيّد أعمال العظماء. مثلاً اعتبر داود أنّه يحقّ له أن يأخذ امرأة أحد قوّاده »أوريّا«. أخذها، زنى معها. ولمّا أراد أن يتزوّجها قتل زوجها بكلّ بساطة. واعتبر أنّ ما فعله هو أمر عاديّ. ولكن الربّ أرسل إليه النبيّ »ناتان« ووبخّه على خطيئته.

ونقول الشيء عينه عن »آخاب« الذي أراد أرض نابوت، نابوت هو شخص له أرض بقرب قصر الملك. أراد الملك أن يوسّع ساحاته، ولمّا رفض نابوت أن يبيع أرض أجداده، جاء شهود الزور وقالوا إنّ نابوت جدّف على ا؟ والملك. وهكذا رُجم نابوت وأُخذت أرضه. ولكن جاء إيليّا، اعتبر داود واعتبر آخاب، ويعتبر الكثير من عظمائنا أنّ وصايا ا؟، أنّ كلمة ا؟ هي قيد يقيّدهم، لذلك يريدون أن يحطّموا هذه القيود ويطرحوا نيرهما عنّا.

و»النير«، لم نعد نعرفه اليوم، لكن في الماضي، في الفلاحة، يوضع النير على رقبة البقرة بحيث يصبح خطّها مستقيمًا. ولكن عندما تطرح النير، فكأنّها ترفض أن تسير كما يوجّهها الفلاّح. من هنا يسوع سيقول لنا: »حملي طيّب ونيري خفيف«. النير والقيود تدلّ على وصايا ا؟. كلّ هذه الثورة هي على الربّ وعلى مسيحه، يعني على الوصايا، على شريعة الربّ. ماذا تكون ردّة الفعل عند الربّ؟ أتراه يخاف كما يقول سفر التكوين من نمرود الذي أمسك قوسه، وأطلق سهمه نحو السماوات. الساكن في السماوات يضحك. الربّ يستهزئ بهم مثل رجل قويّ، مثل قائد جبّار. لا شكّ، الصورةُ تضعف من عظمة ا؟. ولكنّها تبيّن أنّ مشاريع البشر لاغية، لا قيمة لها.

3 - الربّ اختار ملكه

الربّ وحده هو الذي يُجهض المشاريع. ولا يكتفي الربّ بأن يبتسم، بأن يضحك من هذه المشاريع التي تسقط وحدها من إشارة منه، بدون تعب، بل هو يؤنّبهم في غضبه وفي غيظه يؤدّبهم. غضب الربّ يعني رفضه لمشاريع البشر وما فيها من شرّ. وعندما يغضب الربّ، عندما يغتاظ، عندما يرفض، فالرعب يسيطر على الإنسان. هم ما استطاعوا أن يقتلوا الربّ، فهاجموا الملك مسيحه، هاجموا الملك الذي مسحه الربّ. اعتبروا أنّ الربّ مسحه وتركه يدبِّر أمره بأمره.

لكنّ الربّ بيّن أنّه متضامن مع ملكه. ومن مسّ الملك يكون كأنّه مسّ ا؟. في آية 6 يقول: »أنا مسحتُ ملكي على صهيون جبلي المقدّس«. الربّ يتكلّم وكلمة الربّ تفعل، كلمة الربّ ليست تحرّكات هواء وحسب، بل هي تفعل. قال للنور: كن، فكان النور. أنا مسحت ملكي. إذًا صار هو الملك، والويل لمن يمدّ يده عليه. مسحتُ بالزيت المقدّس. وقبل المسحة كان الاختيار. أنا اخترتُه، فمن يعارض اختياري، فمن يقف بوجه مشيئة ا؟.

أنا مسحت ملكي على صهيون جبلي المقدّس. صهيون هي التلّة المقدّسة في أورشليم. هي الجبل المقدّس. لماذا هذه التلّة المقدّسة، والجبل المقدّس؟ لأنّ عليها بُني الهيكل، والهيكل هو رمز حضور ا؟ في وسط شعبه. أنا مسحت ملكي، أنا أقمت ملكي على صهيون جبلي المقدّس. يعني هو في حمايتي، هو في هيكلي. في الماضي عندما يهرب الإنسان فيدخل إلى الهيكل، يصبح في حمى الربّ، كالغريب الذي يحميه عظيم من العظماء أو ملك من الملوك. وإذا كان هذا الملك يقيم في صهيون، يقيم في الجبل المقدّس، يقيم في الهيكل، فمن يتجرّأ ويقترب منه. فالربّ هو الذي يحميه. أنا مسحتُ ملكي على جبلي المقدّس. أنا هو، كما قال لموسى، أنا الحاضر وأنا الذي أفعل. قال الربّ أنا هو. إنَّه بعيد كلّ البعد عن الأصنام التي لا تستطيع أن تفعل شيئًا. أنا مسحت ملكي على صهيون جبلي المقدّس وأنا أحميه. فإذا كان الناس يرتعبون من الربّ، فهم سيرتعبون أيضًا من الملك الذي اختاره الربّ. هنا يحسّ هذا الملك بالقوّة من عند ا؟. فيهتف ما قيل له يوم تُوّج ملكًا.

4 - صار له ابنًا

آية 7: »دعوني، أنا الملك، أخبر بما قضى به الربّ. قال لي أنت ابني وأنا اليوم ولدتك«. كلّ ملك حين يتوّج، حين يُمسح بالزيت، كان يعتبر أنّه صار ابن ا؟. »أنا اليوم ولدتك«. كأنّه وُلد من جديد، من أجل رسالة جديدة. كلّ إنسان. يولد، حتّى الحيوان يولد، ولكن يوم يتسلّم الإنسان رسالة فكأنّه وُلد من جديد.

هنا نتذكّر المعموديّة. في المعموديّة أنا، أنتَ، أنتِ، كلّ واحد منّا يولد من جديد على ما قاله يسوع، يولد من فوق. والكاهن يوم يصير كاهنًا، فكأنّه ولد من جديد. وكذا نقول على الرجل والمرأة، حين يتزوّجان كأنّهما وُلدا من جديد. الراهب عندما يفعل نذوراته، كأنّه وُلد من جديد، الراهبة كذلك. هناك ولادة جديدة بالنسبة إلى كلّ واحد منّا، يوم نعطى رسالة ونتسلّم مهمّة من المهمّات. والملك الذي كان ابن فلان وفلانة، يوم يصبح ملكًا، يوم يُمسح بالزيت المقدّس، يوم يُسمع اختيار ا؟ له، يعرف أنّه صار ابن ا؟، أنّه وُلد من جديد. ويتابع المرنّم: »اطلب فأعطيك ميراث الأمم وأقاصي الأرض ملكًا لك«.

لا شكّ، هذا الكلام يطبّق على ابن ا؟ الذي هو يسوع المسيح. يسوع المسيح هو ملك على الأمم كلّها، ومُلكه يصل إلى أقاصي الأرض. هذا الملك هو الراعي (آ 9) ترعاهم بقضيب. لكن نلاحظ هنا أنّ الراعي تسير معه خرافه وهو يقودها إلى المراعي. ولكن في حالة الرفض يتحوّل القضيب من خشب إلى حديد، ويصبح الرافضون، هؤلاء الملوك، هؤلاء الحكّام، هؤلاء الأمم، يصبحون كإناء من خزف. وعندما يصل إليهم هذا القضيب من حديد، يتحطّمون كما يتحطّم كلّ إناء من خزف، يصبحون كلا شيء. هؤلاء الذين اعتبروا نفوسهم أقوياء، يضجّون، يلهجون، يثورون، يتآمرون، يستعدّون لأن يقطعوا كلّ قيد، صاروا كإناء من خزف. هم أضعف من الضعف، فكيف يتجرّأون بعد اليوم أن يقفوا في وجه الربّ، وأن يقفوا في وجه الملك مسيحه. عندئذٍ يأتي المرتّل صاحب المزامير ويدعو الملوك.

5 - نداء إلى ملوك الأرض

هؤلاء الذين ثاروا، ملوك الأرض يثورون. يدعو المرنّم الحكّام، هؤلاء الذين تآمروا على الربّ، ويقول لهم: يا أيّها الملوك تعقّلوا، ارجعوا إلى عقولكم، افهموا واتّعظوا، خذوا عبرة ممّا سبق. ملوك كثيرون قبلكم، حكّام كثيرون قبلكم، حاولوا أن يثوروا على الربّ، وعلى الملك المسيح، فراحوا إلى التراب، راحوا إلى الموت. فكأنّهم ما كانوا. هم كالعشب الذي ييبس، وكالزهرة التي تذبل. يا أيّها الملوك عودوا إلى عقلكم، يا حكّام الأرض اسمعوا العظة، اسمعوا المشورة، اسمعوا الكلمة الطيّبة، عودوا إلى قلوبكم، افهموا.

آية 11: »اعبدوا الربّ بخوف«. إذا عودوا إلى المخافة، مخافة الربّ، وقبّلوا قدميه بدعة.

هكذا كان يفعل الملوك الصغار أمام الملوك الكبار. يسجدون أمامهم ويقبّلون أقدامهم وهم مرتعدون وهم خائفون. رفض هؤلاء الملوك، رفض هؤلاء الحكّام. فقول الربّ يؤنّبهم في غضب، وفي غيظه يرعبهم. وها هو المرتّل يدعوهم الآن كي تحرّكهم الرعدة، المخافة. قبّلوا قدميه برعدة. هو أرفع، هو في أعلى الأعالي، وأنتم في أسفل الأسافل. من أنتم بالنسبة إليه؟ قبّلوا قدميه برعدة، استرضوه، استغفروا منه لئلاّ يغضب فتهلكوا سريعًا.

وينتهي المزمور بهذه الكلمة الرائعة التي بدأت في المزمور الأوّل: »هنيئًا، هنيئًا لجميع المحتمين به«. من احتمى بالربّ، من اعتصم بالربّ هنيئًا له. والمزمور الأوّل: من لا يسلك في مشورة الأشرار هنيئًا له.

هذا، أحبّائي، هو معنى المزمور الرائع الذي ننشده مرّات عديدة: »لماذا ارتجّت الأمم وهذَّت الشعوب بالباطل«. كلّ هؤلاء الأمم، كلّ هؤلاء الحكّام لا يقفون أمام الربّ وأمام مسيحه. العصا التي في يده تصبح من حديد وهم أضعف من الضعف. يصبحون كإناء من خزف. يبقى أن نعود إلى مخافة الربّ، أن نتّعظ، أن نتّكل، أن نحتمي بالربّ، عندئذٍ هنيئًا لنا. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM