المزمور الأول : السعادة الحقيقيّة

المزمور الأول

السعادة الحقيقيّة

أحبّائي، من بعد حلقات عديدة عن سفر الخروج، نبدأ منذ اليوم قراءة سفر المزامير. المزامير من «زمر» بالسريانيّ يعني رتّل، أنشد. ومن هنا الآلة التي ترافق الإنشاد، المزمار. لأنّ المزامير كانت تُنشَد وترافقها الآلات الموسيقيّة. المزامير عمليٌّا هي صلاة الشعوب القديمة كلّها. سواء كانت في مصر أو في العراق أو في لبنان أو في سوريا. ما يسمّى الفنيقيّين، الآشوريّين، السومريّين البابليّين... اجتمعت كلّها حول عبادة الله؟ الواحد فيما يسمّى الكتاب المقدّس في العهد القديم. اسمها بالعبريّة تهليل التهاليل، نهلّل، نعبّر عن فرحنا، نعبّر عن دهشتنا أمام ا؟، كلّ مرّة نقول كلمة عن هذه المزامير. واليوم نبدأ بقراءة المزمور الأوّل: عنوانه السعادة الحقيقيّة. هناك سعادة مزيّفة وهناك سعادة حقيقيّة. السعادة المزيّفة عندما نحسّ ببعض البسط والكيف في حلقات أو مناسبات. أمّا السعادة فهي أعمق من كلّ هذا. وهي تكون سعادة حقيقيّة حين ترتبط با؟. ونبدأ فنقرأ المزمور الأوّل:

هنيئًا لمن لا يسلك في مشورة الأشرار... أمّا طريق الاشرار فتبيد.

إذًا قرأنا المزمور الأوّل وعنوانه السعادة الحقيقيّة.

1 - مزمور تعليميّ

هذا المزمور هو مزمور تعليميّ. معلّم مع طلاّبه، مع تلاميذه، يعتبر أنّ وحي ا؟ هو ينبوع نعمة للمؤمنين. هذا المزمور يكون بشكل مقدّمة: لكلّ المزامير. ماذا يريد أن يقول لنا؟ يقول لنا: البارّ ينجح في طريقه والمنافق يفشل ويسير إلى الهلاك.

من هو البارّ أوّلاً؟ البارّ هو الذي يعيش بحسب وصايا ا؟. البارّ هو الذي يتبع مشيئة ا؟. وحين نقول البارّ ينجح، نتحدّث عن النجاح الحقيقيّ. هناك نجاح ونجاح. هناك نجاح بشريّ على مستوى المال والعظمة وإلى ما ذلك. والنجاح الحقيقيّ الذي يمنح السعادة الحقيقيّة. تجاه البار هناك المنافق، هناك الشرّير الذي يفشل، وفي النهاية تسير حياته إلى الهلاك. هذا المزمور مقسوم قسمين. واضح جدٌّا.

نبدأ أوّلاً من آية 1 إلى آية 3 نرى كيف يكون البارّ؟ كيف يعيش البارّ؟ ماذا يكون مصيره؟ وهنا يكون تشبيه جميل جدٌّا: الشجرة. هناك فرق كبير بين الشجرة الخضراء التي تدلّ على البارّ، والشجرة اليابسة التي تدلّ على المنافق، على الشرّير. ويبدأ المزمور هنيئًا، طوبى له، هنيئًا لمن لا يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخاطئين لا يقف، وفي مجلس المستهزئين لا يجلس.

عندنا ثلاثة أعمال يقوم بها الإنسان. إمّا أن يمشي على الطريق (يسلك). إمّا أن يكون واقفًا لا يتحرّك، وإمّا أن يكون جالسًا مرتاحًا. بهذه الكلمات الثلاث سلك، وقف، جلس، لخّص صاحب المزامير كلّ حياة الإنسان. ولا ننسَ أنّ هذه الكلمات الخارجيّة سلك، مشى، وقف، قام، جلس، قعد، هذه الكلمات لها معنًى محسوس، ملموس: إنسان واقف أو جالس. ولكن لها معنًى روحيّ. فسلك يمكن أن أمشي من هنا إلى القرية الفلانيّة أو البلد الفلانيّ. ولكن هناك سلوك الحياة. الحياة تشبّه بطريق ونحن نمشي فيها ونحن نسلك فيها.

2 - هنيئًا

إذا انتبهنا: »هنيئًا لمن لا يسلك«، هنا عندنا نفي، تهرّب، تجنّب، نحن لا نريد أن نمشي، لا نريد أن نسلك في مشورة الأشرار، أو إذا أردنا في طريق الأشرار. الأشرار يفعلون الشرّ، إذًا هم الذين يفكّرون في الشرّ وينفّذون. وهنا هذه الكلمة »مشورة« مهمّة جدٌّا. من نستشير، ممّن نطلب نصيحة؟ هل نطلب نصيحة من الأبرار الذين يعيشون بحسب وصايا الربّ وبحسب مشيئة الربّ، أم نطلب المشورة من الأشرار؟ ويتابع المزمور: »وفي طريق الخاطئين لا يقف«. إن هو، هذا البارّ، هذا المؤمن، وقف في طريق الخاطئين، فكأنّه ينتظرهم لينطلق معهم في طريقهم. الخاطئون، الخاطئ هو الذي لا يعرف الهدف الذي لأجله خُلق، لا يعرف هدف حياته. الخاطئون يسيرون، أمّا البارّ فلا يقف لينتظرهم في طريقهم، بل يحيد عن هذه الطريق. ويتابع المزمور: »في مجلس المستهزئين لا يجلس«. المستهزئون هم الذين يسخرون من الناس. على من يضحكون؟ يضحكون على البارّ. على الضعيف. على الفقير. على اليتيم. على الأرملة.

هم المتكبّرون، ينظرون إلى الناس من فوق. وهنا المستهزئ هو عكس صاحب الرحمة، صاحب الحنان، الذي يعرف أن يشفق على الآخرين. لكنّ البارّ هو ذلك الذي لا يجلس في مجلس المستهزئين. لا يجلس: أيضًا نفي.

3 - شريعة الربّ

نلاحظ في هذه الآية الأولى من المزمور الأوّل كيف أنّ بداية حياتنا، بداية مسيرتنا مع الربّ، تبدأ بالتجرّد، برفض أمور تعوّدنا عليها. في الماضي، كنّا نسلك في مشورة الأشرار، كنّا نقف في طريق الخاطئين، كنّا نجلس في مجلس المستهزئين. هنا نتذكّر بولس الرسول: في الماضي كنتم كذلك أمّا اليوم كلاّ. في الماضي كنتم الإنسان العتيق. أمّا اليوم فأنتم الإنسان الجديد. من بعد هذا الموقف الرافض للأشرار والخاطئين والمستهزئين،

يتابع المزمور في آية 2: »بل في شريعة الربّ مسرّته وبها يلهجُ نهارًا وليلاً«. في شريعة الربّ مسرّته، وصايا الربّ، أحكام الربّ ما يفرضه الربّ، ما يطلبه الربّ، تلك هي مسرّته. هو يسرّ في ذلك. إذًا لا يسرّ في الخطيئة، لا يسرّ في الشرّ، بل يسرّ في شريعة الربّ. سعادته أن يعيش بحسب هذه الشريعة التي كان أساسها الوصايا العشر. وبها يلهج نهارًا وليلاً، لا يتوقّف عن تلاوتها. وعندنا أيضًا كلمة جميلة: الهذيذ. تبدأ الصلاة بالشفاه، ثمّ يخفّ الصوت شيئًا فشيئًا، إلى أن يتوقّف اللسان عن الصلاة، يتوقَّف الصوت وتصبح الصلاة خافتة، صامتة. البارّ الذي يطلب السعادة الحقيقيّة هو الذي يرفض شيئًا ويأخذ بشيء آخر. في شريعة الربّ مسرّته بها. يلهج نهارًا وليلاً. نردّدها، نتذكّر هنا كلام الربّ يسوع: »صلّوا ولا تملّوا«. وإن صمت اللسان، وإن صمتت الشفاه، يبقى القلب، هو من يصلّي.

3 - البارّ شجرة على الماء

هكذا قالت عروس نشيد الأناشيد: »أنا نائمة ولكنّ قلبي مستيقظ«. ساعتها يكون نومنا صلاة، كما قال القدّيس بولس: »إن أكلتم أو شربتم أو مهما عملتم فليكن ذلك لمجد ا؟«. فليكن كأنّه صلاة ؟. هذا الرجل الذي يسرّ في شريعة الربّ يعطينا المزمور عنه، صورة الشجرة المغروسة على مجاري المياه. في بلدان كفلسطين صحراويّة لا ماء كثيرًا فيها، بل تنتظر المطر، نفهم أهمّيّة الماء. ولكنّ هذا الماء ليس ماءً عابرًا، أتينا بدلو ماء وسقينا الشجرة، سوف تعطش بعد وقت قليل. أمّا هنا فالشجرة مغروسة على مجاري المياه. يعني الماء تجري بصورة دائمة، فلا يمكن أن ينالها عطش. ونحن نعرف أنّ الشجرة المغروسة على مجاري المياه لا يمكن أن تيبس، لا يمكن أن تموت. ولا ننسَ أنّ المسيح سمّى نفسه المياه، الماء. مع السامريّة قال لها: »لو كنت تعرفين عطيّة ا؟«. أنت تطلبين الماء بواسطة الدلو، بواسطة الحبل، لكن يسوع هو الماء. »من يشرب من هذا الماء يعطش. أمّا من يشرب من هذا الماء الذي أعطيه فلا يعطش إلى الأبد«.

ويقول المسيح: »أنا هو الماء. لا بل من يأتي إليّ يصبح هو ينبوع ماء«. كما أنّ يسوع هو النور ونحن نور نشعل سراجنا من نوره، كذلك يسوع هو ينبوع ماء، ونحن حين نتّصل به، يصبح كلّ واحدٍ منّا ينبوع ماء، يخرج من قلبه نهر ماء للحياة الأبديّة. مثل هذه الشجرة على مجاري المياه، الشجرة الحيّة، الشجرة المخضرّة، تعطي ثمرها في أوانه. ما قيمة شجرة لا تعطي ثمرًا؟ ما قيمة حياة لا تثمر؟ حينئذٍ يجب أن تُقطع. ويتابع المزمور: »تعطي ثمرها في أوانه، وورقها لا يذبل«. هناك أشجار تذبل أوراقها في الخريف، تصبح معرّاة في الشتاء، وكأنّها ميتة. أمّا البارّ العائش في شريعة الربّ، فهو كشجرة مغروسة على مجاري المياه، المياه ترافقها السنة كلّها. ولهذا ورقها لا يذبل وتعطي ثمرًا. ويطبّق المزمور الكلام هذا على المؤمن: كلّ ما يعمله صالح. كما أنّ الشجرة ورقها أخضر طوال السنة، كذلك البارّ: كلّ ما يعمله إنّما هو صالح.

4 - صورة الأشرار

وهكذا، أحبّائي، في آ 1، 2، 3، أعطانا المزمور صورة عن البارّ العائش حسب وصايا ا؟، حسب مشيئة ا؟. وشبّهه بهذه الشجرة التي أوراقها خضراء دائمًا، التي لا تذوي الحياة منها أبدًا، بهذه الشجرة التي تعطي ثمرها في أوانه. والصورة الثانية هي صورة سوداء، صورة الأشرار. من أوّل جملة: »هنيئًا لمن لا يسلك في مشورة الأشرار«. آية 4: »وما هكذا الأشرار«. لم يعطنا بعد اسم هؤلاء الذين لا يسلكون في مشورة الأشرار. في آ 5 سنعرف من هم؟ هم الأبرار. في آ 4 وما هكذا الأشرار؟ الأشرار يختلفون كلّ الاختلاف. ليسوا شجرة خضراء، هم لا يعطون ثمرًا. وإن أعطوا ثمرًا فهو ثمر السمّ، ثمر الموت. هذه الشجرة المغروسة، الثابتة، لا شيء يقتلعها، لأنّها مسنودة إلى الربّ، مركّزة على الربّ. الأشرار ليسوا مثل هذه الشجرة. ويعطينا الكاتب هنا صورة: »كالريشة من مهبّ الريح، كالعصافة في مهبّ الريح«. تأخذها الريحُ صوب الشمال وصوب الجنوب. الريشة لا تثبت، هي بعيدة كلّ البعد عن الشجرة المغروسة، الثابتة في أرض الربّ، في بستان الربّ. الأشرار هم كذلك. يميلون إلى اليسار وإلى اليمين، ولا يعرفون أن يقفوا عند مبدأ يتعلّقون به.

»وما هكذا الأشرار ولكنّهم كالريشة في مهبّ الريح، لا يثبتون يوم الدينونة، ولا الخاطئون في جماعة الأبرار«. إذًا هنا من جديد، نسمع ونرى الأشرار ونرى الخاطئين. أوّلاً لا يثبتون، البارّ يثبت لأنّه كشجرة غرسها الربّ. أمّا الشرّير فهو كالريشة، كالعصافة، كالتبن. فهو لا يثبت. لا يثبت يوم الدينونة، ولا الخاطئون في جماعة الأبرار. يعني عندما تأتي الدينونة، لا يمكن للأشرار، لا يمكن للخاطئين أن يقفوا في جماعة الأبرار. نتذكّر مشهد الدينونة في إنجيل متّى فصل 25: 31 ي. هناك من هم على اليمين: تعالوا يا مباركي أبي، وعن اليسار: اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار الأبديّة المعدّة لإبليس وأعوانه. إذًا يوم الدينونة لا يمكن أن يقف الأشرار والخاطئون حيث يقف الأبرار. هناك تمييز واضح، هذا التمييز لا نراه هنا على الأرض، فالإنسان يعيش مرّات عديدة وراء القناع، ونحن مرّات عديدة لا نعرف من هو الخيّر ومن هو الشرّير. لذلك في الإنجيل عندما زرع السيّد كرمه حَبٌّا طيّبًا، قمحًا، طلع الزؤان. هو الشرّير زرع الزؤان. قالوا لربّ الحقل: أتريد أن نقلع الزؤان؟ كلاّ. لهذا السبب سيبقى الزؤان مع القمح، والخطأة مع الأبرار. سيبقى هؤلاء الناس من كلّ الفئات في الشبكة، يكون فيها من كلّ جنس.

إذًا في الخارج لا نستطيع أن نميّز الخطأة، من الصالحين، من الأبرار. لكن في الداخل. وهنا ننهي المزمور: الربّ يصون، الربّ يعرف طريق الأبرار، أمّا طريق الأشرار فتبيد، طريق الأشرار تقود إلى الهلاك. منذ الآن يعرف المؤمن أنّه في طريق الربّ، أنّه في طريق الأبرار، أنّ الربّ يحفظه من كلّ شرّ كما يقول القدّيس مرقس: »وإن شربوا سمٌّا مميتًا فلا يؤذيهم«. لكنّ طريق الأشرار تبيد، هي ذاهبة إلى الهلاك.

هذا، أحبّائي، هو معنى المزمور الأوّل الذي عنوانه: السعادة الحقيقيّة. السعادة الحقيقيّة تكون عندما نبحث عن مسرّتنا في شريعة الربّ. السعادة الحقيقيّة هي أوّلاً الابتعاد عن عالم الأشرار والخطأة والاقتراب من طريق الأبرار، من طريق الربّ. كلّ إنسان منّا يختار. هذا ما قال الربّ لموسى في سفر التثنية: »وضعت أمامك الحياة والموت«. وهنا أمامنا طريقان ونحن نختار. فطوبى لنا إن رفضنا أن نسلك في طريق الأشرار، وهنيئًا لنا إن كانت مسرّتنا في شريعة الربّ. فنكون كالشجرة المغروسة على المياه نعطي ثمرًا يمجّد الربّ. آمين

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM