الفصل العاشر: أثناز، أسقف الإسكندريّة العظمى حول تجسّد ربّنا وحول الثالوث

 

الفصل العاشر

أثناز، أسقف الإسكندريّة العظمى

حول تجسّد ربّنا وحول الثالوث(*)

ذاك هو عنوان مقالٍ في السريانيّة وصل إلينا من أثناز الذي دوّنه في اليونانيّة. أمّا الموضوع فهو التجسّد في ردّ على الأريوسيّين. اعتبر عددٌ من البحّاثة أنّ بطريرك الإسكندريّة لم يكتب هذا المقال. وكان واحد من اعتراضاتهم أنّه تكلّم عن الثالوث على أنّه »إله في ثلاثة أقانيم«(1)، فجعل »الأقنوم« مرادفًا »الجوهر«، بحيث نصل إلى ثلاثة جواهر، وبالتالي ثلاثة آلهة. ولكنّ لفظ »هيبوستاستيس« عنى الأقنومَ كما هو الحال في »المقال إلى الأنطاكيّين«(2). يبدو أنّ هذا المقال جاء متأخّرًا في مسيرة أثناز اللاهوتيّة، فأوجز بطريقة »شعبيّة، كتابيّة« براهين كانت موضوع جدال خلال نصف قرن من الزمن. عن هذا المقال تحدّث تيودوريه أسقف القورشيّة منذ سنة 423 في الحوارات (ف 2-3) ودعاه مقال على الأريوسيّين. كما تحدّث جلاسي، أسقف قيصريّة منذ سنة 367، في كتابه حول الطبيعتين عن مقال أثناز هذا، الذي يتوقّف بشكل خاصّ عند لاهوت الابن، منطلقًا ممّا تقوله الكتب المقدّسة، وعن لاهوت الروح القدس(3).

بعد أن نتعرّف إلى نصوص سريانيّة وصلت إلينا من أثناز. وقد نُقلت إلى السريانيّة، نقرأ هذا النصّ حول التجسّد وما فيه من ردّ على الأريوسيّة. ونستخلص بعض الغنى اللاهوتيّ المرتبط بنصوص الكتاب المقدّس.

1- أثناز الإسكندرانيّ في السريانيّة

في منتصف القرن العشرين، نشر روبرت طومسون عددًا من النصوص الأثناسيّة السريانيّة في »مجموعة المسيحيّين الشرقيّين«، فأفهمنا كيف انتقل هذا المدافع الكبير عن إيمان نيقية، من عالم مصر اليونانيّ إلى العالم السريانيّ.

أ- في التجسّد

في الجزء الأوّل من كتاب طومسون(4)، نقرأ مقالين. الأوّل في التجسّد، عنوانه في السريانيّة: مقال (ميمر) القدّيس أثناز رئيس أساقفة الإسكندريّة حول تجسّد الكلمة وظهوره (دنحه) لنا في الجسد. هذا النصّ الذي دوّنه أثناز أو أوصله إلى ترتيبه النهائيّ خلال المنفى الأوّل في تراير، عاصمة غالية (فرنسا الحاليّة) سنة 335-337(5). جاء امتدادًا لمقال على الأمم (الوثنيّة). نُشر النصّ اليونانيّ في الباترولوجيا اليونانيّة(6)، ونُقل إلى السريانيّة، ونحن نقرأه فقط في المخطوط الفاتيكانيّ 104(7). دُوّن النصّ في الحرف الاسترنغلو وعاد إلى سنة 564(8). وجاء مضمونه كما يلي: لا دواء لفساد البشر، ولا إصلاح ممكنًا للإنسان في خلقه الأصليّ وتكوينه، إلاّ بالتجسّد. لهذا كان تجسّد الابن وموته وقيامته. ودافع أثناز عن الإيمان المسيحيّ بهذا السرّ العظيم، في ردّ على اعتراضات اليهود والوثنيّين.

في اليونانيّة، نسخة طويلة هي النصّ الأساسيّ الذي نقرأه عادة. ثمّ كانت نسخة قصيرة وصلت إلى أنطاكية، في القرن الرابع، من أجل الردّ على أبولينار(9) الذي بدا كلامُه(10) في فم تلاميذه بدايةَ المونوفيسيّة من أجل الحفاظ على وحدة مطلقة في اللاهوت والناسوت، في المسيح. وعلى لاهوت الفادي: »طبيعة واحدة في الله الكلمة المتجسّد«. صارت الطبيعة مرادفة للأقنوم، بحيث يستطيع المؤمن العاديّ أن يستنتج أنّ في المسيح طبيعة واحدة.

أمّا النصّ السريانيّ فأخذ بالنسخة القصيرة(11). فجاءت بدايته كما يلي: »قلنا ما فيه الكفاية، في ما قبل، فكان قليلاً من كثير، عن ضلال الشعوب بالنسبة إلى الأوثان وكثرة عبادتهم للشياطين، وكيف استنبطوا منذ البداية (الأصنام). فمن الشرّ استنبط البشر عبادة الأصنام. لكن، بنعمة الله وحول لاهوت كلمة الآب وحول اهتمامه بكلّ شيء وقدرته، (قلنا) إنّ الآب الصالح رتّب كلّ شيء فيه وكلّ شيء يتحرّك به ويحيا. تعال لنتلازم، أيّها المغبوط حقًا ومحبّ المسيح، لكي نعرض بإيمانِ خائفي الله فنقول ما يتعلّق بتجسّد الله، ونعرِّف بظهوره الإلهيّ لدينا«.

وفي هذا الجزء الأوّل عينه، نقرأ رسالة إلى إبيكتات، أسقف كورنتوس، التي تعالج العلاقات بين المسيح التاريخيّ والابن الأزليّ. طرح إبيكتات عددًا من الأسئلة: مثلاً، الجسد المأخوذ من مريم هو من جوهر الله الكلمة. أو: الكلمة تحوّل إلى لحم وعظم وشعر وجسم كامل بحيث خسر طبيعته الخاصّة. أو: ما اتّخذ المخلّص جسدًا في الواقع، بل في الرمز... سيجيب أثناز على هذه الضلالات.

نُشر النصّ اليونانيّ في الباترولوجيا اليونانيّة (26: 1049-1070)، ونُقل إلى اللاتينيّة والأرمنيّة. أمّا عنوان النسخة السريانيّة فكان: »نسخة الرسالة التي كُتبت للمغبوط أفيقططوس، أسقف قورنتوس من قبل القدّيس أثناز، أسقف الإسكندريّة، الذي احتمل الاضطهاد من الأريوسيّين في سبيل الإيمان المستقيم، فاعترف وانتصر«(12).

وبداية الرسالة: »ظننتُ من زمن بعيد أنّ كلّ كلام هرطقة صمَتَ في كلّ مكان من بعد الاجتماع المقدّس الذي كان في نيقية. فالإيمان الذي اعتُرف به فيها جاء مطابقًا للكتاب المقدّس، وهو يكفي لاقتلاع كلّ الشرور، ولقيام الإيمان الحقيقيّ بالمسيح«.

في الجزء الثاني من كتاب طومسون(13)، يرد عدد من النصوص السريانيّة: عظة حول مت 12: 32 والتجديف على الروح القدس. رسالة أساقفة أفريقيا تحذّر المؤمنين هناك من خطر الأريوسيّة. والمقال إلى الأنطاكيّين صدر عن سينودس الإسكندريّة وأُرسل سنة 362، من أجل عودة السلام والوئام في الكنيسة. هي رسالة »أنقوقليون«: رسالة دوّارة للقدّيس أثناز، بمعنى أنّها أرسلت إلى أكثر من جهة: »أثناز والأساقفة الذين حضروا في الإسكندريّة إلى رفاقهم في الخدمة في ربّنا، سلام. نحن متيقّنون أنّكم خدّام الله ووكلاء تستطيعون أن ترتّبوا أمور الكنيسة. ولكن لأنّه بلغ إلينا أنّ كثيرين في الماضي أُخذوا منّا بسبب الخلاف، يريدون الآن السلام، وأنّ كثيرين من الذين ابتعدوا عن أخوّة الهراطقة يهتمّون بالشركة معنا، كان من الضروريّ يا أحبّاءنا، أوسيب واسطرب أن نكتب هذه الأمور...«(14)

أوردنا هذه البداية لكي نشير إلى أنّ الإطار الذي عاش فيه أثناز، بابا الإسكندريّة، وكتب فيه، هو المناخ الأريوسيّ: كلامُه دفاع عن عقيدة نيقية، وموقفه إمّا رفضٌ لما نادت به مجامع محلّيّة لاحقة، أو لما اتّخذ من قرارات، وإمّا قبول أولئك الذين ابتعدوا عن الشركة كما هو الأمر هنا.

ونقرأ في هذا الجزء الثاني أيضًا رسالة إلى مكسيم الفيلسوف الذي ردّ بنجاح على الأريوسيّين القائلين بأنّ المسيح هو ابن الله بالتبنّي، لا بالطبيعة. والنصّ الأخير، رسالة إلى أدلف الأسقف والمعترف حول العبادة المؤدّاة للابن، الكلمة المتجسّد.

والجزء الثالث الذي نشَرَ مؤلّفات أثناز المنقولة إلى السريانيّة(15) يتضمّن مقالاً حول التجسّد في ردّ على الأريوسيّين. هو النصّ الذي ننقله إلى العربيّة. ثمّ ردٌّ على أبولينار(16)، ومقال حول الصلب والآلام، وآخر يطرح سؤالاً: هل المسيح واحد؟ ويبدأ الجواب: »يجب على الذين اهتدوا، في وقت من الأوقات، من الضلالة الوثنيّة، واعترفوا بالإله الواحد الوحيد، بالحقيقة، بإله الكلّ، أن لا يقتربوا بعدُ من الخليقة وأن لا يجعلوا الخليقة إلهًا فيعبدونها بجانب الله الذي هو مبارك إلى أبد الآباد (روم 1: 15). وفي الخطّ عينه، أولئك الذين مالوا عن المعتقد اليهوديّ ولاموا أولئك على أنّهم ناقصو الفهم وكفّار، فآمنوا بالربّ يسوع المسيح، وفَهِموا أنّ الله يُشهد له في كلّ مكان، ويُعرَف بالسلطان والآيات والأعمال الإلهيّة والمجيء الربّانيّ...«

ونقرأ نصٌّا ثالثًا عن تجسّد كلمة الله، وجدَهُ الناشرُ في مخطوط أوّل في لندن(17)، ثمّ في مخطوط ثان(18) يعود إلى القرن 7-8. العنوان: عرض المغبوط أثناز، رئيس أساقفة الإسكندريّة حول التجسّد (م ت ج ش م ن و ت ا) الإلهيّ لله الكلمة الذي يتوافق مع ما (قيل) في مجمع نيقية المقدّس. ويبدأ النصّ كما يلي:

»نعترف بابن الله الذي وُلد قبل العوالم ولادة أزليّة، وفي نهاية العوالم صار بشرًا من مريم، من أجل خلاصنا، كما علّمنا الرسول الإلهيّ فقال: ''لمّا أتى ملء الأزمنة، أرسل الله ابنه فكان من امرأة'' (غل 4: 4). والذي هو ابن الله والله في الروح، كان ابن الإنسان في البشريّ، لا أقنومان، بل ابن واحد. لا (واحد) يُسجَد له، وآخر لا يُسجَد له، بل طبيعة واحدة (طبيعة) الله الكلمة الذي تجسَّد وسجدوا له، مع البشريّ، في سجدة واحدة، ولا ابنان: واحد هو ابن الله الحقيقيّ والمسجود له وآخر من مريم إنسانًا لا يُسجَد له، صار بالنعمة ابن الله، شأنه شأن البشر، بل ذاك الذي هو من الله وهو الله، كما قلتُ(19).

هذا النصّ الذي نُشر في الباترولوجيا اليونانيّة (28: 25-29)، نُشر أيضًا في ترجمة أرمنيّة، فأعطانا ملخّصًا سريعًا لما قاله أثناز وكنيستُه عن تجسّد الكلمة الإلهيّ. وهذا ما يهيّئنا لقراءة المقال الأوّل في المجموعة الثالثة التي نشرها طومسون.(20)

2- تجسّد الربّ والثالوث

ورد هذا النصّ السريانيّ لمقال أثناز في محطوط واحد: شرقي 8606، في المتحف البريطانيّ. من الوريقة 12ظ إلى 27و. ونُشر في الباترولوجيا اليونانيّة (26: 984-1028)، كما نُشرت الترجمة الأرمنيّة(21) وهناك أكثر من نسخة أرمنيّة أخرى لم تُنشَر في مكتبة المخيتاريست في فيينا(22). وها نحن نقدّم ترجمته من السريانيّة إلى العربيّة، قبل أن نقدّم دراسة عنه في إطار الأريوسيّة التي سيطرت خلال القرن الرابع المسيحيّ في الجدالات الكنسيّة، وتركت بعض الآثار في القرن الخامس. بعد العنوان: »مقال أثناز، أسقف الإسكندريّة العظيمة، حول تجسّد ربّنا والثالوث«، يَرِدُ التوسّعُ الذي جُعل له ترقيمٌ لتسهيل استعماله.

1- إنّ أولئك الذين يريدون أن يفهموا بطريقة سيِّئة الكتبَ الإلهيّة، يريدون أن يطبّقوا على لاهوتِ الابن أقوالاً متواضعة قيلتْ في ناسوتِ الابن، لكي يقيموا من هنا تجديفَهم السيّئ. فحقيقةُ المسيحيّة كلّها تُوجَدُ في هذه الأقوالِ الصغيرة وفي الأعمال. فإن استطاعوا أن يسمعوا الطوباويّ بولس الذي كتبَ إلى الكورنثيّين: »أنتم تعرفون نعمةَ ربِّنا يسوع المسيح الذي لأجلكم صار فقيرًا، وهو الغنيّ، لكي تغتنوا أنتم بفقره (2كو 8: 9)، لو استطاعوا لما تجرّأوا أن يقولوا إن الابن لا يشبه الآب. فلو فهموا ما هي قوّة فقره، وما هي أيضًا قوّة صلبه، فكيف يقولُ بولسُ أيضًا في موضعٍ آخر: »تستطيعون أن تدركوا القوّةَ مع جميع القدّيسين، ما هو العلوّ والعمق والطول والعرض في عظمة معرفة حبِّ المسيح لكي تكونوا كاملين في كلِّ ملءِ اللاهوت« (أف 3: 18-19). لأجلِ هذا وبواسطة كتاباته، تكلّمَ بجلاء فقال: »ليس لي أن أفتخر إلاّ بصليب ربّنا يسوع المسيح الذي به صُلب العالمُ لي وأنا صُلبتُ للعالم« (غل 6: 14). وأيضًا: »لا أعتبر نفسي بينكم أنّي أعرفُ شيئًا إلاّ يسوع المسيح وإيّاه مصلوبًا« (1كو 2: 2). وأيضًا: »فلو عرفوا لما صلبوا ربَّ المجد« (1 كو 2: 8).

ولو فهم هؤلاء الآن الكتبَ الإلهيّة، لما تجرّأوا وقالوا مجدّفين إنّ صانع كلِّ شيء هو صنيعة وخليقة. فهم يحاربوننا ويقولون: كيف يمكن أن يكون شبيهًا بكيان الآب؟ فها قد كُتب: »كما أنّ للآب الحياة في ذاته (= أقنومه)، هكذا وهبَ الابنَ أن تكونَ له الحياة في ذاته (= أقنومه) (يو 5: 26). ويقولون: إنّ الذي يهبُ أفضل من الذي يأخذ بمقدار كبير. وأيضًا: »لماذا أنتَ تدعوني الصالح، ولا صالح إلاّ الله وحده« (مر 10: 18؛ لو 18: 19). وأيضًا: »إلهي، إلهي لماذا تركتني؟« (مت 27: 46؛ مر 15: 34). وأيضًا حالاً: »اليوم الأخير لا يعرفه إنسانٌ ولا الابنُ بل الآب« (مت 24: 36؛ مر 13: 32). وأيضًا: »هذا الذي قدّسه الآب وأرسله إلى العالم« (يو 10: 36). وأيضًا: »ذاك الذي أقامه الآب من بين الأموات« (غل 1: 1). لذلك يقولون: كيف يقدر أن يكون ذاك الذي قام من بين الأموات، شبيهًا بالذي أقامه؟

2- هكذا اخترنا هذه الأمورَ القليلة من الكثيرة، وحين تنالُ تلك الجوابَ يُعرَف الباقي بسرعة. إذن، يجب علينا، بقدر ما نستطيع، أن نعرض قوّة ما قيل. فحين قال الطوباويّ بولس عن الابن: »أقامه الآب من بين الأموات« (غل 1: 1)، روى لنا يوحنّا الإنجيليّ أنّ يسوع قال: »أهدموا هذا الهيكل وأنا أقيمه في ثلاثة أيّام« (يو 2: 19، 21). وقال الإنجيليّ: »كان يتكلّم عن هيكل جسده«. من المعلوم للذين رأوا الجسد حين قام، إنّ الابن قام من بين الأموات. فهذه التي تُنسب إلى الجسد تُنسب إليه ذاته. وكذلك أيضًا حين قال: »الآب وهب الحياة للابن« (يو 5: 26)، تُفهم أنّ الحياة وُهبت للجسد. فكيف تستطيع الحياة أن تأخذ الحياة؟ فهو يعدُ فيقول: »خرافي تسمعُ صوتي وأنا أعرفها. وهي تتبعني وأنا أهبُ لها حياة الأبد فلا تبيد إلى الأبد« (يو 10: 27-28). وأيضًا إن كان هو كلمةَ الله، وهو خلق كلّ قوام، فكيف يقول: »وكان يسوع ينمو في الحكمة والقامة« (لو 2: 52). فهو أيضًا صانعُ الكلّ. وإن صنع الآب كلّ شيء بواسطة كلمته الذي هو ابنه، نعرف أيضًا أنّه صنع قيامة جسده بيديه. فبيديه يقيمُه وبيديه يهب له الحياة. وهكذا قام في البشريّ كإنسان، وأخذ الحياة كإنسان فذاك الذي وُجد في الشكل كإنسان هو الذي أقام هيكله كإله ووهب الحياة لجسده.

وأيضًا حين يقول: »ذاك الذي قدّسه الآب وأرسله إلى العالم« (يو 10: 36)، يقول في مكان آخر: »من أجلهم أنا أقدِّس نفسي ليكونوا هم أيضًا مقدَّسين في الحقّ« (يو 17: 19). وأيضًا إذ قال: »إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟« (مت 27: 46؛ مر 15: 34)، قال كما في شخصنا، لأنّه أخذ شبه عبدٍ »ووُجد في شكل إنسان. واضع نفسه وأطاع حتّى الموت، موتِ الصليب« (فل 2: 7-8). وكما قال أشعيا أيضًا: »يحمل أمراضنا ويأخذ عذابنا« (أش 53: 4). وهكذا نعلم أنّه ما تألّم من أجل نفسه، بل من أجلنا نحن. وأيضًا ما تخلّى عنه الله، بل نحن، ولأجلنا نحن الذين تُركنا أتى هو إلى العالم. وأيضًا حين يقول: »من أجل هذا رفعه الله، ووهبَ له اسمًا أفضل من كلّ الأسماء« (فل 2: 9). تكلّم عن هيكله الذي هو جسده.

3- فالرفيع لا يُرفع، بل جسدُه هو الذي رُفع، ولجسده منح اسمًا أفضل من كلِّ الأسماء. فليس الله الكلمة الذي نال بنعمةٍ أن يُدعى باسم الله، بل جسدُه معه تسمَّى باسم الله. فهو ما قال إنّ الله كان الكلمة، بل »الكلمة كان الله« (يو 1: 1). وهكذا الله الكلمة صار بشرًا. البشريّ صار فيه الله الكلمة. فكما أنّ توما، إذ مسَّ جسده، صرخ بصوت عال وقال: »ربّي وإلهي« (يو 20: 28)، ومع الآخرين سمّاه تسمية إلهيّة، بالطريقة عينها كتب يوحنّا أيضًا: »هذا الذي كان من البدء، هذا الذي سمعناه، هذا الذي رأيناه بعيوننا، ولمسناه بأيدينا، من أجل كلمة الحياة« (1 يو 1: 1). إذن، جليّ هو أنّه حين كان في الجسد، هو الابن وكلمةُ الآب لُمِسَ. وأفهمنا الكتابُ الإلهيّ أنّ »كلمة الحياة لمس«. وأيضًا قال: »ما كان الروح القدس بعدُ أعطي، لأنّ يسوع لم يكن بعدُ تمجّد« (يو 7: 39). فربُّ المجد لا يمجَّد بل جسدُ ربِّ المجد هو أخذ المجد حين أصعِدَ معه إلى السماوات. من هنا، ما كان بعدُ للبشر روحُ التبنّي، لأنّ البكر الذي أُخِذ من البشر، ما كان بعدُ أُصعدَ إلى السماء.

4- فكلُّ ما تقول الكتب المقدّسة إنّ »الابن أُخذ« وإنّ »الابن مُجِّد«، تقوله من أجل ناسوته لا من أجل لاهوته. وحين يقول الرسول أيضًا: »في المسيح يسكن كلُّ ملء اللاهوت جسديٌّا« (كو 2: 9)، نفهم أنَّ كلَّ ملء اللاهوت سكن في جسد. وأيضًا حين يقول: »ما أشفق على ابنه، بل أسلمه عن جميعنا« (روم 8: 32). وقال في موضع آخر: »أحبَّ المسيح كنيسته وأسلم ذاته عنها« (أف 5: 25).

5- فالابن اللامائت ما جاء ليخلِّص نفسه، بل ليخلِّصنا نحن الذين صرنا تحت عبودية الموت. وأيضًا، هو ما مات من أجل نفسه، بل من أجلنا نحن. ومن أجلنا أخذ على نفسه حقارتنا وفقرنا لكي يمنحنا كلَّ غناه. فألمه هو لأجلنا، لا تألميّة، وموته لنا هو لا موات، ودموعه لنا فرح، ودفنه لنا قيامة، وعماده تقديس لنا. قال: »من أجلهم أقدِّس نفسي لكي يكونوا هم أيضًا مقدَّسين في الحقّ« (يو 17: 19). جراحُه هي لنا شفاء. قيل: »بجراحه شُفينا كلّنا« (أش 53: 5)، وتأديبه سلام لنا. قيل: »تأديبُ سلامنا عليه« (أش 53: 5). هذا يعني أنّه من أجلنا أُدِّب. ولا مجدُه(23) هو لنا مجد. من هنا سأل المجدَ فقال: »يا أبي، مجّدْني عندك بهذا المجد الذي هو لي قبل أن يكون العالم« (يو 17: 5). فنحن هم الذين به تمجّدوا، ونزوله صعودٌ لنا، كما كُتب: »أقامنا معه وأجلسنا معه في المسيح يسوع ليُظهر للعوالم الآتية عظمةَ غناه وعذوبته التي كانت لنا بيسوع المسيح« (أف 2: 6-7). هو إن قال على الصليب: »أيّها الآب، في يديك أضع روحي« (لو 23: 46)، وضع جميع البشر في يدي الآب، أولئك العتيدين أن يحيط بهم بيديه. نحن أعضاؤه، والأعضاء الكثيرة هي في جسد واحد الذي هو الكنيسة. كما الرسول الطوباويّ كتب للغلاطيّين فقال: »فأنتم كلّكم واحد في يسوع المسيح« (غل 3: 28). وهكذا أُودع فيه كلَّ إنسان للآب.

6- وأيضًا حين قال: »الربّ برأني في رأس طرقه لصنائعه«(24). قال من أجل الكنيسة التي فيه بُنيت. فصانعنا كلّنا ليس صنيعة لا خليقة، بل الخليقة تجدّدت بالخالق كما قيل في بولس: »فنحن خليقة، خُلقنا بيسوع المسيح للأعمال الصالحة« (أف 2: 10). كما قال أيضًا: »بواسطة كنيسته تُعرَف لدى الرؤساء والسلاطين الذين في السماء، حكمةُ الله المليئة تمييزًا، تلك التي أعدَّها منذ العوالم وصنعها في يسوع المسيح ربِّنا، الذي لنا به الدالّة والقرب في اتّكال الإيمان« (أف 3: 10-12). وقال أيضًا: »كما سبق واختارنا فيه من قبل أساسات العالم لنكون ، وفي المحبّة سبق فختمنا بسمة الأبناء (= التبنّي) بيد يسوع المسيح« (أف 1: 4-5). وقال أيضًا من أجل الشعبين: »ليخلق الاثنين في أقنومه إنسانًا واحدًا جديدًا، وصنعَ السلام وصالح الاثنين في جسد واحد مع الله، وبصليبه قتلَ العداوة« (أف 2: 15-16).

7 قدّيسين وبلا عيب أمامه - وأيضًا حين قال: »لماذا تدعوني صالحًا، لا صالح إلاّ الله وحده« (مت 19: 17؛ مر 10: 18؛ لو 18: 19). حسب نفسه مع البشر، فقال هذا في الجسد وأجاب على فكر ذاك الذي اقترب منه. فالذي ظنّ أنّه إنسان فقط، لا الله، وهذا كان فكر ذاك، قال: »إنّ ظننتَ أنّني فقط إنسان، لا إله، فلا تدعُني الصالح(25). فلا يليق بكيان البشر أن يُدعى الصالح. وفي الحال، أضاف فقال: »أنتَ تعرف الوصايا«. وإذ قال هذا: »أيّها؟« قال له: »لا تزنِ، لا تقتل«، والباقي. قال هذا: »هذه كلّها حفظتها من صباي. فماذا ينقصني«؟ قال له: »إن شئت أن تكون كاملاً، امضِ، بعْ كلَّ ما لك وأعطِه للمساكين، فيكون لك كنزٌ في السماء واحمل صليبك واتبعني«(26). إذن، من أجل هذا بيّن له أيضًا أنّ هذا الصلاح يليق به أيضًا. فذاك الذي لا يسير وراء الصالح، كيف يستطيع أن يرث حياة الأبد؟ وحين يقول من أجل اليوم الأخير: »لا إنسان يعرف، ولا الابن، بل الآب وحده« (مت 24: 36؛ مر 13: 32)، فهو يقول عن إنسانيّته. فالذي يعرف الآب، كيف يجهل اليوم الأخير؟ قال: »ما من إنسان يعرف الآب إلاّ الابن والذين يريد الابن أن يتجلّى لهم« ( مت 11: 27). وإن كان روحُ الله يعرف كلَّ ما لله، فكيف لا يعرف الابنُ ذاك اليوم الذي صنعه؟ وإن كانت العوالم والأزمنة في يديه، فجليٌّ أيضًا أنّ اليوم الأخير يُوجَد في العوالم والأزمنة، بحيث لا يمكن أن يكون جَهلَهُ.

8- كلُّ هذه الكلمات الصغيرة التي قيلت عن ربِّنا، تليق بفقره لكي نغتني نحن بها، فلا نجدِّف بها على ابن الله. من أجل هذا، ابنُ الله صار ابنَ الإنسان، لكي يصير البشر، أي أبناءُ آدم، أبناء الله. فالذي، وُلد من فوق، من أب(27)، بشكل لا يوصَف ولا يفسَّر ولا يُدرَك، ولادةً أزليّة، هو من وُلد من تحت، في الزمن(28)، من البتول مريم بحيث إنّ الذين سبق فوُلدوا من تحت يُولَدون ثانية من فوق، أي من الله. إذن، له فقط أمٌ على الأرض. ولنا نحن أيضًا فقط أبٌ في السماء. ولهذا سمّى نفسه ابنَ الإنسان، لكي يدعو البشرُ الله الآب: »أبانا الذي في السماوات« (مت 6: 9؛ لو 11: 2). فكما أنّنا نحن عبيد الله، قد صرنا أبناء الله، هكذا سيّدُ السماء هو عبد خليقته، أي آدم. إذ أخذ أبًا مائتًا (= آدم)، وهب للبشر أباه اللامائت، كما قال: »وهب لهم السلطان أن يصيروا أبناء الله« (يو 1: 12).

من أجل هذا، استطعم ابن الله الموت في الجسد من أجل أبيه الجسديّ لكي ينال البشر الحياة الروحيّة في الله الآب. إذن، هو في الكيان ابن الله. ونحن بالنعمة. وأيضًا هو صار ابن آدم بالتدبير(29) وبالنعمة. أمّا نحن فأبناء آدم بالكيان(= بالطبيعة). لهذا قال: »أنا أمضي إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم« (يو 20: 17). أبوه هو الله بالطبيعة (بالكيان)، كما قلت، ونحن بالنعمة. وهو إلهه بالتدبير لأنّه صار إنسانًا، وهو لنا بالطبيعة الربّ والإله. لهذا فالله الكلمة حين اتّحد بالبشر صار بشرًا، بحيث يتّحد البشرُ بالروح فيكونون روحًا واحدًا. هو الله لبس الجسد، ونحن البشر لبسنا الروح. أخذ الباكورة من طبيعة البشر، أي من زرع إبراهيم، الذي هو شبه العبد فصار إنسانًا، ووهب لنا أيضًا من طبيعة الله باكورة الروح القدس، لكي نكون كلّنا أبناء الله في شبهه. وهكذا لبسنا كلّنا الربّ الحقيقيّ، بحيث نلبس نحن الإله الواحد.

9- إنّه لشرّ عظيم أن نقول إنّ روح الله هو خليقة وصنيعة. ذاك الذي تمجّده، الكتبُ كلّها، كتب العهد العتيق والعهد الجديد، تمجّده وتعدّه مع الآب والابن، هو من اللاهوت عينه والجوهر(30)، كما قال الابن: »من يؤمن بي، أنهارُ مياه حيّة تجري من جوفه« (يو 7: 38). قال هذا من أجل الروح الذي يزمع المؤمنون به أن يأخذوه. وكما بيد يوئيل النبيّ قال، كما على لسان الآب: »أفيضُ من روحي على كلِّ بشرٍ فيتنبأ بنوكم وبناتكم« (يوء 3: 1). ولذلك نفخ في وجه الرسل وقال: »خذوا الروح القدس« (يو 20: 22). فنتعلّم أنّ الروح القدس وُهب للتلاميذ من ملء اللاهوت. قال: »يسكن في المسيح، أي في جسده، كلُّ ملء اللاهوت سكنًا جسميٌّا« (كو 2: 9). وكما قال يوحنّا المعمدان: »نحن كلّنا من ملئه أخذنا«(31). فكما في جسم حمامة رُؤيَ الروح القدس الذي نزلَ وحلَّ عليه، هكذا سكن فينا عربونُ اللاهوت وباكورتُه. أمّا في المسيح، فحلَّ ملءُ اللاهوت.

ولا يظنَّ أحد أنّه يأخذه وهو لا يمتلكه. فمن أرسله من العلاء كالله، هو أيضًا يتقبّله على الأرض كإنسان. فمنه نزل عليه، من لاهوته على ناسوته. لهذا هتف أشعيا، كما في شخص الآب فقال: »هذا قال الربّ إلهُك الذي صنعك وجبلك من الحشا. لا تخفْ، يا عبدي يعقوب، ويا إسرائيل الذي أحببتُ. يا ذاك الذي اخترتُ. أنا أهبُ المياه في موضع صهيون للذين يسكنون في البريّة. أجعل روحي على زرعك، وبركاتي على أبنائك« (إش 24: 2-3). وفي الإنجيل، وعد ربّنا أنّه سيهب الماء للذين يسيرون في العطش. فقال للسامريّةِ حول الروح القدس: »لو كنتٍ تعرفين موهبة الله، ومن هو الذي يقول لك: هبي لي (ماء) لأشرب، كنتِ سألتِ أنتِ فوهبَ لك الماء الحيّ« (يو 3: 10). وبعد ذلك بقليل، قال: »كلّ من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا. وكلّ من يشرب من الماء الذي أنا أهبه له، لا يعطش إلى الأبد. فالماء الذي أهبُه له يكون فيه معين ماء ينبع حياة أبديّة« (يو 4: 13-14). لهذا أنشد داود مزمورًا لله فقال: »ينبوع الحياة هو معك، بنورك نرى النور« (مز 36: 10). هو عرف أنّ الآب والابن ينبوع الروح القدس.

10- وهو من قال بيد إرميا: »صنع شعبي شرّين: تركني أنا ينبوع الماء الحيّ، وحفروا لهم أجبابًا مشقّقة لا تقدر أن تحوي ماء« (إر 2: 13). وإذ سبّح السرافيم الله ثلاث مرّات، قالوا: »قدّوس، قدّوس، قدّوس، ربّ الصباؤوت« (أش 6: 3)، سبّحوا الآب والابن والروح. لهذا، كما أنّنا نتعمّد باسم الآب والابن هكذا أيضًا (نتعمّد) باسم الروح القدس . ونصير نحن أبناء الله، لا أبناء الآلهة. فالآب والابن والروح القدس هم الربّ الصباؤوت. لاهوت واحد، سلطان واحد. لهذا، ما قيل في أشعيا حول الآب، طبّقه يوحنّا على الابن، وفي أعمال الرسل قال بولس إنّ هذا يعني الروح.

لأنّه هكذا قال أشعيا: »رأيتُ ربّ الصباؤوت جالسًا على كرسيّ عالٍ ورفيع، فامتلأ البيتُ من مجده، والسرافيم قائمون فوقه ستة ستّة أجنحة لكلّ واحد منهم، باثنين يُخفون وجوههم، وباثنين يُخفون أقدامهم، وباثنين يطيرون ويصرخون هذا إلى هذا قائلين: قدّوس، قدوّس، قدّوس، الربّ الصباؤوت، امتلأت الأرضُ كلّها من تسابيحه« (أش 6: 1-3). وبعد وقت قليل، قال: »سمعتُ صوت الربّ يقول: من أُرسل، ومن يمضي إلى هذا الشعب«؟ فقلتُ: »ها أنا، أرسلني«. فقال لي: »إمضِ وقُل لهذا الشعب: سماعًا تسمعون ولا تفهمون، رؤية ترون ولا ترون. غَبي قلبُ هذا الشعب، ثقلتْ آذانُهم للسماع، وأُغمضْت عيونهم لئلاّ يروا بعيونهم ويسمعوا بآذانهم ويفهموا بقلوبهم ويعودوا إليَّ فأشفيهم« (أش 6: 8-10).

وقال يوحنّا الإنجيليّ: »ما استطاع اليهودُ أن يؤمنوا بيسوع لأنّ أشعيا قال: ''أظلمت عيونُهم، وعميت عقولهم لئلاّ يروا بعيونهم ويفهموا بقلبهم ويعودوا إليّ فأشفيهم''. هذا قاله أشعيا حين رأى مجده، أي مجد الابن، فتكلّم عنه« (يو 12: 39-41).

إذن، الربّ الصباؤوت هو يسوع. فربّ الصباؤوت يفسَّر أنّه ربّ القوات. وربّ القوّات هو ملك المجد، كما قال داود أيضًا. فربّ المجد، بحسب كلام بولس، هو المسيح الذي صُلب. وقال داود أيضًا: »الرب يرعاني فلا ينقصني شيء« (مز 23: 1). وفي موضع آخر، قال: »يا راعيَ إسرائيل أنظر، ذاك الذي يتدبّر يوسف كالقطيع، ذاك الذي يجلس على الكروبيم« (مز 80: 1). وفي الإنجيل، قال الابن: أنا الراعي الصالح« (ي 10: 14). ذاك الذي يجلس على الكروبيم، هو الابن، راعي إسرائيل. وقال بولس في أعمال الرسل: إنّه الروح القدس الذي قال بفم أشعيا (أع 28: 25) »الربّ الصباؤوت قال لي« (أش 6: 9). هكذا، فالربّ الصباؤوت هو الآب والابن والروح القدس.

11- وحين قال الكتاب أيضًا عن الآب: »صنع كلّ شيء، ما يُرى وما لا يُرى« (كو 1: 16). وفي موضع آخر علّمنا أنّه خَلق بيد الابن. لا أنّ الآب خلق شيئًا ساعة الابنُ خلق شيئًا آخر غيره. بل صنع تلك التي صنعها الآب، بقدرته الخاصّة ذاك الذي هو الابن. »فكلّ شيء كان بيده« (يو 1: 3). وهكذا أيضًا حين يقول الابن: »انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيّام أقيمه، إنّما كان يتكلّم عن جسده« ( يو 2: 19، 21). وكتابٌ آخر عن الآب قال: »أقام الابنَ من بين الأموات« (غل 1: 1). وحسنًا قال. فأقام بكلمته الذي هو ابنه، جسدَ ابنه. فنحن لا نقول ابن الجسد هو ابن الله، بل جسد الابن. وبقيامة الجسد نفهم أنّ الابن قام من بين الأموات، ومن أجل هذا، نقول إنّه مات كبشر وقام من بين الأموات. أمّا بالروح فكان في السماء وفي كلّ مكانٍ من الإرض.

فمع أنّه في البدء كان غنيٌّا، لأنّه الله، صار بعد ذلك فقيرًا من أجلنا، حين صار إنسانًا وشابهَنا في كلِّ شيء ما عدا الخطيئة. ولهذا، فهو كإنسان نال الحياة، وهو الذي يمتلك الحياة. أخذها من أجلنا، وكإنسان أيضًا نما في القامة. وتفاضلَ في الحكمة وهو قدرةُ الآب الأزليّة وحكمته. وكإنسان أيضًا تقدّس ذاك الذي هو القدّوس على الدوام. قال: »من أجلهم أقدّس نفسي ليكونوا هم مقدَّسين في الحقّ« (يو 17: 19). وكإنسان أيضًا رُفع ونال اسمًا أفضلَ من كلِّ الأسماء، اسمًا يمتلكه دومًا في جوهره. فالكلمة هو الله.

12- فجميع ما تقول الكتب عن الابن الذي أخَذَ، فمن أجل جسده تقول إنّه أخذ. فجسده هو باكورة كنيسته. قيل: »المسيح هو البكر« (1 كو 15: 23). فالاسم الذي هو أفضل من كلّ الأسماء هو للبكر، وقامت معه جبلتُنا كلّها، كما بقدرةٍ كما قيل: »أقامنا وأجلسنا معه« (أف 2: 6). من أجل هذا، بالنعمة نالَ البشر بأن يُدعَوا آلهة وأبناء الله. ففي البداية، ربُّنا أقام جسدَه من بين الأموات، ورفعه. وبعد ذلك، أعضاء جسده. ومنحهم، بما أنّه الله، كلَّ ما أخذه وهو إنسان. منح شخصه الحياة، وقدّس أيضًا شخصه، ورفع أيضًا شخصه. وحين قال: »قدّسه الآب وأقامه، ووهب له اسمًا، ووهبه الحياة«(32)، فمن الواضح أنّ الآب صنع بيديه (= المسيح) كلَّ شيء. فبيديه أقامه، وبيديه قدّسه، وبيديه رفعه، وبيديه أيضًا وهب له الحياة. وحين سلّم روحه في يدي أبيه، سلّم نفسه كإنسان لله، بحيث يسلّم جميعَ البشر بين يدي الله. هو يد الآب، أي يمينه. وحين يقول أيضًا: »قبل المرتفعات ولدني« (أم 8: 25)، فهو يقول ذلك في شخص الكنيسة، التي صُنعت في البدء. وبعد ذلك وُلدت من الله بالنعمة. لهذا، وُضع في سفر الأمثال: »الربّ خلقني« (8: 22). ثمّ: »ولدني«.

13- وحين يقول الكتابُ أيضًا: »أمّا الربُّ الواحد خلق كلّ شيء« (ملا 2: 10)؟ فبالشكل عينه يقول عن الابن: »بيديه كان كلّ شيء« (يو 1: 3). وهذه الأمور تُقال أيضًا عن الروح القدس: »تأخذ روحهم فيموتون، وإلى ترابهم يعودون، ترسل روحَك فيُخلَقون، وتجدّد وجه الأرض« (مز 104: 29، 30). وحين يقول المسيح أيضًا لسمعان حول الآب: »طوباك يا سمعان! ما كشف لك ذلك اللحمُ والدم، بل الآب الذي في المساء« (مت 16: 17). هذه الأشياء قالها عن نفسه: »لا يعرف أحدٌ الآب إلاّ الابن ولمن يريد الابن أن يكشف (له) (مت 11: 27). بهذا الشبه ومن أجل الروح، قال بولس: »الله كشف لنا بروحه. فالروح يفحص كلَّ شيء حتّى أعماق الله. فمن يعرف ما في الإنسان إلاّ روحُ الإنسان الذي فيه؟ وهكذا ما من أحد يعرف ما في الله إلاّ روحُ الله« (1كو 2: 10-11). فكما أنّ روح الإنسان ليس غريبًا عنه (= الإنسان) ولا عن طبيعته، كذلك أيضًا روح الله ليس غريبًا عن لاهوته ولا عن جوهره.

وحين يقول الربّ بفم أشعيا: »ولدتُ بنين ورفعتُهم« (أش 1: 2)، يقول في الإنجيل: »ما هو مولود من البشر بشرٌ هو، والمولود من الروح روحٌ هو« (يو 3: 6). وأيضًا: »الريح تهبّ في المكان الذي تريد، وأنت تسمع صوتها، ولكنّك لا تعرفُ من أين أتت ولا إلى أين تمضي. هكذا كلُّ إنسان مولود من الروح« (يو 3: 8). في بداية الإنجيل قال يوحنّا: »الذين قبلوه وهب لهم سلطانًا بأن يكونوا أبناء الله. هم الذين آمنوا به. وما وُلدوا من دم، ولا من إرادة بشر ولا من إرادة رجل، بل من الله« (يو 1: 12-13). فكلُّ الذين وُلدوا من الروح، وُلدوا من الله. وكلُّ الذين اعتمدوا في المسيح، اعتمدوا في الآب والابن والروح القدس. وأيضًا حين يقول بطرس لحنانيا: »لماذا ملأ الشيطانُ قلبك لتكذب على الروح القدس وتُخفي من ثمن الضيعة؟ ما كذبتَ على البشر، بل على الله« (أع 5: 3-4). فمن كذب على الروح القدس كذب على الله الذين يسكن في البشر بواسطة روحه. فحيث يكون روحُ الله هناك يكون الله. وبهذا نعرف (كما قال) أنّ الله يثبتُ فينا لأنه وهب لنا من روحه« (1يو 4: 13).

14- وحين يقول الكتاب أيضًا: »تكلّم الروحُ القدس بالأنبياء« (مر 12: 36؛ أع 1: 16)، يقول بولس في موضع آخر: الآب تكلّم بالأنبياء. قال: »في كلّ الطرق وفي كلّ الأشباه، تكلّم الله بالأنبياء منذ القديم، وفي الأيّام الأخيرة تكلّم معنا بابنه« (عب 1: 1-2). وفي موضع آخر أيضًا حول الابن قيل إنّه تكلّم: »أتطلبون برهانًا أنّ المسيح تكلّم فيّ« (2كو 13: 2)؟ وقال الابن عن الروح إنّه يتكلّم في الرسل فقال: »حين يسلمونكم إلى القضاة وإلى مجامعهم، لا تهتمّوا بما تقولون، فلستم أنتم المتكلّمين، بل روحُ أبيكم يتكلّم فيكم«(33). مرّة يتكلّم عن جسد المؤمنين، الذين هم هياكل الروح القدس، والذين هم أعضاء المسيح، ومرّة أنّهم هياكل الله. قال: »فأنتم هياكل الله الحيّ، كما قال الله: ''أسكن فيهم وأسير بينهم فأكون لهم إلهًا وهم يكونون لي شعبًا« (2كو 6: 16؛ حز 37: 27). وأيضًا: »من يُفسد هيكل الله فهذا يُفسده الله« (1 كو 3: 17). وأيضًا: »أما تعرفون أنّكم أنتم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم« (1 كو 3: 16)؟ فمن هو هيكل الروح هو هيكل الآب والابن. فحيث يسكن روح الله هناك يسكن الله. »وكما أنّ الآب يقيم الموتى ويحييهم هكذا الابن يحيي من يشاء« (يو 5: 21). وبالشكل عينه يُقال أيضًا عن الروح: »الروح هو الذي يُحيي، والجسد لا يُفيد شيئًا« (يو 6: 63). وكتب بولس إلى الكورنثيّين: »الحرف يقتل أمّا الروح فيُحيي« (2 كو 3: 6)

أنت ترى أنّ الأعمال التي هي للآب، يجعلها الكتاب للابن والروح القدس، كما علّمنا أيضًا الرسولُ الطوباويّ حين قال: »هناك اقتسامات في المواهب، إلاّ أنّ الروح واحد. هناك اقتسامات في الخدَم، إلاّ أنّ الربّ واحد. هناك اقتسامات في الأعمال، إلاّ أنّ الله واحد الذي يعمل كلَّ شيء في كلِّ إنسان« (1 كو 12: 4-6). وبعد أن قال إنّ الآب يعمل كلَّ شيء في كلّ شيء، قال بعد قليل: »الروح القدس هو الذي يعمل كلَّ شيء في كلِّ إنسان. قال: »كلّ هذا يعمله الروح عينه فيقسم لكلّ إنسان كما يشاء« (1 كو 12: 11)(34).

3- أثناز والدفاع عن الإيمان

نقلنا جزءًا كبيرًا من بحث عنونه ناشروه على أنّه كلام عن التجسّد في ردّ على الأريوسيّة. ولم يكن هذا البحث يتيمًا لدى أثناز. ففي السريانيّة وحدها، نجد ثلاثة نصوص حول تجسّد الابن. فالقرن الرابع هو فترة أريوسيّة من الحرب الشرسة مع الكنيسة. وكان بطل تلك الحرب أثناز، بطريرك الإسكندريّة. فبعد كلام عن الأريوسيّة، نرافق أثناز في أكثر من منفى عاناه بسبب إيمانه، وننهي ببعض اعتبارات حول سرّ التجسّد كما نكتشفها في هذا النصّ الذي نقلناه وغيره.

أ- أريوس والأريوسيّة

أريوس (250-336) هو ابن ليبيا. دخل مدرسة لوقيان الأنطاكيّ، من أجل دراسته اللاهوتيّة. لمّا عاد إلى الإسكندريّة رُسم شمّاسًا ثمّ كاهنًا، وارتبط بكنيسة بوكاليس. ولكن منذ سنة 318، حرّك الجدالات اللاهوتيّة بسبب تعليم لاهوتيّ شخصيّ طرحه على أنّه إيمان الكنيسة(35). انطلق في عظاته، في الإسكندريّة، من الفلسفة الأفلاطونيّة المحدثة(36). اعتبر أنّ الآب وحده أزليّ. ويحقّ له وحده بالمعنى الحصريّ، اسم الله. أمّا الابن فأُخذ من العدم، فكان الخليقة الأولى، وأسمى الخلائق. ولكنّه بقي خليقة. كما كان أداة في يد الآب من أجل خلق العالم. تجسّد في يسوع المسيح. وكما أنّ الإنسان، في الفكر الأفلاطونيّ يتكوّن من نفس وجسد، فتحلّ النفس في الجسد، كذلك كان الابن محلّ النفس(37) وقد المنزلة في الجسد الذي أخذه(38). مثل هذا التعليم شوّه النظرة إلى لاهوت المسيح، بل ألغاها. المسيح خليقة وحسب.

حرم الإسكندر، أسقف الإسكندريّة (312-328) أريوس سنة 320. وجاء مجمع نيقية (325) يُثبت هذا الحرم، ويبيّن طابع الضلال والهرطقة في ما طرحه هذا الراهب من تعليمه. سنة 333، حُكم عليه بالمنفى، وأُحرقت مؤلّفاته. غير أنّه وجد من يقف معه بين الأساقفة الشرقيّين، مثل أوسيب (+341)، أسقف نيقوميدية بعد أن كان أسقف بيروت، وساندَه موقفُ الإمبراطور المتقلّب، والمهتمّ بالسياسة أكثر منه باللاهوت. كلّ هذا جعل أثناز، المدافع الكبير عن إيمان نيقية، يمضي إلى المنفى. وكاد أريوس يستعيد اعتباره لو لم توافه المنيّة سنة 336.

نورد هنا بعض ما جاء في رسالة من أريوس، إلى أوسيب(39). البداية: »أريوس الذي اضطهده ظلمًا الأسقف اسكندر بسبب هذه الحقيقة الظاهرة التي تساندها أنت أيضًا، يُرسل تحيّاته في الربّ إلى سيّده العزيز، رجل الله، الأمين أوسيب والمستقيم«.

ويتابع أريوس تشكّيه فيقول: »يضايقُنا الأسقفُ ويضطهدنا بقساوة كبيرة ويسبب لنا عددًا كبيرًا من العذابات: طردنا من المدينة كملحدين، لأنّنا لا نتوافق مع ما يكرز به علنًا، أنّ الآب وُجد دائمًا، وأن الابن وُجد دائمًا. وأنّه كما الآب كذلك الابن. الابن غير مولود كالآب. هو مولودٌ دائمًا دون أن يُولد. فلا بالفكر ولا بأيّة مسافة يسبق اللهُ الابنَ. فالله والابن وُجدا دائمًا، والابن يصدر عن الله«.

وجاءت خاتمة الرسالة تحمل مدلولاً خاصٌّا: »نحن نُضطَهد لأنّنا قلنا: للابن بداية، أمّا الآب فلا بداية له. ونُضطَهَد أيضًا لأنّنا قلنا: أُخذ ممّا ليس بموجود. عنينا بذلك أنّه ليس جزءًا من الله ولا هو أُخِذ من ذات ما. لهذا، نحن نضطَهد. والباقي أنت تعرفه. كُن في صحّة جيّدة في الربّ. تذكّرْ مضايقاتنا، يا أوسيب، يا من هو تلميذ حقيقيّ للوقيان ورفيق له«(40).

أمّا المؤلَّف الأكثر شعبيّة والذي نشر تعليم أريوس، فهو الوليمة(41)

.Qalia كُتب شعرًا(42) فتجاوز أوساط اللاهوتيّين والسلطات الكنسيّة. دمِّر هذا الكتاب، كما دُمِّرت سائر كتب أريوس، ولكن بقيت منه مقاطع لدى كتّاب حاولوا أن يردّوا عليه: أثناز الإسكندرانيّ(43)، جيروم، هيلاريون، أسقف بواتييه في فرنسا.

ماذا نعرف عن الوليمة تلك »القصيدة الملحميّة« التي فرضت تعليم أريوس وأشادت بعظائم الماورائيّات. أمّا أثناز فاتّهم مؤلِّفها بأنّه يقتدي بشعراء أنشدوا الخمرة وحياة المجون.

وجاءت بدايتها كما يلي: »حسب إيمان مختاري الله، وحكماء الله، وأولاد الله القدّيسين المستقيمي الرأي، الذين نالوا روح قدس الله، تعلّمتُ هذا من الذين شاركوا في الحكمة فكملوا، وعلّمهم الله فصاروا حكماء في كلّ شيء. في آثارهم سرتُ مع رأي شبيه برأيهم، أنا الرجل المشهور الذي تألّم كثيرًا لمجد الله. علّمَني الله فاقتنيتُ الحكمة والمعرفة«(44).

وبدلاً من أن نقدّم كلامًا عن أريوس، نكتفي بذكر مقطع كبير من الوليمة ورد عند أثناز(45):

»إذن، الله في ذاته لا يمكن أن يُستقصى لدى البشر جميعًا. وحده لا مساويَ له ولا شبيه، ولا مزاحم له في المجد. نعلن أنّه غير مولود بالنسبة إلى المولود بالطبيعة. ونمتدحه لأنّ لا بداية له بالنسبة إلى ذاك الذي وُجد في الزمن. فالذي لا بداية له، جعل الابنَ بداية المخلوقات واتّخذه ابنًا له وتبنّاه. فالابن لا يمتلك، خاصًا به، شيئًا يخصّ الله حسب الجوهر: هو غير مساوٍ له، ولا من جوهره. الله حكيم، لأنّه بذاته سيّد الحكمة. نستطيع القول إنّ الله غير منظور بالنسبة إلى الجميع، إلى الكائنات التي وُجدت بالابن، كما إلى الابن نفسه. وأقول بصراحة كيف يرى الابنُ الإله اللامنظور: بالقدرة التي يستخدمها الله لكي يُرى، يصل الابن، بقياس خاصّ به، إلى رؤية الآب، كما يليق. إذن، مجموعة الثالوثة Triade لا تتساوى في المجد، لأنّ الأقانيم لا يمتزج الواحد بالآخر، بل يتجاوز الواحدُ الآخر بمجد لا محدود. فالآب غريب عن الابن بحسب الجوهر، لأنّ لا بداية له، يعني أنّ »المونادوس« أو الجوهر الواحد، البسيط، وُجد قبل »الديادوس«(46) أو المبدأين الاثنين المتكاملين، وقبل أن يُوجَد (الابن). لهذا، إن لم يكن الابن وُجد بعد، كان الآبُ الله. والابن الذي وُجد بإرادة الآب، وَجد ذاته إلهًا وحيدًا، مولودًا، غريبًا من الاثنين، لأنّ الحكمة كحكمة لا تُوجَد إلاّ بإرادة الإله الحكيم(47). لذلك نتصوّره في نظرات مختلفة: روح الله، قدرة الله، حكمة الله، مجد الله، حقّ، صورة، لوغس أو كلمة. ويُصوَّر كشعاع ونور. إيلاد مساوي الابن هو في قدرة من هو أرفع منه، ولكنّه لا يقدر أن يلد كائنًا يسمو عليه، أفضلَ منه أو أعظم. فبإرادة الآب الابنُ هو ما هو، إنطلاقًا من الوقت الذي فيه نال الوجود من الله. وبما أنّه إله قدير يمتدح من هو أسمى منه. وبعبارة واحدة: الله لا يدركه ابنه، لأنّه هو ما هو، أي لا يُوصف. فالابن لا يقدر أن يفهم ولا أن يعبِّر عما يقوله الآب، لأنّه لا يقدر أن يتفحّص الآب، لأنّ الآب هو في ذاته، والابن لا يعرف جوهره الخاصّ لأنّه يستخرج أصله من إرادة الآب. إذن، أي برهان يبيّن أنّ ذاك الذي أتى من الآب يعرف خالقه ويفهمه؟ من الواضح أنّه يستحيل على كائن له بداية أن يحيط بفكره وفهمه من لا بداية له(48).

ب- أثناز بطل نيقية

حين عُقد مجمع نيقية، سنة 325، كان الإسكندر، أسقف الإسكندريّة، برفقة شمّاسه أثناز(49). في ذلك الوقت، كان الأسقف العتيد كتب مقالاً ضدّ الأمم وآخر حول تجسّد الكلمة، وذلك قبل الأزمة الأريوسيّة. ما أراد أثناز أن يبيّنه للوثنيّين، هو أنّ التجسّد لا يتعارض مع الفكر البشريّ، وأنّ الكلمة صار بشرًا لكي يُؤلَّه البشر بدورهم.

ومات أسقف الإسكندريّة، الإسكندر، بعد مجمع نيقية بوقت قليل. فخلفه أثناز، الذي بدأ يزور أبرشيّته الواسعة، في مصر العليا والسفلى، في ليبيا. أمّا في ما يتعلّق بأريوس وجماعة ميليتيوس، فرفض الأسقف الجديد أي حوار. غير أنّ هذا التشديد سوف يرتدّ عليه. فكان منفى أوّل إلى تراير (ألمانيا) في السابع من تشرين الثاني سنة 335. ومات قسطنطين الأوّل وخلفه قسطنطين الثاني، فعاد أثناز إلى الإسكندريّة، سنة 338. ولكنّ حلَّ أسقفٌ محلّه، فأجبر على ترك المدينة في 18 آذار 339 والالتجاء إلى رومة. وما استطاع العودة إلاّ بعد أن توفّي الأسقف الذي حلّ محلّه، غريغوار سنة 345. وتبدّل الإمبراطور، فعاد أثناز من المنفى، بعد أن قضى في كرسيه عشر سنوات تُعتبَر »العهد الذهبيّ« حيث وصل نشاطه الأدبيّ والرعائيّ إلى الذروة(50).

سنة 356، مضى إلى المنفى، وحلّ محلّه جاورجيوس الكبادوكيّ الذي. طُرد من الكرسيّ، وما عتَّم أن قتل. وعاد أثناز في 21 شباط 362.

كانت حرب أثناز متواصلة حتّى نهاية أيّامه، فمات في كرسيه بسلام، في 2-3 أيّار 373. أمّا الهمّ الذي شغل باله طول حياته، فهو البدعة الأريوسيّة وما تحمّل من تهديد انقسام في الكنيسة. وفي الواقع، تمزّقت الكنيسة، بشكل خاصّ في الشرق، ولن يتوقّف هذا التمزّق عند هذا الحدّ. فيأتي تمزّق آخر مع مجمعي أفسس (سنة 431) وخلقيدونية (سنة 451) حين تصبح »الكنائس« قِطَعًا مستقلّة، ترتبط بالحاكم سواء كان مسيحيٌّا أم لا.

إلى جانب النشاط الرعويّ الذي مارسه أثناز، كان نشاط أدبيّ. فكتب الكثير لكي يجابه الأريوسيّين، في خطّ من سبقه الإسكندر(51).

ونذكر أوّل ما نذكر ثلاثة مقالات ضد الأريوسيّين. هي ما كتب أثناز على مستوى العقيدة. في المقال الأوّل يُوجز تعليم أريوس الذي تتضمّنه الوليمة (تاليا)، ويدافع عن تحديد العقيدة في نيقية: الطابع الأزليّ، اللامخلوق، واللامتبدّل عند ابن الله، وحدة الجوهر الإلهيّ بين الآب والابن. وفسَّر المقالان الثاني والثالث النصوص الكتابيّة المتعلّقة بولادة الابن (عب 3: 2؛ أم 8: 22)، بعلاقة الابن بالآب كما في الإنجيل الرابع، بالتجسّد. ردّ أثناز على الأريوسيّين وأبرز المعنى الحقيقيّ.

وكان كتاب آخر حول التجسّد ضدّ الأريوسيّين، حيث الكلام عن إله واحد في ثلاثة أقانيم. هو الذي نقَلْنا قسمًا منه في هذا المقال. وبعد العودة من المنفى، سنة 357، كتب دفاعًا عن نفسه في وجه الأريوسيّين، فجمع ما قالته سينودوسات سابقة. وسنة 358، كتب إلى الرهبان تاريخ الأريوسيّين. هاجم الإمبراطور على أنّه عدوٌّ للمسيح، والمحامي عن الهرطقة وسابق الأنتيكرست أو المسيح الدجّال.

وغنيّ عن القول بأنّ أسقف الإسكندريّة لم يترك مناسبة إلاّ وحذّر شعبه بل الكنيسة كلّها من خطر الأريوسيّة. سواء شرح الكتب المقدّسة أو كتب رسائل عن النسك والبتوليّة... هي وجهة قاسية في حياة أثناز المحارب. ولكنّ هناك وجهة ثانية، هي محاولات العودة بأريوس إلى حضن الكنيسة.

مثلاً، كتب إلى الأسقف سرابيون حول لاهوت الروح القدس، وارتباط هذه المسألة بلاهوت الابن والجدال مع الأريوسيّين الذين دعاهم »المصوّبون«(52) هم يقودون النصوص الكتابيّة إلى التفسير الصوابيّ، أي تفسيرهم. ونلاحظ بشكل خاصّ ارتباط معرفة الروح بمعرفة الابن. فالروح القدس هو روح الابن. وكتب إلى أبيكتات، أسقف كورنتوس، حول العلاقات بين يسوع التاريخيّ والابن الأزليّ: »أي جحيم تقيّأ هذا الزعمُ بأنّ الجسد المولود من مريم هو من جوهر لاهوت الكلمة؟ أو أنّ الكلمة تحوّل إلى لحم وعظام وشعر وإلى الجسد كلّه بحيث خسر طبيعته الخاصّة؟ من سمع الكنيسة، بل مؤمنًا يقول إنّ المخلّص لبس جسدًا في الصورة لا في الحقيقة؟ من هو هذا الشرّير الذي يقول ويفكّر بأنّ اللاهوت (أي ابن الله) المساوي للآب في الجوهر، نال الختان، وصار ناقصًا بعد أن كان كاملاً، وأنّ ما سُمِّر على الصليب لم يكن الجسد، بل جوهر الكلمة المخلوق؟...

ج- اعتبارات حول التجسّد

ونعود إلى ما وصل إلينا من أثناز حول التجسّد، في ردّ على الأريوسيّين. موضوعان هامّان طرحهما المدافع عن نيقية: الثالوث الأقدس، ولاهوت الآب المتجسّد. استند فكر أثناز حول الثالوث إلى يقين يقول: إنّ الآب عبّر عن نفسه ملء التعبير في ولادة اللوغس (= الكلمة) الأزليّة. فاللوغس هو حكمة الله وقدرته، وهو خاصّ بجوهر الله. ووسّع أثناز تعليمه عبر مناقضة النظرة الأريوسيّة إلى اللوغس حيث هو قدرة إلهيّة خاضعة. وطلب استعمال »هوموأوسيوس«، في جوهر واحد، للكلام عن وحدة الابن مع الآب. واستعمل أثناز صورة النور والشعاع. كالابن يتميّز عن الاب، ولكنّه لا ينفصل عنه. ليس هو الآب، ولكنْ صورته الوحيدة.

وأعلن أثناز، في الكرستولوجيا، الكلمة الإلهيّ الذي يعمل في ثلاثة مجالات: هو متّحد بالآب اتّحادًا أزليٌّا. هو يسوس العالم الذي خُلق به لأنه اللوغس، الكلمة. وهو من وُلد كإنسان في ملء الزمن، لكي يتّحد بالبشر. تجسُّده، يشمل الكون، ومع ذلك يبقى أنّه اتّخذ جسدًا فقدّسه، وبه أتمَّ معجزاته، ثمّ قدّمه ذبيحة. وإذ شدّد هذا المعلّم على الجسد البشريّ في المسيح، وصل إلى الطبيعة البشريّة الضعيفة، التي تنال الخلاص، هنا ابتعد أثناز عن أفلاطون الذي يتحدّث فقط عن خلود النفس لا عن خلود الإنسان ككلّ(53).

في أوّل ما كتبه أثناز عن التجسّد، ارتبط بالفلسفة أكثر منه باللاهوت. »تحدّثنا عن لاهوت كلمة الآب، عن عنايته الشاملة وقدرته(54). به رتّب الآبُ كلّ شيء. كلّ شيء يتحرّك به ويحيا... نواصل فنصوِّر بالتفصيل تجسّد الكلمة«. في فصل أوّل، توقّف الكاتب عند مسبِّبات تجسّد الكلمة في تدبير الخلاص. فالتجسّد انتصارٌ على الموت وموهبة اللافساد (ف 2). انطلق أثناز هنا من موت المسيح الفدائيّ. بالتجسّد صُحّحت صيغةُ »على صورة الله« في الإنسان الذي نال المعرفة العلويّة (ف 3). فالخلاص يتمّ في اتّحاد اللوغس والجسد البشريّ. هذا الاتّحاد هو ينبوع حياة. هذا ما يقودنا إلى ذبيحة الصليب. في الفصل الخامس، ردّ أثناز على اليهود الذين لم يؤمنوا، مع أنّه كان باستطاعتهم أن يكتشفوا المسيح من خلال قراءتهم للعهد القديم. وفي الفصل الأخير، هو جواب على الوثنيّين الذين يعبدون الأصنام. هم يعتبرون المادّة »سائلة«. فما وجب على الكلمة أن يلامسها. كان يكفي فعلُ إرادة واحد. أمّا الله فصار شبيهًا بالإنسان لكي يساعده بشكل ناجع. وتجسّد الابن جعل الحياة تحلّ محلّ الفساد في وضع الإنسان الخاطئ.

في الواقع، تجسّد الكلمة، الذي دوّنه أثناز قبل أن يصير أسقفًا، توجّه إلى المؤمنين، قبل سواهم، لكي يعلّمهم. وهو ينتهي بدعوة إلى قراءة الكتب المقدّسة لكي نرى صحّة الكلام اللاهوتيّ »التي فاه بها وكتبها لاهوتيّون بوحي من الله... ستطّلع أيضًا إلى ظهوره الثاني لأجلنا، ظهوره المجيد والإلهيّ جدٌّا. لا في الصفة، بل في المجد الذي له. لا في الحقارة، بل في العظمة التي هي من ميزاته، عندما يأتي، لا ليتألّم، بل ليقدّم للجميع ثمرة صليبه، أعني القيامة وعدم الموت«.

في كتابه تجسّد الكلمة، كانت عودة إلى الكتاب المقدّس، في جزء من آية، في آية معزولة أو آيات مجموعة. فالنصوص وردت 65 مرّة. هذه الناحية نجدها بشكل خاصّ في النصّ السريانيّ الذي قرأناه، حيث ترك الكاتب الجانب »الفلسفيّ« وحاول أن يشرح النصوص التي تساعده على تبيان سرّ التجسّد. وقابل بين نصّ ونصّ ليدلّ أوّلاً على لاهوت الآب والابن والروح القدس. مثلاً، تارة يقول النصّ: هيكل الروح. وطورًا، هيكل الله. ويستنتج: هذا يعني أنّ الروح القدس الله، مساوٍ للآب في الجوهر، شأنه شأن الابن. كما يستخلص أثناز من رؤية أشعيا للربّ الصباؤوت في الهيكل والتقديمات الثلاثة، الأقانيم الثلاثة.

الخاتمة

قرأنا في هذا المقال انتقال أثناز، بابا الإسكندريّة، إلى العالم السريانيّ، ولا سيّما رسائل العيد(55) التي ضاعت في اليونانيّة، ووُجدت كلّها في السريانيّة، وبعضٌ منها في القبطيّة. ونقلنا إلى العربيّة أيضًا نصٌّا سريانيٌّا، ما زال الجدال قائمًا حول صحّة نسبته إلى أثناز. كان اعتراض بسبب تعليمه عن الروح. ولكنّ هذا الاعتراض يسقط إن نحن قابلناه بنصوص أخرى، واعتبرنا تطوّر اللاهوت الذي سيصل بنا إلى مجمع القسطنطينيّة الأوّل، سنة 381، في تعليمه عن الروح القدس. وأخيرًا، تعرّفنا إلى تعليم هذا الأسقف البطل، الذي دافع عن عقيدة مجمع نيقية بكلّ ما أوتيَ من قوّة، فما لانَ ولا تراجعَ. وفي النهاية انتصر حين انطفأت شعلة الأريوسيّة في الشرق، بانتظار أن تنتقل إلى الغرب. ومع اهتداء الفرنج، بقيادة ملكهم كلوفيس، إلى المسيحيّة، زالت الأريوسيّة من الغرب أيضًا. غير أنّها ما زالت تطلّ من وقت إلى آخر، حتّى أيّامنا، في بدع وكتابات تزيل عن يسوع صفة الألوهة، لتجعله إنسانًا بين الناس. فأيّ خلاص يحمله الكلمة إن لم يكن ابن الله والمساوي للآب في الجوهر!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM