الفصل التاسع: إيشوعداد المروزيّ وتفاسير النساطرة

 

الفصل التاسع

إيشوعداد المروزيّ وتفاسير النساطرة(*)

حين نطَّلع على ما تركه لنا النساطرة من تفاسير كتابيَّة، وهي عديدة لم تطبع بعد كلُّها، نكتشف طابعها المدرسيّ وندرك أنَّها جُمعت من كتب متنوِّعة. وها نحن نقدِّم بعضًا منها ونشدِّد على شخصيَّة بارزة في التقليد النسطوريّ هو إيشوعداد المروزيّ الذي شرح أسفار الكتاب المقدَّس في عهديه القديم والجديد.

أوَّلاً: تفاسير النساطرة

هناك أوَّلاً مقالات نرساي الكتابيَّة التي تعود إلى القرن الخامس وتَبعد بفنِّها الأدبيّ عن سائر المؤلَّفات التأويليَّة. لهذا لن نتوقَّف عندها، بل نذكر ثلاثة أسماء قدَّموا لائحة أسئلة حاولوا الإجابة عنها: تيودور بركوني ويشوع برنون (743-848) وحنانيشوع برسروشويه، مع ثلاثة تفاسير: إيشوعداد والتفسير المغفَّل وجنَّة النعيم (الأطياب). ونذكر أخيرًا مجموعتين مغفَّلتين.

1. تيودور بركوني

وصل إلينا من تيودور بركوني كتاب الأسكوليون الذي أُلِّف، في 11 مقالة، في نهاية القرن الثامن(1)، وهو لائحة أسئلة تتطرَّق إلى التأويل والفلسفة واللاهوت والدفاع المسيحيّ. المقالات الثماني الأولى مخصَّصة للتأويل: فالمقالات (1-5) تتطرَّق إلى العهد القديم، والمقالات (7-9) تتطرَّق إلى العهد الجديد.

يجيب الكاتب في المقالات الثلاث الأولى عن أكثر من 300 سؤال في أسفار موسى الخمسة. ويقدِّم 63 سؤالاً وجوابًا عن الأنبياء السابقين (يشوع، القضاة، صموئيل، الملوك) في المقالة الثالثة. ونقرأ 27 سؤالاً عن الكتب الحكميَّة وأربعة أسئلة عن المزامير.

يَعتبر بركوني أنَّ الكنيسة قبلت في لائحتها كتاب الملوك لا كتاب الأخبار. ونشيد الأناشيد هو دفاع عن ابنة فرعون، ولهذا لا يكرِّس له الكاتب أيَّ سؤال وجواب، وكذلك نقول عن سفر الحكمة. أمّا أيّوب فمن الكفر أن نقول إنَّ موسى كتبه.

نشير إلى وجود مقاطع عديدة مشتركة بين بركوني وإيشوعداد، ويبدو أنَّ المفسِّرَين استقيا من ينبوع واحد.

2. إيشوع برنون

مات إيشوع برنون سنة 828 عن 85 سنة. كان رئيس مدرسة ساليق وراهبًا وجاثليقًا. وهذا يعني أنَّ كتابه مسائل مختارة أو مباحث(2) سبق إسكوليون بركوني وتفاسير إيشوعداد. وهكذا تكون مباحث إيشوع برنون أقدم تفسير نسطوريّ للكتاب المقدَّس. هي أصغر حجمًا من إسكوليون بركوني ولا تعالج إلاَّ الكتاب المقدَّس، وهي مقسومة سبعة أقسام مخصَّصة تباعًا للبنتاتوكس (أو أسفار موسى الخمسة)، والمجالس (أو بيت موتبي) والأنبياء، والمزامير، والإنجيل، وأعمال الرسل، ورسائل القدّيس بولس، فيها 56 سؤالاً عن البنتاتوكس، و19 سؤالاً عن المجالس (سؤال واحد عن يشوع، 4 أسئلة عن القضاة، 6 أسئلة عن صموئيل، 3 أسئلة عن الملوك، 3 أسئلة عن الأمثال، سؤال واحد عن ابن سيراخ وسؤال عن الجامعة)، و45 سؤالاً عن المزامير. هناك إذًا 145 سؤالاً عن العهد القديم، وقد نقل منها إيشوعداد 136 نقلاً يكاد يكون حرفيٌّا. وهكذا نستطيع القول إنَّ مباحث إيشوع برنون هي مصدر هامّ استقى منه إيشوعداد المروزيّ.

3. حنانيشوع برسروشويه

عاش في النصف الثاني من القرن التاسع. يقول عنه عبديشوع الصوباويّ إنَّه صاحب أسئلة في الكتاب المقدَّس. وينسب إليه السمعانيّ كتابًا عنوانه أسئلة في التدبير الإلهيّ وهو مخطوط سريانيّ في الفاتيكان (رقم 150، ونسخ سنة 1708) أغفل اسمه. نجد في التدبير الإلهيّ 40 سؤالاً تعالج البنتاتوكس و40 جوابًا قصيرًا تذكِّرنا بنصِّ إيشوعداد. وهذا ما يدفعنا إلى القول إنَّ حنانيشوع وإيشوعداد استقيا من معين واحد.

4. تفاسير إيشوعداد

نتوقَّف هنا على مكانة تفسير إيشوعداد في تفاسير النساطرة. إنَّ تفسير إيشوعداد للبنتاتوكس بفضل كلِّ ما خلَّفه لنا الكتّاب النساطرة من آثار، لا يزاحمه في هذه المكانة إلاَّ التفسير المغفَّل الذي سنتكلَّم عنه، مع العلم أنَّه ينقل صفحات كاملة من إيشوعداد. وإذا رجعنا إلى كتاب المجالس اكتشفنا أنَّ إيشوعداد هو خير شاهد على التأويل النسطوريّ ولاسيَّما في المقدِّمة التي يستهلُّ بها تفسير كلِّ كتاب.

تفسير إيشوعداد تفسير ضخم فيه الموادّ المتنوِّعة. وقد احتفظ لنا إيشوعداد بقسم كبير ممّا جمعه التعليم الكتابيّ عند النساطرة: تفسير مادّيّ وتفسير روحيّ، أسئلة خاصَّة عن التأويل، عرض لاهوتيّ ودفاعيّ، ملاحظات عن التاريخ القديم والسلسلات الكتابيَّة، عن علم الكون وعلم الفلك وعلم الحيوان والنبات، تلميحات إلى أعمال ليتورجيَّة وعادات دينيَّة وشعبيَّة، ملاحظات فقهيَّة ولغويَّة. كلُّ هذه الموادِّ المبعثرة تجعل من تفاسير إيشوعداد أغنى مرجع للتفسير النسطوريّ.

وتفسير إيشوعداد مهمٌّ لأنَّه يطلعنا على النصِّ الكتابيّ المستعمل في عصره. فهو يستعمل الترجمة البسيطة ولكنَّه يعود إلى اليونانيَّة والعبريَّة. وهو مهمٌّ أيضًا لأنَّه يساعدنا على الاطِّلاع على العمل التأويليّ السابق. لقد وصلت إلينا مقاطع من كتب ضاعت دوَّنها يوحنّا بيت ربّان(3) وميخائيل المعلِّم النصيبينيّ(4) وجبرائيل القطريّ(5) وغيرهم. ويحمل إلينا تفسير إيشوعداد معلومات عن اتِّجاهات التأويل في أيّام إيشوعداد وعن المراجع اليونانيَّة والسريانيَّة (أفرام، تيودور المصّيصيّ، أوسيب الحمصيّ) التي أثَّرت في التأويل النسطوريّ على مرِّ العصور.

5. التفسير المغفَّل

إنَّ المؤلَّف الذي يمتدُّ من العهد القديم إلى العهد الجديد ونجهل كاتبه موجود في مخطوطة(6) (في بطريركيَّة الكلدان في الموصل وفي مخطوطات أخرى). دوِّن الكتاب حوالى السنة 900 وربَّما في نهاية القرن الثاني عشر. وإذا كان مخطوط الموصل يتضمَّن النصَّ كلَّه، فمخطوط منغانا لا يحوي إلاَّ تفسير البنتاتوكس ويعتبره مأخوذًا من تيودور وأفرام ويوحنّا وإبراهيم بيت ربّان وميخائيل المعلِّم النصيبينيّ.

يشبه التفسير المغفَّل إلى حدٍّ بعيد تفسير إيشوعداد ويوازيه في مقاطع عديدة ويمكننا أن نقول إنَّ ثلثي كتاب التفسير المغفَّل موجود في تفسير إيشوعداد. لكنَّ التفسير المغفَّل ترك الأسئلة الإضافيَّة وخفَّف من نصوص الهكسبلة. ثمَّ إنَّه أورد كثيرًا من أسماء السريان ولجأ إلى ألفاظ فارسيَّة ليفسِّر الكلمات الكتابيَّة، واستعمل كذلك كلمات من لهجة قطر. كلُّ هذا يجعلنا نعتبر أنَّ قطر هو موطن الكاتب.

ولكن كيف نفسِّر هذا التقارب بين تفسير إيشوعداد والتفسير المغفَّل؟ هل أخذ الواحد عن الآخر؟ هناك اختلافات في المقاطع المشتركة. ثمَّ إنَّ التفسير المغفَّل يقدِّم مقاطع لجبرائيل القطريّ ويوحنّا بيت ربّان وميخائيل النصيبينيّ لا نجدها عند إيشوعداد. كلُّ هذا يدفعنا إلى القول إنَّ التفسيرين استقيا من مرجع واحد وحافظ كلُّ كاتب على شخصيَّته، ولهذا كانت الاختلافات.

ويمكننا القول إنَّ التفسير المغفَّل هو بعْدَ تفسير إيشوعداد أهمُّ شاهد للتأويل النسطوريّ وهو أهمُّ من جنَّة النعيم. كان مؤلَّف إيشوعداد واسعًا ولكنَّه لم يورد لنا كلَّ ما علَّمه المؤوِّلون النساطرة عن البنتاتوكس، فسدَّ التفسير المغفَّل هذه الثغرة وثابر على ذكر مراجعه السريانيَّة(7) فأطلعنا على الآداب التأويليَّة السابقة التي ضاعت.

6. جنَّة النعيم

هو مؤلَّف ضخم يفسِّر قراءات الكتاب المقدَّس التي تتلى في صلاة الفرض على مدى السنة الليتورجيَّة عند النساطرة. هذا يعني أنَّه تفسير متقطِّع يعالج عددًا محدودًا من النصوص الكتابيَّة. ففي المخطوط الفاتيكانيّ(8) نجد 59 نصٌّا مفسَّرًا أخذت من أسفار البنتاتوكس، و27 نصٌّا من المجالس(9).

من دوَّن جنَّة النعيم؟ لسنا ندري من هو، ولكنَّ النسّاخ يسمُّونه »مفسِّر الأتراك«. أمّا تاريخ تدوينه فيقول إنَّه يعود إلى القرن العاشر، ولكنَّ الأصحَّ إلى القرن الثالث عشر.

عندما ننتقل من تفسير إيشوعداد والتفسير المغفَّل إلى جنَّة النعيم نحسُّ ببعض الخيبة. فإذا وضعنا جانبًا بضعة مقاطع قليلة، فما نجده في تفسير لأسفار البنتاتوكس قرأناه عند هذين المفسِّرين السابقين. هذه الملاحظة تدفعنا إلى البحث عن المصادر. فمرَّة نجد جنَّة النعيم قريبة من إيشوعداد ومرَّة نجدها قريبة من التفسير المغفَّل. فهل اتَّبعت هذين المصدرين، أو استقت مثلهما من المصدر المشترك نفسه؟ هذا سؤال ليس له جوابٌ في الحالة الحاضرة.

7. السلسلة المغفَّلة الأولى

سنة 1880، طبعت أربعة كتيِّبات نسطوريَّة(10). ونجد في الكتيِّب الثالث سلسلة صغيرة عن بعض أسفار العهد القديم والعهد الجديد. ودوَّنت هذه الكتيِّبات بعد الزحف الإسلاميّ، وهناك من يقول في النصف الأوَّل من القرن الثالث عشر وبعد تدوين جنَّة النعيم. ليس هذا الكتيِّب لائحة أسئلة وليس تفسيرًا، إنَّه مجموعة تعاليق حول كلمات خاصَّة من الكتاب المقدَّس، مرتَّبة حسب ورودها. أمّا معجم البنتاتوكس فيحتلَّ الصفحات العشر الأولى من السلسلة، وما نجده من شرح يوافق ما نقرأه في تفسير إيشوعداد والتفسير المغفَّل دون أن نؤكِّد أنَّ هذين التفسيرين هما مصدر هذه السلسلة. نشير إلى أنَّ هذه السلسلة تتوقَّف عند التكوين والخروج دون سائر أسفار موسى، كما تتوقَّف عند أسفار المجالس مرتِّبة إيّاها في الشكل التالي: يشوع، القضاة، صموئيل، الملوك، راعوت، الأمثال، نشيد الأناشيد، الجامعة. ولكن ترد قبل هذا مصطلحات من الأنبياء وسفر أيّوب. وتسمّي السلسلة سفر الأمثال حكمة سليمان وهكذا يفعل التفسير المغفَّل.

لا يمكن لهذه السلسلة أن تزاحم مؤلَّفات أوسع مثل تفسير إيشوعداد وجنَّة النعيم والتفسير المغفَّل، ولكنَّ لها قيمتها بسبب شروح الكلمات. فهي الشاهد على الاهتمام المعجميّ الذي برز عند الكتّاب السريان وكان في أساس تأليف المعاجم التي هي فخر الأدب النسطوريّ.

8. السلسلة المغفَّلة الثانية

إنَّ الكتيِّب الرابع الذي نشر سنة 1880 كناية عن مقاطع مأخوذة من تفسير نجهل متى كُتب، ولكنَّنا متأكِّدون أنَّه دوِّن بعد مؤلَّف إيشوعداد. ليست هذه السلسلة فقط معجمًا كالسلسلة السابقة، بل تحتوي أيضًا تعليقات أو نتفًا من تعليقات. توقَّف الكاتب عند التكوين والخروج فما زاد على إيشوعداد إلاَّ شيئًا قليلاً. أمّا عن أسفار المجالس فنجد 19 تعليقًا نقرأ منها 14 في مؤلَّف إيشوعداد. وتحدَّث الشارح عن أصل السبعينيَّة وعن سمعان، والد ابن سيراخ، وعن معطيات زمنيَّة. وهكذا نقول إنَّ معظم تعاليق هذه السلسلة المغفَّلة الثانية مأخوذة من إيشوعداد.

إنَّ البحث عن تفاسير النساطرة قادنا إلى الملاحظات التالية. الأولى: إنَّ المؤلَّفات التأويليَّة التي وصلت إلينا هي تجميع وتقميش. فنحن أمام موادّ متشابهة أُخذت من كتب سابقة ضاعت فاحتفظت لنا بنتف من التأويل النسطوريّ في أوَجه؛ الملاحظة الثانية: إنَّ تفاسير تيودور بركوني وإيشوعداد المروزيّ والتفسير المغفَّل تشكِّل الينابيع الحقيقيَّة لمعرفتنا بالتأويل النسطوريّ. إنَّها تقدِّم لنا خلاصة ما بقي لنا من هذا التأويل، وخارجًا عنها لا نجد إلاَّ فتاتًا بسيطًا؛ الملاحظة الثالثة: كلُّ هذه المؤلَّفات تكشف الاتِّجاهات التأويليَّة عينها. إنَّها من عصر خضعت فيه الكنيسة النسطوريَّة لتأثير الكنيسة الجامعة. وهكذا تكون هذه المؤلَّفات الشاهد على التأويل النسطوريّ الصحيح في حقبة متطوِّرة.

وبعد هذه النظرة السريعة إلى التفاسير النسطوريَّة، نتوقَّف على إيشوعداد المروزيّ فنتحدَّث عن حياته وآثاره، ثمَّ نقرأ مقدِّمته العامَّة عن أسفار العهد القديم قبل أن ننهي بما كتبه عن سفر المزامير.

ثانيًا: إيشوعداد المروزيّ وتفاسيره

1. المقدِّمة

إنَّ التفاسير الكتابيَّة التي سطَّرها إيشوعداد المروزيّ هي تجميع وتقميش، يعني أنَّ الكاتب عاد إلى مراجع عديدة فاختار مقاطع منها وجمعها بعضها إلى بعض. وهذا التقميش فرض نفسه منذ زمن بعيد باتِّساعه وغنى مضمونه. دُوِّن في القرن التاسع ساعة عاشت الكنيسة النسطوريَّة فترة من الركود فاهتمَّ إكليروسها بتجميع إرث الماضي. وما فعله بعضهم على مستوى تاريخ الكنيسة أو الحياة الرهبانيَّة أو الحقوق الكنسيَّة والمدنيَّة، فعله إيشوعداد في علم التأويل الكتابيّ.

ولكن قبل أن نوغل في هذه التفاسير نتعرَّف إلى كاتبها.

2. حياته وآثاره

أصل إيشوعداد من فارس. ولد في مستهلِّ القرن التاسع في مرو في شمالي خورسان وهي مقاطعة ضمَّتها إليها روسيّا في القرن التاسع عشر(11).

ظهر إيشوعداد في الكنيسة النسطوريَّة كأسقف على الحديثة(12) الواقعة قرب الموصل. فرغ الكرسيّ البطريركيّ منذ سنة 852، ومات على التوالي ثلاثة مرشَّحون بصورة فجائيَّة، فاختار الأساقفة إيشوعداد بطريركًا سنة 853 بسبب سعة علمه وحكمته وهيبته ووقاره. ولكن تدخَّل بختيشوع، طبيب الخليفة المتوكِّل، من أجل تيودوس مطران جنديسابور، وأبعد إيشوعداد. غير أنَّ تيودوس لم يهنأ طويلاً بالمنصب الجديد، فأُلقي في السجن ثلاث سنوات قاسى خلالها المسيحيّون اضطهادًا مريعًا. فشل إيشوعداد في الوصول إلى الكرسيّ البطريركيّ فكرَّس حياته للبحث والكتابة.

تذكر المخطوطات التي بين أيدينا اسم إيشوعداد وموطنه وكرسيَّه الأسقفيّ، وهناك مقطع من كتاب المجدل لماري(13) يسرد الحدث الوحيد من حياته الذي ذكرناه. ويتحدَّث عبديشوع الصوباويّ(14) في فهرسه عن إيشوعداد وآثاره الأدبيَّة بطريقة منقوصة فيقول: كان إيشوعداد أسقف الحديثة. ألَّف باختصار تفسير العهد الجديد وكتاب المجالس(15).

هذا يعني أنَّ عبديشوع الذي كان نسطوريٌّا مثل إيشوعداد لم يكن يعرف من تفاسير إيشوعداد على العهد القديم إلاَّ كتاب المجالس. ولكن ما لا شكَّ فيه هو أنَّ كاتبنا فسَّر العهد القديم كلَّه ويشهد على ذلك المخطوطات التي بين أيدينا(16).

أمّا تفسير العهد القديم فيتضمَّن أربعة أجزاء: الجزء الأوَّل أسفار الشريعة الخمسة: الخليقة (أي التكوين)، الخروج، كتاب الكهنة (أي اللاويّين)، الإحصاء (أي العدد)، إعادة الشريعة (أي تثنية الاشتراع). الجزء الثاني عشرة أسفار بيت موتبي أو المجالس: وهي يشوع بن نون، شفطي أو سفر القضاة، صموئيل (الأوَّل والثاني)، الملوك (الأوّل والثاني)، أمثال سليمان، ابن سيراخ، قهلت (أو الجامعة)، نشيد الأناشيد، راعوت، أيّوب. الجزء الثالث كتب الأنبياء وهي: إشعيا، الاثنا عشر، إرميا، حزقيال، دانيال. الجزء الرابع المزامير.

لم يفسِّر إيشوعداد سفري الأخبار ولكنَّه يستعمل موادَّهما ليتلافى ما يعتبره نقصًا في سفري الملوك. فسَّر سفر المراثي بعد سفر إرميا، وألحق بسفر الجامعة بعض الآيات من سفر الحكمة كما أخذها من الهكسبلة(17) وعنوانها: جزء من الحكمة الكبرى. حين فسَّر دانيال، أغفل ذكر خبر سوسنَّة وألمح إلى خبر بال والتنّين، وأتبع كلَّ هذا بنظرة إلى التاريخ اليهوديّ منذ العودة من الجلاء إلى المسيح.

3. طريقة إيشوعداد في التفسير

عنوان الكتاب هو كما يقول النصُّ: شرح (أو: أضواء على) الجمل الصعبة والألفاظ الغامضة التي في الكتب المقدَّسة. إنَّه يختار ألفاظًا أو آيات غير واضحة ويحاول أن يلقي الضوء عليها. نحن إذًا أمام تفسير متقطِّع وجزئيّ. يقدِّم الكتاب تأويلاً حرفيٌّا ثمَّ يعرض مسائل تعليميَّة وتاريخيَّة وتسلسليَّة وعلميَّة على مثال المؤوِّلين اليونان، ويختار من عند هؤلاء المؤوِّلين مقاطع عديدة. وإذ يتوقَّف إيشوعداد عند هذه اللفظة أو تلك الآية، يقدِّم نصٌّا من الهكسبلة ليقابله بالنصِّ الوارد في كتابه.

إنَّ إيشوعداد استقى كلَّ مضمون التفسير والمسائل ونصوص الهكسبلة من مراجع متنوِّعة. لقد قام بعمليَّة تجميع وتقميش فأخذ موادَّه حيث وجدها. فنقل مراجعه أو اختار مقاطع نظَّمها حسب هواه. يورد الآية الواحدة ويقدِّم الشروحات الآتية من مصادر مختلفة، وبعد أن يكون شرح الآية يقدِّم شرحًا آخر أخذه من مصدر آخر. وإذ يعرض مسألة من المسائل، يقحم مقاطع أخذها من كتّاب آخرين. هذا الكتاب هو إذن مجموعة مقتطفات جاءت من أماكن متعدِّدة ورُتِّبت ترتيبًا ينقصه المنطق مرارًا.

إنَّ شخصيَّة إيشوعداد تشهد على أنَّ التفسير نسطوريّ. هذا ما نتثبَّته من الإجلال لشخص المفسِّر (أي تيودور أسقف المصّيصة) ومن إيراد أقوالٍ لكتّابٍ نسطوريّين. وقد اعتبر بعضهم أنَّ التعليق على تك 18:21(18) يشير إلى مجمع أفسس (431) الذي حكم غيابيٌّا على نسطور. ولكنَّ أفرام السريانيّ يفسِّر النصَّ تفسيرًا مماثلاً. لهذا سنتوقَّف عند التعليم عن يسوع المسيح.

هناك ألفاظ تدلُّ على سكن الكلمة في الإنسان المأخوذ(19). وبها فسَّر تيودور المصّيصيّ طريقة الاتِّحاد بين الطبيعتين في المسيح. وفي نظر إيشوعداد، الناسوت هو الهيكل الذي تقبَّله الكلمة من سام (ابن نوح) أو من إبراهيم ليكون مسكن اللاهوت. ويقول في مكان آخر: الناسوت لباس الكلمة ومعطفه. ولكنَّ هذه العبارات نجدها عند القدّيس أفرام أو عند يوحنّا فم الذهب. وهناك عبارة نسطوريَّة خاصَّة وضعها إيشوعداد على فم الله وهي تذكِّرنا بتحديد الوحدة الشخصيَّة كما عبَّر عنها باباي الكبير(20): مِن الذي آخذه من إسحق الذي هو نموذجه، أجعل ابني بالاتِّحاد مع ابن طبيعتي. وقال إيشوعداد إنَّ الكلمة صار جسدًا »حسب رأي الآخرين« وإنَّه لم يصر إنسانًا إلاَّ في الظاهر، وإنَّه سكن في طبيعة بشريَّة. أمّا العبارة التي تقول إنَّ لاهوت المسيح لم يتألَّم، بل ناسوته، فقد فهمها إيشوعداد ابتعاد اللاهوت في وقت ألم المسيح وموته، وهو ابتعاد لا يلغي قربًا فاعلاً.

4. مراجع التفسير

لا يذكر إيشوعداد مراجعه إلاَّ قليلاً، فاقتضى مقابلة تفسيره مع تفسير سائر الكتّاب السريان أو اليونان. رجع إيشوعداد إلى المصادر الأوَّليَّة، وقد يكون عاد إلى مقتطفات مختارة.

يشير في تفسيره إلى مار أفرام، مار نرساي، زكريّا البليغ(21)، حنانيا الحديابيّ(22)، ميخائيل المعلِّم النصيبينيّ(23)، باباي الفارسيّ(24)، برحدبشابا عربايا(25).

ويذكر من الآباء اليونان: أوريجان (+253) لوقيان الأنطاكيّ (+312)، باسيل أسقف قيصريَّة (+379)، واللاهوتيّ غريغوار النازينزيّ (+390)، أبولينار أسقف اللاذقيَّة (+390)، ابيفان في باناريون، يوحنّا فم الذهب، المفسِّر وهو تيودور أسقف المصّيصة (+428)، ديونيسيوس الأريوباجيّ (نهاية القرن الخامس) وسويريوس الأنطاكيّ (+528).

وترد أسماء هومير وهيسيود وأرسطو وديودور المؤرِّخ اليونانيّ الذي عاش في القرن الأوَّل ق.م. ويوسيفُس المؤرِّخ اليهوديّ (+95) ومرقيون الرومانيّ والمانويّين. ويذكر إيشوعداد كتاب اليوبيلات(26)، وكتب التاريخ الأربعين التي دوَّنها ديودور المذكور أعلاه، والهكسبلة وشرح مار أفرام عن سفر التكوين، وشرح الخليقة وتفسير متّى للمفسِّر تيودور المصّيصيّ والتاريخ الكنسيّ لزكريّا البليغ. وهناك مقاطع مأخوذة من أوسيب الحمصيّ ومن سلسلة بروكوب ومن كهف الكنوز الذي يعود إلى القرن السادس ويرتبط بالتقاليد اليهوديَّة عن آدم.

هذا في سفر التكوين. أمّا في أسفار الشريعة الأربعة الباقية فنقرأ الأسماء التالية: الحكيم الفارسيّ (أفراهاط + بعد 345) عن الصلاة، أفرام في شرحه للتكوين، نرساي، مار أبّا (+552)، إبراهيم ويوحنّا بيت ربّان، حنانا الحديابيّ، ميخائيل النصيبينيّ، جبرائيل القطريّ، يوحنّا برفنكايي (القرن السابع)، دانيال برمريم (القرن السابع)، يعقوب الرهاويّ، إيشوع برنون. ويذكر كاتبين من اليونان: أثناز وتيودور. ويذكر أيضًا فيلون الإسكندرانيّ ويوسيفُس المؤرِّخ اليهوديّ.

وفي أسفار المجالس (بيت موتبي) يذكر إيشوعداد كلاٌّ من أفراهاط، أفرام، إسحق تلميذ أفرام، يوحنّا الأفاميّ أو يوحنّا سابا(27)، نرساي، مار أبا، إليشاع برقوزبايي(28)، إبراهيم ويوحنّا بيت ربّان، بولس النصيبينيّ، حنانا الحديابيّ، جبرائيل القطريّ، يعقوب الرهاويّ (+708) في رسالته الثالثة عشرة، إيشوع برنون. ويذكر من اليونان أفريكان وغريغوار النازيانزيّ اللاهوتيّ وغريغوار النيصيّ وأوغريس ويوحنّا فم الذهب وثيودور المصّيصيّ (المفسِّر) وتيودوريه (القرن الخامس). ويذكر يوسيفُس ومقالات إسحاق الأنطاكيّ وكتاب اليوبيلات.

وفي إشعيا والاثني عشر يرد اسم أفرام، حنانا، القطريّ، دانيال برمريم، ومن اليونان: باسيل، غريغوار النازينزيّ، تيودور، كيرلُّس الإسكندرانيّ، تيودوز. كما يذكر أيضًا يوسيفس. وفي إرميا وحزقيال ودانيال يرد اسم أفرام، مار أبا، يوحنّا بيت ربّان، حنانا القطريّ. ومن اليونان باسيل، النازينزيّ، فم الذهب، تيودوريه القورشيّ، سويريوس الأنطاكيّ.

وفي تفسير المزامير يرد اسم حنانا الحديابيّ (+610) وإيشوعياب الجداليّ(29). ومن اليونان أغناطيوس الأنطاكيّ (+110) وقردون ومناندريس (القرن الثاني) وهما هرطوقيّان كتبا مزامير تعارض الإيمان، وأوريجان الإسكندرانيّ (+253) وأبولينار أسقف اللاذقيَّة (+390) وفم الذهب (+407) وتيودور (+428). وورد اسم زرادشت لتعليمه ألوهيَّة الشمس، وأرسطو لنظرته عن ألوهيَّة السماء والكواكب، وماني لنظرته الثنائيَّة.

5. بعض أسلاف إيشوعداد

نودُّ هنا أن نتوقَّف عند بعض الأشخاص، وأوَّلهم حنانا الحديابيّ، ذلك الهرطوقيّ الذي طُرد من كنيسته وكان إيشوعداد أوَّل من تجرَّأ فذكر اسمه وأورد مقتطفات من كتبه. وإذا قمنا بإحصاء وجدنا اسمه يرد أكثر من أيِّ اسم آخر في تفاسير إيشوعداد (72 مرَّة). كان حنانا مؤوَّلاً شخصيٌّا مبتكرًا وقد اهتمَّ بصورة خاصَّة بنصوص الترجمة البسيطة. وممّا لا شكَّ فيه أنَّ إيشوعداد ارتبط بحنانا ارتباطًا وثيقًا. ولكنَّه ذكر مع حنانا جبرائيل القطريّ أو كيرلُّس الإسكندرانيّ وسويريوس الأنطاكيّ، كما أنَّ بعض ما قاله حنانا يرِدُ قُربَ ما قاله تيودور المصّيصيّ.

بالنسبة إلى المزامير نذكر يوحنّا برفنكايي الذي دوَّن في نهاية القرن السابع كتاب النقاط الرئيسيَّة في تاريخ العالم الزمنيّ وشرَحَ فيه المزامير المسيحانيَّة الأربعة خلال مقالة طويلة عن نبوءات العهد القديم(30). هذا التفسير عقائديّ أكثر منه تأويليّ، وهو ينحصر في تعليم هذه المزامير عن يسوع المسيح. يطبِّق الكاتب بالتفصيل كلمات كلِّ مزمور على المسيح، ويثبّت تطبيقه بآيات من العهد الجديد. ثمَّ إنَّنا نجد داخل العرض توسُّعات تعليميَّة طويلة. أمّا الخاتمة فتبدأ بجملة طويلة تدلُّ على الهدف الذي وضعه الكاتب: »انظرْ، يا عزيزي، كيف تَوافقَ الأنبياء والرسل في ما يتعلَّق بالمسيح وكيف حافظوا على التمييز في الطبيعتين والوحدة في الأقنوم، فيتكلَّمون (عن يسوع) بصيغة المفرد ويعلِّمون عن الاثنين«. إذًا نحن هنا أمام تعليم نسطوريّ عن يسوع المسيح(31).

ونشير أخيرًا إلى شرح الربّان دنحا(32) الذي عاش في القرن التاسع وكان تلميذًا لإيشوع برنون (+828). وضع شرحًا لمزامير داود وتعازي وأمورًا أخرى في الأحكام الكنسيَّة. يتألَّف هذا الشرح(33) من ثلاثة أقسام: مقدِّمة إلى المزامير، شرح المزامير، شرح أناشيد العهد القديم التي تُتلى في صلاة الفرض الإلهيّ. نحن إذًا أمام كتاب ليتورجيّ. وسنتوقَّف على القسمين الأوَّلين: المقدِّمة والشروح.

في المقدِّمة وعنوانها »شرح دوافع مزامير الطوباويّ داود«، نجد ثمانيَ وثائق تعود إلى مصادر مختلفة وتتطرَّق إلى المزامير.

الوثيقة الأولى: دافع المزامير لمار أحوب القطريّ (القرن العاشر) الذي ضاع تفسيره للمزامير. تعالج هذه الوثيقة نفع سفر المزامير وفوائد نشيد المزامير وفضائل داود المثاليَّة.

الوثيقة الثانية: لا نعرف مَن دوَّنها. إنَّها مأخوذة من عرض كتاب الفرض البيعيّ(34) وتبدو في ثلاثة أسئلة. السؤال الأوَّل يتوسَّع في الأسباب التي لأجلها تبنَّت الكنيسة سفر المزامير ككتاب صلاة رسميّ لها؛ السؤال الثاني يعرض سبب تقسيم سفر المزامير (مع الأناشيد الملحقة) إلى 21 تهليلاً و60 مرماية؛ السؤال الثالث يبيِّن أنَّ التهاليل والمرمايات تتوالى فترمز إلى الأحداث الكتابيَّة والكنسيَّة التي مرَّت والتي ستمرُّ منذ الخلق إلى نهاية العالم.

الوثيقة الثالثة(35) ترتَّب المزامير في سبع عشرة فئة. هذه الوثيقة هي الشاهد النسطوريّ الوحيد في اللغة السريانيَّة عن ترتيب مفصَّل للمزامير في الترجمة البسيطة.

الوثيقة الرابعة هي مقتطف من مسائل مختارة لإيشوع برنون بالنسبة إلى المزمور 119.

الوثيقة الخامسة هي دافع المزامير التي ألَّفها مار نتنائيل أسقف شهرزور (+620). يشدِّد الكاتب على سموِّ سفر المزامير. أمّا تفسيره للمزامير فقد ضاع.

الوثيقة السادسة تورد المزمور 151 من السبعينيَّة.

الوثيقة السابعة هي ردٌّ على الرمزيّين كما في إيشوعداد.

الوثيقة الثامنة تورد لائحة باسم المفسِّرين (33 اسمًا) المقبولين في الكنيسة النسطوريَّة. نشير إلى أنَّنا نجد لائحة مماثلة في جنَّة النعيم(36).

أمّا شرح الربّان دنحا فهو نسخة مصحَّحة لمخطوط ساخو 215(37)، نقله دنحا وزاد عليه بعض الشيء دون أن يمسَّ بروح تيودور المسيطرة على الكتاب. كان التفسير متناسقًا فمُزجت بموادِّه موادّ غريبة. كان هناك عنوان مستلهم من تيودور، فوُضع قربه عنوان آخر يختلف عنه شكلاً ومضمونًا(38). وزيدت على النصِّ تعاليق كتُبت بالحبر الأحمر، فابتعدت عن التفسير التاريخيّ للنصِّ الكتابيّ وعن التطبيقات المسيحانيَّة العديدة. قال بعضهم: إنَّ صاحب التعاليق هو حنانا الحديابيّ. وقد زيدت فيها بعد مقتطفات من أحوب القطريّ كما زيدت المقدِّمة. نلاحظ تقاربًا بين الربّان دنحا وإيشوعداد. هل أخذ الواحد عن الآخر، هل استقى الاثنان من معين واحد؟ لا نستطيع الإجابة ما دمنا لا نعرف الزمن الذي دوِّن فيه ما يسمّى شرح دنحا.

ونطرح السؤال الأخير: ما علاقة إيشوعداد بتيودور المصّيصيّ؟

6. إيشوعداد وتيودور المصّيصيّ

إنَّ أهمَّ المنابع اليونانيَّة التي استقى منها إيشوعداد هي كتابات تيودور المصّيصيّ. لا نستطيع أن نقوم بمقابلة بين الاثنين فيما يخصُّ إشعيا لأنَّ تفسير تيودور لإشعيا ضاع. ولكنَّنا نستطيع أن نقابل تفسير الاثني عشر عند تيودور وإيشوعداد(39). فهناك 250 تعليقًا دوِّنت انطلاقًا من تيودور فشكَّلت أكثر من ثلث الكتاب. مرّات ينقل المرجع حرفيٌّا، ومرَّات يزيد أو ينقص، مرّات يترجم المعلِّم ومرَّات يلخِّصه أو يكيِّفه حسب نصِّ البسيطة. وما نكتشفه هو أنَّ روح المعلِّم وأسلوبه ظاهران في تفسير إيشوعداد. فهناك اتِّجاهان: وضع الأحداث التي أعلن عنها النبيّ في زمن سابق للمسيح والتقليل من عدد النبوءات المسيحانيَّة.

يطبِّق إذًا إيشوعداد أقوالاً نبويَّة على أحداث من التاريخ سبقت المسيح. فإذا أخذنا الفصول الخمسة الأولى من إشعيا، نرى أنَّ كيرلُّس الإسكندرانيّ وتيودوريه القورشيّ يفهمانها حصرًا بالنسبة إلى المسيح والكنيسة. أمّا إيشوعداد فيعتبر 2: 2ي فقط نصٌّا مسيحانيٌّا ويطبَّق سائر النصوص على أحداث قريبة من النبيّ. فبحسب كتابنا، نظر الأنبياء إلى الزمان السابق للسبيّ فأعلنوا للشعب الخاطئ اجتياحات الأشوريّين والبابليّين التي انتهت بسقوط السامرة ثمَّ أورشليم. أبرزَ إشعيا دورَ حزقيّا مخلِّص المدينة المقدَّسة ومدشِّن سلام شامل لوقت محدود. وتوجَّه الأَنبياء إلى الأمم المعادية فأنبأ ناحوم بسقوط نينوى. ونظر الأنبيـاء إلى كـورش، محرِّر الشعب، وإلى زربّابل الذي من نسل داود والذي يخلِّص أورشليم من دمار ثانٍ.

هناك أقوال مسيحانيَّة في إشعيا: أصله يكون زرعًا مقدَّسًا (إش 6: 13). ها إنَّ العذراء تحبل وتلد ابنًا (إش 7: 14-16). يملأ سعة أرضك، يا عمّانوئيل (إش 8: 8)، صارت الرئاسة على كتفه (إش 9: 5). ثمَّ هناك نشيد عبد الله الرابع كلُّه (إش 52: 13-53: 12). أمّا قول إش 2: 2ي (= مي 4: 1ي: يوطَّد جبلُ بيت الربّ في رأس الجبال) فهو قول مسيحانيّ مهما كانت تردُّدات تيودور. وهناك أقوال يعتبرها البعض مسيحانيَّة والبعض غير مسيحانيَّة. يورد إيشوعداد هذه الآراء ولا يتَّخذ موقفًا. وهي: إش 65: 8؛ مي 5: 3؛ حب 3: 2؛ زك 11: 7؛ ملا 3: 1ي، ويورد إيشوعداد رأي تيودور في ملا 4: 4-6 الذي يلمِّح إلى مجيء المسيح في آ4 وإلى مجيئه الثاني في آ6، ولكنَّ إيشوعداد يورد أيضًا رأي أفرام الذي يعتبر أنَّ الآيات الثلاث تشير إلى مجيء المسيح الأوَّل.

وهناك أقوال تنطبق على أشخاص من العهد القديم ولكنَّها تشير أيضًا إلى المسيح بوضوح. إنَّها تسعة: إش 11: 1 (يخرج قضيب من جذر يسّى) ينطبق على حزقيّا، ولكنَّه يقال حقٌّا عن المسيح؛ إش 28: 16 (ها أنا واضع في صهيون) يقال الآن في حزقيّا ولكنَّه يتمُّ في المسيح؛ إش 42: 3 (قصبة مرضوضة لا يكسر) يقال عن زربّابل ويتمُّ بوضوح في المسيح؛ إش 49: 5 (كوَّنني في البطن) يقال عن زربّابل والشعب ولكنَّه تمَّ في المسيح؛ إش 61: 1 (روح الربِّ عليَّ) قيل في زربّابل وتمَّ في ربِّنا؛ في يوء 3: 1 (أفيض روحي على كلِّ جسد) يتكلَّم النبيّ الآن عن أنبياء اليهود وعن الشعب، ولكنَّ حقيقة هذه الكلمة تمَّت في المسيح وفي المؤمنين؛ مي 5: 1 (وأنت يا بيت لحم) يقال في زربّابل ويتمُّ في المسيح؛ زك 3: 9 (على حجر واحد سبع أعين) يقال في زربّابل ولكنَّه تمَّ في المسيح؛ زك 9: 9 (ها ملكك يأتي) قيل في زربّابل وتمَّ في المسيح. وفي هذا يقول إيشوعداد: »بما أنَّ المسيح يخرج منهم، فما يشير إليه تمثَّل فيهم كما في علامة. وقال أيضًا: هذا قيل عن زربّابل في معنى رمزيّ، ولكنَّ الحقيقة ظهرت في المسيح الذي لأجله أعطيت كلُّ المواعيد التي تمَّت لإبراهيم وداود. لقد توجَّه العهد القديم كلُّه نحو المسيح فترتَّب كلُّ شيء بحيث يكون صورة مسبقة عن التدبير الجديد. ولهذا فالأشخاص نماذج وصور مسبقة عن المسيح وعمله، وما قيل عنهم قيل عن المسيح الذي تتمُّ فيه هذه النبوءات«.

اختلف تيودور عن كيرلُّس وتيودوريه، كما قلنا، فتبعه إيشوعداد في هذا المجال. رفض تيودور النظرة الرمزيَّة التي تجد في كلِّ سطر من الكتاب المقدَّس نبوءة عن المسيح، فما اعتبر نصوصًا مسيحانيَّة إلاَّ المقاطع التي طبَّقها العهد الجديد على المسيح.

وهكذا يمكننا القول إنَّ إيشوعداد أخذ العنصر الأساسيّ من نظريَّة تيودور أي الطابع النموذجيّ. ولكنَّه لا يُبدي رأيه في قيمة التفاسير المسيحانيَّة التي يأخذ بها العهد الجديد ولا يُبرز استعارات الأسلوب النبويّ. بسط نظريَّة تيودور وابتعد عنها بعض المرّات (مثلاً زك 3: 9). ولكنَّ إيشوعداد يبقى في الواقع أمينًا للمعلِّم فلا يجد في الأنبياء الاثني عشر إلاَّ أربع نبوءات مسيحانيَّة(40).

وما قلناه عن الأنبياء نقوله عن سفر المزامير(41) حيث تأثير المفسِّر ظاهر. فإيشوعداد عرف تيودور إمّا مباشرة وإمّا عبر مختارات. ولكنَّنا لا نقول إنَّ إيشوعداد اكتفى بنقل تيودور، وإلاَّ كان حكمنا خاطئًا. فإيشوعداد يكتب للسريان ويوضح لهم البسيطة التي تختلف عن السبعينيَّة. ثمَّ إنَّ إيشوعداد هو جامع، ولهذا اعتاد أن يصف عددًا من التفاسير أخذها من مواقع عديدة. وهذا يدلُّ على أنَّه حافظ على روحه النقديَّة والكنسيَّة حين استقى من الكتّاب المتعدِّدين ولاسيَّما من تيودور المصّيصيّ.

ثالثًا: الأسفار القانونيَّة

ما هو عدد الأسفار القانونيَّة؟ لا نستطيع أن نعطي جوابًا عن هذا السؤال لأنَّ إيشوعداد لا يقدِّم لائحة بأسفار العهد القديم، ولكنَّه يعدِّد في مقدِّمة سفر التكوين الأسفار المقدَّسة التي نُقلت إلى السريانيَّة في عهد سليمان وهي أسفار الشريعة الخمسة، يشوع بن نون، القضاة، راعوت، صموئيل، المزامير، الأمثال، الجامعة، نشيد الأناشيد، أيّوب. وهو يقدِّم لنا تفسيرًا لكلِّ هذه الأسفار. وهناك أسفار جاءت بعد سليمان هي الملوك ويشوع بن سيراخ. وأخيرًا يورد إيشوعداد بعض آيات من سفر الحكمة. فما لا شكَّ فيه هو أنَّ كلَّ هذه الأسفار جزء من الكتاب المقدَّس.

ويتبع إيشوعداد التقليد النسطوريّ فينفي من اللائحة القانونيَّة كتاب الأخبار. يذكِّرنا أنَّ السريان يختلفون عن العبرانيّين واليونان الذين يعتبرون هذا الكتاب جزءًا من الكتاب المقدَّس، أو يؤكِّد بطريقة واضحة أنَّ كنيسته تقبل بكتاب الملوك لا بكتاب الأخبار. ولكن يبقى لكتاب الأخبار، رغم نفيه من اللائحة، مكانة عظيمة عند النساطرة. ولهذا يورد منه إيشوعداد مقاطع مهمَّة ليسدَّ النقص في أسفار صموئيل والملوك. وتبقى أسفار عزرا ونحميا وطوبيّا ويهوديت وأستير والمكابيّين. فنحن لا نجد أيَّة إشارة إلى وضع هذه الأسفار بالنسبة إلى اللائحة القانونيَّة.

والسؤال الثاني المطروح هو: أيَّة سلطة لهذه الأسفار؟ الجواب بسيط بالنسبة إلى أسفار البنتاتوكس والأنبياء السابقين، فإنَّها تتميَّز بسلطة إلهيَّة لأنَّها دوِّنت بيد أنبياء. موسى دوَّن أسفار الشريعة، ويشوع سفر يشوع، وصموئيل دوَّن القضاة وصموئيل الأوَّل، وياهو أسفار صموئيل الثاني والملوك. ونقدر أن نقول الشيء نفسه بالنسبة إلى الأنبياء اللاحقين. فلا مشكلة لأسفار إشعيا والاثني عشر وإرميا والمراثي وحزقيال من جهة وجودها في اللائحة القانونيَّة وسلطتها الإلهيَّة التامَّة. الأنبياء دوَّنوا كتبهم بأنفسهم أو بواسطة تلاميذهم. وأن تكون المراثي دوِّنت في مصر أو في فلسطين فهذه مسائل ثانويَّة بالنسبة إلى الأمور القانونيَّة. لا يَعتبر إيشوعداد باروك نبيٌّا مع أنَّ بعضهم يقول إنَّه نال موهبة النبوءة فيما بعد. أمّا سفر دانيال فهو قانونيّ، يجعله إيشوعداد في اللائحة القانونيَّة ويفسِّره ويعارض الرأي اليهوديّ فيؤكِّد أنَّ دانيال نال الموهبة النبويَّة. وكانت اعتراضات على سفر يهوديت كما كان على سفر دانيال، فردَّ عليها إيشوعداد وبيَّن أنَّ هذا السفر التاريخيّ يدخل في اللائحة القانونيَّة. ويرجعنا إيشوعداد إلى سفر عزرا ثلاث مرّات وإلى كتاب المكابيّين، ولكنَّه لا يجزم بقانونيَّة هذه الأسفار. أمّا سفر المزامير فيُعدُّ مع أسفار الأنبياء لأنَّ مؤلِّفه هو داود النبيّ.

وماذا نقول عن الأسفار الباقية؟ نتوقَّف أوَّلاً عند الأسفار التي دوَّنها سليمان (حسب رأي إيشوعداد): الأمثال، الجامعة، نشيد الأناشيد وربَّما سفر راعوت. لا يعتبر الكتاب المقدَّس سليمان نبيٌّا بل حكيمًا تمتَّع بموهبة إلهيَّة. هنا نفهم أهمِّيَّة هذا التمييز لاسيَّما بالنسبة إلى الأمثال والجامعة. كان تيودور قال فيهما: إنَّ سليمان ألَّفهما لتعليم الناس، ولم يكن حصل على نعمة النبوءة بل نعمة الفطنة التي تختلف عن النبوءة، كما يقول الرسول. أمّا في نظر إيشوعداد، فسليمان هو حكيم وحكمته أعطاه إيّاها الله، ولهذا فكلماته هي كلمات الله. ويبقى وضع نشيد الأناشيد. فهل هو نشيد حبٍّ بشريّ لم يكتب بالروح النبويَّة؟ أم هل هو نشيد يحتفل بحبِّ المسيح للكنيسة كما يعلِّم غريغوار النيصيّ؟ إذا أخذنا بالرأي الأوَّل وجب علينا أن نقول إنَّه، وإن كان النشيد أحد الأسفار المقدَّسة، إلاَّ أنَّه لا نفع منه في الإيمان والحياة المسيحيَّة. وإذا أخذنا بالرأي الثاني اكتشفنا كتابًا نبويٌّا مملوءًا بالغذاء الروحيّ. غير أنَّ إيشوعداد لا يتَّخذ موقفًا من هذين الرأيين مع أنَّه يعتبر نشيد الأناشيد أحد الأسفار المقدَّسة. وسيكون إيشوعداد واضحًا بالنسبة إلى سفر راعوت الذي هو خبر تقويّ وصل إلى سليمان عبر تقليد عائليّ. إنَّه يقدِّم لنا أمثالاً عن الفضيلة ويعرِّفنا بأجداد المسيح ويعلِّمنا انحطاط اليهود في الزمن المتأخِّر. إذًا الكتاب مفيد وإن لم يُكتب في الروح القدس.

وماذا عن أسفار ابن سيراخ وأيّوب والحكمة؟ يقول لنا إيشوعداد إنَّ ابن سيراخ لم يتمتَّع بالنعمة التي حصل عليها سليمان، ومع ذلك ألَّف كتابه بمعرفة طبيعيَّة وعلم مكتسب. إنَّه كتاب مفيد وهو ثمرة معرفة وحكمة بشريَّة. أمّا الحكم على سلطة سفر أيّوب فترتبط بمسألة الكاتب. هل دوَّنه موسى أم أحد اليهود العلماء ممّن اطَّلعوا على الثقافة اليونانيَّة، كما يقول تيودور؟ لا يتَّخذ إيشوعداد موقفًا من هذين الرأيين، بل يكتفي بعرضهما في تفسيره دون أن يقول شيئًا عن سلطة الكتاب. ويورد إيشوعداد بضع آيات من سفر الحكمة دون مقدِّمة أو تفسير. في هذه الحالة يبدو من المفيد أن نسمع إيشوعداد يحدِّثنا عن هذه الأسفار الثلاثة في تفسيره لرسالة القدّيس يعقوب. إنَّه يعبِّر بوضوح عن فكره الذي لا يختلف عن فكر المفسِّر. يقول: رأينا المفسِّر يقدِّم براهين مأخوذة ليس فقط من الأسفار المكتوبة في الروح القدس بل من سفر أيّوب والحكمة الكبيرة وابن سيراخ التي كُتبت حسب العلم البشريّ.

وخلاصة القول إنَّ الأسفار القانونيَّة كتبت بالروح النبويَّة وهي تتمتَّع بسلطان كامل. كتب موسى أسفار الشريعة، والأنبياء أسفار المزامير وأسفار الأنبياء السابقين واللاحقين، ودُوِّن سفرا الأمثال والحكمة بحكمة معطاة من فوق فكفلت حقيقتهما. وهناك أسفار دوِّنت بعلم بشريّ وهي مفيدة إن لم يكن للإيمان فعلى الأقلّ للأخلاق. وهي راعوت، أيّوب، الحكمة الكبيرة. ولكنَّ السؤال يبقى معلَّقًا بالنسبة إلى نشيد الأناشيد.

وهكذا، فعندما يميِّز إيشوعداد درجات في الأسفار القانونيَّة فهو يتبع التقليد النسطوريّ الذي هو من تقاليد كنائس الشرق كلِّها.

ونتساءل أيضًا: ما هي التوراة التي رجع إليها إيشوعداد؟

عندما يتحدَّث إيشوعداد عن الكتاب المقدَّس فهو يعني التوراة السريانيَّة. وعندما يقابلها بترجمات أخرى فهو يسمِّيها (النصّ) السريانيّ أو النسخة السريانيَّة أو (النصّ) الذي لنا. هذه التوراة سوف تُسمَّى »البسيطة« في ما بعد، وهي الترجمة الرسميَّة في الكنائس السريانيَّة المختلفة.

إذا عدنا إلى سفر التكوين نجد 850 إيرادًا من التوراة السريانيَّة. بين نصِّ إيشوعداد ونصِّ البسيطة اختلافات طفيفة، ولكنَّ هناك نصوصًا قريبة من نصِّ السبعينيَّة اليونانيَّة. فهل نحن أمام نصِّ البسيطة المنقَّح أم أمام تعليق جاء مع نصِّه من اليونانيَّة فأخذه إيشوعداد كما ورد؟

ويرد أكثر من مئة نصٍّ من العهد الجديد، بينها 40 من الأناجيل يعود أكثرها إلى البسيطة وبعضها إلى الدياتسّارون أو النسخة السريانيَّة العتيقة.

وهناك أيضًا أكثر من 200 نصٍّ مأخوذ من الهكسبلة تعطي التفسير وجهًا علميٌّا. وهكذا نجد اسمَي أوريجان ولوقيان الأنطاكيّ، ونصوصًا من السبعينيَّة وأكيلا وسيماك وتيودوسيون. نشير إلى أنَّ النصوص اليونانيَّة هذه توافق الترجمة السريانيَّة للهكسبلة التي قام بها بولس مطران تل موزلت سنة 616-617، واستعملها النسطوريّون حتّى سنة 819 مع أنَّها عمل يعقوبيّ.

ويعود إيشوعداد 43 مرَّة إلى النصِّ العبريّ ويعامله كنصِّ الهكسبلة، ويبدو أنَّ الشارح عرف هذه النصوص العبريَّة من تقاليد التلمود.

ما اكتشفناه في تفسير سفر التكوين نكتشفه في تفسير سائر أسفار موسى حيث نجد أكثر من 900 إيراد من الترجمة البسيطة بينها 250 تقتصر على كلمات يوضح الكاتب معناها.

وسيسير إيشوعداد على هذا المثال في تفسير التوراة كلِّها فينطلق من نصِّ الترجمة السريانيَّة البسيطة يفسِّره ويقابله بالنصوص اليونانيَّة والعبريَّة.

رابعًا: مقدِّمة إلى أسفار العهد القديم

يبدأ إيشوعداد تفاسيره بمقدِّمة عن العهد القديم(42) تبدأ على الشكل التالي: بقوَّة الثالوث الأقدس نبدأ بكتابة شرح الجمل الصعبة والكلمات الغامضة التي في الكتب المقدَّسة. ألَّفها مار إيشوعداد أسقف الحديثة.

1- يحدِّثنا إيشوعداد عن نصوص التوراة المتعدِّدة. ويبدأ أوَّلاً بالنصِّ العبريّ الذي أحرق يوم السبي إلى بابل ولكنَّ الكاهن عزرا كان قد حفظه غيبًا فاستعاده بعد الرجوع من المنفى وكتبه من جديد.

2- أمّا الترجمات اليونانيَّة فهي ستّ: الترجمة السبعينيَّة التي تمَّت في جزيرة فاروس تجاه الإسكندريَّة بيد 72 شيخًا متضلِّعين من العبريَّة واليونانيَّة، في عهد الملك بطليمُس فيلادلفُس، ملك مصر. وهناك ترجمة أكيلا الذي كان وثنيٌّا فآمن وتعمَّد. ولكنَّه انتقل إلى الديانة اليهوديَّة ونقل التوراة بنيَّة غير صافية محاولاً أن يكذِّب السبعينيَّة. وهناك ترجمة سيماك ذلك السامريّ الذي صار يهوديٌّا. نقل التوراة ليهدم التفاسير المعروفة لدى السامريّين. والنصّ الرابع هو ترجمة تيودوسيون الذي كان من تبّاع مرقيون ومن منطقة البنطس. ارتدَّ إلى اليهوديَّة ونقل العبريَّة نقلاً قريبًا إلى السبعينيَّة. والترجمة الخامسة وجدت في أريحا في أيّام الإمبراطور أنطونين في جرار مع كتب أخرى عبريَّة ويونانيَّة، والترجمة السادسة وجدت في نيكوبوليس قرب أكسيوم في اليونان. ثمَّ جاء أوريجان وبعده لوقيان فقابلا النصوص وصحَّحا الأخطاء.

3- أمّا السريانيَّة فتمَّت في أيّام سليمان وبناء على طلب حيرام ملك صور. ويعدِّد إيشوعداد الأسفار التي نُقلت في ذلك الوقت وهي: (أسفار) الشريعة (الخمسة)، يشوع بن نون، القضاة، راعوت، صموئيل (سفران)، داود (أي المزامير)، الأمثال، الجامعة، نشيد الأناشيد، أيّوب. أمّا ما تبقّى من أسفار، فنُقل مع أسفار العهد الجديد في أيّام الملك أبجر وبهمَّة أداي وسائر الرسل. وهناك رأي آخر ينسب النقل إلى كاهن اسمه أسيا أرسله إلى السامرة ملك أشور.

4- عدد الأسفار المقدَّسة في العهد القديم 22 سفرًا(43)، إذا حسبنا أيضًا كتاب الأخبار الذي يدخل في اللائحة العبريَّة واليونانيَّة (لا في اللائحة السريانيَّة). ويعلِّل إيشوعداد هذا الرقم: فهناك 22 خليقة كوَّنها الله في أيّام الخلق الستَّة، وهناك 22 حرفًا في العبريَّة والسريانيَّة، وهناك 22 رئيسًا من آدم إلى يعقوب.

الفنون الأدبيَّة عشرة: هي: النبوءة، التاريخ، التشريع، الصلاة، الحكمة، اللاهوت، الشكر، التهديد، العقاب، التشكّي. إنَّها ينابيع الخلاص التي تروي العطاش بكلمات الحياة التي تتضمَّنها.

5- ويتحدَّث إيشوعداد عن أوَّل كتاب ظهر وعن أوَّل الحروف الأبجديَّة. أوَّل كتاب أعطاه الله لتعليم البشر هو كتاب الخليقة (أي سفر التكوين). لا شكَّ في أنَّ أحداث الخروج تمَّت قبل أن يبدأ موسى بالكتابة، ولكنَّ موسى دوَّن كتبه لا حسب الترتيب الزمنيّ بل حسب ترتيب التدبير الإلهيّ، حسب ترتيب نشاط الخلق عند الله.

6- ويقدِّم إيشوعداد النظريّات عن أصل الكتابة. هناك من قال إنَّ الكتابة وُجدت قبل موسى، وهو بهذا يشير إلى النظريَّة القائلة إنَّ الكتابة بدأت في مصر(44) والنصّ يقول إنَّ موسى تأدَّب بكلِّ حكمة المصريّين (أع 7: 22). يرفض إيشوعداد هذا الرأي ويعلن: إن لم يعد استعمال الكتابة عند الشعوب إلى موسى، فأيَّ جديد أعطاه الله. ويؤكِّد إيشوعداد أنَّ الكتابة عند اليونان أحدث عهدًا. ويورد قول ديودور الصقلّيّ(45): بدأ موسى فاخترع الحروف العبريَّة، فأخذها الفينيقيّون عن العبرانيّين، واليونان عن الفينيقيّين. وسبق موسى كلَّ حكماء اليونان فلم توجد حروف الكتابة قبله.

7- اخترع موسى أحرف الكتابة ودوَّن بها الشريعة أي الأسفار الخمسة. واخترع سليمان الأحرف السريانيَّة وسلَّمها إلى حيرام ملك صور. وهكذا انتشرت الكتابة في العالم. أمّا الكتابة الفارسيَّة فاخترعها رجل من ميشنيا اسمه نبو(46)، درس الحروف العبريَّة والسريانيَّة ثمَّ كتب الحروف الفارسيَّة. وهكذا رفع إيشوعداد من قدر العبرانيّين والسريان على حساب اليونان والفرس.

8- هنا يطرح إيشوعداد مشكلة فلسفيَّة: إذا كان الله أزليٌّا فلماذا لم يخلق الكون منذ الأزل؟ ويجيب: الله وحده لا بداية له ولا نهاية، أمّا الخليقة فلها بداية ولها نهاية. فلو خلق الله الكون منذ الأزل لكان مساويًا لله في الوجود. ولكن لا يمكن أن تتساوى الخلائق مع الخالق. ولكن لماذا خلقه في ذلك الوقت ولم يخلقه قبل ذلك الوقت؟ هذا سؤال لا جواب له.

وخلق الله الكون من أجل الخلائق العاقلة. لم يخلقه لأنَّه أُجبر على ذلك، أو لأنَّه أراد شرٌّا بالإنسان، أو لأنَّه حسد الخلائق العاقلة. خلقه لأنَّه رأى فيه خيرًا للخلائق. هيَّأ الله لنا عالمين، عالمًا فاسدًا ندخل فيه أوَّلاً، وعالمًا غير فاسد.

9- لماذا خلق الله الكون؛ هناك قول سلبيّ: لم تكن فيه حاجة إليه. أمّا الأقوال الإيجابيَّة فثلاثة: خلق الله الكون ليدلَّ على صلاحه. كان وحده موجودًا فأراد أن يشرك بالوجود غير الموجودين. ثانيًا، خلق الكون ليدلَّ على حكمته. ثالثًا، خلق الكون ليدلَّ على قدرته. وهنا يقابل الكاتب بين صلاح الله وعدالته. كان صالحًا لمّا بدأ بخلق السماء والأرض وانتهى بخلق الإنسان. وكان عادلاً حين فرض الناموس والعقاب على آدم. وكلّ هذا تمَّ بيسوع المسيح الذي خلَّصنا من ناموس الخطيئة والموت (رو 8: 2).

10- ما هي العلاقات بين الكائنات العاقلة والكائنات غير العاقلة ؟ أوَّلاً، يحتاج بعضها إلى الآخر. ثانيًا، تنظر الكائنات العاقلة إلى الكائنات المنظورة وهي عديدة ومتنوِّعة فيتعلَّمون الكثير عن قدرة الله وحكمته. وإذ يعرفون الله يعرفون نفوسهم أيضًا: إنَّهم متقلِّبون يحتاجون إلى أن يتعلَّموا من الكائنات العاقلة. من جهة ثانية تحتاج الكائنات غير العاقلة إلى حماية الكائنات العاقلة. أما سلَّمَ الله إلى آدم مهمَّة الاهتمام بالخلائق؟ هناك إذن خالق واحد، وما يجمع الخليقة بعضها مع بعض هو المحبَّة.

11- ما الفرق بين العالم والخليقة؟ عندما نتحدَّث عن الخليقة نتذكَّر اسم الخالق. وعندما نقول الخالق نشير إلى الخليقة التي خلق. وحين نتكلَّم عن العالم فنحن نعني أمورًا عديدة: الطبائع والأوقات والأزمنة والبشر(47).

12- هنا يطرح إيشوعداد أساليب التعبير في الكتاب المقدَّس. هناك أسلوب واضح ومعنى طبيعيّ. مثلاً: في البدء خلق الله السماء والأرض (تك 1: 1). وهناك أسلوب غامض لا بدَّ من فهمه. مثلاً: الله خلق الخير والشرّ (سي 37: 21). أيحدث شرٌّ في المدينة لم يصنعه الله؟ (عا 3: 6) وقسّى الله قلب فرعون (خر 10: 1). وهناك أسلوب رمزيّ مبنيّ على الاستعارة. ننسب إلى الأشياء ما ننسبه إلى الأشخاص كأن تقول الأبوابُ: من هو هذا ملك المجد (مز 24: 8-10)؟ وهناك قول يقلب النظام المحدَّد، وهناك فكرة ستتَّضح فيما بعد. قال الآباء: إنَّ الطبيعة الإلهيَّة لا مبدأ لها ولا نهاية، وقالوا: إنَّ الابن مساوٍ للآب في الجوهر. لم تُذكَر هاتان الحقيقتان بوضوح بل استنتجهما الآباء من نصوص مثل هذه: أنا الأوَّل والآخر (إش 44: 6). أنا والآب واحد (يو 10: 30). ومرَّات يقول الكتاب شيئًا يعارض الطبيعة كأن يقول: السماء من نحاس (تث 28: 23)، ومرَّات يورد رأي الآخرين: ها هو آدم صار واحدًا منّا (تك 3: 22).

13- كيف يتحدَّث الكتاب عن الناس؟ بثلاث طرق: إمّا كما هم في الحقيقة، كأن نقول: كان الإنسان الأوَّل أرضيٌّا من الأرض (1 كو 15: 47)؛ وإمّا أسمى ممّا هم، كأن نقول: إنَّهم من الآلهة (مز 82: 6) أو من الملائكة (ملا 2: 7)؛ وإمّا أدنى ممّا هم. سُمُّوا حيّات (مت 23: 33)، أسودًا (مز 22: 21)، ثعالب (لو 13: 22) نسورًا (تث 28: 49).

14- كيف يسمّي الكتاب المقدَّس الله؟ بطريقتين: إمّا كما هو »يهوه« أو الكائن (خر 3: 14)؛ أو أقل ممّا هو كأن نقول إنَّه غضب (تث 1: 34) أو ندم (1 صم 15: 11). ولكن لا شيء أسمى من الله. ويتوقَّف الكاتب عند كلمة الله ومعناها. فالله هو السيِّد والخالق، علَّة كلِّ شيء، الديّان(48). وينهي إيشوعداد هذه اللائحة فيقول: يُكنّى الله بأسماء عديدة وكثيرة وهذا عائد إلى كثرة أعماله العجيبة، ولكن لا اسم له في طبيعته. غير أنَّ الكتاب احتفظ له باسمين، واحد في العهد القديم: أنا هو الذي هو(49)، وواحد في العهد الجديد: آب وابن وروح قدس (مت 28: 19).

ويبدأ إيشوعداد بشرح الأسفار المقدَّسة مبتدئًا بالتكوين(50) منتهيًا بالمزامير.

خامسًا: تفسير المزامير

إنَّ تفسير المزامير(51) هو نهاية مؤلَّف إيشوعداد المروزيّ عن العهد القديم، يحتوي على مقدِّمة تضمُّ 13 فصلاً وتفسيرٍ يَشرح المزامير المئة والخمسين. وهكذا يكون تفسير المزامير أكبر تفاسير إيشوعداد بعد تفسير سفر التكوين.

وها نحن نقدِّم معلومات عن سفر المزامير كما وردت في مقدِّمة التفسير الذي يعتبر سفر المزامير كتابًا ليتورجيٌّا وكتابًا نبويٌّا.

أوَّلاً: معلومات عن سفر المزامير

1. من دوَّن المزامير؟

يعتبر التقليد الحقيقيّ أنَّ المؤلِّف الوحيد لكلِّ المزامير هو داود(52). ونعلن أوَّلاً، وبخلاف ما يقول الجهّال أنَّ داود كان نبيٌّا حقيقيٌّا(53) بل أعظم أنبياء العهد القديم، لأنَّه نال، حين مُسح، كالرسل يوم العنصرة، وحيًا إجماليٌّا عن التدبير الإلهيّ في الماضي وفي المستقبل. نال هذا الوحي ككنز وكان ينهل منه كما يشاء(54). ولهذا نقول إنَّه بإلهام الروح ألَّف المزامير(55) حتّى تلك التي يقرُّ فيها بخطيئته(56)، ومع أنَّها لا تخلو من الزلل(57). وكان داود ثانيًا مبتكر النشيد الليتورجيّ في المزامير من أجل فائدة المؤمنين(58). لقد أضاف الموسيقى إلى قصائده فنوَّع الأنغام تنويعًا يوافق نشيد المزامير في آية بسيطة أو في آيتين(59). وما زالت هذه العادة سارية في الكنيسة النسطوريَّة. دشَّن داود ولادة المزامير في جوقتين وأدخل عادة إنشاد الفرض البيعيّ كلَّ يوم وفي ساعات محدَّدة(60).

2- ما هي قيمة المزامير؟

إنَّ سفر المزامير هو رأس جسد الكتب المقدَّسة. إنَّه أسمى الكتب النبويَّة وهو يشكِّل شميلة كلِّ وحي العهدين ومجمل تاريخ التدبير الإلهيّ منذ الخلق إلى الدينونة الأخيرة، مرورًا بالمسيح وعمله. إنَّنا نجد فيه نخبة وافرة من الأناشيد الدينيَّة المتنوِّعة التي لا تتضمَّن شيئًا غير لائق، كما نجد في سائر الأسفار المقدَّسة. وهو يتجاوب مع كلِّ حاجات المؤمنين الروحيَّة ويوافق حالات النفس المتنوِّعة. إنَّه يجمع الموسيقى والشعر إلى التعليم والصلاة ويناسب التلاوة في جوقتين. ثمَّ إنَّه يقف بوجه الأناشيد الخلاعيَّة ومزامير الهراطقة. إذًا، كانت الكنيسة محقَّة حين جعلت سفر المزامير كتاب صلاتها الرسميّ(61).

3- ماذا يتضمَّن سفر المزامير؟

الكتاب هو مجموعة من 150 مزمورًا(62). لا نقرأ المزمور الواحد مرَّتين، لأنَّ كلَّ مزمور أُلِّف على حدة وهو يختلف عمّا سواه(63). لا شكَّ أنَّ هناك مزامير تتشابه لأنَّها تشترك في بعض العناصر(64)، كما أنَّ غيرها يتوسَّع في الموضوع نفسه(65). إلاّ أنَّ المزامير لم تقسم بالشكل ذاته في النصِّ العبرانيّ وفي النصِّ اليونانيّ وفي النصِّ السريانيّ(66). ولكنَّ إيشوعداد يفسِّر المزامير كما هي موزَّعة في النصِّ السريانيّ. ويورد الشارح المزامير حسب أرقامها أو حسب بدايتها أو حسب الاثنين معًا، وهو يتبع ترقيم الترجمة البسيطة الذي يختلف بعض الشيء عن ترقيم النصِّ العبريّ ونصِّ السبعينيَّة(67).

4- كيف قسم سفر المزامير؟

قسم خمسة أقسام، وهذه القسمة خاصَّة بالنصِّ العبريّ كما قال إيشوعداد مرارًا(68). أمّا التقسيم إلى تهاليل ومرمايات (أو صلوات وجيزة) فهو يُذكَر مرَّة واحدة(69). وأمّا التقسيم إلى إصحاحات كما تفعل النسخة السريانيَّة التي تقسم سفر المزامير إلى 29 إصحاحًا، فهذا ما لا نجده في المخطوطات(70).

5- كيف تترتَّب المزامير؟

سفر المزامير خليط من المزامير الداوديَّة وُضعت دون ترتيب زمنيّ أو موضوعيّ. فآخر مزمور ألَّفه داود في نهاية حياته يحتلُّ المرتبة الثامنة عشرة، لا المرتبة الأخيرة(71). وهذه الفوضى التي نجدها أيضًا في الأسفار النبويَّة تعود إلى تقلُّبات التاريخ. ثمَّ يفسِّر إيشوعداد سبب تبدُّل صيغ الأفعال في الأسفار النبويَّة وفي المزامير(72).

6- بنية المزامير

تتألَّف المزامير من سلسلة من الفتغامات (أو الجمل). ولكنَّ الفتغامات أقصر من الشعر العبريّ ومن الآيات، ولهذا فهي أكثر عددًا(73). لا يقسم إيشوعداد المزامير إلى أبيات ما عدا المزمور 119(74)، ولا يشير إلى مزامير إبجديَّة في العبريَّة إلاَّ مز 119، 145(75). لا شكَّ في أنَّ اليونانيّ والسريانيّ لم يستطيعا أن يحافظا على الوزن والشكل الأبجديّ كما في العبريَّة، ولكنَّهما أبرزا بعض الخصائص الأسلوبيَّة التي لجأ إليها داود بسبب الوزن. هذا ما يشير إليه إيشوعداد(76).

7- عنوان المزامير

لن نهتمَّ بالعناوين اليونانيَّة والعبريَّة، لأنَّها لم تكتب في البداية بل وضعها أناس عديدون حسب نظرتهم الخاصَّة. والبرهان على ذلك أنَّ كثيرًا من العناوين تنسب إلى المزمور موضوعًا لا يتوافق ومضمونه. لذلك نتمسَّك بالعناوين التي وضعها المفسِّر تيودور المصّيصيّ(77). نشير هنا إلى أنَّ تيودور ترك عناوين النصِّ العبريّ والنصِّ اليونانيّ ولكنّه لم يؤلِّف عناوين حقيقيَّة. بل قدَّم لكلِّ مزمور عرضًا طويلاً أو قصيرًا حدّد فيه موضوع المزمور، وذكر الظروف التاريخيَّة التي افترضها له وردَّ على الآراء المخالفة. ومنذ القرن السادس أخذ المفسِّرون النساطرة يستخرجون من هذه المقدِّمات عناوين حقيقيَّة يربطونها بتيودور. ومع ذلك، حين قدَّم إيشوعداد تفسيره لم يورد دومًا هذه العناوين(78).

8- مواضيع المزامير

إنَّ كلَّ المواضيع التي وردت عند إيشوعداد هي التي أشار إليها تيودور. فإذا عدنا إلى هذه المواضيع، رأينا أنَّ أكثر المزامير ترتبط بأحداث من التاريخ اليهوديّ، أحداث عاصرت داود أو جاءت بعده فتنبَّأ عنها. ولكن ليست المزامير وثائق تاريخيَّة، لأنَّ الكاتب ينظر إليها من الزاوية الدينيَّة أو الأخلاقيَّة. إنَّها صلوات وتراتيل وتعاليم وتحريضات وتنبيهات يعبِّر فيها داود عن أفكاره وعواطفه حسب الظروف التي عاشها شخصيٌّا أو عرفها نبويٌّا. فالمزامير هي من هذا القبيل تعليم وتنبيه لمعاصري داود وللذين جاءوا بعده. ولكنَّها تتوجَّه أيضًا إلى كلِّ الأجيال التي ستتعاقب عبر العصور والتي ستعرف حالات مماثلة.

9- الفنون الأدبيَّة

سفر المزامير هو السفر المقدَّس الوحيد الذي تتمثَّل فيه »تاوريات« أو الفنون الأدبيَّة العشرة التي نجدها في سائر أسفار الكتاب المقدَّس وهي: النبوءة، التاريخ، التشريع، الصلاة، الحكمة، اللاهوت، الشكر، التهديد، العقاب، التشكّي(79). ويمكن أن يجمع المزمور الواحد فنونًا عديدة(80). أمّا تنوُّع الفنون في المزامير فعائد إلى تنوُّع المواهب التي أغدقها الروح على داود وهي موهبة النبوءة والحكمة والتعليم... وكما أنَّ كلَّ مزمور يمثِّل عادة فنٌّا أدبيٌّا محدَّدًا، فكلُّ مزمور ينطلق من موهبة محدَّدة يعطيها الروح فتكسب وجهًا خاصٌّا يختلف عن سائر المزامير(81). غير أنَّ إيشوعداد لم يهتمَّ بأن يبحث في دراسة كلِّ مزمور عن الفنِّ الأدبيّ الذي يمثِّله أو عن الموهبة التي أوحت به. كلُّ ما نجده هو ملاحظات عابرة(82).

10- ترتيب المزامير

لم يهتمَّ إيشوعداد بترتيب المزامير ترتيبًا منسَّقًا، فاكتفى بأن يلاحظ أنَّ المزامير تتنوَّع حسب مواهب الروح، وبأن يبيِّن إلى أيِّ فنٍّ أدبيٍّ ينتمي هذا المزمور أو ذاك، وبأن يشير إلى أنَّ المزمور ألَّفه داود باسم شخص من الأشخاص، وبأن يُعلِمنا بموضوع ثلاثين مزمورًا. ولكنَّ هذه النتف لا تكفي من أجل ترتيب عامٍّ للمزامير حسب إيشوعداد.

ثانيًا: التأويل عند إيشوعداد

قبل أن نعالج التأويل في وجهه المثلَّث كتأويل تاريخيّ وتأويل نبويّ وتأويل مسيحانيّ نتوقَّف عند أسلوب إيشوعداد في التأويل.

1- أسلوب التأويل

إنَّ تفسير المزامير هو كسائر التفاسير تفسير متقطِّع. فإنَّ إيشوعداد يكتفي بأن يوضح بعض الآيات من كلِّ مزمور، تلك التي يجد من المناسب أن يشرحها. هو يبدأ حالاً بالشرح دون أن يعلمنا عن موضوع المزمور(83). وهكذا، وإذا اكتفينا بشرح إيشوعداد ولم نضع أمام عيوننا نصّ المزامير مع العناوين النسطوريَّة، يستحيل علينا، مرَّات عديدة، أن نكوِّن فكرة عامَّة وأن نعرف الفكرة الرئيسيَّة وتسلسل الأفكار. لا نستطيع أن نقول إنَّ كتاب إيشوعداد هو تفسير، بل هو مجموعة تعاليق على آيات مختارة من المزامير.

ونقول ثانيًا إنَّ التفسير هو تجميع وتقميش. فإيشوعداد يأخذ من سابقيه ولاسيَّما من تيودور المصّيصيّ. فهو يأخذ من تيودور المواضيع المعيَّنة للمزامير كما يأخذ مقاطع عديدة يكتبها بطريقته الخاصَّة. وهو ينهل من ينابيع أخرى عديدة فيرتِّب التفاسير المختلفة الواحد قرب الآخر. ليس التفسير إذًا عمل فكر يبتكر، بل عمل جمّاع اجتهد فاستخرج الغنى من مؤلَّفات سابقيه.

دوَّن إيشوعداد تفاسيره فاحتفظ لنا بغنى هامّ يساعدنا على الاطِّلاع على التأويل النسطوريّ الذي لم يبقَ لنا منه إلاَّ النزر القليل.

2- التأويل التاريخيّ

يقاسم إيشوعداد نظرة تيودور إلى تأويل الكتاب الرمزيّ، فيكرِّس فصلاً كاملاً لعرض هذه النظريَّة والردّ عليها لأنَّها لا تفسِّر شيئًا ممّا هو كما هو(84)، ولكنَّه لا ينكر أنَّ داود لجأ إلى الاستعارات. ففي الفصل 13 من المقدِّمة يقدِّم لائحة أمثلة من المفسِّر عن لغة المزامير الرمزيَّة. ولكن إن فهمنا هذا الأسلوب نرى أنَّه لا يغيِّر المعنى التاريخيّ والحرفيّ الذي لا يلغي واقع الأمور ولا يضع شيئًا مكان آخر. يفسِّر إذًا إيشوعداد المزامير حسب المعنى الحرفيّ. وهو يفهم المزامير على طريقة تيودور، فيفرض لها نقطة استناد ملموسة في التاريخ اليهوديّ، ويربطها بأحداث معروفة من العهد القديم. ففي نظره نجد عشرين مزمورًا تفرض أمورًا صنعها داود أو كان شاهدًا عليها. وهناك مئة مزمور ترتبط بأمور حدثت بعد داود تمتدّ من زمن سليمان إلى زمن المكابيّين. وما تبقّى أربعة مزامير لاهوتيَّة أو أدبيَّة توافق كلَّ زمان. هذه النظرة التاريخيَّة إلى المزامير هي في أساس تفسير إيشوعداد.

3- التأويل النبويّ

ألِّفت المزامير على يد داود النبيّ ويمكننا أن نسمِّيها كلَّها مزامير نبويَّة في المعنى العامّ للكلمة. ولكن بما أنَّ الأمور التي ترتبط بها مزامير عديدة ستتِّم بعد أجيال عديدة، فمن الواضح أنَّ المرتِّل عرفها بفضل معرفته النبويَّة السابقة. ونقول الشيء عينه عمّا هو موضوع المزامير الخاصّ أي أفكار وعواطف واستعدادات الناس الذين سيعيشون هذه الأحداث الآتية. فنستطيع أن نقول إنَّ هذه المزامير هي نبويَّة بالمعنى الحصريّ(85).

نجد هنا كما في تفاسير الأنبياء اتِّجاهين يعودان إلى تيودور ويقومان بأن نطبِّق الأقوال النبويَّة على أحداث سبقت المسيح وبالتالي أن نخفِّف من عدد النبوءات المسيحانيَّة. من أجل هذا سنحدِّد المزامير التي اعتبرها إيشوعداد غير نبويَّة، والمزامير التي اعتبرها نبويَّة وغير مسيحانيَّة، والمزامير التي اعتبرها مسيحانيَّة.

المزامير غير النبويَّة هي 35: 17 مزمورًا قيلت في شخص داود وألَّفها بمناسبة أحداث عاشها وهي: 3، 6، 7، 9، 11، 12، 17، 18، 22، 36، 38، 39، 64، 68، 70، 120، 140؛ ثم 8 مزامير قالها داود من أجل الشعب اليهوديّ العائش في أيّامه وهي: 16، 78، 82، 105، 111، 113، 114، 115، 150؛ وأخيرًا 10 مزامير عقائديَّة أو أدبيَّة وهي: 1، 4، 10، 12، 19، 37، 49، 104، 112، 148.

المزامير النبويَّة وغير المسيحانيَّة هي 111 مزمورًا: مزمور واحد يتحدَّث عن سليمان (72)، و25 مزمورًا تعود بنا إلى زمن حزقيّا، ومزمور واحد يشير إلى الحرب مع أحاز والد حزقيّا (46)، و24 مزمورًا تشير إلى زمن حزقيّا والحرب الأشوريَّة، و3 مزامير تتحدَّث عن وقاحة سنحاريب وربشاقا (14، 52، 53)، و21 مزمورًا ترتبط بحزقيّا أو شعبه (15، 20، 21، 27، 29، 30، 32، 33، 34، 41، 48، 54، 75، 76، 87، 91، 92، 116، 117)، و45 مزمورًا تشير إلى زمن السبي منها مزمور واحد في شخص إرميا (35) و44 مزمورًا تفترض السبي (5، 24، 25، 26، 31، 40، 42، 43، 50، 51، 61، 63، 65، 67، 71، 81، 85، 88، 89، 90، 94، 95، 97، 98، 99، 101، 102، 106، 119، 121، 122، 123، 126، 130، 131، 132، 137، 139، 141، 142، 143، 145، 146)، و23 مزمورًا تشير إلى زمن العودة من السبي (23، 73، 77، 84، 93، 96، 100، 103، 107، 118، 124، 125، 127، 128، 129، 133، 134، 135، 136، 138، 146، 147، 149)، و17 مزمورًا تعود بنا إلى زمن المكابيّين، منها مزمور واحد قيل عن شخص أونيّا (55) و16 مزمورًا مكابيٌّا وهي (44، 47، 56، 58، 59، 60، 69، 74، 80، 83، 108، 109، 144).

أمّا المزامير المسيحانيَّة فهي أربعة: 2، 8، 45، 110.

4- التأويل المسيحانيّ

في الفصل الثاني عشر من المقدِّمة يلوم إيشوعداد الرمزيّين لأنَّهم يعتبرون كلَّ نصوص العهد القديم التي يطبِّقها العهد الجديد على المسيح نصوصًا مسيحانيَّة. والحال أنَّ هناك نصوصًا تشير حقٌّا إلى المسيح وأخرى لا تتمتَّع بأيِّ بُعد مسيحانيّ بل طبِّقت بسبب تشابه الأمور، طبِّقت ملائمة. ثمَّ إنَّ إيشوعداد يعتبر خلال التفسير بعض النصوص حقٌّا مسيحانيَّة لأنَّها تشير حصرًا وبطريقة مباشرة إلى المسيح، ويعتبر البعض الآخر أنَّها تشير في زمانها إلى أشخاص من العهد القديم، ولكنَّها تمَّت حقٌّا في المسيح. نسمّي هذه النصوص الأخيرة نبوءات تحمل تطبيقين اثنين. وقبل أن نعطي حكمًا على تأويل إيشوعداد المسيحانيّ سنميِّز النصوص المسيحانيَّة حصرًا، والنبوءات ذات التطبيقين، والأقوال المطبَّقة على المسيح موافقة.

أ- نبوءات مسيحانيَّة حصرًا

يسلِّم إيشوعداد بأنَّ هناك أربعة مزامير مسيحانيَّة كلِّيٌّا وحصرًا. المزمور 2 الذي قيل عن آلام المسيح وارتفاعه. المزمور 8 الذي يتنبَّأ على المسيح، على تدبيره وعلى طبيعته، على مجد وسلطان بشريَّته باتِّحادها بالله الكلمة، على انتشار الإنجيل الشامل. المزمور 45 الذي يحتفل بالمسيح الملك واتِّحاده بالكنيسة. المزمور 110 الذي يعلن المسيح الممجَّد ربٌّا وكاهنًا أعظم. ونضيف إلى هذه المزامير الأربعة آيتين مأخوذتين من مزمورين، مز 11: 7 تقبل تفسيرين: إنَّها تشير، حسب التفسير الأوَّل، إلى الشعب المسبيّ في بابل، وتقال عن المسيح الكلمة حسب التفسير الثاني؛ مز 82: 8 هي صلاة موجَّهة إلى الله وبالأحرى إلى المسيح الممجَّد.

ب- نبوءات ذات تطبيقين

يستعمل إيشوعداد لفظتين: في زمانهم، بوضوح تنطبق أقوال هذه النبوءات على أشخاص من العهد القديم. مز 16: 10 يقال عن الشعب. مز 21: 4 يقال عن حزقيّا. مز 24: 7 يقال عن أورشليم. مز 61: 6 يقال عن الشعب المسبيّ في بابل. مز 87: 5 يقال عن حزقيّا. مز 89: 29 يقال عن داود. مز 118: 2 يقال عن زربّابل. ولكنَّ كلَّ هذه المزامير تنطبق على المسيح حسب الحقيقة أو بوضوح. وهناك مزموران يفسِّران تفسيرين يتعارضان، مز 22: هو، في تفسير أوَّل، يشير إلى داود يضطهده أبشالوم، وفي تفسير ثانٍ قيل عن المسيح كما قيل في أشخاص آخرين. مز 72: أشار في البداية إلى سليمان دون غيره. ولكنَّ المزمور تمَّ في المسيح مع أنَّه قيل في زمن سليمان.

ج- أقوال طبِّقت على المسيح ملائمة

هناك قولان قالهما المسيح على الصليب (22: 1؛ 31: 4). وهناك آيات أخرى طبَّقها الرسل على شخص المسيح (22: 16-18، 68: 18)، وهناك نصوص طبَّقها الرسل لا على المسيح بل على الزمن المسيحيّ (14: 1-3؛ 32: 1؛ 69: 21، 25؛ 109: 8؛ 117: 1).

يبدأ إيشوعداد فيشرح مز 72 ويعرض رأي المفسِّر، ثمَّ يقول إنَّ النصوص تشير إلى سليمان. ولكنَّه ينهي التفسير بهذه الكلمات: أمّا أنا فأقول: مع أنَّ هذه الكلمات قيلت في وقتها في سليمان، إلاَّ أنَّها تمَّت حقٌّا في المسيح. والكلمات الواردة في مز 21: 4، 24: 7، 61: 6 تطبَّق أوَّلاً على أشخاص من العهد القديم. ثمَّ يعلن إيشوعداد أنَّها تمَّت في المسيح. وتعليق 40: 7، يتألَّف من تفسيرين، الأوَّل يعرض الكلمة على أنَّها قيلت في الشعب المنفيّ. والتفسير الثاني يعارض تفسير تيودور. هناك آخرون يقولون: قيلت الكلمة عن المسيح الكلمة. لا يتَّخذ إيشوعداد موقفًا بل يترك للقارئ أن يختار بين تفسيرين. ويطبِّق إيشوعداد مز 22 على داود يضطهده أبشالوم. ولكنَّه يقول في المقدِّمة: نبوءات كثيرة قيلت في المسيح، مع أنَّها طبِّقت سابقًا على أشخاص آخرين. ويقول في معرض شرحه 16: 10، ما يلي: حين يبني ملك بيتًا ويتأخَّر في السكن فيه، يأتي أشخاص يسكنون في بيت الملك بانتظار الملك. هكذا نقول عن النبوءات التي طبِّقت على المسيح، ولكنَّها طبِّقت سابقًا على أشخاص آخرين لئلاَّ تَضيع وتُنسى مع الوقت.

خاتمة

يرتبط التأويل المسيحانيّ عند إيشوعداد بتأويل تيودور. هناك أربعة مزامير مسيحانيَّة فقط. ولكنَّ هناك نبوءات لها تطبيقان: تنطبق على أشخاص من العهد القديم ولكنَّها تليق جدَّا بالمسيح. ثمَّ إنَّ إيشوعداد يقبل تفاسير مسيحانيَّة تعارض نظريّات تيودور. ما الذي دفع إيشوعداد إلى هذا الموقف؟ هل هناك إصلاح تأويليّ بدأ به حنانا وتبنّاه إيشوعداد؟ الأمر ممكن ولكن ما يمكن القول هو أنَّه كان تطوّر في الكنيسة فتبعه إيشوعداد وهو أصدق مَن مثَّل التأويل النسطوريّ في عصره.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM