الفصل الثامن :غريغوار ابن أبو الفرج ابن العبريّ

 

الفصل الثامن

غريغوار ابن أبو الفرج ابن العبريّ (1226-1286)

في الذكرى المئويَّة السابعة لوفاته(*)

مضت سبعماية سنة على وفاة أحد كبار فلاسفة الشرق ولاهوتيّيه، العلاّمة أبو الفرج الملقَّب بابن العبريّ، فاحتفلت الكنائس السريانيَّة بهذه الذكرى في دمشق وحلب وحمص والقامشلي وبيروت؛ وأفردت العراق يومين، يومًا في دير مار متّاي حيث دُفن ويومًا في الموصل؛ ونظَّمت الجامعة اللبنانيَّة سلسلة من المحاضرات دامت ثلاثة أيّام، تطرَّق فيها الباحثون إلى المجالات التي غاص فيها ابن العبريّ: اللاهوت والأخلاقيّات والكتاب المقدَّس والشعر والتاريخ؛ ونشرت دار المشرق تاريخ الزمان ببيروت. فمن هو هذا العظيم الذي احتفلنا بذكراه؟

أوَّلاً: حياة ابن العبريّ

1. مولده

وُلد ابن العبريّ في ملطية، عاصمة أرمينيا الصغرى، سنة 1226. ونال في العماد اسم يوحنّا. واتَّخذ اسم غريغوار يوم رُسم أسقفًا سنة 1246. أمّا اسمه الكامل فهو أبو الفرج جمال الدين مار غريغوار ابن تاج الدين هارون بن توما المَلطيّ. انتمى إلى أسرة عريقة في المسيحيَّة والشرف، وكان أبوه هارون طبيبًا عالمًا، وجيهًا في قومه، نافذ الكلمة في أهل بلده(1).

كان لهارون أولاد نجباء هم ميخائيل وموفَّق ودمنيا ويوحنّا (غريغوار) وبرصوم. والظاهر أنَّهم توفُّوا جميعًا قبل غريغوار، ما عدا برصوم الصفيّ الذي كان شمّاسًا لأخيه، ثمَّ خلفه على كرسيّ المشرق سنة 1288، وظلَّ يشغل هذا المنصب حتّى وفاته في 1 من كانون الأوَّل سنة 1307. ونشير هنا إلى أنَّ برصوم أنجز ترجمة أخيه وأكمل التاريخ الكنسيّ الذي بدأه غريغوار وتوقَّف عنه سنة 1285، فأكمله أخوه حتّى سنة 1288.

أمّا عن لقب ابن العبريّ، فيقول المستشرقون(2) إنَّ أباه كان يهوديّ الأصل اهتدى إلى النصرانيَّة فلقِّب بابن العبريّ وانتقل هذا اللقب إلى أولاده. إلاَّ أنَّ البطريرك اغناطيوس أفرام الأوَّل برصوم(3) دحض مقال المستشرقين موردًا بيت شعر قاله ابن العبريّ عن نفسه: »إذا كان سيِّدنا المسيح سمّى نفسه سامريٌّا فلا غضاضة عليك إن دعوك ابن العبريّ، لأنَّ مصدر هذه التسمية نهر الفرات لا دينًا معيبًا ولا لغة عبريَّة«(4). فالأرثوذكس عامَّة ينكرون هذا التعليل ويقولون إنَّ هذا اللقب أطلق على العائلة لولادة أحد آبائها أو لولادة هارون نفسه في أثناء عبور نهر الفرات. أمّا بولس بهنام مطران بغداد السابق فيربط بين قرية كبيرة تسمّى »عبري« من أعمال جوباس، وملطية موطن غريغوار أبي الفرج فيقول: جلا جدُّ أبي الفرج عن هذا القرية إلى ملطية، إلاَّ أنَّ اسم القرية لاحقه فبقيَتْ النسبة في أحفاده(5).

2. حداثته

عكف ابن العبريّ منذ حداثته على الدراسة والحفظ والتحصيل، فأتقن السريانيَّة والعربيَّة بعلومهما، وقرأ الطبّ على أبيه فتعلَّم منه شيئًا كثيرًا، وكذلك على غيره من أطبّاء العصر المشهورين. واشتغل أيضًا بالفلسفة واللاهوت فدرس مبادئهما على يد والده وحصَّل الكثير وهو لم يبلغ الثامنة عشرة من عمره.

ولكنَّ الكوارث التي حلَّت ببلده اضطرَّته موقَّتًا إلى الانقطاع عن التحصيل. فقد هجم المغول في صيف 1243 على ملطية واستولوا عليها، فهاجر معظم سكّانها إلى سورية ونزح هارون مع أسرته إلى أنطاكية وكانت آنذاك في يد الصليبيّين، فلمّا وصلوا إليها اعتزل ابنُ العبريّ العالمَ وتنسَّك في إحدى المغاور المجاورة. غير أنَّ البطريرك اغناطيوس سابا صرفه عن حياة العزلة هذه بعد أن وصل إليه خبر علمه وفضيلته فطلب إليه متابعة تثقُّفه علميٌّا وروحيٌّا ليستعدَّ لخدمة الكنيسة والمجتمع. وهكذا ذهب أبو الفرج إلى طرابلس (لبنان) مع رفيق له يدعى صليبا فتابع دراسة الطبِّ والبيان والمنطق على عالِم من علماء النساطرة اسمه يعقوب(6).

3. الأسقف غريغوار

في سنة 1264، دعا البطريرك اغناطيوس (1222-1252) غريغوار ورفيقه، فرسم صليبا أسقفًا على كنيسة عكّا، وغريغوار أسقفًا على أبرشيَّة جوباس الصغيرة في منطقة ملطية وهو ابن عشرين سنة. ولم تمضِ سنة حتّى نقله البطريركُ إلى لاقبين في المقاطعة نفسها.

توفِّي البطريرك اغناطيوس سابا وخلفه ديونيسيوس عنجور (1252-1261) الذي تحزَّب له ابن العبريّ على خصمه ابن المعدنيّ. فنقل ديونيسيوس ابن العبريّ إلى كرسيّ حلب، إلاَّ أنَّ هذه المدينة كانت موالية لابن المعدنيّ فرفضت قبول الأسقف الجديد. حينئذٍ اضطرَّ غريغوار إلى الذهاب إلى دير مار برصوم وأقام عند بطريركه سنتين، ثمَّ قصد دمشق فنال حظوة عند الملك الناصر فرفع مكانته وأعاده إلى كرسيِّه مكرَّمًا. واستفاد ابن العبريّ من هذه الفترة من حياته فأكبَّ على المطالعة وأتمَّ دروسه الفلسفيَّة واللاهوتيَّة وأحكم اللغة العربيَّة، وبدأ يستعدُّ لحقبة جديدة في حياته.

ومن ثمَّ عاد إلى حلب بعد أن تحسَّنت علاقاته بابن المعدنيّ سنة 1258، ولكن حدثت في تلك السنة الغزوة المغوليَّة التي ضربت بغداد وقوَّضت الدولة العبّاسيَّة وزرعت الدمار في بلاد العراق وبعض أطراف الشام. وذهب ابن العبريّ لملاقاة هولاكو ليستعطفه على شعبه، ولكنَّ المغول أسروه وأعملوا السيف في رقاب سكّان حلب المدينة المنكوبة من مسيحيّين ومسلمين على حدِّ سواء(7). ولكنَّه في الأخير نال حظوة لدى هولاكو نفسه، نظرًا إلى مهنة الطبِّ التي كان يُتقنها.

4. مفريان المشرق

قُتل البطريرك ديونيسيوس في كرسيِّه سنة 1261، ولم يعش البطريرك ابن المعدنيّ بعده طويلاً، فلحقه سنة 1263، وكان، قبل وفاته، قد اختار ابن العبريّ ليحلَّ محلَّه في مفريانيَّة الشرق. ولمّا خلفه اغناطيوس الثالث يشوع في كرسيّ البطريركيَّة سنة 1264، أقرَّ اختيار ابن العبريّ. وجرت حفلة التنصيب بأبَّهة فائقة في مدينة سيس بحضور الملك هايتوم الأرمنيّ وعظماء بلاطه، مع أساقفة اليعاقبة وأساقفة الأرمن في 19 من كانون الثاني سنة 1264. لا يخفى على القارئ أنَّ رتبة المفريان هي الرتبة الثانية في الكنيسة السريانيَّة، وصاحبها يأتي مباشرة بعد البطريرك، وله السلطة على الأساقفة في مفريانيَّته(8). أمّا مفريانيَّة المشرق فكانت تشمل الناحية الشرقيَّة من بلاد الرافدين والعراق العجميّ ومنطقة أشور، أي كلّ ما كان يدخل سابقًا في المملكة الساسانيَّة، فهي رعيَّة واسعة جدٌّا ومنتشرة في مناطق شاسعة.

أخذ المفريان الجديد يجوب أنحاء رعيَّته وظلَّ على هذا المنوال 22 سنة يعمل بغيرة ونشاط وإخلاص. تنقَّلَ بين نينوى ودير مار متّاي وبغداد والموصل ومراغة وتبريز، وكان يتفقَّد المؤمنين ويشجِّعهم. ومرَّ في بغداد مرَّتين، ولاقى إكرامًا لدى جثالقة المشرق، وزار تكريت سنة 1277 بعد أن مرَّ فيها التتر فأحدثت زيارتُه فرحًا عظيمًا لمدينة لم تحظَ بزيارة مفريان منذ ستّين سنة(9).

وزار هولاكو، الملك التتريّ، فحظيَ بعطفه ونال منه ثلاث براءات: واحدة له، وواحدة للبطريرك، وثالثة لأسقف قيساريّة قبادوقية (في تركيّا) اليعقوبيّ. وسهر على استتباب الأمن والراحة بين أبناء الرعيَّة، وأنشأ الكنائس والأديرة، واهتمَّ بكنيسة برطلة وهو في أواخر حياته سنة 1285. ويروي في تاريخه الكنسيّ أنَّه أقام خلال حياته اثني عشر أسقفًا ممَّن تميَّزوا بالفضيلة والعلم. ولم يقتصر نشاطه على أبناء رعيَّته، بل اتَّصل بالمسيحيّين من مختلف المذاهب من روم وأرمن ونساطرة. واتَّصل كذلك برجال الدولة المسلمين وبأرباب العلم والثقافة، فكثر أصدقاؤه في الأوساط المختلفة.

ومع كلِّ هذا النشاط، لم يألُ ابن العبريّ جهدًا في الاطِّلاع على خزائن الكتب والمحفوظات في الأديرة والمعابد. واستفاد خصوصًا ممّا وجده في مدينة مراغة، من أعمال أذربيجان، من وثائق ستساعده على تدوين كتبه التاريخيَّة.

وظلَّ ابن العبريّ على هذا المنوال في نشاطه إلى أن وافته المنيَّة في 30 من تمُّوز سنة 1286 في مدينة مراغة، وكان فيها مار يبلاها الثالث، جاثليق النساطرة التتريّ الأصل، فرأى أن يقام لابن العبريّ جنازة فخمة، فشارك فيها الروم والأرمن فضلاً عن اليعاقبة(10). ولقد وضع جثمانه في مذبح كنيسة السريان في مراغة ثمَّ نقل فدفن في دير مار متّاي، وهو لا يزال هناك إلى يومنا هذا موضع إكرام وتقدير.

ثانيًا: آثار ابن العبريّ

يقول السمعانيّ: »لم يكفَّ ابن العبريّ عن القراءة والكتابة منذ العشرين من عمره وحتّى نهاية حياته«. وكتاباته خير شاهد على علمه الشامل الذي تطرَّق إلى كلِّ فروع المعارف البشريَّة، وقد أحصى منها أخوه برصوما 31 كتابًا وصل إلينا أكثرها وأهمُّها.

1. الآثار الفلسفيَّة

كانت الفلسفة الجامعة على الطريقة الأرسطاطاليَّة سهلة المنال مستقرَّة المقام بين المسيحيّين أبناء اللغة السريانيَّة، كما كان مفكِّرو المسلمين يأخذون بها أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد. وجاء ابن العبريّ فكان وريث ثقافة مزدوجة، فألَّف في العربيَّة والسريانيَّة، وهذه مؤلَّفاته الفلسفيَّة التي وصلت إلينا.

أ) بعض المؤلَّفات الفلسفيَّة

رسالتان في النفس دبَّجهما في العربيَّة: الأولى مقالة مختصرة في النفس البشريَّة، نشرها الأب لويس شيخو(11) سنة 1898، ويبدو أنَّ ابن العبريّ اقتدى فيها برسالة سريانيَّة بالعنوان نفسه للكاتب السريانيّ موسى بركيفا الذي نقل بدوره عن كتاب يونانيّ عنوانه في النفس البشريَّة لططيانس، نُسب خطأ إلى القدّيس غريغوار العجائبيّ(12). والرسالة الثانية مختصر في علم النفس الإنسانيَّة. نشرها القسّ بولس سباط في مصر سنة 1928 فجاءت في 74 صفحة(13)، وقد ألَّفها ابن العبريّ بناء على طلب ديونيسيوس عنجور أسقف ملطية قبيل سنة 1252، ووصلت منها نسخة نفيسة، أنجزت في أواخر القرن الثالث عشر أو أوائل القرن التالي، إلى يد البطريرك اغناطيوس برصوم فنشرها في »المجلَّة البطريركيَّة«(14) ثمَّ على حدة في حمص سنة 1938.

ب) الأحداق (كتوبو دبوبوتو):

كتيِّب في المنطق والفلسفة لا تتجاوز صفحاته الأربعين، ألَّفه بعد سنة 1275 فجاء في سبعة أبواب مبنيَّة على أورغانون (المنطق) أرسطو. نعرف منه ثلاث نسخ، واحدة في جامعة روكفلر بشيكاغو كُتبت سنة 1290، وثانية في لندن (رقم 1017)، وثالثة في كمبريدج (رقم 2005) والأخيرتان تعودان إلى سنة 1579، وهناك أيضًا نسخة في البطريركيَّة السريانيَّة الأرثوذكسيَّة وثانية في دير الشرفة(15).

ج) حديث الحكمة (سود سوفيا):

كتاب صغير يتضمَّن أربعة أبواب: المنطق، الفيزياء، الربوبيَّة، الأخلاق. نُشرت منه مقاطع في مجلَّة المعهد الطبّيّ العربيّ في دمشق، ونشره سنة 1940 البطريرك برصوم عن ترجمة عربيَّة عُملت بعد زمن المؤلِّف بمدَّة يسيرة وجاءت نسختها من سنة 1608(16).

وقبل أن نتطرق مطوَّلاً إلى كتاب زبدة الحكمة في الفلسفة، نشير هنا إلى كتاب تجارة الفوائد في المنطق والفلسفة، وهو مجلَّد يختصر كتاب زبدة الحكمة، وضعه المؤلِّف قبل سنة 1276 وبقيَتْ منه ستّ نسخ أقدمها خُطَّت في 20 من أيّار سنة 1276(17). قيل إنَّ هذا الكتاب نُقل من العربيَّة إلى السريانيَّة، والأمر يحتاج إلى دليل(18). ونشير هنا إلى أنَّ ابن العبريّ نقل من العربيَّة إلى السريانيَّة كتاب الإشارات والتنبيهات في المنطق والفلسفة وما وراء الطبيعة لابن سينا إجابة إلى رغبة القسّ شمعون آل توما الشرقيّ، رئيس أطبّاء الملك هولاكو(19)، كما نقل كتاب زبدة الأسرار في الفلسفة لأثير الدين الأبهريّ المتوفّى سنة 1264، ولكنَّ هذا الكتاب مفقود.

د) زبدة الحكمة (حاوت حكمي)

أهمُّ كتاب فلسفيّ تركه لنا ابن العبريّ هو زبدة الحكمة، يقع في مجلَّدين من 951 صفحة ولا يزال مخطوطًا. للمجلَّد الأوَّل نسختان قديمتان، الأولى في فلورنسا (عدد 186)، تعود إلى سنة 1340 وقد خطَّها القسّ الراهب نجم، والثانية في أوكسفورد (هونت 1)، خطَّها الراهب القسّ يوسف الكرجيّ سنة 1498، وأربع نسخ حديثة في كندناط (بلاط الملابار) وحلب ودير السيِّدة (خطَّت سنة 1818) وبرمنغام. وللمجلَّد الثاني نسختان قديمتان الأولى خُطَّت على عهد المؤلِّف وقد نُقلت في أواخر سنة 1285 وأوائل سنة 1286 وهي موجودة في الخزانة البطريركيَّة للسريان الأرثوذكس، والثانية موجودة في خزانة آمد الكلدانيَّة، ونسختان حديثتان، الواحدة في الخزانة البطريركيَّة وأخرى في برمنغام.

يتطرَّق المجلَّد الأوَّل إلى العلم المنطقيّ الفلسفيّ وفيه تسعة كتب: الأوَّل إيساغوجي أو المدخل؛ الثاني كتاب المقولات العشر كالجوهر والعرض؛ الثالث كتاب بريرمنياس أي العبارة؛ الرابع الأنالوطيقي الأوَّل وهو تحليل القياس؛ الخامس الأنالوطيقيّ الآخر أي البرهان؛ السادس كتاب طوبيقي أو ديالقطيقي وهو الجدل؛ السابع السوفسطيقي أي المغالطة أو الحكمة المموَّهة؛ الثامن ريطوريقي أي الخطابة؛ التاسع فوايطيقي أي الشعر.

في هذا المجلَّد الذي يقع في 365 صفحة اتَّبع ابن العبريّ طريقة أرسطو في طرح المواضيع، وقال في خاتمته: »هذا كلُّ ما وقفنا عليه من تعليم أستاذنا الفيلسوف الكبير أرسطاطوليس في كتاب الشعر، ويُخال لي أنَّ جزءًا غير يسير فضل منه، إمّا لم يُنقَل من اليونانيَّة أو السريانيَّة أو العربيَّة، أو نُقل ولم يصل إلينا. وإذا شاء الله وكان في الأجل نسخة فإنَّنا ننوي وضع كتاب كافٍ في هذا الفنّ، نستقصي فيه من الأقيسة ما وافق هذه اللغة وحسُنَ فيها وقعه وتتَّفق ألفاظه وتحمل معانيه التي تصادف قابليَّة طبيعيَّة للتخيُّل، كاجتماع الأضداد والمجانسة والاستعارة والمضادَّة والتتابع والمقايسة والمساواة والدلالة والتحقُّق وغير ذلك«(20).

أمّا المجلَّد الثاني فهو يتطرَّق إلى الطبيعيّات وفيه جزءان. في الجزء الأوَّل ثمانية كتب: الأوَّل كتاب السماع الطبيعيّ ويُعرف بسمع الكيان، يتضمَّن خمسة أبواب وفيه تعريف بالأمور العامَّة لجميع الطبيعيّات (أو الفيزياء) مثل المادَّة والصورة والحركة الطبيعيَّة والأسباب والنهاية وغير النهاية وتعلُّق الحركات والنهاية إلى محرِّك أوَّل واحد غير متحرِّك وغير متناهي القوَّة لا جسم له ولا هو في جسم؛ الثاني كتاب السماء والعالم، يتضمَّن خمسة أبواب وفيه تعريف بأحوال الأجسام، بالعناصر الأربعة وحركاتها ومواضعها، وبالحكمة في صيغتها وتفصيلها؛ الثالث كتاب الكون والفساد، فيه أربعة أبواب يشرح فيها حال الكون والفساد والتوالد والنشوء والاستحالات، ويبيِّن عدد الأجساد القابلة لهذه الأحوال؛ الرابع كتاب المعادن، فيه يذكر حال الكائنات الجماديَّة وما في المعادن والجبال والينابيع وحركة الأرض ووضع المسكونة؛ الخامس كتاب الآثار العلويَّة ويُسمَّى مترولوجيا، يتضمَّن أربعة أبواب وفيها يتكلَّم على الأحوال التي تعرض في العناصر الأربعة وتأثير السماوات والشهب والغيوم والصواعق والرياح والزلازل والبحار والجبال؛ السادس كتاب النبات، في أربعة أبواب، يبحث عن الكائنات النامية؛ السابع كتاب الحيوان، بأبوابه الستَّة، وفيه يعرف طبائع الحيوان وحال الكائنات الحيوانيَّة؛ الثامن كتاب النفس، في أربعة أبواب وهو يشتمل على معرفة النفس والقوى الداركة والمحرّكة التي في الحيوان وخصوصًا في الإنسان.

ويبقى الجزء الثاني من المجلَّد الأوَّل الذي يتضمَّن خمسة كتب: الفلسفة، العلم الإلهيّ ويسمّى أيضًا ما بعد الطبيعة وهو القسم النظريّ، والإيثيقيون، أي كتاب الأخلاق أو الحكمة الخلقيَّة وهو القسم العلميّ، تدبير الذات والمنزل، سياسة المدن(21).

2. الآثار اللاهوتيَّة

كان ابن العبريّ أسقفًا ورئيس أساقفة، وكان أوَّل همومه تثقيف كهنته ورهبانه ليعلِّموا بدورهم الشعب المؤمن. لهذا صرف معظم وقته في تدبيج الكتب اللاهوتيَّة، فتطرَّق إلى الكتاب المقدَّس، وإلى ما نسمِّيه اللاهوت النظريّ أو التعليم في العقيدة، وإلى ما نسمِّيه اللاهوت الأدبيّ أي التعليم في الأخلاق والمسلك المسيحيّ والنسكيّات.

أ) مخزن الأسرار (أوصر روزي)

مخزن الأسرار مجلَّد ضخم فسَّر فيه ابن العبريّ أسفار العهدين القديم والجديد وفرغ من تدوينه سنة 1278(22). هذا المصنَّف لم يزل مخطوطًا، نَشر منه المستشرقان سبرنكلن وغراهام المجلَّد الأوَّل الذي يبدأ بسفر التكوين وينتهي بسفر صموئيل الثاني فجاء في 363 صفحة بحجم كبير(23). ولقد طبع كذلك كيتش وبرنستين المقدِّمة وبعض الشروح لمقاطع من سفر أيّوب في مختارات سريانيَّة(24)، وكان قد سبقهما العلاّمة يوسف شمعون السمعانيّ فنشر مقتطفات ونقلها إلى اللاتينيَّة(25). ثمَّ إنَّ الطلاّب الجامعيّين الألمان درسوا مخزن الأسرار، ونقلوا بعض أجزائه إلى اللاتينيَّة أو إلى الألمانيَّة بشكل أطروحة دكتورا. ونذكر على سبيل المثال أنَّ لارساو عُني في ليبزيغ بشرح الفصلين الأوَّلين من سفر التكوين، وأنَّ كلامروث اهتمَّ بأعمال الرسل والرسائل الكاثوليكيَّة، وأنَّ شوارتز درس إنجيل يوحنّا، وسبانوث إنجيل متّى(26).

هذا الكتاب الذي سخَّر له علمه بأسره تناول أسفار العهد القديم كلِّه، القانونيَّة الأولى والقانونيَّة الثانية(27)، وأسفار العهد الجديد، ولم يستثنِ منها إلاَّ سفر الرؤيا لأنَّ التقليد السريانيّ لم يجعله في رتبة سائر الكتاب القانونيَّة.

في هذا الكتاب الذي تعدَّدت نسخاته المخطوطة فأنافت على العشرين(28)، عاد ابن العبريّ إلى السبعينيَّة والبسيطة وأفاد من الحرقليَّة والهكسبلة(29) واستشهد بالأرمنيَّة والقبطيَّة ليضبط النصَّ الذي يفسِّر، فشرح الآيات مستندًا إلى تفاسير الأقدمين أمثال أوريجان المصريّ وأوسيب القيصريّ، وأثناز الإسكندرانيّ وأفرام السريانيّ وغريغوار النازينزيّ وفيلوكسين المنبجيّ وسويريوس الأنطاكيّ وغيرهم. غير أنَّه لم يقرأ مباشرة هذه النصوص بل وجدها في شُرّاح السريان السابقين. وهنا نشير إلى أنَّ ابن العبريّ يقف على مفترق طريقين: الطريق النسطوريَّة من تيودور بركوني وإسكوليّاته(30) التي جمعها في نهاية القرن الثامن، إلى المسائل المختارة لإيشوع برنون (+828) إلى إيشوعداد المروزيّ وحنانيشوع برسروشويه، إلى الشرح المجهول الاسم، إلى جنَّة الأطياب (أو: جنّة النعيم)، والطريق السريانيَّة ابتداءً من تيودور المبسوسطيّ وفيلوكسين المنبجيّ (+523) إلى يعقوب الرهاويّ (+708) وموسى بركيفا وديونيسيوس الصليبيّ.

شرح ابن العبريّ الكتاب المقدَّس شرحًا لفظيٌّا ولغويٌّا، وهذا ما نسمِّيه المعنى الحرفيّ، وشرحه شرحًا روحيٌّا ورمزيٌّا فاكتشف في نصوصه المعنى النهائيّ للكتاب وهو يسوع المسيح وكنيسته.

ب) منارة الأقداس

منارة الأقداس موسوعة كبيرة تحتوي عرضًا شاملاً للتعاليم الأرثوذكسيَّة، وسيوجزها ابن العبريّ في كتاب الأشعَّة(31). أمّا نحن فنتحدَّث عن منارة الأقداس.

هذا الكتاب الذي ذكره السمعانيّ في حديثه عن المكتبة الشرقيَّة الفاتيكانيَّة وصل إلينا في مخطوطات عدَّة توزَّعت بين الشرق والغرب. الأوَّل مخطوط الفاتيكان (عدد 168) يعود إلى القرن الرابع عشر وهو أفضل المخطوطات التي نَقلت إلينا منارة الأقداس لكتابته الواضحة ونصِّه الصحيح الذي لا تشويه فيه. الثاني مخطوط برلين (رقم 190) الذي دوَّنته يدان مختلفتان واحدة سنة 1430، وأخرى سنة 1693، فجاء قريبًا من مخطوط الفاتيكان. ودُوِّن مخطوط فلورنسا في عمودين (سنة 1387) بخطٍّ جميل مع بعض الكلمات المشطوبة والتصحيحات. ويعود مخطوط كمبريدج بإنكلترا إلى القرن الخامس عشر وهو يرتبط بمخطوط فلورنسا، والأخطاء مشتركة ما بينهما. والخامس مخطوط باريس (رقم 210) يعود إلى سنة 1404، كُتب بخطٍّ كبير واضح. تشوَّهت بعضُ كلماته فحاول أحد النسّاخ تصحيحها في ما بعد (سنة 1587). يرتبط مخطوط باريس في بعض عناصره بالفئة الأولى الممثَّلة بمخطوط الفاتيكان ومخطوط برلين، وفي بعضها الآخر بالفئة الثانية الممثَّلة بمخطوط فلورنسا وكمبريدج. ويجدر القول إنَّه منه انطلقت الترجمات العربيَّة لمنارة الأقداس في القرنين السابع عشر والثامن عشر.

هذا في الغرب، أمّا في الشرق فهناك مخطوط دير القدّيس مرقس بأورشليم القدس الذي دُوِّن سنة 1590 فجاء ببعض موادِّه قريبًا من مخطوطي الفئة الأولى، ومخطوط مطرانيَّة السريان الأرثوذكس في بيروت الذي يعود إلى القرن الرابع عشر ومخطوط الحسَكة في الجزيرة الذي يعود إلى سنة 1405.

نقل كتابَ منارة الأقداس إلى العربيَّة الشمّاس سرجين ابن الأسقف يوحنّا بن غرير الدمشقيّ وتوزَّعت نسخاته على المكتبة الوطنيَّة بباريس (سنة 1656) والمكتبة البودليّة في أوكسفورد (سنة 1656) ومكتبات لندن وكمبريدج، والشرفة والشرقيَّة في لبنان.

تتألَّف منارة الأقداس من اثني عشر ركنًا أو بابًا، وكلُّ باب يتضمَّن فصولاً وأقسامًا.

الباب الأوَّل: العلم بوجه العموم وفيه فصلان، يتطرَّق الفصل الأوَّل إلى إمكانيَّة اقتناء العلم، والفصل الثاني إلى المنطق. بعد مقدِّمة دوَّنها ابن العبريّ فأبان فيها أنَّ عصره يستخفُّ بالإيمان الحقِّ والعلم الحقّ، يعلن هو أنَّ هذا ما دفعه إلى جمع تعاليم الفلسفة والعلوم والطبيعة في موسوعة ونقدها وتمحيصها بطريقة فلسفيَّة. أمّا هدف الباب الأوَّل فهو القول بأنَّ قمَّة الكمال هي عند الإنسان، الكائن العاقل الباحث عن العلم الذي نقتنيه عن طريق الحواسّ والعقل. ويورد ابن العبريّ الشواهد المأخوذة من الكتاب المقدَّس والآباء المعلِّمين من يونان وسريان. وبعد أن يرسم صورة عن الإنسان المثاليّ يرُدُّ على أعداء الحكمة وعلى الرافضين حقيقة العلم بواسطة الحواسّ والعقل(32).

ويصف الكاتبُ في الباب الثاني العالمَ كما خُلق في ستَّة أيّام. عاد ابن العبريّ إلى الأدب السريانيّ من خلال تعليم موسى بركيفا عن الستَّة أيّام فاستقى المادَّة اللاهوتيَّة. واستند إلى الفكر اليونانيّ فقرأ أرسطو عند السريان والعرب، ولم ينسَ كتبًا مثل تاريخ الهند للبيرونيّ، ومروج الذهب ومعادن الجوهر للمسعوديّ، وتقويم البلدان لأبي الفداء. في الفصل الأوَّل يعالج قضيَّة العالم الأزليّ ويعتبر أنَّه مرتبط بالزمن، وفي الفصل الثاني يتطرَّق إلى زوال العالم، وفي الفصل الثالث يعدِّد الخلائق التي كوَّنها الله(33).

الباب الثالث يتحدَّث عن اللاهوت: تأكيد وجود الخالق، واجب الوجود والمعبود في كيانه، الله الأزليّ الدائم، الله الخالق الذي لا جسم له مع أنَّنا نقول عنه إنَّه يَسمع ويَرى. الخالق يعرف ذاته وكلَّ الخلائق، هو لا يُرَى بعين الجسد، وهو الخفيّ الذي لا يُدرك. ويُعلن ابن العبريّ أنَّ الله واحد وأنَّه مثلَّث الأقانيم في طبيعة واحدة. وهذا يعني أنَّ الابن والروح القدس ليسا مخلوقين كما يقول أتباع آريوس ومقدونيوس، بل مساويان للآب في الجوهر(34).

ويتطرَّق ابن العبريّ في الباب الرابع إلى سرِّ التجسُّد وإمكانيَّة حدوثه فيعود إلى المحصول في الفقه لفخر الدين الرازيّ ليدافع عن عقيدته من الوجهة العقليَّة. ويورد النبوءات والمعجزات التي تسند عقيدة التجسُّد(35). وفي الباب الخامس يبرهن عن وجود الملائكة وعن عددهم وخلقهم وطبيعتهم ودورهم في مخطَّط الله، فيستند إلى ديونيسيوس المنتحَل الذي يُعتبر حجَّةً عند اليعاقبة ويوحنّا الدمشقيّ في كتابه الإيمان الأرثوذكسيّ وموسى بركيفا في كتابيه خلق الملائكة والرتب الملائكيَّة اللذين ضاعا في السريانيَّة ووُجدا في العربيَّة في مكتبة كمبريدج. ويستفيد ابن العبريّ أيضًا من الفلاسفة العرب ولاسيَّما الفارابي وابن سينا(36).

بعد الباب السادس الذي يتحدَّث عن الكهنوت(37) يعود ابن العبريّ في الباب السابع إلى كائنات روحيَّة أخرى هم الأرواح الشرّيرة: وجودهم وطبيعتهم. يورد الكاتب آراء المانويّين الذين يعتبرون الشرَّ كائنًا يواجه إله الخير، وأولئك القائلين بعدم وجود الشياطين فيردَّ عليهم راجعًا إلى البراهين العقليَّة وتلك المأخوذة من الكتب المقدَّسة(38). موضوع الباب الثامن، النفس العاقلة(39) والباب التاسع، الحرِّيَّة والإرادة. هنا يتحدَّث الكاتب عن الخير والشرّ، عن العناية الإلهيَّة والإرادة الإلهيَّة، عن حرِّيَّة الإنسان ونهاية حياته(40). موضوع الباب العاشر، إحياء الموتى أو قيامة الأجساد(41). في هذا الباب ثلاثة فصول، الفصل الأوَّل: عودة الفاني إلى الوجود والأمر ممكن رغم معارضة المعارضين؛ الفصل الثاني: القيامة أو تجديد الأجساد البشريَّة التي تقوم حقٌّا يوم القيامة. قال الكتاب: »أنا المميت وأنا المحيي«(42)، وقال أيضًا: »ها أنت تصنع للأموات عجائب فيقوم الجبابرة ويمدحونك والذين في القبور يحدِّثون بنعمتك«(43)، وقال أيضًا: »أمواتك يحيون وجثثهم تقوم«(44). ويورد مقال الصادوقيّين الذين يُنكرون قيامة الموتى ويردُّ عليهم. وفي الفصل الثالث يتطرَّق الكتاب إلى المسألة التالية: كيف تكون الأجساد عندما تقوم؟

في الباب الحادي عشر وعنوانه النهاية والدينونة ومجازاة الأخيار والأشرار(45)، يتوقَّف ابن العبريّ عند علامات نهاية الأزمنة، عند سعادة الأخيار وشقاء الأشرار، عند ارتباط الإيمان بالأعمال والمجازاة في العالم الآخر. والباب الثاني عشر عنوانه: فردوس عدن والنظريّات المتعلِّقة بحالة السعادة(46). الفردوس أين يوجد وكيف تكون الحياة فيه؟ ماذا نعني بشجرة الحياة، وشجرة معرفة الخير والشرّ والحيَّة التي أغوت بيت آدم؟

3. في اللاهوت الأدبيّ

نتوقَّف في هذا المجال عند ثلاثة كتب تجمع بين القوانين والأخلاق والنسكيّات. وهذه الكتب هي: النوموكانون أو كتاب التوجيهات (كتوبو درمزي)، الإيثيقون أو علم الأخلاق، الحمامة (كتوبو ديونو) وهو مختصر في ترويض النسّاك.

أ) النوموكانون

النوموكانون أو مجموعة القوانين اسمه في السريانيَّة كتوبو دهودويي أو كتاب الهدايات في الشرع الدينيّ والمدنيّ. نشره في السريانيَّة(47) الأب بول بيجان اللعازريّ سنة 1898 ونقله إلى العربيَّة دانيال بن الخطّاب (+ 1382) تحت عنوان القوانين البيعيَّة كما نقله يوحنّا بن غرير (نهاية القرن السادس عشر) وأسماه الهدايات، وفيلوكسين يوحنّا الدولبانيّ سنة 1929 وأسماه الهدى أو الهدايات، ولكن هذه الترجمات لا تزال مخطوطة. يقع كتاب الهدايات هذا في أربعين فصلاً نورد بعضًا منها: العماد، الميرون، القربان، الأصوام والأعياد، الجنائز، الدرجات والرتب الكهنوتيَّة، الأملاك والزواج، الوصايا، الوراثة، البيع والشراء...

يَرجع ابن العبريّ في كتابته إلى تعليم أداي ومجامع أنقره ونيوقيساريَّة ونيقية وأنطاكية واللاذقيَّة وقسطنطينيَّة وسليق وخلقيدونيا، ويستفيد ممّا كتبه الآباء الأقدمون: إقليميس، ديونيسيوس الأثينيّ، وفيلوكسين ويوحنّا التلّي وسويريوس الأنطاكيّ ويعقوب الرهاويّ. كما نقل قوانينَ وجدَها عند البطاركة السريان أمثال جرجس الأوَّل (758-790) وقرياقس (793-817) وديونيسيوس الأوَّل التلمحريّ (818-845) وميخائيل الأوَّل الكبير (1166-1199) وغيرهم.

ب) الإيثيقون

الإيثيوقون أو علم الأخلاق لحسن السلوك في الدين والدنيا. أتمَّ ابن العبريّ تأليفه بمراغة في 15 تمّوز 1279 ونشره بول بيجان(48) ونقله إلى العربيَّة داود الحمصيّ ويوحنّا بن غرير. وهاتان الترجمتان لا تزالان مخطوطتين، ونقله أيضًا المطران بولس بهنام ونشره في مجلَّة المشرق الموصليَة قبل أن ينشره على حدة في القامشلي سنة 1967.

يُقسَم الكتابُ إلى أربعة أبواب، الباب الأوَّل: تنظيم الحركات التي تساهم في تهذيب الجسد وقمعه (الصلاة، السهر، الطقوس، الألحان، الأصوام، العزلة، الحجّ إلى أورشليم)؛ الباب الثاني: أعمال الجسد من أكل وشرب وزواج شرعيّ وطهارة جسديَّة وواجبات الحال والأشغال اليدويَّة والصدقة؛ الباب الثالث: الأهواء المنحرفة وكيفيَّة التخلُّص منها: تهذيب النفس، الشراهة، العهارة، خطايا اللسان...؛ الباب الرابع: تزيين النفس بأنواع الفضائل: كيف نكتسب فضائل العلم والإيمان والصبر...

الباب الأوَّل والثاني يتوجَّهان إلى جميع المسيحيّين، أمّا الثالث والرابع فإلى طلاّب معرفة الله عن طريق النسك والتوحُّد.

تأثَّر ابن العبريّ في كتاب الإيثيقون هذا بإسحق النينويّ ويوحنّا الدلياتيّ ويوحنّا رئيس الدير أو يوحنّا السلَّميّ وبالأخصّ بالأنبا أواغريس الذي يمثِّل الحركة الأوريجانيَّة المتطرِّفة، كما تأثَّر بالمواضيع التي طرقها الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين.

ج) كتاب الحمامة

آخر ما ألَّفه ابن العبريّ كتاب الحمامة (كتوبو ديونو) وهو مختصر في ترويض النسك. أنشأه باقتراح بعض عشّاق النسك وأسماه الحمامة رمزًا إلى الروح القدس الذي يعمل في قلوب الكاملين. نشره الأب بول بيجان في باريس وليبزيغ بعد كتاب الإيثيقون(49)، والأب قرداحي في رومه سنة 1898، ويوحنّا دولبانيّ في دير الزعفران سنة 1916، والمطران شيشق في هولنده سنة 1983. نُقل إلى العربيَّة سنة 1299 وسُمِّي كتاب الورقاء في علم الارتقاء، ونقله أيضًا الخوري يوحنّا بن غرير الزربابيّ الشاميّ في منتصف القرن السابع عشر. ثمَّ نقله الأب يوسف حبيقه ونشره في مجلَّة المشرق البيروتيَّة(50)، ونشر البطريرك زكّا عيواص النصَّ السريانيّ مع ترجمته العربيَّة في بغداد(51).

يُقسَم كتابُ الحمامة إلى أربعة أبواب، الباب الأوَّل: التمارين الجسديَّة الواجب القيام بها في الدير؛ الباب الثاني: العمل الروحيّ في القلاّية؛ الباب الثالث: في الراحة الروحيَّة التي تغمر النفس وكأنَّها تغطِّيها بالسحاب حيث يسكن الربّ؛ الباب الرابع: قسم شخصيّ يتحدَّث فيه المؤلِّف عن كيفيَّة عودته إلى الخير والصلاح بقراءة كتابات أواغريس والنسّاك الآخرين. وفيه يشبه ابنُ العبريّ الغزاليّ في كتابه المنتقذ من الضلال. ويضيف الكاتب إلى القسم الرابع مئة حكمة عبَّر فيها بطريقة مكثَّفة عن اختباراته الروحيَّة السامية.

4. المصنَّفات التاريخيَّة

يضيق بنا المقام إن نحن توقَّفنا عند مصنَّفات ابن العبريّ النحويَّة - وقد وضع في هذا المجال كتاب الأضواء وكتاب الغراماطيق - أو عند مصنَّفاته الشعريَّة التي تدور حول الوصف والحكَم والإخوانيّات. ولذا ننتقل حالاً إلى المصنَّفات التاريخيَّة التي هي أهمُّ آثار ابن العبريّ وأدعاها لتقدير علماء العصر. نتحدَّث عن تاريخ الزمان، والتاريخ الكنسيّ، وتاريخ مختصر الدول.

ترك لنا ابن العبريّ في السريانيَّة مؤلَّفًا واحدًا فسيحًا هو التاريخ (مكتبنوت زبني). يُقسم إلى قسمين الواحد دينيّ والآخر مدنيّ. إلاَّ أنَّه فُصل بينهما في الطبعات الحديثة فكان منهما كتابان مستقلاّن: التاريخ السريانيّ أو تاريخ الزمان والتاريخ الكنسيّ. وأخذ الكاتب بالأسلوب المتَّبع في عصره، والذي كان يقضي بأن تُجمع في عهد الملك الزمنيّ أو الرئيس الدينيّ، أشهر الأحداث والمعلومات المتنوِّعة، حتّى الأخبار والنوادر. وإليك على سبيل المثال ما حدث في أيّام الخليفة العبّاسي الناصر بن المستضيء الذي بدأت خلافته سنة 1180 وانتهت سنة 1225. لما بُويع بالخلافة قبض على الوزير ابن العطّار وزجَّه في السجن... وفي سنة 1181 زحف صلاح الدين ليناوش السلطان قلبح... الذي كان يسيء معاملة زوجته... وفي تلك الغضون سرَّح البرنس صاحب أنطاكية امرأته اليونانيَّة الشرعيَّة واتَّخذ امرأة زانية... وفي تلك السنة مات سيف الدين... صاحب الموصل... وفي السنة 1181 مرض الملك الصالح إسماعيل صاحب حلب...(52).

أ-تاريخ مختصر الدول

امتدَّت كتابة التاريخ العام حتّى سنة 1285، ولكنَّه كان في السريانيَّة فرغب إليه بعض أصدقائه من وجهاء العرب في مراغة أن ينقل إلى العربيَّة تاريخه السريانيّ فلبّى الطلب وأقبل على العمل فأتمَّه إلاَّ بعض صفحات منه في نحو شهر، بإنشاء على جانب من التهذيب والوضوح متوخِّيًا فيه الاختصار. إلاَّ أنَّه ضمَّنه أمورًا كثيرة لا تُوجَد في المطوَّل السريانيّ ولاسيَّما في ما يتعلَّق بدولتَي الإسلام والمغول، وتراجم العلماء والأطبّاء خاصَّة. وهكذا كان لنا من يد ابن العبريّ بالذات تاريخ مختصر الدول(53).

يذكر ناشر الكتاب الأب صالحانيّ في مقدِّمة الطبعة الأولى أنَّ هذا التاريخ طُبع لأوَّل مرَّة سنة 1663 في مدينة أوكسفورد بالعربيَّة واللاتينيَّة بمراجعة العلاّمة بولوك(54)، ونُقل إلى الألمانيَّة سنة 1783 على يد العلاّمة باور. »ولمّا عزَّ الآن وجود الطبعة الأولى، يقول الأب صالحانيّ، استفزَّتنا محبَّة هذه البلاد إلى إعادة طبع هذا التاريخ«. قابل المخطوطات بعضها ببعض فتسنّى له أن يكمِّل ما كان من النقص في النسخة المطبوعة في أكسفورد.

وندخل في بداية كتاب تاريخ مختصر الدول منطلقين ممّا قاله ابن العبريّ: »وبعد فهذا مختصرٌ في الدول قصدت في اختصاره الاقتصار على بعض ما أُوتي في ذكره اقتصاص إحدى فائدتي الترغيب والترهيب من أمور الحكّام والحكماء خيرها وشرّها على سبيل الالتقاط من الكتب الموضوعة في هذا الفنّ بلغات مختلفة سريانيَّة وعربيَّة وغيرها مبتدئًا من أوَّل الخليقة ومنتهيًا إلى زماننا. وهو مرتَّب على عشر دول داولها الله تعالى بين الأمم فتداولها تداولاً بعد تداولب55. ويبدأ الكاتب من دولة الأولياء، من آدم إلى قضاة بني إسرائيل وملوكهم إلى الكلدانيّين واليونان والعرب المسلمين حتّى يصل إلى ملوك المغول.

ب- التاريخ الكنسيّ

وقبل أن نرجع إلى تاريخ الزمان، نقول كلمة في التاريخ الكنسيّ الذي نشره أبيلوس ولامي في لوفان(56)، ونقلاه إلى اللغة اللاتينيَّة. كما نقل القسّ إسحق أجزاء منه إلى اللغة العربيَّة في المشرق البيروتيَّة(57).

يتطرَّق التاريخ الكنسيّ إلى التاريخ الدينيّ والكنسيّ في الشرق وهو يُقسم إلى قسمين: يبدأ القسم الأوَّل بذكر أحبار العهد القديم منذ هارون ويواصل سلسلة بطاركة أنطاكية المونوفيسيّين (أي السريان أصحاب الطبيعة الواحدة) منذ سويريوس الأنطاكيّ أي منذ سنة 512. في هذا القسم يرتبط ابن العبريّ بميخائيل السريانيّ الكبير ويكاد ينقل تاريخه نقلاً حرفيٌّا. أمّا القسم الثاني من التاريخ الكنسيّ فيتطرَّق إلى الكنيسة السريانيَّة الشرقيَّة منذ بداية النسطوريَّة في القرن الرابع الميلاديّ فيورد سلسلة الجثالقة والبطاركة النساطرة المقيمين في ساليق وقطيسفون وسلسلة المفارنة المونوفيسيّين المقيمين في تكريت. هذا القسم الثاني هو مصدر مهمّ جدٌّا لمعرفة تاريخ الكنيسة السريانيَّة في الشرق. وكما عاد ابن العبريّ في القسم الأوَّل إلى البطريرك ميخائيل السريانيّ، عاد في القسم الثاني إلى ماري بن سليمان (القرن الثاني عشر) في كتابه المجدل الذي وضعه بالعربيَّة.

نشير هنا إلى أنَّ ابن العبريّ واصل هذا التاريخ إلى سنة 1285، ثمَّ جاء أخوه المفريان برصوم فأكمله إلى سنة 1288، وبعد ذلك واصل الكتابة فيه أدي السبيرينيّ حتّى سنة 1496.

ج- تاريخ الزمان

هذا الكتاب لقي اهتمام المؤرِّخين منذ القرن الثامن عشر فنشروا منه مقاطع عديدة ونقلوها إلى اللغات اللاتينيَّة والفرنسيَّة والإنكليزيَّة والألمانيَّة(58). ثمَّ نُشر كاملاً على يد الأب بول بيجان(59) ونقله إلى الإنكليزيَّة العلاّمة واليس(60) وإلى العربيَّة القس إسحق أرملة(61).

يبدأ تاريخ الزمان أو التاريخ المدنيّ بعهد آدم ملك الأرض كلِّها. وينقلنا ابن العبريّ إلى عهد الآباء، نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب، ثمَّ إلى القضاة مثل جدعون ويفتاح وشمشون فيصل بنا إلى عهد داود الملك وخلفائه. بعد هذا ننتقل إلى مملكة الكلدان فمملكة الفرس الأولى أي الأخيمينيّين فإلى عهد الإسكندر فالبطالسة حتّى كليوبترا، فإلى عهد أوغسطس. ومنذ عهد الهجرة يحتلُّ الخلفاء المسلمون محلَّ الأباطرة البيزنطيّين بانتظار أن يُفسحوا المجالَ لملوك المغول والتتر الذين عاش ابن العبريّ في أيّامهم.

ونستفيد من المقدِّمة التي دوَّنها الأب فيّيه في بداية تاريخ الزمان فنقول كلمة في ابن العبريّ المؤرِّخ. فهو على غرار ما نجده عند المؤرِّخين العرب كابن العميد في المجموع المبارك والتاريخ لابن الأثير وتاريخ الأمم والملوك لأبي جعفر الطبريّ، يورد ما حفظه من أعمال سابقيه ثمَّ يضيف معلومات تتناول الحقبة المعاصرة له. لم يكن ابن العبريّ أوَّل من كتب في التاريخ بين السريان. فقد سبقه بطريرك أنطاكية ميخائيل الأوَّل الملقَّب بالسريانيّ الكبير الذي وصل بتاريخه إلى سنة 1196، والرهاويّ المجهول الذي كتب حتّى سنة 1234؛ هذا فضلاً عن الذين يذكرهم البطريرك ميخائيل وهم يوحنّا الأفسسيّ ويعقوب الرهاويّ وديونيسيوس التلمحريّ وديونيسيوس الصليبيّ وغيرهم. يبدو أنَّ ابن العبريّ لم يستفد كثيرًا من الرهاويّ المجهول، ولكنَّه أكمل تاريخ ميخائيل السريانيّ حتّى سنة 1285(62).

لم يعش ابن العبريّ في عزلة بعيدًا عن الملوك والأمراء. فأبوه كان طبيبًا لأحد قادة المغول، ولمّا صار صاحب المقام الأعلى لكنيسته في المملكة المغوليَّة اعترف المغول بسلطته وأعطوه وثيقة بذلك، وبفضل هذه الوثيقة شارك في احتفالات البلاط الرسميَّة وبالأخصّ في تنصيب الخان أحمد تكودار. ثمَّ إنَّه خلال إقامته في مراغة، إحدى عواصم المغول، استفاد من مكتبتها ووثائقها فدوَّن تاريخ حقبة هامَّة. ولم يكمِّل أحد تاريخ المغول بعده حتّى قام بتلك المهمَّة المؤرِّخ رشيد الدين الطبيب والسياسيّ الإيرانيّ المتوفّى سنة 1318.

الخاتمة

تحدَّثنا وأطلنا الحديث عن غريغوار أبي الفرج ابن العبريّ، والموضوع واسع. فهو المفكِّر الذي اكتنه الفلسفة اليونانيَّة فروى أخوه عن بعض المسلمين قولَهم: »كلَّما سمعوا المفريان غريغوار يشرح لهم قضيَّة يتصوَّرون أنَّهم يتلقَّون العلم مباشرة عن أرسطو نفسه«. وهو اللاهوتيّ الذي شبَّهه المستشرقون بالقدّيس ألبرتُس الكبير أو القدّيس توما الأكوينيّ ففاقهما بسعة معارفه وتشعُّبها. وهو المؤرِّخ الذي نقل تاريخ ميخائيل السريانيّ مضيفًا إليه تسعين سنة فأعطانا عن المغول خاصَّة فكرة صحيحة لم نكن لنصل إليها لو أنَّنا اكتفينا بالمؤرِّخين العرب.

قالوا فيه إنَّه كتب في كلِّ مطلَب وفنٍّ فنقصه الاختصاص الذي هو شرط أساسيّ في تقدُّم العلم الإنسانيّ. ولكنَّهم نسوا أنَّه المعلِّم لشعبه والراعي الذي يهمُّه تثقيف القطيع ثقافة تساعده على عيش إيمانه والردِّ على المعارضين لهذا الإيمان. من أجل ذلك عرض ابن العبريّ للمعارف التي تمثَّلها بسرعة ودقَّة، فأمكنه إخراجها بترتيب ووضوح في مختلف الميادين التي جال فيها نشاطه العجيب. هو الذي عاش في حقبة من القلاقل والاضطرابات تضاءلت فيها المعرفة وانحطَّت الدراسات العلميَّة. كان عليه واجب استخلاص كنز السريان الثمين وتنسيقه ونشره للأجيال المقبلة، فوُفِّق إلى ذلك واستحقَّ تكريم اللاحقين فسمُّوه: علم الهدى وكهف التقى وتاج الأمَّة وإمام الأئمَّة وأعجوبة من أجلِّ أعاجيب الدهر.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM