تقديم

نقدّم في هذا الكتاب سبع مقالات أعطيناها العنوان التالي: مقابلات مع الشعب اليهوديّ. نُشرت للمرّة الأولى سنة 1976 مع ترجمة فرنسيّة، أما العنوان الذي جُعل في السريانيّة فهو: ميمر قبالة اليهود لمار يعقوب.

هي سبع مقابلات مع شخص يهوديّ يتخيّله يعقوب أمامه، فيتوجّه إليه في صيغة المنادى، منذ الكلمات الأولى: يا كاتباً ماهراً. نشير هنا، بشكل عابر، إلى أن هذا التوجّه إلى اليهود كشعب (ع م ا) تجاه الشعوب (ع م م ا)، هو أسلوب خطابيّ يستعمله السروجيّ، في خطّ القدّيس بولس (مثلاً روم 2:17). أما الهدف النهائيّ الذي يتوخّاه شاعرنا، فهو أن يبيّن لليهود أن العهد القديم انتهى. فلا يبقى لهم سوى الإيمان بيسوع الذي هو المسيح وابن الله.

تطرّقت المقابلة الأولى إلى كلام عن الأقنوم الثاني في قلب الثالوث. يتوقّف اليهوديّ عند الاله الوحيد. ولكن حين يعرف الابن، يدخل في النظرة المسيحيّة إلى الله الذي هو في ثلاثة أقانيم. والبرهان أخذه السروجيّ من الكتاب المقدّس ومن الخليقة التي تحيط به.

وكان عنوان المقالة الثانية الإيمان والختان. حين نقرأ هذه المقابلات نكتشف تأثير القديس بولس العميق على يعقوب السروجيّ. هنا يبيّن أن الختان لم يعد له من فائدة بعد أن جاء المسيح. وهو لم يكن ضروريّاً قبل أن يُعمل به في شعب العهد الأول. أما المصدر، فكلام بولس: »ففي المسيح يسوع، لا الختان ولا عدمه يصنع شيئاً، بل الإيمان العامل بالمحبّة«. (غل 5:6). هذا ما أراد الوصول إليه يعقوب منطلقاً من الآباء الأولين الذين تقدّسوا بدون ختان. فالختان وُجد في عالم مملوء بالأصنام. أما الآن وقد زالت الأصنام، فانتفت الحاجة إلى هذه الممارسة. وفي أي حال، كم من مختون في الشعب اليهوديّ عبد الأصنام، ولا سيّما الملوك والكهنة، من يربعام إلى هرون...

*         *         *         *

وتحدّثت المقابلة الثالثة عن السبت وراحة الله. انطلق السروجيّ من نصّ الكتاب الذي يشير إلى راحة الله (تك 2:3). وتساءل: هل الله يستريح وهو الذي يعمل دائماً كما يقول عنه يسوع في انجيل يوحنا؟ بل إن الطبيعة لا تستريح: فالشمس تُشرق خلال الأيام السبعة، والقمر والكواكب... هنا وفي كل هذه المقابلات يرفض يعقوب الشرح اليهوديّ الذي يبقى على مستوى الجسد، ولا يصل إلى المعنى الروحيّ. فهناك معنى روحيّ للختان، وكذلك للسبت، بل إن النصوص الكتابيّة لا يمكن أن تُقرأ فقط قراءة بشريّة. فيجب أن تصل بنا إلى المسيح. هل قوّة الختان هي فيه أم في ما يمثّل؟ والدم الذي حفظ الأبكار، ما قيمته إن لم يصل إلى دم المسيح؟ وحمل الفصح، وذبيحة اسحق. هنا يقف السروجيّ في خطّ آباء الكنيسة، ولا يترك تفصيلاً بدون معنى »إنجيليّ«. أما في ما يتعلّق بالراحة وتعب الربّ، فيصل بنا إلى المسيح. هو تعبَ حين أخذ جسداً، وعاش على الأرض ومات على الصليب. فالراحة لا توافق إلاّ من له جسم. والتعب يكون للانسان، لا لله. وينتهي هذا المقال مع كلام عن الأبرار الذين تقدّسوا وما حفظوا الختان، لأنهم اعتبروا أن السبعة أيام هي سبت قدّام الربّ، فيها يجتهد المؤمن ويسعى إلى البرّ.

*         *         *         *

التدبير الالهيّ هو موضوع المقابلة الرابعة. كيف ربّى الله شعبه، فانتزعه من عالم الأوثان ليصل به إلى عبادة الاله الحقيقيّ. ينطلق السروجيّ من موقف اليهود الأساسيّ، الذين يرفضون أن يكون لله ابنٌ. فإذا كان له ابن حقاً، فلماذا لم يكشفه منذ البداية، ولماذا انتظر »ملء الزمن« ليكشفه لنا؟ ويدافع السروجيّ عن موقفه: بدأ الله وكشف عن ذاته لكي يحرّر شعبه. فلو تحدّث باكراً عن الابن، لاعتبره الناس إلهاً بين الآلهة. فهو ما أوحى بالابن إلاّ بعد أن ترسّخ الإيمان بالله الواحد، وزالت الوثنيّة من العالم اليهوديّ. وتنطلق الروح الخطابيّة: حتى لو جاء الابن في البداية، هل كنتَ قبلتَه، أيها اليهودي؟ هناك خمسة عهود وأنتَ قبلتَ منها أربعة: آدم، نوح، ابراهيم، موسى، مع أنها تأخرت فما جاءت منذ بداية الخليقة. ويبقى العهد الخامس الذي قُطع مع يسوع، والذي هو خاتمة المسيرة وكمالها. ويكتشف يعقوب الرموز التي تشير إلى شخص المسيح وإلى الانجيل: سلّم يعقوب، ذبيحة اسحق، رشاش الدم، البقرة الحمراء، غسل الكاهن. بل هو يقرأ عبارة قيلت لابراهيم (يسير على الأرض في طولها وعرضها) ليكتشف الصليب المؤلّف من القسم العموديّ والقسم الأفقيّ. ويسوع هذا لا نكتشفه فقط في النبوءات، بل في حياة الكنيسة اليوم، وبعد خمسمئة سنة على موت المسيح وقيامته. وهكذا نعرف أن السروجيّ كتب هذه المقابلات حوالي السنة خمسمئة للميلاد.

*         *         *         *

وتوقّفت المقابلة الخامسة عند الاعتراف بالابن الحقيقيّ. يجدر القول هنا إن جميع هذه المقابلات تتطرّق إلى موضوع بنوّة الله، لأنه هو الموضوع الأساسيّ في الحوار اليهوديّ المسيحيّ. فحين يؤمن اليهوديّ أن يسوع هو المسيح، يزول الاختلاف بين أبناء العهد الأول وأبناء العهد الثاني. عبدَ العبري الأوثان، فغضب الله عليه. والأمثلة كثيرة منذ عجل هرون إلى عجلَيْ يربعام. وصُلب المسيح على الجلجلة، فزاد غضبُ الله وعاقب. ولكن غضب الله هو أكثر ما يكون، لأن الشعب اليهوديّ ما زال يُنكر حتّى الآن ابن الله. هذا الشعب الذي كانت له الأمجاد في الماضي ولا سيّما وجود الأنبياء فيه، لم يعرف أن يقرأ الكتاب المقدّس، فيكتشف فيه الطريق إلى الحقّ. من أجل هذا ترك الربّ شعبه بعد أن صلب ابنه. هنا نعود مرّة أخرى إلى بولس الرسول الذي تحدّث في الرسالة إلى رومة عن الامتيازات التي نالها الشعب الأول (روم 9:1 ي). ولكنه الآن يبدو وكأنه خسرها، مع أن لا ندامة في عطايا الله (روم 11:29). ثم إن يعقوب يسير في خُطى الرسول فيدلّ على أن لا ظلمَ عند الله. فالنداء مفتوح للشعب الأول وللشعب الثاني، ولا مكان محدّداً يُعبد فيه الله، ولا شعب معيّناً.

*         *         *         *

وجاءت المقابلة السادسة في حوار بين المجمع الذي يمثّل الشعب اليهوديّ، وبين الكنيسة التي تمثّل المسيحيّة الآتية من الشعوب، الآتية من العالم الوثنيّ بأوثانه وخطاياه. أقرّت الكنيسةُ بأصلها الوضيع والبعيد عن الله، لكي تصل إلى تعلّقها بالربّ يسوع، فتبدّل الوضعُ تبدّلاً كلياً بالنسبة إليها. أما بنتُ (شعب) المجمع، فبدأت تفتخر بما نالت من عند الله: كنوز اللاهوت، الملوك، الكهنة، الأنبياء، المعجزات، وصولاً إلى سيناء وبعد سيناء. الآباء ابرار وبنت المجمع تستند إليهم. ولكن ماذا لها الآن؟ لا شيء تقريباً. فيا ليتها تلتحق بالكنيسة التي لها المسيح وهو يكفيها. ثم إن أحداث حياة الآباء تشير إلى المسيح، والنبوءات تتكلّم عنه. اسحق، ابن العاقر، يشير إلى يسوع، ابن البتول، وذبيحة الأول رمز بعيد لم يتحقّق إلاّ في زمن الثاني. وحزقيال أشار إلى الباب المقفل، واشعيا إلى اسم يسوع الذي هو الدنح والظهور، الذي يأتي من المشرق. هنا لا بدّ لنا أن نذكّر بقراءة يعقوب للكتاب المقدّس قراءة »سرّية«، أي بحسب السرّ (رازا). فالسرّ يكشف شيئاً بسيطاً، ولكنه يُخفي القسم الكبير. فما الذي كشفه من ذبيحة اسحق تجاه ذبيحة الصليب؟ والسرّ يقدّم معلومة عاديّة: قدّم ابراهيم ابنه ذبيحة كما كان يفعل العديدون في أيامه. أما صليبُ يسوع الذي بدا غير مختلف عن الصلبان العديدة والمنصوبة في عهد الرومان، فحدّثنا عن الخلاص الذي تمّ على الجلجة وما زالت آثارة حاضرة، ناصعة، في زمن السروجيّ، سنة خمسمئة مسيحيّة. فما دام اليهود يرفضون أن يدخلوا في سرّ كتبهم، بحيث يكتفون بأن يقرأوها قراءة بشريّة، قراءة حسب الجسد، فهم لا يستطيعون أن يلجوا سرّ الابن ويؤمنوا به. لو قرأ اليهود دانيال المتحدّث عن أكثر من عرش، لعرفوا أن هناك عرشاً للآب، وهناك عرشاً للابن. فإذا كان العرشُ تجاه العرش، فهذا يعني المساواة بين الآب والابن. ونلاحظ في هذه المقابلات أن لا كلام عن الروح القدس. وهكذا بعد أن أتى المسيح في الجسد، لا مكان بعدُ لعهد الشعب الأول بالأرض. فالكنيسة تتطلّع إلى السماء. أجل، قراءة حرفيّة لنصّ سفر التثنية وما فيه من كلام عن ميراث الأرض الموعود بها، تحصر اليهود في هذا العالم: السعادة طعام وشراب، ساعة المسيحيّون الذين يتوقون إلى السماء، يعرفون أنهم هناك لا يأكلون ولا يشربون، لا يزوّجون ولا يتزوّجون، بل يكونون مثل ملائكة في السماء.

*         *         *         *

ويسير يعقوب السروجيّ سيراً حثيثاً في خط بولس الرسول حين يتكلّم عن الشريعة والناموس في المقابلة السابعة. كأني بهذه المقابلة توجز ما قيل عن الختان في المقابلة الثانية، وفي المقابلة الثالثة، عن السبت. وفي كل هذا عاد السروجيّ إلى الإيمان كما سبقه الرسول. فعلى ضوء الإيمان بالمسيح نقرأ الكتب المقدّسة. وعلى ضوء هذا الإيمان نكتشف مدى ممارسات العهد القديم وفائدتها في العهد الجديد. هنا نتذكّر أن افراهاط، الحكيم الفارسيّ، أشار إلى هذا الموضوع ليفصل الكنيسة عن المجمع اليهوديّ، ومثله فعل أفرام. في هذا السياق، يتعجّب العالمُ الغربي بشكل خاص من قساوة الآباء على اليهود، وهم لا يريدون أن يفهموا السبب. في القرن الخامس، كُتب التلمود، وكلنا يعرف ما قاله من شرّ عن يسوع وعن أمه مريم. ثم إن اضطهاد الفرس للمسيحيّين بحيث زالت الكنيسة في أرض ايران، كان بإيعاز من اليهود. ولما أتى الفرس إلى المشرق، أتى معهم اليهودُ وطلبوا منهم أن يقتلوا المسيحيين. فمات العددُ الكبير في هذا الشرق. هل نعجب بعد ذلك من ردّة فعل الآباء على الذين قتلوا المسيح، وما زالوا يلاحقونه في شخصه، في شخص أمه، وفي المسيحيين الذين يشكلون جسده؟ فهم يفهمون الفهمَ الصحيح ما قاله بولس في الرسالة الأولى إلى تسالونيكي: »قتلوا الربّ يسوع والأنبياء واضطهدونا، والذين لا يُرضون الله ويعادون جميع الناس، فيمنعونا من تبشير سائر الأمم بما فيه خلاصهم، فهم في كل مرّة يجاوزون الحدّ بخطاياهم، فينزل في النهاية عليهم غضب الله« (1 تس 2:15 - 16).

كيف قرأ السروجيّ ممارسة يوم السبت؟ هو ما قادها إلى يوم الأحد والكلام عن قيامة الرب وحلول الروح، بل رفض أن يكون الله استراح. في الحقيقة الانجيليّة، يسوع المسيح هو الذي استراح. وكذا نقول عن الختان الذي يدلّ على انتماء الانسان إلى الشعب الخاص. لم يربطه يعقوب بالمعموديّة، بل قرأ الختان قراءة في المسيح، لا في الشريعة. كان للختان هدف محدّد: أن يدلّ على الشعب المؤمن ويفصله عن العالم الوثنيّ. ولكن بعد الصليب، لا فائدة من الختان. والشريعة في نظر السروجيّ كان لها دور كبير في تربية الشعب والشعوب. ولكن ما تقدّمه بعد موت المسيح، لا يُفيد البشريّة. فما قيمة الذبائح الحيوانيّة بعد ذبيحة الابن الوحيد؟ وإن كانت الذبائح جُمعت، في زمن الملك يوشيا، في موضع واحد، فلأن في ذلك الموضع، في أورشليم، ستكون ذبيحة الابن التي أخذت ذبائحُ العهد القديم منها فاعليّتها الزمنيّة. مع المسيح، لا تحديد للزمان ولا للمكان ولا للأشخاص: في كل وقت نذبح الذبيحة الواحدة. وفي كل موضع، وإلاّ لكان البعيد لا يصل إلى »أورشليم« فيلبث في خطاياه. وكل انسان يستطيع أن يقدّم الذبيحة، ولو كان نجساً بحسب الشريعة أو مريضاً ومعاقاً.

ما هي الشريعة؟ لها تحديدان في هذه المقابلات. هي أولاً امرأةعجوز، وما عدنا نستطيع أن نطلب منها شيئاً. عملت ما طُلب منها أن تعمل، فما بقيَ لها الآن سوى أن تترك المجال للانجيل. وهي ثانياً امرأة مرضعة. كان دورها كبيراً ما دام الشعب طفلاً، والانسان طفلاً. ولكن جاء النضوج مع المسيح، فهل نبقى أطفالاً نطلب الحليب، لا خبز الحياة وطعام الأقوياء والبالغين. فهل يرضع الشيخ بعدُ من ثدي أمه؟ أما يضحك الناس منه؟ واليهوديّ، في هذا المجال، يُشبه في موقفه مثلَ هذا الموقف. فمتى يترك ثدي أمّه؟ كانوا يضعون العشبَ المرّ على الثدي لكي يُفطم الطفل. والشعب العبرانيّ الذي يأكل الأعشاب المرّة مع حمل الفصح، متى يعرف أنه يجب أن يُفطم وينتقل من حالة إلى حالة؟ لا قراءة بشريّة بعد اليوم للكتاب المقدّس، بل قراءة روحيّة تفهم مثلاً أن جميع ما ورد في العهد القديم لا يجد كامل معناه إلاّ في المسيح. هي صور نقرأها في التوراة، ولكن يجب أن ندخل إلى عمق الصورة، فنكتشف وجه المسيح من خلال حمل الفصح والدم على الأبواب...

*         *         *         *

ذاك هو تفسير السروجيّ. هو لا يختار مقاطع يشرحها بشكل سؤال وجواب. ولا هو يفسّر النصّ آية آية فينطلق من المعنى الحرفيّ لكي يصل إلى المعنى الكامل. هذا الشاعر قرأ النصّ الالهيّ وهضمَه، فبرز المعنى في كل قصيدة من قصائده من خلال تلميح بسيط. وإن توقّف عند صورة أو عبارة، نزل إلى سرّها، دخل في عمقها، لكي يكتشف اللؤلؤة التي نبيع كل شيء لكي نشتريها. فالهدف عنده ليس شرح النصوص الكتابيّة من أجل شرحها، بل الغوص فيها لاكتشاف ذاك الذي ملأ حياته، يسوع المسيح. إن السروجيّ يدخل إلى السرّ، فلا يبقى على مستوى ما عرف اليهود من يسوع، ولا على مستوى ما تخيّلوه فيه لأنهم ما أرادوا أن يفهموه. وإن هو قرأ العهد القديم، جعله في حياة يسوع بحيث يتخذ معنى جديداً ما كان لليهود أن يعرفوه إن هم ظلوا محصورين في إطار الشريعة وممارساتها.

فيسوع المسيح هو الابن الذي يريد أن يُقنع الشعبَ اليهودي، بعد أن اقتنعت الشعوبُ الوثنيّة. هو ذاك المساوي للآب في الجوهر. وعرشُه على مستوى عرش الله. فكيف لبنت المجمع أن لا تؤمن به وهو الذي تكلّم عنه الأنبياء، بل تحدّث عنه العهد القديم كلّه؟ واليوم، عمّ الإيمان المسيحيّ الكون، فماذا ينتظر الشعب العبرانيّ أن يدخل في هذه المسيرة؟ على ما قال بولس الرسول: بعد دخول الأمم، يغار الشعب اليهوديّ ويدخل بدوره في تدبير الخلاص الجديد. والمسيح هو الذي يعطي معنى لكل ما سبق وقيل في الكتاب المقدّس. ندخل في سرّه فنفهم، وإلاّ نبقى خارجاً. هذا الابن هو في قلب الثالوث مع الروح القدس الذي هو أقنوم مثل الابن. انتظر الآب ليكشف عن شخص الابن، وانتظر أن يُعرف الابنُ لكي يكشف الروح القدس.

والكنيسة تواصل عمل الابن. هي عروسه ومستودع كل غنى الآب. انتقل العهد إليها، فامتلكت مفاتيح البيت والسلطة التامّة على الأسرار. إنها تعيش علاقة حميمة مع ذاك الذي هو عريسها. كانت زانية، أي عابدة أوثان، فانتزعها يسوعُ من هناك فصارت، بالإيمان، عروساً له، لا يزاحمها أحد. في المقابلة بين بنت المجمع وبين الكنيسة، انطلق السروجيّ من سفر حزقيال (ف 16). كان الشعب اليهوديّ في البريّة، فربّاه الله في الشريعة، ولكنه خسر كرامته الأولى ورُذل. وها هي الكنيسة تحارب المجمع وتتعب في حربها. ولكنها ستنتصر في النهاية، فتتسلّم خدمةَ بيت الله. عاد السروجيّ إلى سفر نشيد الأناشيد لينشد جمالها. هي سوداء ولكنها جميلة. كانت ظلمة فصارت نوراً بعد أن تروّجها عريسُ. كانت سوداء فصارت أبيض من الثلج وأبهى من النور، وتفوّق مجدُها على مجد العروس الأولى التي أخِذت هي ايضاً من الزنى، على ما قال هوشع النبيّ. نالت النار والروح حين خرجت من مياه المعموديّة، فاستضاء وجهُها. تطهّرت، تقدّست، فدعاها وأدخلها. زينَّها عريسها، وجعل دمَه قلادة في عنقها.

*         *         *         *

تلك نظرة سريعة إلى المقابلات مع الشعب اليهوديّ. انطلق السروجيّ من وجه الكنيسة كما برز له في أيامه، فعاد إلى الكتب المقدّسة يستقرئها ليكتشف فيها جواباً يردُّ به على اليهوديّ الذي ما زال متعلّقاً بكتبه يقرأها قراءة بشريّة فلا يكتشف فيها أكثر من ممارسات خارجيّة لا تصل إلى القلب. وعلى الذي ما زال مرتبطاً بشريعة يعتبر أنه يجد فيها خلاصه بعد أن تجسّد الابن ومات على الصليب، لا من أجل شعب واحدن بل من أجل جميع الشعوب. الذي ما زال منغلقاً في نظرته إلى الله الواحد وعلى الذي لا يمكن أن يكون له ابن. فمتى يخرج الشعب اليهوديّ من خصوصياته وامتيازاته لينفتح على جميع الشعوب؟ فعظمةُ الانجيل تقوم في أنه رفض أن يكون لفئة دون أخرى، لشعب دون سائر الشعوب، سواء كان الشعب العبرانيّ الذي يتوجّه إليه يعقوب، أو الشعب الأراميّ الذي ينتمي إليه. ما وُعد به ابراهيم من مباركة تعمّ المسكونة، قد تمّ الآن في يسوع المسيح. ترك العبرانيّون أصنامهم وتبعوا إله ابراهيم. واليوم، صارت الشعوبُ الوارثةَ الشرعيّة لابراهيم بعد أن تركت أصنامها. ولكنها لم تتوقّف عند ابراهيم مع الختان وممارسة الذبائح، بل وصلت إلى يسوع المسيح مع انجيل حمله الرسل إلى أقاصي الأرض.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM