الفصل 31: النشيد الثالث: الرب أعطاني لسان التلاميذ

النشيد الثالث: الرب أعطاني لسان التلاميذ

منذ البداية يُطرح السؤال على هذا النبيّ الذي تتلمذ على يد اشعيا: كيف استطاع أن يساعد الشعب المنفيّ على اكتشاف حضور الله في حياته؟ فلا يكفي أن يقول له: لا تخف، فالله معك. فنبوخذ نصر قال أيضاً: الله هو معي، وأعطاني هذه القدرة. كيف يمكن أن نميّز الاله الحقيقيّ من الآلهة الكاذبة؟ كيف استطاع هذا »العابد« أن يحطّم صورة مغلوطة وميتة عن الله، صورة حافظ عليها الشعب فأفرحت مضايقيه؟ أن يحوِّل صورة العذاب الذي قاساه الشعب؟ وضياع الإيمان وغياب الثقة بالله في قلب المحنة؟

1 - كيف نتكلّم عن الله

هي طريقة صعبة جداً. حاولها الحكماء الذين أتوا إلى أيوب لكي يعزّوه. فجاءهم الجواب من هذا البار المتألم: حكمة بليدة، كلام فارغ، أقوال تسحق الانسان وتحقّره. أنتم معزّون تافهون. ولو كنتُ مكانكم لتكلّمتُ كما تتكلّمون. لماذا؟ هم جاؤوا من الخارج ولبثوا في الخارج، تحدّثوا عن الله وما تحدّثوا إلى الله.

أما تلميذ اشعيا فأقام وسط الشعب وعلّمه أن يفكّر في حياته على ضوء إيمانه. ما اعتبر نفسه عارفاً بكل شيء، فجاء »معلّماً« فريداً! بل، أقام مع الشعب، وأراد أن يتعلّم منه. حينئذ فهم الناس أن هناك من يهتمّ بهم، يُحبّهم. وجاءت الصورة عن الله الذي يبدو كالفخاريّ حين يجبل طينه. هو جبل الانسان فصار الله على صورة الله، واهتمّ به اهتماماً خاصاً. والله عريس شعبه يحبّ المؤمن كما يحبّ العريس عروسه.

فكما يتزوّج العريس العروس،

ذاك الذي بناك يتزوّجك.

وكسرور العريس بالعروس،

يفرح بك الربُّ الهك (اش 62:5)

هكذا بنى الله المرأة في بداية الكون (تك 2:22). وصوّر شعبه واحتفظ بالصورة لئلاّ ينسى: »ها على كفّي رسمتك« (49:16). ومن يستطيع أن يمحو ما كتبه الله الذي هو أمّ شعبه. قال في اش 49:15:

أتنسى المرأة رضيعها

فلا ترحم ثمرة بطنها؟

لكن ولو نسيتْ،

فأنا لا أنساك.

بل اهتممتُ بك منذ الرحم (46:3). كنتُ العرّابّ الذي يتولّى أمركم. يقاسي الآلام التي تقاسونها. يدافع عنكم، يحامي. يقضي لكم. بل أصبح الله في فم اشعيا بائعاً متجولاً يدعو الشعب إليه:

تعالوا إلى المياه، يا جميع العطاش،

تعالوا، يا من لا فضّة لهم.

أطلبوا خمراً ولبناً بغير ثمن.

لماذا تصرفون فضّة لغير الخبز،

وتتعبون في عملكم لغير شبع (55:1 - 2).

»أميلوا آذانكم وتعالوا إليّ« (آ 2). فأنا هنا بقربكم، معكم. سرتُ معكم في طرق المنفى. وحين تعودون أعود معكم. وهكذا تجسّد عملُ البشر وسط المؤمنين، قبل أن يأخذ ابنُ الله الوحيد جسداً ويسكن بيننا (يو 1:14).

استنبط مضايقو الشعب صورة ميتة، كاذبة عن الله، فدمّرها إشعيا. وقدّم صورة عن الاله الحي. حسبَ الشعبُ أن نبوخذ نصر »قهر« الله، فما عاد يتجاسر أن يُظهر وجهَه! فأجاب النبيّ: حين نتخلّق بخلق »الأقوياء« ونقتدي بهم في تصرّفاتهم، لا نعود نتعرّف إلى صورة الله الحقيقيّة المطبوعة في كل انسان (تك 1:26 - 27). فممارسة العدالة وتحطيم »الاله الصنم« شيء واحد. هنا يبدأ تحرير الشعب وقيامته. وذاك هو »الانجيل« الذي تنتظره البشريّة المعذّبة.

2 - كيف نكتشف وجه الله

لا نستطيع أن نرسم الوجه. فالصورة مهما كانت تبقى حبراً على ورق. الوجه نكتشفه، نشاهد قسماته، نحبّه. ذاك ما يكون عملُ المؤمن. هو لا يتكلّم عن الله وكأنه شيء في الغياب، فكرة مجرّدة لا تلتصق بالواقع، ولا يهمّها الأمور اليوميّة الملموسة في حياة الشعب. لهذا فاكتشاف الله ينطلق من الحياة، من الآلام والصعوبات. هذا الاله هو محبّة، لا تطلب منفعتها. إنه إله الحنان الذي يُنمينا. يحرّرنا. وهذا الاله هو القدرة بالذات. يمسك في يديه السماء والأرض. يقول ويفعل. هو إله أمين. ثابت في مواعيده. لا يتراجع مهما كان الانسان خاطئاً، متهاملاً، خائناً، متعلّقاً بالأصنام. هو حاضر حضور الحبّ، وعلى هذا الحبّ نرتكز دوماً. وإله الشعب هو الإله القدوس. الذي يقضي للبشر، ولا سيّما للضعفاء، للفقراء. كلامه كالعصا، وهو يميت الأشرار بنفخة من شفتيه. يكون الحقّ حزاماً لوسطه، والحقّ مئزراً حول خصره« (اش 11:4 - 5). هذا الاله يطلب منا أن نلتزم قضايا شعبنا. يُرسلنا لأنه وضع ثقته فينا.

تحطّمت صورةُ الله الصنم. ويجب أن تتحطّم صورةُ الأقوياء الذين لا يُغلبون، كما هم يقولون. يلجأون إلى العنف، يفرضون نفوسهم، يرفعون الصوت عالياً، ساعة الصغار يذبلون كالزهرة، يصمتون، وفي النهاية يؤمنون بقدرة العظماء وقوّة كلامهم! ويقول المقتدرون: الله أعطانا هذه السلطة. وعلى الجميع أن يُطيعوا دون جدال ولا نقاش. هكذا كان في الماضي، وهكذا يجب أن يكون دائماً.

يجب على المؤمنين أن يفهموا أن كل هذا باطل. فمن هم عظماء العالم والرؤساء والملوك؟ الجواب: الله

يجعل العظماء كلا شيء،

وحكّام الأرض كالهباء.

ما إن ينغرسوا وينزرعوا

وتتأصّل جذورُهم في الأرض،

حتى يجفّوا وييبسوا

وتحملُهم الريح كالقش (40:23 - 24)

وبابل التي حسبت نفسها فريدة. زوجها مردوك الاله الوثني، ولا يمكن أن تخسره. أولادها هم هنا بقربها، فلا تخاف شيئاً. فجاء الجواب:

فالآن اسمعي هذا الكلام،

أيتها الغارقة في الملذّات،

القابعة في الطمأنينة،

القائلة في قلبها: أنا

وما من أحد غيري...

سيأتي عليك الشرّ

من حيث لا تعرفين،

وتقع عليك المصيبة

ولا تقدرين على ردّها،

ويأتي عليك بغتةً

خرابٌ لا تعلمين به (47:8 - 11).

والآلهة الكاذبة، ما تراهم يفعلون؟ هزئ بهم اشعيا وبعابديهم الذين جعلوا فيهم ثقتهم. قال للمؤمن عن هؤلاء الناس:

هم يُفرغون الذهب من الكيس،

ويَزِنون الفضّة بالميزان،

يستأجرون صائغاً يصنعها إلهاً

يركعون له ويسجدون.

يرفعونه على الأكتاف،

ويحملونه ليوضع في مكانه،

فينتصب في موضعه ولا يتحرّك.

يصرخون إليه فلا يجيب.

ولا يخلّصهم من ضيقهم (46:6 - 7)

بعد تحطيم الأصنام البشريّة، وأصنام الفضة والذهب، يبدأ المستقبل الجديد. هو عكس المنفى، والجوع، والشقاء، والرعب، والدمار، والحزن، والموت، والعبوديّة. وكما يُنبتُ الله الزرع، كذلك هو يُنبت البرّ والعدالة (61:11). ويقول:

ها أنا أخلق سماوات جديدة،

وأرضاً جديدة.

فلا تُذكر السالفة،

ولا تخطر على بال بشر.

فافرحوا وابتهجوا إلى الأبد (65:17 - 18).

هذا المستقبل بدأ. ونحن نراه إذا لم نكن عمياناً. نراه بعين الإيمان. »إرفعوا عيونكم إلى السماء وانظروا. من خلق كل هذه الكواكب« (40:26). من فعل، من صنع؟ والجواب هو دوماً: الله. ولكن إن كان الله يفعل كل شيء، فماذا يبقى للانسان؟ وإن قيل: الانسان يفعل كلّ شيء، فماذا يبقى لله؟ الجواب هو في الحبّ. حين يقوم الرجل والمر أة بعمل مشترك، فما هي حصّة الرجل وما هي حصّة المرأة؟ تلك هي أعمالنا مع الله. هو يفعل فينا، ونحن نفعل بيده.

3 - كيف نعمل مع الله

دقّت الساعة. فعلى الشعب أن ينطلق، والله يقوده، كما في الماضي. وبناء المستقبل بدأ. هذا ما فهمه هؤلاء السائرون في البريّة، وهم يؤدّون المهمّة التي كُلّفوا بها. باسمهم يتكلّم »النبيّ«، ويبيّن لهم كيف يعملون مع الله.

الربّ أعطاني لسان التلاميذ

لأعين المتعَبين بكلمة.

صباحاً فصباحاً ينبّه أذني

لأصغي أصغاء التلاميذ،

فلا أتمرّد وارتدّ عنه.

أدير ظهري للضاربين،

وخدّي لناتفي اللحى.

وأحتمل التعيير والبصق.

الربّ يعينني فلا أخجل،

بل أجعل كالصوّان وجهي (50:4 - 7)

حين نسمع هذا الكلام، لا نستطيع إلاّ أن نفكّر بيسوع في طريق الحاش والآلام. فنقرأ مثلاً في إنجيل متّى: »فبصقوا في وجه يسوع ولطموه. ومنهم من لكمه وقال له: تنبّأ لنا، أيها المسيح. من ضربك« (مت 26:67 - 68). وفي 27:30: »وأمسكوا القصبة وأخذوا يضربونه بها على رأسه، وهم يبصقون عليه«. هذا الذي أصاب باراً من الأبرار، يجد ذروته في شخص يسوع الذي لم يعرف الخطيئة، الذي لم يكن في فمه غشّ.

هي كلمات صريحة تحمل الألم العميق. واستعدّ الشعب لكي يسمعها. هذا الشعب الذي تحرّر من أصنامه، ينتظر من »النبي« كلام التعزية والتشجيع، ينتظر منه أن يمدّ له يد العون. من جهة، هذا النبيّ ثابت في موقفه. يعرف ما يريد. لا يتراجع. لا يفعل كالحصان أمام الخطر فيشبّ ويهيج، وفي النهاية يرتدّ إلى الوراء. هو لا يفعل كما يقول له مضايقوه أن يفعل. موقفه مستقلّ. هو لا يسمع. وإن عُذّب بدا وكأنه لا يتألّم. صار كالصوّان. ضربوه. نتفوا لحيته. عيّروه. بصقوا في وجهه. فبقي هو هو. أرادوا أن يخجلوه فما خجل. أرادوا أن يُذلّوه فما خضع للذلّ. من أين جاءته هذه القوّة؟ أجاب: الله يعينني.

ومن جهة ثانية، هذا النبي هو تلميذ من التلاميذ. لا يعتبر أنه يعرف كلَّ شيء. لا أفكار مسبقة عنده. هو يتعلّم ويتعلّم. هو لا يمتلك شيئاً من نفسه، بل يتقبّل كل شيء من الله. يرتبط كل الارتباط بالله. هنا نتذكّر يسوع الذي قال: »لا أعمل شيئاً من عندي، ولا أقول إلاّ ما علّمني أبي« (يو 8:28). وفي آ 29: »في كل حين، أعمل ما يُرضيه«. ونقرأ في موضع آخر: »لا يقدر الابن أن يعمل شيئاً من عنده، بل يعمل ما رأى الآب يعمله. فما يعمله الآب يعمل مثله الابن« (يو 5:19). وما الذي يعمله الآب والذي يعمله الابن؟ الجواب: »الآب يحبّ الابن« (آ 20) وفي المحبّة يعمل الآب في الابن، والابن في الآب.

بما أن هذا »العابد« يرتبط بالله، ولا يرتبط إلاّ به، فهو يفهم أين هي جذور حريّته. لهذا يقول الحقّ في وجوههم، بل يتحدّاهم ولا يخاف.

قرُبَتْ براءتي. ومن يخاصمني

فليتقدّم لنقف أمام القضاء.

السيّد الربّ يُعينني

فمن يا ترى يحكم عليّ (50:8 - 9).

فمن هم هؤلاء الذين يحسبون نفوسهم أقوى من »خادم الله«؟

هم جميعاً كثوب يبلون،

ويكونون طعاماً للعثّ (آ 9).

أفلت الشعبُ من يد مضايقيه. والسبب هو »عبد الرب«. وهكذا بدأوا يضطهدونه. ومهما تقدّم العمل كثُر العذاب. أمام البصاق والتعيير، ما تراجع. أتراها حتميّة يتحمّلها، لأنه لا يقدر أن يفعل شيئاً آخر؟ كلا. أتراه من الذين يسيطرون على إرادتهم البشريّة بكبرياء تجعلهم فوق سائر البشر؟ كلا. عرف هذا النبيّ أنه في عالم مؤسّس على الجور والأنانية، وأنَّ العدلَ والحبّ لا يكونان إلا مصلوبَين. لهذا حمل صليبه كطريق الفداء والتحرير.

وهكذا أوصلنا هذا النشيدُ الثالث إلى ذروة الصراع بين عابد الرب وعالم الجور والظلم. أين تكون العدالة؟ في المحكمة. يلجأ إلى القاضي ذاك الذي يضايق أخاه، وذاك الذي يتحمّل الضيق. من يكون الحقّ في جانبه؟ ولكن العابد يعرف أن العدالة لدى البشر، هي في يد الأقوياء بحيث لا يحقّ للضعفاء إلاّ أن يبكوا. هي في يد الكذب لا في يد الحقّ (إر 8:8). إذن، لا ينتظر عبد الرب حكماً يبرّره على الأرض، بل الضيق والعذاب. والآتي سيكون أعظم.

ولكنه يبقى هادئاً ولا يخاف. فشجاعتُه تستند إلى يقينه بأنه يمارس البرّ، وبأن ديّانه هو الله. الرب دعاه بحسب البرّ (42:6). الربّ قريب منه. يحامي عنه، يدافع. فمن يا تُرى يحكم عليه (50:8)؟ لا قيمة لأحكام البشر. وقد يشهد الناس عليه زوراً. والمدّعون يتّهمون. والقضاة يحكمون (70:9). العدالة الحقّة ليست من عند البشر الذين يسقطون كثوب بال يأكله العثّ. هذه العدالة الكاذبة هي أسمال لا تدوم. فماذا يفعل عابد الربّ؟ أو هو يموت كما يموت المسيح بعد أن حكمتْ عليه عدالةُ ببلاطس وهيردوس والكتبة الفريسيين. أو يموت هذا النهج الجائر حين يتغلّب برُّ الله على كذب البشر. جمع يسوع الاثنين في شخصه. حُكم عليه فمات. ولكنه قتل الجور والظلم والكذب بقيامته. »الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه، رباً ومسيحاً« (أع 2:36).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM