الفصل 30: النشيد الثاني: نور الأمم وخلاص الأرض

النشيد الثاني: نور الأمم وخلاص الأرض

أحبّ الله نبيّه، ودعاه لكي يكون عبده وعابده وخادم اخوته. هذا ما قاله يسوع لتلاميذه قبل صعوده إلى أورشليم: ما جاء ابنُ الانسان ليخدمه الناس. بل هو جاء ليخدمهم ويبذل حياته من أجلهم (مر 10:52).

أراد الله أن يعي النبي (وبالتالي الشعب) مهمّته. ولكن العائش في المنفى لا يقدر أن يؤمن بالدعوة التي دُعيَ إليها. تردّد بين الله الذي يدعوه والواقع الذي يسحقه. من يصدّق؟ فكأن الواقع »يكذّب« الله. ذاك كان وضعُ الذين ساروا مع موسى. أضاف الفرعون لهم ضيقاً على ضيق. ما استطاع المقهورون شيئاً ضد فرعون، فاشتكوا إلى الله على موسى: الرب يرى ويحكم (خر 5:21). والسبب: »أفسدتَ سمعتَنا عند موسى ورجاله، وأعطيتَهم حجّة ليقتلونا« كأني بهم يرفضون طريق الحريّة الآتية، ويتعلّقون بالخيرات الماديّة الحاضرة.

دعا الله الشعب ليقيم الحقّ على الأرض، ولكن الواقع جعل الشعب يرى أن الله يتجاهل حقّ شعبه (40:27). الله اختار الشعب في البرّ، في الصدق، ولكن الشعب يحسّ أن الله يظلمه في معاملته له. ودعا الله النبيّ لكي يجمع الشعب، ولكنه يرى أن هذا الاله »جعل شعبه كالغنم مأكلاً، وشتّتهم بين الأمم« (مز 44:12). أرسله الله ليفتح عيون العميان، فإذا النور غاب من عينيه فقيل فيه: »من كان أعمى إلاّ عبدي« (42:19)؟ وطلب منه الله أن يحرّر الأسرى، ساعة هم يصرخون من قلب عبوديّتهم: »بالنير على أعناقنا نساق. نتعب ولا نُعطى راحة« (مرا 5:5).

دعا الله شعبه لكي يُنشد نشيد الفرح (إش 54:1)، ولكن هذا الشعب غارق في الحزن. قال الله لهم: لا تخافوا. أنا معكم. فاذا بخادم الربّ يهتف: »إلهي، إلهي، لماذا تركتني« (مز 22:1). وطلب الله منهم أن يقرأوا الأحداث ليجدوا فيها علامات عن حضوره، ولكنهم لم يعرفوا القراءة ولا التهجئة، فهزئ منهم الآخرون وقالوا لهم: أين هو إلهكم (مز 42:1). وطلب منهم الربّ أن ينظروا إلى المستقبل، أن ينظروا إلى الأمام، فعادوا إلى الماضي يحنّون إليه ويبكون. »تذكّروا فذابت نفوسهم« (مز 42:5). وانغلقوا على الذكريات.

1 - صعوبات الإيمان

في مثل هذا الوضع، لا يقدر الشعب أن يؤمن بنداء الله. بل كان يقول: رذلني الله. وسيحتاج الناس إلى زمن طويل قبل أن يقتنعوا باختيار الله. وسيسقط الكثيرون، ويتركون جماعتهم ويحاولون أن يكدّسوا غناهم. بل هم قالوا: »ما دخل الله في كل هذا؟ هل يعرف ما يحصل لنا؟ (مز 73:12)؟ لماذا الصدق في التعامل؟ لماذا اليدان النقيّتان؟ لماذا لا نكون مثل سائر الناس الذين يقولون: لنأكل ونشرب فإنّا غداً نموت؟

ولكن مع أن الشعب ضعيف، فقد قاوم، ومنعه إيمانُه من أن يقتدي بالأقوياء. فقال: ما الفائدة من مثل هذا التصرّف العقيم؟ وقال: إن أنا قلت هذا الكلام، قطعتُ الحوار معك، يا ربّ، وكنتُ خائناً لإخوتي. ندم حين سمع صوت الربّ:

الربّ دعاني من رحم أمي،

ومن أحشائها ذكر اسمي.

فمي جعله كسيف قاطع،

وفي ظلّ يده خبّأني (49:1 - 2).

كانت لدى الشعب صورة خاطئة عن الله. لماذا؟ لأنه توقّف عند التاريخ والوقائع، فأحسّ باليأس، وكأنه سائر في قلب ظلام كثيف. فيا ليته آمن بالله وبالتالي آمن بنفسه. غير أن الشعب نسيَ أعمال الله الماضية، فبدا إيمانه بتأرجح. لماذا؟ لأنه توقّف عند الخارج، وأهمل الداخل. لأنه نام وما عرف أن يسهر مع يسوع ساعة واحدة. فسقط في التجربة.

وما هو الاله الذي تعلّقوا به؟ إله يعمل ما لا نستطيع أن نعمل. يعمل عنا. ونحن نشتريه بالنذور والذبائح والتقدمات والطقوس. هذا الاله نمضي إليه حين نراه مفيداً لنا. نتعلّق به حين يحافظ على ما نحسبه سعادتنا، ونتركه في ساعة الشدّة، على ما فعل التلاميذ مع يسوع، في الآلام: تركوه كلهم وهربوا. وبعد ذلك نقول: تركنا الله! ما عاد يهتمّ بنا (مرا 3:42 - 44). هو إله لا حبّ في قلبه لشعبه (اش 49:14). لا قوّة له لكي يخلّصهم (50:2). لا أمانة عنده فنثق به.

- قالت صهيون: »تركني الربّ!

تركني ونسيَني السيّد«.

- أيَدي قاصرة عن الافتداء؟

أم قدرتي عاجزة عن الانقاذ؟

فماذا تزعم يا يعقوب؟

وماذا تقول يا اسرائيل؟

تعلّق الشعب بصنم، لا بالاله الحقيقيّ، فماذا ينتظرون من هذا الصنم؟ إيمانه أكله العثّ فصار كالخشب المهترئ الذي لا يُسند السقف. دبّ فيه الهريان في الداخل. لهذا غُلب على أمره في الخارج.

2 - صوت البشر وصوت الله

لا. ما نسيَ الله الشعب، بل الشعب نسي وجه الله الحقيقيّ :

يد الربّ لا تقصر عن الخلاص،

وأذنه لا تثقل عن السماع.

لكنّ آثامكم فصلتكم عن إلهكم،

وخطاياكم حجبت وجهه فلا يسمع (59:1 - 2).

لبث الربّ حاضراً في وسط شعبه (اش 55:6)، ولكن الشعب ما رآه. بادل بين الله والأصنام، فجعلتْ أورشليمُ في كل شارع من شوارعها صورةً لأحد الأصنام (إر 11:13). وها هو الشعب في المنفى يتعلّق بالعبوديّة، فيتعلّق بأصنام بابل. كما الفقراء اليوم ينظرون بدهشة إلى الأغنياء وترفهم، ويودّون أن يركعوا أمامهم.

تركوا الاله الحقيقيّ الذي هو ينبوع ماء حيّ، وبحثوا في آبار مشقّقة (إر 2:13). طلبوا أفكار البشر، لا أفكار الله. سمعوا لما يقول الرؤساء الذين قال فيهم يسوع: جميع الذين جاؤوا قبلي كانوا سرّاقاً ولصوصاً (يو 10:8). ويا ليت الخراف لم يُصغوا إليهم! بل هم أصغوا. أخِذوا بالدعايات البرّاقة التي تبدو حلوة في العين، ومُرّة في الفم.

حاول النبيّ أن يقاوم أصنام الفضة والذهب، التي تصنعها أيدي البشر، ويدعو بني اسرائيل للاتّكال على الرب (مز 115:4، 9). ولكنهم ما رأوا الرسالة التي دُعوا إليها: »أنا عرفتُ ما نويتُ لكم من خير لا من شرّ، فيكون لكم الغد الذي ترجون« (إر 29:11). ولكن الغد شمس يحجبها سحابُ اليوم. يقولون: في الماضي، شقاء. في الحاضر، تخلّى الله عنا. والمستقبل يأس. في الخارج عبوديّة. وفي الداخل. لم يَعُد لهم قلبٌ ولا عزم. ينظرون إلى الأرض فلا يجدون شيئاً، وإلى الأفق فلا يكتشفون مخلّصاً. لا علامة في السماء. ولا نور يدلّ على مخرج ممكن.

ذاك وضع من يسمع كلام البشر في الخارج، ومثل هذا الكلام هو هنا لكي يُثبط العزائم. فحين يغيب الإيمان، يسيطر الخوف. هذا ما حدث للرسل حين كانوا في سفينة كادت تغرق في بحر هائج. قال لهم يسوع حينذاك: »ما لكم خائفين؟ أما عندكم إيمان بعد« (مر 4:40)؟

ولكن صوت الله لا يصمت. يكفي أن نعود إلى الداخل لكي نسمع نداءه ونتعلّم كلامه. أمام المنفى المستبدّ بالناس، هناك أرض الربّ، أرض الحرية. والسعادة تنبع من قلب الشقاء الذي يتخبّط فيه المؤمنون. قال اليائس: لا رجاء لي بالله (مرا 3:18). ولكنه قال أيضاً: »وأردّد هذا (خبر الرب) في قلبي فأستعيد رجائي« (آ 26).

فما سبب سرّ نداء الله؟ هذا البذار الذي غرسه النبي. هو حرّك الرجاء. نفخ الرمادَ فاشتعلت النار. وما حُسب النهاية، كان البداية. مثل زرع الانجيل الذي »ينبت وينمو« سواء نام الناس أو قاموا. »فالأرض من ذاتها تُنبت العشب أولاً، ثم السنبل، ثم القمح« (مر 4:26 - 28). من أجل هذا، نحتاج إلى لمسة إيمان. فمن يبقى في الخارج، لا ينال شيئاً. أمّا من عمر قلبه بالإيمان، فينال الشفاء ويستعيد الشجاعة. كان الناس يزحمون يسوع من كل جهة ويضايقونه ليروه ويسمعوا كلمة جديدة. ماذا كان لهم سوى الدهشة والتساؤل. بل »أنكروا«. ما لمسه أحد! فيا ليتهم لمسوه كما لمست هذه المرأة النازفة طرف ثوبه. »فوقف نزفُ دمها في الحال« (لو 8:44). شُفيت حالاً. نالت الخلاص. قال لها يسوع: »يا ابنتي، إيمانك خلّصك، فاذهبي بسلام« (آ 48).

عملُ الله مثل المطر. لا يحتاج إلى من يُدخله ولا إلى من يُخرجه. هو يفعل في الحال. يسقط من فوق، يلج الأرض، يُوقظ الزرع، يُنبت النصبة، وهكذا يُشبع الشعبُ جوعه (اش 55:10 - 11). هذا ما حصل للشعب المطرود من أرضه: تقبّل مطراً لا منظوراً، مطر نداء الله، فنبت بذار الرجاء. وها هو يخبرنا كيف وعى رسالته بعد أن كادت تضيع وسط صعوبات الحياة والأصنام التي تحاول أن تقتل الاله الحي، فتُقنع الناس أنه مثل الأصنام: هو لا يرى ولا يسمع ولا يفعل ولا يتحرّك. فلماذا اللجوء إليه؟ لماذا لا نعتصم بالبشر؟ لماذا لا نتعلّق بالعظماء؟ ولكن يقول مز 118:8 - 9: »الاعتصام بالربّ خير من الاتكال على البشر، على العظماء«.

3 - إسمعوا، أصغوا

وها هو النبي، ها هو الشعب يروي كيف اكتشف صوت الربّ، وما يجب عليه أن يفعل. أن يجتمع في أورشليم، في مدينة الله، مدينة السلام. وأن لا يكون وحده، بل يسير مع جميع الأمم الآتية للحج لدى الاله »الذي يعلّم الجميع طرقه، ويحكم فيما بينهم، ويقضي لشعوب كثيرين فيصنعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل«. جميعهم يأتون لكي يسلكوا في نور الربّ (اش 2:2 - 5).

ونسمع كلام الربّ إلى عبده وخادمه:

إسمعي لي، يا جزر البحر،

وأصغوا، أيتها الأمم البعيدة.

الربّ دعاني من رحم أمّي،

ومن أحشائها ذكر اسمي.

فمي جعله كسيف قاطع،

وفي ظلّ يده خبّأني.

جعلني سهماً مصقولاً،

وفي جعبته أخفاني.

قال لي: »أنت عبدي،

يا اسرائيل، وبك أتمجّد«.

فقلتُ: »أنا باطلاً تعبتُ،

وعبثاً أتلَفْتُ قوّتي.

ولكن عند الربّ حقيّ،

وعند إلهي جزائي« (49:1 - 4).

ما الذي حدث لهذا الشعب الذي خسر كلّ عزم وأضاع كل قوّة؟ كأنه صار شعباً آخر، شعباً جديداً. لقد وُلد ولادة جديدة. فهذه الحفنة من الناس التي خرجت من مصر، أو من بابل، أو من مجتمعنا، ستقف في وجه الأمم ولا سيّما البعيدة منها والمقيمة في وسط البحار. أين هو الخوف الذي كان يسيطر على المؤمنين فيدعوهم إلى الاختباء عند أقدام الذين يسحقونهم؟ مضى وراح. وحلّ محلّه وعيٌ يدعونا إلى العمل وإلى الكلام.

قبل أن يسمع الشعب نداء الله، ظنّ أن لا فائدة من مقاومته الظلم: »باطلاً تعبتُ. عبثاً أتلفتُ قوّتي«. والآن، اكتشف أن الثبات في موقفه، مهما رافقه العذاب، هو الذي جعله خادم الرب، ع ب د. ي هـ و ه. به يتمجّد الله. به يفتخر. والأحداث التي حرّكت اليأس في الماضي، صارت منبع رجاء وفرح. أعاد قراءة تاريخه، فاكتشف أن هذا النداء يعود إلى زمن بعيد: من رحم أمه، من أحشائها. هذا ما سمعه إرميا: »قبل أن أصوّرك في البطن اخترتك، وقبل أن تخرج من الرحم قدّستك وجعلتك نبياً للأمم« (إر 1:5). وسوف  يسمعه بولس الرسول، فيقول عن نفسه: »ولكن الله بنعمته اختارني وأنا في بطن أمي، فدعاني إلى خدمته« (غل 1:15). اكتشف هؤلاء نداء الرب فاكتشفوا معنى حياتهم، كما قرأوا تاريخ شعبهم. فلا يحقّ لهم بعد أن يصمتوا. وهذا ما سيفعله نبيّ المنفى ولا يتراجع. فهو قويّ بقوة الله.

لماذا؟ لأن الرب يحميه. يخبّئه في يده. فمن يجسر أن يقترب من يد الله؟ كلام هذا النبيّ سيفٌ قاطع. وستقول الرسالة إلى العبرانيين: سيف ذو حدّين (عب 4:12). يدخل إلى مفرق النفس والجسد. ويقول الانجيل عن يسوع: كان يتكلّم بشكل يُدهش الجموع، لا مثل الكتبة والفريسيّين. صار النبيّ كلمةً يُخفيها الربّ في جعبته. صار سهماً مصقولاً يُرسله إلى البعيد.

ما يلفت النظر في شهادة عابد الله، هو اليقين بحضور الله في حياته. وهكذا وُلد من جديد. صار قاضياً مثل جدعون ويفتاح وصموئيل. صار مخلّصاً لهؤلاء الضائعين في المنفى. وقوّته التي من الله هي التي تعمل (آ 4). وإذ حضر الله تحوّل الشعب. إذ ترك سيّداً يستعبده، وأخذ سيّداً يحرّره، رأى الأمور بعين أخرى. نُزعت القشرة عنه، كما كان بالنسبة إلى بولس بعد أن اعتمد في دمشق، في بيت حنانيا (أع 9:18). ما عاد هذا النبيّ يهتمّ لشيء. حقّه في يد الربّ. أجرته من عند الله. أخذ الله الأمور على عاتقه. وها الشعب صار حراً ليقوم برسالته.

فقال الربّ الذي جبلني

من الرحم عبداً له

لأردّ يعقوب إليه...

»قليل أن تكون لي عبداً

فتكون نوراً للأمم

وخلاصاً إلى أقاصي الأرض« (49:5 - 6).

ما اكتشف النبي دعوته إلاّ بشكل تدريجيّ، وبعد مسيرة طويلة. ظنّ في البداية أن رسالته تنحصر في شعبه، في بني يعقوب. ولكنه اكتشف أن هذا ليس بكافٍ. يجب أن تصل رسالته إلى أقاصي الأرض. هذا ما وجب على الكنيسة أن تفهمه، فلا تنحصر في جماعة محليّة، فتترك جانباً السامريّين والشعوب الوثنيّة. لهذا قال الربّ قبل صعوده إلى السماء: »تكونون لي شهوداً في أورشليم واليهوديّة كلها السامرة، حتى أقاصي الأرض« (أع 1:8).

هكذا توضّحت رسالة »خادم الله«. أن يجمع الشعب. أن يكون عهد الشعب، كما كان موسى قبله. وكما سيكون يسوع العهد الجديد الأبدي. يجتمع الشعب. يُعادُ تنظيمه. منذ الرحم، منذ البداية، منذ تقبّل العبرانيّون الوصايا على جبل سيناء. منذ وُلدت الكنيسة  في الدم والماء (يو 19:34)، من جنب يسوع المصلوب. هو نداء بعيد يفهمه المؤمن، يفهمه الشعب، تفهمه الكنيسة. هو مشروع يتجاوز أي شخص منا لكي يصل آلى الآخرين، يتجاوز كل شعب لكي يصل إلى كل الشعوب، يتجاوز كل أرض مهما كانت مقدّسة، فيتطلّع إلى الشمال والجنوب، إلى الشرق والغرب، كما طُلب من ابراهيم أن يفعل (تك 13:16)، بل يصل إلى البحر وجزره البعيدة. وحين تكون الكنيسة »نوراً للأمم« يستطيع خلاصُ الله أن يصل إلى أقاصي الأرض. إلى مثل هذا المشروع الكبير يدعو الله شعبه. فهل يستعدّ المؤمن وينطلق كما انطلق ابراهيم من أرضه إلى حيث يقوده الله؟

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM