الفصل 28: وجه الله

وجه الله

هذا الذي يفعل العجائب، هذا الذي يحوّل اليأس إلى رجاء، هذا الذي يملأ الأرض المظلمة بالنور، هو الاله الذي انتظره الشعب. غاب وجهه فترة قصيرة فحسبه المؤمنون غير موجود. أو إن هو وُجد، فهو لا يفعل شيئاً. أو هو ضعيف فلا يقدر. أو هو يشبه إله الانتقام الذي يترك الذين تركوه، إن لم يقسو عليهم قساوة لا يعرفها بنو البشر. ولكن جاء كلام النبي مدوياً: »الربّ آتٍ، وخلاصه قدّامه«.

1 - الله هو الخالق الأزلي

هذا الاله يدهش الجميع. هو المتسامي، ساكن الخلود، وأمامه الآلهة الكاذبة ليست بشيء. لا شيء يماثله في الرفعة، وما من أحد ينحدر مثله لكي يكون قريباً من الانسان.

هو الخالق. صنع كلّ ما يمكن أن يُقدَّم له من ذبائح. في السماء عرشه، والأرض موطئ قدميه. هل يحتاج بعدُ إلى بيتٍ؟ وأي مكان يصلح لإقامته؟ مساكين هؤلاء العائدون وهؤلاء المقيمون. يريدون أن يبنوا له بيتاً يُقيم فيه بعد أن دُمِّر هيكل أورشليم سنة 587 ق م. ما يهمّ الربّ هو أن يكون مع شعبه، ولا سيّما الصغار فيه. وقد قال: »لكني إلى هذا أنظر: إلى المسكين والمنسحق الروح وإلى من يخاف كلمتي« (66:1 - 2). من يخاف الكلمة هو الذي يسمع، يُطيع، ينفّذ بسرعة وبغيرة. صارت الكلمة شخصاً حياً يقف أمامها المؤمن.

من أجل هذا، اعتُبر الهيكل الذي بُني سنة 518 ق م حقيراً. هو بضعة حجارة! فحياة المؤمن تتعدّى المكان، والعابد الحقيقيّ لا يُعيد الله إلى هذا الموضع أو ذاك. هو يعبده في كل مكان بالروح والحقّ (يو 4:23). ولا يعبده فقط شعبُ اسرائيل أو الذين رافقوا العائدين من السبي، بل يعبده الجميع بعد أن صار بيتُه بيت صلاة لجميع الشعوب من أي مكان أتوا (56:7)، ولا يُطرد منه أحد. فمن يخدم الرب ويحبّ اسمه، يأتي إلى الجبل المقدّس. ذاك كان الخطر الكبير بالنسبة إلى الشعب العائد من السبي: أن ينغلق على نفسه، على مؤسّساته. أن يعتبر الآخرين أنجاساً فلا يقترب منهم ولا يسلّم عليهم، وخصوصاً لا يأكل معهم. كلا، فالربّ هو ربّ الجميع، ولا يخرج من »رعيّته« سوى الخروف الذي يريد أن يخرج، سواء كان من الشعب اليهوديّ أو من سائر الشعوب.

هذا الاله خلق. ولكن تشوّهت الخليقة. فوعد بأن يخلق أرضاً جديدة وسماوات جديدة (65:17). وهكذا لا تُذكر السالفةُ ولا تَخطر على بال أحد. أما التي يخلقها الرب فتدوم إلى الأبد (66:22). حينئذ يكون الجوّ جوّ الفرح. »تكون بهجةُ أورشليم بهجتي، وفرح شعبها فرحي. ولن يُسمع فيها صوتُ بكاء ولا صوت صراخ... ويبني الشعبُ بيوتاً ويسكنون فيها، ويغرسون كروماً ويأكلون ثمرها« (65:19 - 21).

2 - الله إله شعب وإله جميع الشعوب

المشكلة الكبرى التي عرفتها جماعةُ العودة من المنفى، هي العلاقة بالغرباء. موقفان يتصارعان في قلب المؤمنين. ويتصارعان في قلوبنا اليوم. انفتاح على الآتين من الخارج والله هو إله جميع الشعوب. أم انغلاق على ما نحن وما عندنا من غنى، لأننا نخاف أن »يأكلنا« الغرباء. عندئد تزول الرسالة التي تحدّث عنها سفر الحكمة: حمْلُ نور الشريعة إلى الأمم (حك 18:4). هذان الخطان يبرزان بوضوح في اشعيا الثالث. من جهة، يُعاقَب الغرباء ويكونون عبيداً لشعب اسرائيل. لقد اعتبروا نفوسهم خاصة الله، بحيث أن من يخدم الله يخدمهم. ولكن الله ما جاء ليُخدم، بل ليَخدم. ما جاء ليخدمه الناس، بل ليخدم الناس ويبذل نفسه عن الكثيرين (مر 10:52). ومن جهة ثانية، بعض الوثنيين ينتمون إلى الشعب المقدّس. بل يمكن أن يكونوا كهنة. وما نلاحظه في هذا المجال، هو أن الانسان الذي ينتمي إلى الشعب المقدّس لا يمكن أن يتيقّن أنه نال الخلاص منذ الآن. فيمكن أن يكون ابن الهلاك إن هو رفضَ وصايا الله. هذا يعني أن الأجنبيّ الذي لا ينتمي إلى الشعب يمكن أن لا يُستبعَد من الخلاص. فالربّ يريد »أن يجمع شمل جميع الشعوب والألسنة ليروا مجدي« (66:18). ولن يكتفي الربّ بالذين جاؤوا من القريب، »بل يبعث رسلاً إلى البعيد، إلى أقاصي الأرض، إلى سكان ترشيش وفول ولود... إلى الذين لم يسمعوا بما عملتُ ولم يروا مجدي. وهكذا يُنادَى بمجدي في جميع الأمم« (66:19).

هذا الخلاص الشامل بدأ في شعب من الشعوب. فأوّل الخارجين من مصر بقيادة موسى، لم يكونوا شيئاً. فالربّ قدّسهم، كرّسهم له. جعلهم حصته. هم كالباكورة بالنسبة إلى باقي الثمار، على ما قال الرسول: »إذا كانت الخميرة مقدّسة، فالعجين كلهّ مقدَّس. وإذا كان الأصلُ مقدّساً، فالفروع مقدّسة أيضاً« (روم 11:16). فإن كان من دعوة فلكي يكون المدعوُّ حاملَ بشارة بحيث لا يتوقّف الاختيار عنده. حينذاك يحسب نفسه الشعب المقدّس وحده دون سائر الشعوب. ولكن جاء وقت صار الشعبُ »المقدّس« خارج الخلاص الذي حمله المسيح. اعتبر نفسه فرعاً في أصل »الشجرة«، فاذا هو قُطع لعدم إيمانه، وطُعِّم مكانه »من كانوا لا يبحثون، من كانوا لا يطلبون« (1 تس 65:1 - 2؛ رج روم 10:20).

3 - إله الحبّ والخلاص

الاله الذي عرفه الشعب الضائع، هو الاله البار. وبرّه هو خلاص يمنحه للبشر بشكل عام، ولشعبه بشكل خاص ليكون نموذجاً لسائر الشعوب. وهذا الخلاص هو أمانة الله المطلقة لمخطّط حبّه ورحمته. فالبرّ يرافق الخلاص، وإلاّ فمن هو هذا الاله الذي لا يُظهر صدقَه وصلاحَه، الذي لا يُبرز حبَّه في معاملته لمن خلقهم! قالت النبوءة: »أنا الربّ أُحبّ البرّ، أحبّ العدلَ والصدق. أعاهدكم عهداً أبدياً. كل من رآهم يعرف معرفة أنهم ذرّية باركها الربّ. حينئذ تهتف أورشليم: ''فرحاً أفرح بالربّ وتبتهج نفسي بإلهي. ألبسني ثياب الخلاص وكساني رداء البرّ« (61:8-10).

مثل هذا الاله الذي فعل ما فعل لشعبه ويستعدّ أن يفعل لجميع الشعوب، هو إله محبّ. لهذا رفعت إليه المدينة صلاتها: »أَذكرُ رحمة الربّ، وأحمده لأجل كلّ ما كافأنا به. فهو الذي قال: هم حقاً شعبي، بنون لا يغدرون بي. فصار لهم مخلصاً. في جميع ضيقاتهم استَمَع لهم، وملاكُه أمام وجهه خلّصهم. بمحبّته وحنانه افتداهم، ورفعهم وحملهم طوال الأيام« (63:7 - 9). هنا نتذكّر ما قاله الربّ بلسان هوشع: »وأنا الذي علّمهم المشي، وحملهم على ذراعه. جذبتُهم إليّ بحبال الرحمة وروابط المحبّة، وكنت لهم كأب يرفع طفلاً على ذراعه ويحنو عليهم ويطعمهم« (هو 11:3 - 4).

هو إله صالح. وصلاحه يقوده إلى أن ينسى خطايا شعبه الذين ما زالوا يتمرّدون عليه. هو إله يغفر، يسامح. هؤلاء الناس خانوا الله. ركضوا وراء الأصنام، وراء الآلهة الكاذبة. شابهوا آباءهم في البرية، فاعتبروا أن بعل هو الذي أخرجهم من عبوديّة مصر. والعائدون من المنفى نسوا ذاك الذي رافقهم حين غادروا البلاد وحين عادوا. أما الذين لم يتركوا الأرض، فتعلّقوا بآلهة الأرض وتنكّروا للاله الذي لا يرتبط بأرض ولا بمكان، بل بالضعفاء والمساكين أينما كانوا.

وتبقى الخطيئة الكبرى بغضَ الاخوة وإهمالَهم واستغلالَهم. تلك أفضل طريقة لكي يتشّوه وجهُ الله في الكون. فالذين يقسون على الصغار يدعوهم النبي »كلاباً شرهة« (56:11) هم يشبهون نساء السامرة اللواتي دعاهن عاموس: بقرات باشان. »يظلمن الفقراء، ويسحقن البؤساء، ويقلن لأزواجهن: »هاتوا لنشرب« (عا 4:1). والأغنياء في أورشليم، بعد سنوات الحرب يقولون: »تعالوا نأخذ خمراً، ونمتلئ من المسكر، ويكون الغدُ عظيماً كاليوم، بل أعظم جداً« (56:12). وينظر الله إلى المتواضعين، إلى الملتصقين بالأرض، الذين ليس لهم أسرّة من عاج، ولا لهم البيت الصيفي والبيت الشتوي (عا 6:4). ينظر إلى القلوب المنسحقة (57:15). أما الأشرار فبحرٌ»يقذف الوسخ والوحل« ولا يمكن أن يهدأ (آ 20). ويندّد النبي بمن يسخّر العمال، ويضرب الضعفاء، ويقيم الخصام والشجار... ويتهرّب من مساعدة القريب (58:7).

خاتمة

ذاك هو النبيّ الذي لم يُذكر اسمُه. فبقيت لنا كلماته. هو حاضر مع شعب ضعيف، يائس، خاطئ. لا يعرف كيف يتوجّه. هو ضائع ورؤساؤه ضائعون. وحده النبيّ يرى المستقبل مع إله لا ييأس من الانسان مهما اجتذبه ضلالُ الآلهة الوثنيّة، وغرقَ في الخطيئة. فالمستقبل هو أرض جديدة وسماوات جديدة يملك فيها البرُّ، يملك الأبرار.

الحاضر مؤلم: مدينة أورشليم بدون أسوار. والهيكل احترق! وضعوا الأساس وتوقّفوا بسبب عدد من الصعوبات. فاكتفوا بالمذبح يقدّمون عليه الذبائح. والملك الذي من نسل داود! لا وجود له. ظهر ششبصر في أول مجموعة أتت من بابل. ولكنه اختفى بسرعة. وتبعه زربابل الذي وضع فيه الناس آمالهم. ولكن مضى زربابل ومضى الأمل معه. في النهاية، أفهم النبيُّ الشعب أن لا يتعلّقوا إلاّ بالله، ويعملوا بوصاياه، ويعيشوا المحبّة والوفاق والتعاون. وأن ينظروا إلى المستقبل الذي أمامهم، ويتركوا الماضي وما فيه من سواد. وإن هم عادوا إلى الماضي، فلكي يأخذوا عبرة للمستقبل. فإن عاد الرجاء إلى القلوب، عاد الفرح وبدأ البناء الحقيقيّ، بناء البشر قبل بناء الحجر. وهكذا بدأت تتكوّن الجماعةُ  المقدّسة التي تتألّف من مساكين الربّ. هم وحدهم ينتظرون الخلاص. لا الخلاص الماديّ فحسب. بل الخلاص الروحيّ الذي يحمله يسوع المسيح الذي نادى به الملائكة يوم الميلاد، فصرخوا في الرعاة: »وُلد لكم مخلّص وهو المسيح الربّ« (لو 2:.11،). ففي النهاية لا فادي سواه، ولا مخلّص غيره. وفي هذا قال بطرس في المحفل اليهوديّ: »لا خلاص إلاّ بيسوع. فما من اسم آخر تحت السماء وهبه الله للناس، نقدر به أن نخلص« (أع 4:12).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM