الفصل 27: صوت النبيّ

صوت النبيّ

ذاك هو الوضع الذي عرفه النبيّ الذي افتخر بأن يكون تلميذ اشعيا، أو تلميذ تلميذ اشعيا. أتراه سييأس؟ كلا. قبله بكى موسى أكثر من مرة، وفي النهاية أوصل الشعب إلى مشارف أرض الموعد، إلى هضاب موآب. دافع عن شعبه الخاطئ أمام الله. وحثّ الشعب على الثقة بالله. من أوباش (عد 11:4) جعل شعباً موحّداً يسير في البريّة وكأنه في طواف دينيّ. وجعل من هؤلاء الخطأة الخائنين للرب، جماعة مقدّسة. وهذا ما أراد نبيّ العودة أن يفعل رغم الصعوبات التي اصطدم بها، وكانت أربع.

الصعوبة الأولى. هي أزمة رجاء وأمل. أين هو هذا الخلاص الذي وُعدنا به؟ كم تأخّر. كانوا قد قالوا للرب: »ليتك تشقّ السماوات وتنزل« (63:19)! بل هتفوا: »تطلّع، يا ربّ، من السماء. وانظر من مسكنك المقدّس ومجدك السامي: أين عزّتك وجبروتك؟ هل منعتَ عني لهفة قلبك ومراحمك لي. أنت، يا رب، أبٌ لنا. فلا ابراهيم عرفنا، ولا يعقوب عرفنا! أنت، يا رب، أبٌ لنا وفادينا. منذ الأزل اسمك« (آ 15 - 16). هل أنت بعيد يا رب، بحيث لا ترى ولا تسمع! لا سمح الله أن يكون الربُّ كذلك. وإلا شابه الأصنام التي لا تفعل شيئاً. وكيف يعود الأمل في قلب هذا اليأس؟

وهذا ما قال العليّ الرفيع، ساكنُ الخلود، القدوس اسمه: »أسكن في الموضع المرتفع المقدّس، كما أسكن مع المنسحق والمتواضع الروح، فأنعش أرواح المتواضعين وقلوب المنسحقين« (57:15). لا شكّ في أن الله يُقيم في الأعالي، لأنه القدوس الذي لا يُدنى منه. ولكنه أيضاً مع شعبه ولا سيّما الضعفاء والمساكين الذين اقتُلعوا من أرضهم ومضوا إلى البعيد. فحين مضى الشعب إلى المنفى، استعدّ الربّ فوقف على الجبل الشرقيّ. ولما ساروا سار معهم (حز 11:22 - 24). ولما عاد المهجّرون إلى أرض الوطن، رافقهم الربّ المجيد (حز 43:2). ما تركهم وحدهم حين ذهبوا ولا حين رجعوا. فلماذا الخوف ولماذا الفزع (57:11)؟ أين هو الإيمان؟

الصعوبة الثانية. انحطاط عميق في عبادة الأصنام، وما يتبع ذلك من فساد خلقيّ. سبق وتحدّثنا عن ذبح الأطفال في وادي جهنّم. بل في وديان أخرى. وكل هذا إكراماً لآلهة الحجر والخشب. وهناك اتحاد بالاله أو بالآلاهة عبر اتّحاد ببغايا يمثِّلون الاله. وما يكون نصيب ابنة صهيون، مدينة صهيون بسكّانها؟ حجارة الوادي الملساء وعلامة الاله الذكر الذي يؤمّن الخصب والمطر.

فيهدّد النبي باسم الربّ. »أبِذَلك يطيبُ خاطري« (57:6)؟ فممّن فزعتِ وخفتِ حتى كذبتِ وما ذكرتني ولا تأمِلتني في قلبك؟ ألأني سكتُّ وقتاً طويلاً لا تخافينني؟ والآن، ماذا استفدتِ من أعمالك (آ 11 - 12)؟

ويعد النبيّ المدينة التي قد تكون تابتْ. »الأبرار يستقرّون ولا من يُقلقهم، ويسكنُ الرحماء ولا من يُبعدهم. ومن وجه الشرّ يُنقَذ الأبرارُ، والسالكون في الطريق المستقيم يدخلون في السلام ويستريحون في مضاجعهم« (57:1 - 2).

هذا يعني حياة يحياها الشعب ولا يكون لومٌ فيها. فماذا تنفع الصلاة إذا كانت الأيدي ملطّخة بالدماء؟ وهل تقوم التوبة باحناء الظهر وافتراش المسوح ورشّ الرماد؟ ندّد النبي بهذا الكذب الذي يذكّرنا بالذين لامهم يسوع لأنهم يقولون ولا يفعلون. بل يجعلون الأثقال على أكتاف الناس. يجعلون النير على الضعفاء، وينسون الدينونة التي تنتظرهم، في هذا المعنى نقرأ التنبيه الالهيّ:

»إصرخ عالياً ولا تتردّد، وارفع صوتك كالبوق. أخبرْ شعبي بمعصيتهم، بيت يعقوب بخطاياهم. يطلبونني يوماً فيوماً، ويريدون معرفة طرقي، كأنهم أمّة تعمل بالعدل، ولا تُهمل وصايا إلهها. يطالبونني بأحكام عادلة ويريدون التقرّب إليّ. يقولون: نصومُ ولا تنظر، ونتّضع وأنت لا تلاحظ« (58:1 - 3). وجاء الجواب على هذا الموقف الذي لا منطق فيه تجاه الذين يبدون كالقبور المكلّسة: »صومُكم هذا لا يُسمّى صوماً، ولا يوماً يرضى به الربّ. الصوم الذي أريده هو أن تحلّ قيود الظلم، وتفكّ مرابط النير، ويُطلق المنسحقون أحراراً. ويُنزع كل نير عنهم. أن تفرش للجائع خبزك، أن ترى العريان فتكسوه (آ 5 - 7). العدالة الاجتماعيّة هي الشرط الضروريّ لكي يرضى الله بصلاتنا وصومنا. وإلاّ كنا كاذبين. وماذا ينفع »إيماننا« إذا رأينا أخاً عرياناً، فقلنا له: اذهب بسلام. استدفئ واشبع« (يع 2:14 - 16).

وهذا ما يقودنا إلى الصعوبة الثالثة التي اصطدم بها النبيّ ليجعل من هذه الفئات المختلفة شعباً يخصّ الله. لا محبّة بين الاخوة. بل هو البغض يُسيطر. بغض بين الذين ذهبوا إلى المنفى والذين لبثوا في الأرض فاغتنوا في غياب إخوتهم المهجّرين. بغض بين الفقراء والأغنياء باسم شريعة تطلب المساواة بحيث إن المكثر لم يفضل عنه، والمقلّ لم ينقصه. أما الفوارق الاجتماعيّة فهي صارخة: ثروات واسعة للذين استفادوا من الحرب والقتل والسرقة. وفقر مدقعٌ للذين خسروا كل شيء، فما بقي لهم سوى أولادهم وأشخاصهم يبيعونهم ليستطيعوا أن يبقوا على قيد الحياة.

رجع العائدون من المنفى فخاب أملهم أمام واقع يوميّ ليس فيه شيء من حماس دفعهم إليه اشعيا، نبيُّ المنفى. الحالة الآن تعيسة، فأين يد الرب. هي التي فعلت مع آبائنا. فما الذي حصل لها اليوم؟ وتساءلوا: »أين الذي أصعد شعبه من البحر (عالم الشرّ) ودعاهم كغنمه، وجعل في وسطهم روحه القدوس؟ أين الذي سيَّر عن يمين موسى ذراعه المجيدة ليعمل لنفسه اسماً أبدياً؟ أين الذي سيّرهم في اللجج كغرس في البرّ فما عثروا« (63:11- 13)؟

أجل، لماذا تأخّر خلاص الله؟ لا نبحث عن التأخّر في الله، بل في نفوسنا. فالعائق لمجيء الخلاص هو الانغماس في الخطيئة، ولا سيّما على مستوى المحبّة الأخويّة. فإذا غابت، بيَّن، الناسُ أنهم لا يعرفون محبّة الله. وبما أنهم يحبّون الأصنام ويتعلّقون بعظماء لا يقدرون أن يخلّصوا أنفسهم (مز 118:9)، فمن أين سيأتيهم الخلاص. غير أن هذا العائق ولا غيره يستطيعان أن يُوقفا مسيرة الخلاص. فالله هو السخيّ وسخاؤه أبدي، والله هو الأمين، ولا يمكن أن يتراجع عمّا وعد به.

وعى الشعب هذا الكلام، وما عادوا يتّهمون الله. فأقرّوا بخطاياهم. هم لا يتّكلون أولاً على توبتهم ولا على استحقاقاتهم، بل على رحمة إله لا شبيه به. »من الأزل لم تسمع اذن ولا رأت عينٌ إلهاً غيرك يصنعُ ما يصنعُ للذين يرجونه« (64:3). هو لا يميل بظهره للخاطئين، بل يفتح لهم يديه، على مثال ما فعل الأب في الانجيل حين استقبل ابنه العائد إليه. قال: »مددتُ يدي نهاراً وليلاً نحو شعبٍ متمرّد عليّ« (65:2). ولكن يبقى أن الرب لا يريد توبة عابرة تكون مثل ندى الصباح: ما إن تشرق الشمس حتى يتبخّر. لهذا جاء الكلام مشجعاً: »تُرحِّبُ، يا رب، بمن يفرحون بك ويصدّقون ويذكرون طرقك« (64:4).

في هذا الجوّ من الثقة، اعترف الشعب بخطاياهم. قالوا: »أنت غاضبٌ لأننا خطئنا. من الأزل ونحن في خطايانا، كنا كلّنا كشيء نجس. وفضائلنا كلها كخرقة دنسة. فذبلنا جميعاً كالورقة، وآثامنا حملتنا كالريح، وما بقي أحدٌ يدعو باسمك ولا يتحرك ليتمسّك بك، حتى حجبتَ وجهك عنا وتركتنا نذوب بآثامنا« (64:4 - 6). تركوا الربّ فأحسّوا أن الربّ تركهم. ولكن إن تركت أم ابنها، فالربّ لا يترك شعبه. لهذا كان السؤال الذي يُقلق هؤلاء المعترفين بخطاياهم: »فهل نخلص«؟ هل نجد مخلّصاً يهتمّ بنا بعد أن فعلنا ما فعلنا. بلى نجد. فالربّ يعرف أننا من الطين جُبلنا. أننا ضعفاء. هو بشّرنا بالخلاص القريب. بشّرنا بالسلام الآتي. وقال لأورشليم، وبالتالي إلى شعبه: »كنتِ مهجورة مكروهة ولا أحد يعبُر فيك. والآن أجعلك فخر الدهور وبهجة جيلٍ  فجيل« (60:15). ويتابع صوتُ الربّ رافعاً الأنظار إلى البعيد: »قومي استنيري وأنيري. فنورك جاء، ومجد الربّ أشرق عليك. ها هو الظلام يغطّي الأرض والسواد الكثيف يشمل الأمم. أمّا عليك فيشرقُ الربّ وفوقك يتراءى مجده« (60:1 - 2).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM