الفصل 26: حالة الضياع

حالة الضياع

سنة 538، سمح الملك الفارسيّ، كورش، المنتصر على البابليّين، بأن يعود المنفيّون المهجّرون إلى أرض بابل. يعود كل شعب إلى بلده، وإن كان أحدٌ بحاجة إلى معونة، يمدّه أهلُ المكان الذي يقيم فيه بالفضّة والمال (عز 1:4). وانطلقت مجموعة أولى بقيادة ششبصّر، أمير يهوذا. يبدو أنه كان ابن يوياكين (1 اخ 3:15 - 18) الذي مضى إلى السبي ومات في أرض بعيدة بعد أن حكم بضعة أشهر فقط. وقد عيّنه الفرس حاكماً على يهوذا (آ 8). أما المهمّة الأساسيّة فبناء الهيكل. ولكن كيف العمل في مثل هذا الوضع السياسيّ والاجتماعيّ والدينيّ؟

1 - الوضع السياسيّ

هناك الوضع الخارجي والوضع الداخليّ

في الوضع الخارجيّ، الحاكم مكبَّل لأنه خاضع لقوّة البابليّين، الذين يسيطرون على البلاد، ويفرضون الضرائب الباهظة على السكّان، بحيث تكدّست الديون على الفقراء، وحلّ الضيقُ بالجميع. نقرأ في نحميا: »ها نحن اليوم عبيدٌ في الأرض التي أعطيتَها لآبائنا ليأكلوا ثمرها وخيرها. ها غلّتها الوافرة يأخذها من هم متسلّطون على أبداننا وعلى بهائمنا كما يشاؤون، ونحن في ضيق شديد« (9:36 - 37).

تلك صعوبة أولى. والثانية، تأتي من حاكم السامرة والذين حوله. فهم لا يريدون أن تُبنى أسوار أورشليم بحيث يحسّ الشعبُ نفسه في أمان، وفي بعض استقلال. وأخذوا يحرّكون الفرس على هؤلاء السكان الجدد الذين أتوا على دفعات، ومنها مع زربابل، حفيد يوياكين، ويشوع الكاهن الذي يتحدّر من صادوق فيمثّل الكهنوت الشرعي. في هذا الجوّ، هتف النبيّ: »يد الربّ لا تقصر عن الخلاص، وأذنه لا تثقل عن السماع« (59:1). في زمن الخروج، قال الربّ: »نظرتُ إلى معاناة شعبي، وسمعتُ صراخهم، فنزلتُ لأنقذهم« (خر 3:7). وهو يقول الشيء عينه في وضع يعيشه شعبُ داود، في المنفى.

ولو كان الوضع الداخليّ سليماً، لهان الأمر بعض الشيء. فالشعب مقسّم فئات فئات، بل إن البعض تحالفوا مع الأجنبي على إخوتهم، فضاع السلام والاتّفاق. أما الرؤساء فيصفهم النبيّ وصفاً قاسياً. »هم عميان، ويريدون أن يؤمّنوا حراسة الأسوار. هم كلابُ بكم لا يقدرون أن ينبحوا. حالمون، مضطجعون، محبّون للنوم. كلاب شرهة لا تعرف الشبع، وهم رعاة يجهلون التمييز. كل واحد منهم مال إلى طريقه وسعى وراء الربح إلى النهاية« (56:10 - 12). ولكن العقاب آتٍ سريعاً.

2 - الوضع الاجتماعي

انقسم المجتمع الذي كلّمه هذا النبي في القسم الأخير من القرن السادس (أي بعد سنة 538) إلى ثلاث فئات في أرض فلسطين، وفئة رابعة لبثت في بلاد المنفى.

الفئة الأولى. يهودٌ عادوا من المنفى. »سباهم نبوخذ نصر، ملك بابل، ورجعوا إلى أورشليم (المدينة) ويهوذا (المنطقة) كل واحد إلى مدينته« (عز 2:1). كانوا قرابة خمسين ألفاً مع عدد كبير من الكهنة واللاويين الورعين الذين اشتاقوا إلى الحياة في الهيكل: »يومٌ في ديارك خير من ألف« في أي مكان آخر. »لهذا اخترتُ الوقوف في عتبة بيت إلهي على السكن في خيام الأشرار« (مز 84:11). أقاموا في أورشليم وفي جوارها، وهذا يعني أنهم انتموا إلى قبائل يهوذا وشمعون وبنيامين. ولكن الاقامة كانت صعبة جداً. فأين الهيكل وما يحيط به؟ كلّه دمار. وما كان لهم من بيوت وأراض، هو خراب، إن لم يكن الغرباء وضعوا أيديهم عليهم. فكان لسان حالهم ما قال النبي: »ولذلك ابتعد الحقّ عنا، والعدل لم يصل إلينا. ننتظر النور فتباغتنا العتمة، والضياء فنسير في الظلام. نتحسّسُ الحائط كالعميان، ونتلمّس كمن لا عينان له. نعثر في الظهيرة كما في العتمة، ونحن في الأحياء كالموتى... ننتظر العدل فلا يأتي، والخلاص فيبتعد عنا« (59:9 - 11).

والفئة الثانية هم اليهود الذين لبثوا في البلاد وما مضوا إلى المنفى. اعتبروا أن الأرض لهم، وأنهم نسل ابراهيم الحقيقيّ، لا هؤلاء الآتون من البعيد. الذين لو  استطاعوا أن يؤمنّوا حياتهم لما كانوا رجعوا إلى فلسطين. نسيَ المقيمون في الأرض اندفاع الإيمان. ونسوا بشكل خاص أن ابراهيم هو الذي جاء من بلاد الرافدين قبل أن يُدفن في مغارة المكفيلة قرب حبرون. لا شكّ في أنه كان بينهم مؤمنون، ولكن الأكثريّة نظرت إلى مصالحها: وضعوا يدهم على أراضي الذاهبين إلى المنفى، فكيف يتخلّون عنها الآن. يا ليتهم لم يرجعوا! والتصقت مسألة دينيّة بالمسألة الاجتماعيّة. فالمقيمون لم يتركوا أصنامهم التي ارتبطت بغناهم. أما الآتون من المنفى، فتنقّى إيمانُهم فما عادوا يهتمّون إلا بشؤون الله. كما برزت عندهم وحدانيّة الله بشكل لم يعرفوه من قبل.

وهكذا كان الانقسام، كما قال النبي. »في يوم صومكم تجدون ملذّاتكم، وتسخّرون جميع عمّالكم. للمشاجرة والخصام تصومون، وللضرب بقبضة الشرّ« (58:3 - 4). هناك مظلوم، هل اهتممتَ به؟ هناك عريان، جائع، غريب، مطرود. ماذا فعلتَ له؟ هل استغلّيته وأنت القويّ وهو الضعيف؟ أما »إذا سكبتَ لقمتك للجائع ولبّيتَ حاجةَ البائسين، يُشرق في الظلمة نورُك، وكالظهر تكون لياليك. أهديك، أنا الربّ، كلّ حين، وألبّي حاجتك في الضيق. أقوّي عظامك وأجعل حياتك كجنّة ريّا ونبعٍ دائم« (58:10- 11).

والفئة الثالثة هم الغرباء. بعضهم جاء إلى أرض فارغة حين تركها المهجّرون الذين أُخِذوا إلى البعيد. اعتبروا الأرض لهم. سواء اشتروها ممّن لا يحقّ له أن يبيعها. أو أعادوا إعمارها واعتنوا بها »فصارت لهم«. وهم لا يتخلّون عنها بعد أن صاروا أقوياء في وجه أشخاص عادوا وهم لم يملكون شيئاً، بل لا يملكون صوتاً به يدافعون عن حقّهم. وهناك غرباء رافقوا العائدين، كما كان الأمر بالنسبة إلى موسى. سمعوا كلام الله فصاروا من المؤمنين دون أن يكون أصلهم من قبائل اسرائيل. هل يحقّ لهم أن يكونوا في شعب الله، أم يظلّون غرباء ومؤمنين من الدرجة الثانية والثالثة؟ لن يأتي الجواب النهائي قبل رسالة القديس بولس إلى غلاطية: لا يهودي ولا غير يهوديّ. »فأنتم واحد في يسوع المسيح« (غل 3:28). والاله الواحد الذي يعبدونه كلّهم، أما يستطيع أن يوحّدهم؟ بل كلّ واحد يتاجر به بحسب رغباته وجشعه واهتمامه بالسلطة وبتكديس المال والخيرات. ونحن لا نتكلّم عن غرباء أتوا يعملون بعد أن ضاقت بهم سبل العيش في بلادهم. هؤلاء الذين يعملون في بناء الأسوار (60:10) وترميم ما تهدّم من الأمم. هؤلاء الأجانب الذين يرعون الغنم، يفلحون الأرض، يهتمون بالكروم (61:4 - 5). كيف يعاملون؟ أما يكون الشرخ واسعاً بين خادم آتٍ من الغربة، ومخدوم يستغلّ خادمه إلى آخر حدود الاستغلال، حتّى في شخصه وفي حياته. يمكن أن يقلع له عينه (خر 21:26)، أو يكسر له سنّه (آ 27)، وهو يعامله معاملة قاسية. وقد يضاجع الأب وابنه الخادمة في البيت، ولا يحقّ لها أن تحتجّ. في الماضي، تُقتل وليس من يسأل عنها. واليوم تُطرد من عملها بحيث لا تقدر بعدُ أن تطعم عيالها.

3 - الوضع الديني

ما سبق يرتبط بالوضع الديني، بحفظ وصايا الله، بشريعة المحبّة التي ترحم الغريب والمسكين واليتيم والأرملة والضعيف والمهجّر. هذه الحالة عرفها أهل يهوذا وأورشليم، ويعرفها كل مجتمع ينقسم إلى طبقات اجتماعيّة. إلى فئات دينيّة. إلى منظّمات تسيطر على البلاد وعلى الأشخاص باسم السلطة الغريبة أو القريبة. لو لم يكن حاكم السامرة مستنداً إلى الفرس، لما استطاع أن يهدّد بناء أسوار أورشليم. وأي سندٍ لششبصّر وهو الذي انطفأ ذكره حالما وصل إلى أورشليم؟ وزربابل، حفيد يوياكين ومن سلالة داود، لم يقف في وجه الكاهن الأعظم يشوع. لا حاجة إلى رأسين في البلاد، فسقط رأسٌ وسيطرت الدولة التيوقراطيّة، أي حكم الله بواسطة الكهنة.

في أصل كل الشرور نجد حبّ المال، كما قال بولس الرسول (1 تم 6:10). فالسلطة تقود إلى المال. وعبادة الأصنام تمنح الربح لمستغلّي هذه العبادات التي تدغدغ العاطفة ولا تحوّل الانسان من الداخل. هنا يكون كلام النبي عنيفاً. يقول: »أما أنتم، فاقتربوا إلى هنا، يا بني الساحرة، يا نسل الفاسق والزانية! بمن تسخرون وعلى من تفغرون أفواهكم وتخرجون ألسنتكم؟ أما أنتم أولاد المعصية ونسل الغدر؟ أنتم يا من يتحرّقون شهوة أمام الأصنام تحت كل شجرة خضراء، ويذبحون أولادهم في الأودية تحت كهوف الصخر« (57:3 - 5). أعمال السحر والبغاء والزنى وذبح الأطفال. هو انحطاط ديني ما بعده انحطاط. ويتساءل الناس: لماذا أصابنا ما يصيبنا من ويل؟

ويتوسّع النبيّ في خطيئة الشرك مع الأعمال التي ترافقها: القرابين والسكائب. الذبائح على المشارف ورؤوس الجبال. عبادة الاله »مولك، بشعر مطيّب بالزيت« وبالعطور (57:9). ويُطرح السؤال على أورشليم: »هل إذا استغثتِ بأصنامك تُنقذك؟ تحملها الريح ويأخذها النسيم. ماذا استفدتِ من كل أعمالك«؟

والجواب يقدّمه النبي باسم الربّ: »أما الذين يتوكّلون عليّ فيملكون الأرض ويرثون جبلي المقدّس. ويُقال لهم: مهّدوا، مهِّدوا! هيّئوا الطريق وارفعوا كل عائق من طريق شعبي« (آ 14).

فهناك فئة رابعة تحبّ أن تعود إلى أورشليم. هي اليوم في الشتات. هي بعيدة عن الأرض، والربّ يريد أن يجمعها حول الذين وصلوا في قافلة أولى فنعموا بحضور الربّ في مدينته، بانتظار أن يُبنى هيكله. »هيّا! اعبروا من الأبواب. هيّئوا طريق الشعب. مهّدوه ونقّوه من الحجارة، وارفعوا الراية للشعوب. الربّ أذاع إلى أقاصي الأرض، أن قولوا لابنة صهيون: ها مخلّصك الربّ آتٍ« (62:10 - 11). وما الذي يؤكّد هذا الحلم؟ كلام السيّد الربّ: »سأجمع آخرين إلى هؤلاء الذين جمعتُهم« (56:8). وفي النهاية، سيجمع الله الجميع في »أورشليم«. لا أورشليم الأرض وحسب، بل أورشليم السماويّة، بحيث يحسّ كلّ واحد أنه مولود فيها (مز 87:6 - 7). فالله، بيسوع المسيح، يجمع في واحد كلّ ما في السماء وما على الأرض (أف 1:10).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM