الفصل 25: نداء الخلاص الشامل

نداء الخلاص الشامل

ما الذي حصل؟ تبدّلت المدينة. بل تبدّل المقيمون فيها. كانوا عيونا مغمضة وآذاناً مغلقة، فاذا هم ينظرون إلى مجد الربّ ويسمعون كلامه. سيكون بنو أورشليم تلامذة للربّ. تعلّموا، وهم يستعدّون لكي يعلّموا الأمم، ليحملوا إليها نور الشريعة الخالد (حك 18:4). في هذا المجال نسمع كلام إرميا في معرض كلامه عن العهد الجديد: »جميعهم سيعرفونني، من صغيرهم إلى كبيرهم، لأني سأغفر ذنوبهم، ولن أذكر خطاياهم من بعد« (إر 31:34). هذا ما نستطيع أن نسمّيه الخلاص الشامل، فجميعُ الأمم تأخذها الدهشة، وجميع الشعوبُ تعرف الاله الحقيقيّ. وجميع الألسن تصل إليها البشارة، الانجيل.

1 - دهشة الأمم

حين ترى الأممُ الوثنيّة الخلاص الذي منحه الله لشعبه، تأخذها الدهشة، وينالها العجب. لهذا كان صوت الله بفم النبيّ: »يراك الملوك فيقومون، والرؤساء فيسجدون لك« (49:7). يقفون بعد أن كانوا جالسين. احتراماً وتكريماً. بل يسجدون كما يسجد انسان أمام ملك عظيم ويقبّل الأرض بين يديه. ولكن لا ننسى أن السجود، في النهاية، هو لله وحده. يقوم الملوك، لا إكراماً للشعب، وهو أقلّ الشعوب (تث 7:7)، بل لله الذي ائتمن هذه البقية، »للقدوس الذي اختارك« (49:7). أجل، عظمة الشعب من عظمة الله.

وحين ترى الأمم أنه لم يُعد من أثر لخرائب أورشليم، وأن الربّ عزّى شعبه وافتدى أورشليم. وحين يعاينون أنه كشف عن ذراعه المقدّسة ففعل، تدهش »جميعُ أطراف« الأرض« (52:9 - 10) أمام خلاص إلهنا. وتتمنّى أن يأتي دورُها ساعة تكون في العبوديّة وفي الأسر. فالخراب الذي حلّ بأورشليم يمكن أن يحلّ بكل مدينة. والهزيمة والأسر لا يُفلت منهما أحد. صرخ العبرانيّون في ضيقهم المصري، فسمع الربّ وتدخّل. »وصرخ المصريون إلى الربّ في ضيقهم« (19:20)، حين هجم عليهم الأشوريّون مع سرجون الثاني (722 - 705 ق م)، فأرسل لهم »مخلّصاً ومحامياً فأنقذهم«. وكان لهم أن يعرفوا الربّ، كما عرفه العبرانيّون في قلب منفاهم.

2 - اعتراف الأمم

كيف عرف الشعب العبراني الله؟ هو ما عرفه أولاً في الخليقة، بل في الخلاص الذي ناله. فأول خبرة لهم، كانت لقاء مع الربّ في الخروج من مصر وعبور البحر الأحمر. حينئذ عرفوا الربّ. آمنوا به وآمنوا بموسى عبده (خر 14:31). والشيء نفسه يحصل للأمم التي لم يكن لهم شريعة مثل الشعب اليهودي، فكان ضميرُهم شريعة لهم. سيكون لهم أن يعرفوا الاله الحقّ من خلال أعماله وتدخّله في التاريخ، وذلك حين يفهمون أن أصنامهم لم تنفعهم شيئاً. ذاك كان الاختبار على جبل الكرمل مع إيليا وأنبياء البعل. هتف هؤلاء: »أيها البعل، استجبْ«. فلا صوتَ ولا مجيب (1 مل 18:26). وحين قال إيليا: »أيها الربّ... ليعلم هذا الشعب أنك الله. استجب لي« (آ 36 - 37). وفي الحال نزلت نار الربّ (آ 38). »فلما رأى ذلك الشعبُ، سجدوا إلى الأرض وقالوا: ''الربّ هو الاله. الربّ هو الاله« (آ 39).

وهذا ما يمكن أن يحصل للأمم الوثنيّة حين يرون الله يُعيد أبناءه وبناته إلى مدينته. حينئذ يعرف بنو اسرائيل عظمة العمل الذي قام به الربّ. »وينظر البشر ويعلمون جيداً، ويتأمّلون ويفهمون جميعاً أن يد الربّ صنعت ذلك« (41:20). فالذين ما كانوا يعرفون الرب صاروا يعرفونه (55:5). والذين كانوا بعيدين صاروا قريبين ونالوا السلام الذي ناله شعب الله، كما نالوا الشفاء (57:19). وهكذا لا يبقى خارجاً سوى الأشرار، الذين رفضوا نداء الربّ. وفي النهاية، يُعلن هؤلاء الأغرابُ: »الله معك ولا آخر. مَن إله سواه« (45:14). هكذا يعترفون بالربّ. ويمجّدونه، ويتضرّعون إليه، فينضمّون إلى الجماعة الملتئمة في هيكل أورشليم.

3 - البشارة إلى كل الأمم

دعا يسوع تلاميذه على الجبل، وقال لهم: »إذهبوا وتلمذوا جميع الأمم« (مت 28:18). ونقرأ كلام الربّ المماثل في مر 16:15: »اذهبوا إلى العالم كله، وأعلنوا البشارة إلى الخلائق أجمعين«. فالبشارة، أو الانجيل، لا تتوجّه فقط إلى البشر، بل تصل إلى الكون. فما خلقه الله في البداية، يجدّده في النهاية.

هذا »الانجيل« هو الذي تحدّث عنه »اشعيا«. فهنّأ المبشّرين، الحاملين بشارة الخير والخلاص. وهنّأ المنادين بالسلام (52:7). هم وقفوا على الجبال، مثل نار، فيراهم الجميع ويسمعونهم. فكلامهم لا ينحصر في مدينتهم، بل يذهب إلى البعيد. وعبد الربّ يجب أن يكون »نور الأمم« وهو مسؤول عن خلاص سيصل إلى أقاصي الأرض (49:6). بل شعب الله هو نفسه يكون خلاصاً. وهكذا تستطيع الأمم أن تعاين الله بعد أن رأت عملاً لا يستنفده وصفٌ ولا يرويه خبر.

خاتمة

نداءات ثلاثة حملها النبيّ الذي تتلمذ على يد اشعيا. نداء الرجاء في قلب اليأس الذي يقود إلى التراخي. نداء الحبّ ساعة ظنّ الجميع أن غضب الله يحلّ بالشعب من جرّاء خطاياه. نداء الخلاص الذي لا ينحصر في شعب من الشعوب. ولا في فئة من الفئات عادت من سبي بابل. بل هو يتوجّه إلى جميع الشعوب.

نداء التلميذ جاء في خط المعلّم. ولكنه اختلف عن نبيّ القرن الثامن. فالوضع تبدّل من القرن الثامن إلى القرن السادس. والمكان لم يعد أورشليم بملكِها الذي من نسل داود. بل بابل، أرض الغربة والمنفى. زالت الأمجاد التي بدأت مع سليمان وبرز الذلّ والعار. لهذا، وجب على النبيّ الذي دعا نفسه »الصوت الصارخ« (40:3) أن يكون مع المتألّمين، مع المضطهدين والمسحوقين. ويدعوهم لكي يحملوا البشارة من قلب الضيق والغربة. وهكذا انطلقت القوافل إلى أورشليم، مدينة الله، تلبية لطلب النبي. جاؤوا فطافوا حول المدينة المقدّسة، وعدّوا الأبراج التي فيها، وتطلّعوا بقلوبهم إلى حصونها، وتمتّعوا جيداً في قلاعها (مز 48:13). ودعوا لينضمّ إليهم شعوبَ فلسطية وصور وكوش، دعوا أهل مصر وبابل. فجاء الجميع ورقصوا وأنشدوا قائلين: »في أورشليم ينبوع بركاتنا« (مز 87:4 - 6).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM