الفصل 24: نداء الحبّ

نداء الحبّ

أمام هؤلاء المؤمنين الذين ما عادوا يعترضون على دور كورش، هذا الملك الوثنيّ الذي اختاره الربّ ليخلِّص شعبه، وكأن لا أحد غيره في أرض يهوذا، أمامهم رسم النبيّ لوحة رائعة عن الخلاص النهائيّ. عن بناء أسوار أورشليم، كما يقول مز 51، فيقدّمون هناك الذبائح الصادقة والمحرقات التامّة بقلب منكسر منسحق (آ 19 - 21). فأورشليم عروس الربّ وهو يحبّها كما العريس يحبّ حبيبته. وإن هي خانت في الماضي، فهو يغفر لها خياناتها.

1- إبنِ، يا ربّ، أسوار أورشليم

تلك كانت صلاة المؤمنين في المنفى، فما عاد لهم ذبيحة يقدّمونها. وصلاة العائدين الأوائل، الذين عجزوا في البدء عن إعادة بناء الهيكل، فاكتفوا بمذبح صغير. بما أن أسوار أورشليم مهدّمة، فهذا يعني أن الله لم يرضَ عن شعبه، وما عاد بعدُ إلى مدينته. هو لا يستطيع بعدُ أن يقول: »هذه هي راحتي إلى الأبد. ههنا أسكن لأني اشتهيتها« (مز 132:14)، لأني أشتهي الإقامة فيها.

وضعٌ مؤلم عرفته أورشليم. قالت: »تركني الربّ« (49:14). ماذا يعني هذا؟ هي صارت في عالم الموتى بعد أن تخلّى الله عنها. فهو سندها في المخاطر. فما يكون مصيرها حين يزول هذا السند. وكرّرت: »تركني ونسيَني«. قدّمتْ للربّ حالتها، وانتظرت منه كلام عطف. فقال لها: »لا أنساك، يا أورشليم« (آ 15). ويرد فعل »ترك« أكثر من مرّة للدلالة على ما وصلت إليه المدينة المقدّسة. إذا كان الله نفسه لا يهتمّ بها، فمن يا تُرى سيفعل؟

الله هو من يفعل. في الواقع، أعيد بناء أسوار أورشليم بعد العودة بقرن من الزمن، خلال مهمة نحميا الأولى التي امتدّت من سنة 445 إلى سنة 433. في 52 يوماً ارتفعت الأسوار (نح 6:15). ولكن مثل هذه الأسوار ليست أبديّة. وسوف تُهدم كلها سنة 70 ب م، وسنة 135 ب م. هذه الأسوار صوّرها يسوع أمام تلاميذه الذين أروه بناء الهيكل: »لن يبقى هنا حجر على حجر، بل يُهدَم كله« (مت 24:2). وصوّر الانجيلي على ضوء الحدث ما حصل لأورشليم. لهذا، فبناء الحجر سيكون ناقصاً. بل هو لا يدوم. من أجل هذا، تطلّع النبي إلى بناء من نوع آخر. »يا أورشليم، أيتها العانية المنفيّة التي لا عزاء لها، سأبني أسوارك بحجارة كريمة، وأؤَسّسك باللازودد، وأجعل شرفاتك ياقوتاً وأبوابَك حجارة بهرمان وجميع حدودك حجارة ثمينة« (54:11 - 12).

فأورشليم التي نعمت بعهد يقدّمه الرب لها، ستنال مجداً لم يُسمَع به. ستنتقل من الشقاء والتعاسة إلى البهاء والجمال. هي ستُبنى بأجمل الحجارة الثمينة التي أخِذت من الفردوس (تك 2:11 - 12؛ حز 28:13 - 14). وهكذا تتفوّق على جميع مدن بابل التي افتخر ملوكها بأنها بُنيت بالحجارة الكريمة، فما ضاهى جمالها جمالاً. هذه المدينة المقدّسة أنشدها طوبيت من قلب المنفى، فقال: »باركي الرب، يا نفسي، لأرى بهاء أورشليم، لأنها ستُبنى من ياقوت وزمرّد وحجر كريم، ومن الذهب، أسوارها وأبراجها، وأسواقها برخام أبيض. وشوارعها تنشد: هللويا« (طو 13:16 - 18). كل هذا استعاده سفر الرؤيا في معرض كلامه عن أورشليم الجديدة، العروس، زوجة الحمل (21:9): »نزلت من السماء من عند الله، وعليها حالة مجد الله« (آ 10 - 11)، وذُكرت أجمل الحجارة لتدلّ على جمال ما بعده جمال. فجمال الربّ حلّ عليها.

2 - أورشليم عروس الربّ

استعاد »اشعيا« رمزاً جاءه من هوشع للكلام عن أورشليم: هي العروس أمام ربّها. وقد اتّحدت به اتّحاد الزوجة بزوجها. نتذكّر أن المرأة تدل على الجماعة. كما نتذكّر أننا حين نريد أن نتكلّم عن الجماعة نشير إلى المرأة. صارت أورشليم بساكنيها عروسة الربّ. وما يربطها به هو رباط الحبّ. هذه العروس أبناؤها زينتها، وبناتها قلادة في عنقها (49:18 أ). هي في البعيد البعيد، المرأة الملتحفة بالشمس وعلى رأسها اثنا عشر كوكباً (رؤ 12:1).

ولكن هذه العروس ترمّلت. لا يعني هذا أن عريسها مات. بل هو ابتعد عنها. لا، بل هي ابتعدت عنه حين مضت إلى المنفى. صارت بعيدة عن الهيكل مركز حضوره فسمعت كلام النبي: »لا تخافي، فأنت لا تخزين ولا تخجلين، لأن العار لا يلحقك وتنسين خزي صباك، ولا تذكرين عار ترمّلك، لأن زوجك خالقك، واسمه الربّ القدير، ولأن فاديك قدوس اسرائيل وهو إله الأرض كلها« (54:4- 5).

بل إن أورشليم هجرها زوجها، فلبثت وحدها على قارعة الطريق تنتظر من يحنّ عليها. هنا نسمع بكاءَها في مراثي إرميا: »كيف جلست وحدها المدينة الملأى بالناس. صارت كأرملة بغتة وهي العظيمة في الأمم. السيّدة في البلدان، صارت تحت الجزية. تبكي بكاء في الليل، ودموعها على خدّيها. لا معزّي لها من جميع محبّيها. كلّ محبّيها غدروا بها، وصاروا لها أعداء« (مرا 1:1 - 2). أجل، تبعت الآلهةَ الكاذبة، واعتبرت مثلاً أن بعل يعطيها القمح والخمير والزيت، يعطيها المطر والخصب (هو 1:10). وفي النهاية، اكتشفت أن عريسها لا يمكن أن يكون إلاّ الربّ الاله. عادت إليه. أو بالأحرى لم تجرؤ أن تعود. فسمعت صوت النبي: »دعاك الربّ كعانس مهجورة، محزونة الروح، كأنثى هُجرت في صباها، وقال: هجرتُك لحظة، وبرحمة فائقة أضمّك. في هيجان غضب حجبت وجهي عنك قليلاً، وبرأفة أبديّة أرحمك. هكذا يقول فاديك الربّ« (54:6 - 8).

أجل، »غضب الرب لحظة، ورضاه طول الحياة. إذا أبكاني في المساء، فمع الصباح أرنّم فرحاً« (مز 30:6). وتلك التي تزوّجها فخانته، ها هو يعود إليها ويقطع معها عهداً يدوم، عهداً لا يُشبه العهود السابقة. في الواقع، لن يكون هذا العهد مع البشر، ولا مع شعب من الشعوب. بل يكون في يسوع المسيح الذي هو العهد الجديد الأبديّ. ولكن بانتظار ذلك، سمعتْ أورشليم كلامَ الربّ: »كما حلفتُ لنوح أن لا تعبر المياه على وجه الأرض فيما بعد، فكذلك حلفتُ أن لا أغضب عليك ولا أوبّخك. الجبال تزول، والتلال تتزعزع، وأما رأفتي فلا تزول عنك. هكذا قال ربّك الرحيم« (54:9 - 10).

وأخيراً، هذه العروس كانت عاقراً. بدت وكأنها ما ولدت ولداً، بعد أن مضت خيرةُ شبّانها إلى البعيد. ولكن أولادها هم هنا، عدداً كبيراً جداً، فيقولون لها: »ضاق المكان فاتّسعي لنا لنسكن« (49:20). أما أورشليم الجديدة، فلن يكون لها أسوار. هي واسعة وسع العالم. ولأنها لا تعرف الليل، لن تحتاج إلى أسوار ولا إلى حرّاس. في ذلك الوقت، تقول أورشليم في قلبها: »من ولدَ لي هؤلاء؟ كنتُ ثكلى وعاقراً. كنتُ مطرودة ومنفيّة. ومن ربّاهم لي؟ كنتُ متروكة وحدي، فمن أين يا تُرى جاؤوا« (آ 21)! الله أشار بيديه فجاؤوا.

فلا يبقى للشعب سوى النشيد: »ترنّمي، يا أورشليم، أيتها العاقر التي لا ولد لها. أجيدي الترنيم، واهتفي أيتها التي ما عرفت أوجاع الولادة. فبنو المهجورة التي لا زوج لها، أكثر من بني التي لها زوج. وسِّعي أرجاء خيامك، وانشري ستائر مساكنك« (54:1-2). فالآتون إلى أورشليم، ليسجدوا للربّ الاله، ليسوا فقط أولئك الذين كانوا في المنفى، بل جميع أمم الأرض. هذا ما نعود إليه في ما يلي من كلامنا.

3 - الذي غفر لها

وتتساءل هذه العروس، تتساءل أورشليم: ما كنتُ أهلاً للرحمة، فكيف صرتُ مرحومةً. ما كنتُ شعب الله، وها هو يقول لي: أنتِ شعبي. وسمح لي أن أقول له: أنت إلهي (هو 2:25). وتسمع الربّ يقول لها: »أتزوّجك إلى الأبد. أتزوّجك بالصدق والعدل والرأفة والرحمة. أتزوّجك بكل أمانة، فتعرفين أني أنا الربّ« (هو 2:21 - 22). ما الذي حصل؟ الربّ غفر لعروسه. ما أراد أن يذكر خطايا صباها. كانت في العار، فعادت إلى البهاء. كانت في الخطيئة، فنقّى الله قلبها. كانت خائنة فأعطاها الربّ القوّة لكي تدلّ على أمانتها له. نقضت عهدها، فاذا هذا العهد يُعقد بشكل ثابت لا ارتداد عنه. أظهر لها حنانه، وانتظر منها أن تبادله المثل.

لن يعود للشرّ من موضع فيها. تثبت في العدل، في البرّ. تبتعد عن الظلم. فلا هي تعادي أحداً، ولا أحد يعاديها. فلا تلقي الرعب لدى الآخرين، ولا تخاف أن يحلّ الرعبُ في تخومها. فالربّ نفسه لن يسمح بأن يكون السلاح الذي يُشهر عليها قاتلاً. وهو لنا يقبل شكوى عليها فيعاقبها، كما حدث لأيوب مثلاً. قال الشيطان في مجلس الله: »ولكن، يا رب، مدَّ يدك الآن ومسَّ كلَّ شيء له، فترى كيف يجدّف عليك في وجهك« (أي 1:11). هذا الشيطان سوف يقول له ملاك الربّ رافضاً أي اتّهام: »لينتهرك الربّ الذي اختار أورشليم« (زك 3:2).

أجل، الربّ غفر، نسيَ. بل هو خلق عروسه من جديد بقلب نقيّ وروح ثابتة. فماذا تنتظر أن تتجاوب مع عمله، فتكون له »مجيدة«، مقدّسة، لا عيب فيها« (أف 5:17).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM