الفصل 21: خروج ثان

خروج ثان

كيف الكلام عن هذا الخلاص الذي يبدو بعيداً جداً، بل مستحيلاً، وأيّة صورة يُمكن أن تُرسَم عنه؟ لا صورة سوى الخروج من مصر بيد الله القديرة، وذراعة المرفوعة. ذاك الذي فعل في بداية تكوين الشعب مع موسى، يتابع مع هذا النبي الذي لا نعرف اسمه، ولكنه يرتبط باسم معلّمه، اشعيا، أي خلاص الربّ.

في الخروج الأولى، كان الشعب في حالة يُرثى لها. قومٌ من العبيد يعملون في البناء بشكل خاص. وإن هم احتجّوا بعض الشيء، ضيّقت السلطةُ عليهم الخناق. بل هي خافت من عدد يتكاثر. فطلبت افناءهم لأنهم يشكّلون خطراً على المدى الطويل. ولكن الله يرى، يسمع. وفي النهاية يعمل. سلاحه عصا الراعي، وبها يقهر الجيوش والمركبات، وممثّلُه شخص يكاد لا يعرف أن يتكلّم. وهو ضعيف جداً. ومع ذلك، وقف أمام الفرعون، أقوى سلطة في الكون المعروف، في القرن الثاني عشر. الطريق منغلقة أمامهم. لا بأس. الربّ يفتحها. العدو يلحقهم. ولكنه سيموت في البحر. ذاك كان الخروج الأول، الخلاص الأول، الذي سيمتدّ ليوصل الشعب إلى مشارف موآب. قال الرب: »ما لنا ولذكر ما مضى! ها أنا صانع جديداً. في الصحراء أشقّ طريقاً، وفي القفر أُجري الأنهار« (43:18 - 19).

هكذا يكون الخروج الثاني. كان الفرعون خصماً. أما كورش فهو حليف، بل طلب من السكّان أن يساعدوا الراجعين. كان البحر سداً، فصار طريقاً. والبرية لم تعد بريّة، وصحراء قاحلة. ففي هذه الصحراء »أجريتُ مياهاً في الصحراء، لأسقيَ شعبي المختار« (آ 20). وهكذا بعد أن تذلّلت الصعاب، هتف النبي: »من أرض بابل اخرجوا. من بين الكلدانيين اهربوا مرنمين. أعلِنوا هذا ونادوا به، أذيعوه إلى أقاصي الأرض. قولوا: افتدى الربّ شعبه، سيّرهم في القفار من قبل، وشقّ الصخر ففاضت المياه. فجَّرها من الصخر فلم يعطشوا« (48:20 - 21).

هذا ما حدث في الماضي، وهذا ما يحدث الآن. اعتبر النبيّ أن بابل سقطت، فقال للعائدين: »سيروا، سيروا. أخرجوا. لا مسرعين، ولا كالهاربين. فالربّ يمشي أمامكم ويجمع شملكم« (52:11 - 12). وحين يكون الربّ في المقدّمة، ممّ يخاف السائرون في خطاه؟ في الخروج الأول، كان الغمام في النهار، والنار في الليل. وكان الملاك يفتح لهم الطريق. أما هنا، فالربّ نفسه حاضر كالراعي. هو أمامهم يدلّهم على الطريق، وهو وراءهم لا يترك خروفاً يضيع. يبحث عن المفقودة. يردّ الشاردة، يجُبر المكسورة، يقويّ الضعيفة. ويحفظ السمينة والقويّة، فهو يرعى قطيعه كلّه بعدلٍ (حز 34:16).

نِعَم الخارجون بقيادة الله. بل يجب أن يعلنوا ما فعل الله لهم. وينشدون مز 126:1- 2: »عندما ردّ الربّ أسرى صهيون، كنا كالحالمين. فامتلأت أفواهنا ضحكاً وألسنتنا ترنيماً. وقيل في الأمم: الربّ صنع معهم صنيعاً عظيماً«.

فهذا التحرير الذي يضع حدّاً لمنفى دام قرابة خمسين سنة (587 - 538)، نقل بني اسرائيل من العبوديّة إلى الحريّة، من الذلّ إلى العظمة، من الدموع إلى أناشيد الفرح. دُشِّن الخلاص بشكل ما كان يتوقّعه أحد. بواسطة ملك وثني سيكون أداة في يد الربّ الأمين، الذي نفّذ مقصده في الوقت المحدّد.

هو خروج جديد أجمل من القديم. هو خروج ثان يتفوّق على الأول. »هيّئوا طريق الربّ، مهّدوا في البادية درباً قويماً لإلهنا. كل وادٍ يرتفع. كل جبلٍ وتلٍ ينخفض. يصير المعوجّ قويماً، ووعرُ الأرض سهلاً، فيظهر مجدُ الربّ، ويراه جميع البشر معاً« (40:3 - 5). الربّ يعبر. وشعبه يعبر وراءه. رافقه من أورشليم إلى بابل. وها هو يرافقه من بابل إلى أورشليم. يمرّ هو فلا تعود صعوبةٌ أمامه ولا أمام الخارجين من بابل. ويعلن الرب في 41:18 - 19: »أَفتح الأنهارَ على الروابي، والينابيع في وسط الأودبية. وأجعل القفر (أو: بحيرة البحيرات) والأرض القاحلة منابعَ مياه. وأنمي الأرز والسنط في البريّة، والآس وأشجار الزيتون، وأُطلعُ السنديان في الصحراء، والسروَ والشربين جميعاً«. أجل، عدنا إلى البداية وصارت الصحراء فردوساً وجنّة غنّاء.

خاتمة

تبدّل الوضع تبدّلاً تاماً. فنبيّ القرن الثامن غير نبيّ القرن السادس. ووضعُ مدينة قائمة بهيكلها، غير مدينة خربة وهيكل محروق. ومقيمون في مدينة الله، ينعمون بحريّة الأبناء، غير عبيد يعملون للآخرين ولا يحقّ لهم أن يسيروا إلى حيث يريدون، لهذا جاء كلام أشعيا الأول غير كلام اشعيا الثاني. النبيّ اشعيا تحدّث عن الملك الآتي الذي يحلّ عليه روح الربّ. أما تلميذ اشعيا، فما وجد أمامه »مسيحاً« ولا ملكاً، سوى كورش الملك الوثني. فوجب عليه أن يفهم أن الله يصنع خلاصاً بيد كل انسان. فالملوك أداة في يد الله. والعظماء كعشب الأرض. الله وحده يجعلهم يدومون.

الخلاص هو هنا. والربّ يقدّمه جديداً كما لم يُعرف من قبل. عرف موسى والشعبُ الخروج، فأنشدوا لله. ولكن الخروج الثاني،  لا يمرُّ عبر البحر، بل في وسط الصحراء. سيتفوَّق على الأول. فيبقى على المهجّرين أن يتجاوبوا مع نداء الله ونبيّه. اليأس ممنوع، واتّهام الله يدلّ على نكران الجميل. والتشكيك بطرق الله مرفوض، لأنه القدير الذي يطلب خيرَ مؤمنيه. وأمام هذا الاله الذي يصنع المعجزات، أيبقى شيء يجذبنا إلى الآلهة؟ لو كنّا عمياناً، فهو يقودنا في طرق نجهلها. ولو كنا في الظلمة، تتحوّل الظلمة إلى نور أمامنا. هذا ما يفعله الله (42:16). فماذا ننتظر لنستسلم لخلاص يقدّمه لنا!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM