الفصل 16: الحرب الأراميّة الافرائيميّة

الحرب الأراميّة الافرائيميّة

1 - نداء الإيمان

وصلت القوّة الأشوريّة إلى عالم سورية وفلسطين ولبنان، بل أبعد من ذلك. فلا يدّ من التصدّي لها. فكان حلفٌ تألّف من دمشق، المملكة الأراميّة، ومن السامرة، عاصمة افرائيم، ومن صيدا وأشدود وغيرها من المدن. ولكن مملكة يهوذا رفضت الدخول في هذا الحلف. ربّما بنصيحة من اشعيا، وهو من رأى ضُعْفَ هذه الممالك الصغيرة، واستشفّ الخراب الذي ينتظرها. لهذا كانت الحرب على أورشليم عاصمتها. يجب أن تخضع. بل هيّأوا ابن طابئيل الأراميّ ليحلّ محل الملك الذي من نسل داود.

الملك في يهوذا هو أحاز. ورصين هو ملك أرام. وفقح ملك افرائيم أو مملكة اسرائيل. لم يذكر النصّ النبويّ سائر الملوك. بل اكتفى بالقول: »صعدوا إلى أورشليم لمحاربتها، فما قدروا أن يستولوا عليها« (7:1). وهكذا سُمّيت هذه الحرب، الحربَ الأراميّة الافرائيميّة بسبب وجود هذين الحليفين الكبيرين.

ماذا كانت ردّة الفعل على هذا الخطر المحدق بالمدينة؟ خاف الشعبُ. خاف الملك. »اضطرب قلبه وقلبُ شعبه اضطراب شجر الغاب في وجه الريح« (آ 2). ومضى أحاز إلى ملك أشور يتوسّل إليه. وهذا أمرٌ لم يكن يريده اشعيا. فهو النبيّ الذي يجعل اتكاله واتكال شعبه على الربّ. بدأ فأعلن كلمة الإيمان: »إن لم تؤمنوا لن تأمنوا« (آ 9). أنتم تطلبون الأمان والسلام، فلن تجدوه في اعتصام بالبشر وطلب الحماية لديهم. فالاعتصام  بالله خير من الاتكال على البشر ولو كانوا ملوكاً وعظماء. هذا ما يوجّه أنظارنا إلى كلمة وجّهها يسوع إلى رئيس المجمع، يا ئيرس، الذي قيل له: ابنتك ماتت. فلا تتعب المعلّم، قال له يسوع: »لا تخف، آمن فقط« (مر 5:36).

ساعة ضعُفَ الجميعُ، كان اشعيا قوياً بقوّة كلمة الله، الذي أرسله إلى الملك احاز ليقول له: »تنبّه. ابقَ هادئاً. لا تخف. لا يضعف قلبك« (7:4). أراد الحلف أن يُرعبَ يهوذا ويقسّمها (آ 6). وحده اشعيا لم يرتعب. أمام الله القدير، ما يكون هؤلاء الملوك؟ لا شيء. ما هو غضبهم ومدى عملهم تجاه غضب الله وما الذي يمكن أن يفعلوا؟ تآمروا، ولكن مشروعهم فاشل. نارهم فتيلةٌ مشتعلةٌ ما عاد فيها قوّة وهي تنطفئ قريباً (آ 4). ونقرأ في 40:15، 17: »ها الأمم كنقطةٍ في دلوٍ، وكغبارٍ في ميزان. وأقاصي البحار وكلُّ ما فيها كذرّة من التراب تُنفض... جميعُ الشعوب عنده كلا شيء، وفي حسابه عدم وفراغ«. أترى الله يخافُ بعد من مملكتين صغيرتين؟ فلماذا يخاف الملك؟ لأن لا إيمان عنده مع أن خلاص الله قريب. هجم الملوك وأرادوا أن يأخذوا المدينة. فقال النبيّ بفم ربّه: »لا يحدث ذلك ولا يكون« (7:7). لو قال هذا الكلام انسانٌ من الناس، لهزئ الجميعُ به. ولكن النبيّ يتكلّم باسم الله وهو واثق بما يقول. لهذا لا يمكن الملك أن يبقى لامبالياً.

 

2 - سجود للملك أم سجود لله

نبدأ فنقول إن الملك أحاز لم يكن خائناً لبلاده، ولكنه أخذ طريق المساومة. الخطر هو هنا. فحاول أن يخلّص ما يقدر أن يخلّص. مضى إلى الملك الأشوريّ وأخذ معه آنية الهيكل المقدّسة. كانت في خدمة الله. صارت في خدمة الملك. قال سفر الملوك الثاني: »وأخذ أحاز ما وجده من الفضّة والذهب في هيكل الربّ، وخزائن قصر الملك، وأرسله هدية إلى ملك أشور، فلبّى ملكُ أشور طلبه« وأزال الخطر (2 مل 16:8 - 9). ولكن أحاز كان يلعب بالنار ويدعو »الدبّ« إلى كرمه. ما أراد السجود لله والاتكال عليه، ففُرض عليه السجود لتغلت فلاسر الأشوريّ.

جاء النبيّ إلى الملك. »أطلب لشعبك آية من عند الربّ إلهك، إمّا من أعماق الهاوية، وإما من أعالي السماء« (7:11). فالله الكلّي القدرة لا يقف في وجهه عائق. والله حامل الخلاص الحقيقيّ، وهو يعطي الملك علامة تدلّ على خلاصه، إن شاء الملك. وما كان جواب أحاز؟ »لا أطلب ولا أجرّب الربّ« (آ 12). إذا ربطنا كلامه بالنصوص القديمة، نفهم أن الملك يراعي مشيئة الله الذي تصل قدرتُه إلى أقاصي الكون. وأنه تذكّر ما قال موسى للشعب: »لماذا تجرّبون الربّ« (خر 17:2)؟ هذا في الخارج. أما في الداخل، فالملك لا يريد أن يطلب، لئلاّ يُلزم نفسه بأن يترك ملك اشور ويستند إلى الله. هو يرى قوّة الأشوريّين بعينيه، ولكن قوّة الله لا منظورة، ولا يراها إلاّ المؤمن.

ترك الملك الله. فتركه اشعيا. ما وجّه الكلام إليه، بل إلى بيت داود، وكأنه يبحث عن ملك آخر. قال: »أما كفاكم أن تُضجروا الله حتى تُضجروا إلهي أيضاً« (7:13). ترك احاز الله، بل تركه بيتُ داود. لهذا قال اشعيا: إلهي، إلهي أنا. لا إلهكم. لا علاقة لكم به بعدُ. ومع ذلك، سيُعطي الله آية للمؤمنين. آية يرونها في المدى القريب. وأخرى حين يدمّر الأشوريّون ممالك سورية وفلسطين ولبنان. غير أن هذه الآية تتمّ في العهد الجديد مع العذراء، مع مريم العذراء التي تلد ابناً ويُدعى اسمه عمانوئيل. مع مريم العذراء، الله هو حقاً معنا.

حين التقى أشعيا احاز عند »قناة البركة العليا، في طريق حقل القصّار« (7:3)، لم يكن الملك بعدُ اتّخذ الخطوة الحاسمة ومضى إلى ملك أشور يطلب عونه. ولكن كيف العمل والصعوبات تتراكم في الداخل كما في الخارج؟ كيف يحافظ على عرشه وعلى استقلاليّته؟ حين فعل ما فعل دلّ على ذكاء في التصرّف ومنطقٍ في التفكير. ولكن نظره لم يذهب إلى البعيد. لهذا أفهمه النبيّ أن الحلف لن يدوم طويلاً. وأن حرباً بين جنوب فلسطين (أورشليم) وشماله (السامرة) هي حرب بين الإخوة تقود إلى الكارثة. وأخيراً، ليس الأشوريّون شعباً عادياً، بل سلطة تضع يدها على كل شيء وتحلّ محلّ الله. وهكذا افترق النبيّ عن الملك. هذا ترك الإيمان بالله ووثق بملك أشور. والنبيّ ما رأى سوى الإيمان سنداً لبيت داود.

 

3 - الولد الآتي

خاف أحاز على السلالة الملكيّة. ان هو مات مَن سوف يخلفه؟ وهل زالت البركة من نسل داود؟ حينئذ طرح النبيّ على الملك علامة قريبة تدلّ على حماية الله للسلالة الملكيّة. فامرأتهُ الصبيّة تلد له ابناً. فيدلّ الله على أنه عمانوئيل. الاله الذي مع شعبه. وهناك علامة ثانية يحملها هذا الولد وبرَكة: قبل أن يصل إلى سنّ الرشد، قبل أن يعرف كيف يميّز الخير والشرّ، يصل الدمار إلى مملكة دمشق ومملكة السامرة. وهذا في الواقع ما حصل. لن يدخل الملوك المتحالفون أورشليم، وسيبقى احاز الملك في مدينته أورشليم. ولكن ضمّ إليه ابنَه حزقيا ليمتصّ النقمة الشعبيّة التي عبّر عنها اشعيا حين قال: »يولد لنا ولدٌ، يُعطى لنا ابن، وتكون الرئاسة على كتفه« (9:5).

فولادة الولد تعني أمرين اثنين. إما ولادة بعد الحبل في أحشاء الأم. إما التبنّي على ما نقرأ في المزمور الثاني: »قال لي: انت ابني، أنا اليوم ولدتك« (آ 7). أجل، يوم يعتلي الملكُ العرشَ، يبدو الله وكأنه يتبنّاه. يؤمّن له الحماية. وبما أن الهيكل، رمز حضور الله، يقع عن يمين القصر الملكي، فهذا يعني أن الله يكون عن يمين الملك كما في مز 110:5: يُهشّم الملوك، يدين الأمم.

وتطلّع النبيّ إلى البعيد، إلى يومٍ يملك فيه هذا الملك. »في ذلك اليوم، يربّي واحدٌ عجلة من البقر وشاتَين، ولكثرةِ اللبن يأكل الزبدة والعسل، يأكلهما كلّ من أُبقي في الأرض« (7:22). فأرض فلسطين صارت أرض عمانوئيل حيث يأكل الولد »زبداً وعسلاً« (آ 15). كان النبي قد جاء إلى الملك ومعه ابنه »شآر يشوب« أي بقيّة تعود، ولكن هذه البقيّة لن تكون في زمن احاز، بل في زمن حزقيا ابنه الذي يخلفه.

غير أن كلمة النبي راحت أبعد من النبي. فما توقّفت في العصر الثامن مع توالي هذه الأحداث. حملت معنى آخر كان خفياً لمعاصري اشعيا، وكُشف للذين قرأوا النصّ العبري ونقلوه إلى اليونانيّة في القرن الثالث أو الثاني ق م. لم نعد أمام صبيّة تزوّجت حديثاً، بل أمام عذراء لم تعرف الزواج. لقد اعتبر النقَلَةُ أن امرأة صبيّة تلد أمرٌ عادي. ولكن أن تلد عذراء بدون مشاركة رجل، فهذه هي المعجزة. قالت العبريّة: »ها إن الصبيّة تحبل« (7:14). فقالت اليونانيّة: »ها إن العذراء« وانطلق إنجيل متّى من ولادة يسوع في البتوليّة، من امرأة حبلت من الروح القدس (مت 1:18)، فرأى في نصّ اشعيا تتميماً لما حملته هذه الكلمة. فذاك الولد الآتي الذي هو حقاً الله معنى هو ابن مريم العذراء في الجسد، وهو »ابن الله في القدرة بقيامته من بين الأموات« (روم 1:3 - 4).

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM