الفصل 13: في حياة إشعيا

في حياة إشعيا

1- من هو اشعيا

هو ابن آموص، أخي الملك امصيا (811 - 782)، كما يقول تقليد انطلق من التلمود ولبث حاضراً حتى القرن الثامن عشر. هذا القول الذي لا يمكن أن ندافع عنه على مستوى التاريخ، استخلصه الشرّاح من علاقات مميّزة بين اشعيا والبلاط الملكيّ. اشعيا هو ابن مملكة يهوذا في الجنوب، وابن أورشليم بشكل خاص. في المدينة المقدّسة حصر نشاطَه، دون أن ينسى السامرة وما حدث لها سنة 722 ق م حين دُمّرت ومضى أهلها إلى السبي، وحلّ مكانهم أغراب جاء بهم الأشوريّون من هنا وهناك فضاع القسم الشماليّ من شعب الله. حقبة صعبة عاش فيها اشعيا حيث كاد الشعب يخسر هويّته، بعد أن صنع أحاز مذبحاً يشبه المذبح الذي في أشور. وممالك صغيرة زالت، فقادت هذه الأزمةُ الشعوبَ إلى اليأس. ولكن النبي هو من يرى الأمور بعين الله، ويقرأ التاريخ على ضوء كلام الله. لهذا، ما ترك الأحداث تسيطر عليه. بل هو سيطر عليها فوجد فيها معنى ونداء من عند الربّ، كما اكتشف في قلب العقاب، ملءَ الرجاء.

جاء في خط عاموس الذي رفض أن يكون نبياً في جماعة الأنبياء (عا 7:14). هذا الذي لم يُدعَ النبي وإن كانت امرأته نبيّة. بل هو الانسان الذي رأى الله وارتبط به ارتباطاً مباشراً. هذا الذي حسبوه طبيباً (38:21) كما حسبوه مهندساً وبنّاء، لعب دوراً هاماً في القناة التي حفرها الملك حزقيا. لم تكن له وظيفة خاصة في القصر ولا في الهيكل. هو يعيش مع الشعب، يخطب فيه، يوبّخه، يشجّعه. وكيف انتهت حياة هذا النبي؟ نقرأ في »صعود اشعيا« الذي هو سفر منحول أن الملك منسى الكافر لاحقه. ولما اختبأ النبي في جذع شجرة، نشر رجالُه الشجرة مع النبيّ. هذا ما قاله التلمود. وأعلنت الرسالةُ إلى العبرانيين في معرض كلامها عن رجال الإيمان: »آخرون رُجموا ونُشروا« (عب 11:37).

2 - شخصيّة اشعيا

هذا الذي كان من أسرة ملكيّة، لم يستند إلى سلطان بشريّ لكي يتكلّم. فسلطانُه هو سلطان نبويّ، وفي هذا المجال كلمةُ النبيّ أقوى من كلمة الملك. من استطاع أن يشفي نعمان السوري؟ أليشع أم الملك؟ وهكذا طلب الناس اشعيا واستشاروه في أمور عديدة، بل إن ملوك الأمم أتوا إليه، من فلسطيِّين وموآبيّين وكوشيّين (14:32؛ 16:13؛ 18:1ي: النوبة، جنوبي مصر). طلبوا النصح منه، ولكن أقليّة ضئيلة سمعت له. فالممثّلون الرسميون للعالم الدينيّ، من كهنة وأنبياء، لم يُصغوا إلى أقواله، بل اعتبروه أنه يهذي حين يهدّد، فقالوا: »ليُسرع قدوسُ اسرائيل في عمله حتى نرى، ولتقترب مقاصدُه وتظهر حتى نعلم« (5:19). فقال فيهم النبي: »ولكن هؤلاء أنفسهم ضلّوا بالخمر وتاهوا بالمسكر. حتى الكاهن والنبي ترنَّحا وغرقا في الخمر وعثرا في الحكم« (28:7).

لبث اشعيا حيّاً في عهد الملك منسّى، واعتُبر شهيداً بسبب المقاومة التي لاقاها. وهو نفسه سوف يروي خبرة الفشل التام، على المستوى البشري: تكلّم النبي فما سمعوا. وإن سمعوا لم يفهموا. أو هم لم يريدوا. أراهم النبي فما نظروا ولا أبصروا. صارت قلوبهم قاسية وآذانهم ثقيلة وعيونهم مغمضة، فما أبصروا بعيونهم، ولا سمعوا بآذانهم، ولا فهموا بقلوبهم لكي يرجعوا إلى الربّ فينالوا الشفاء (6:9 - 10). وهذه الحالة ستطول إلى أن تأتي الحرب وتُوقظهم من سباتهم. ولن تبقى سوى بقيّة، غير أن هذه البقيّة تبشّر بمستقبل جديد.

عُرف اشعيا بسلطة تمتّع بها، فوقف أمام الملك ودعاه إلى الإيمان بالله، لا الاتكال على أشورية أو على مصر. دعاه أن لا يخاف من »لهب ذنبين مشتعلَين مدخّنين« (7:4). وعُرف بنبله، وثقته بالله، والحنان على شعبه. هو يدافع عن المساكين في وجه الأقوياء، وعن المؤمنين تجاه الذين لا يملكون من الإيمان سوى الظواهر. وعُرف بحبّه للأرض والطبيعة: فالأرض والنار والماء والريح، تُبرز قوّةَ الحياة لدى الله وقوّة الموت. ذاك هو الواقع الذي يحيط بالانسان فلا يستطيع هذا أن يُفلت منه.

3 - الله القدوس

ما الذي يساعد النبيّ ليشرف على العالم والتاريخ وأحداث الحياة اليوميّة؟ نظرته إلى الله الذي أنشده أمامه السرافون فقالوا: »قدوس، قدوس، قدوس الربّ القدير. الأرض كلها مملوءة من مجده« (6:3). هذا الاله هو قدّوس، هو المتسامي والمتعالي. ويُدعى أيضاً قدوس اسرائيل. أي ذاك الذي يرتبط بشعبه. يقدّسه، يكرّسه لخدمته، يجعل منه العبدَ العابد. فعبادة »قدوس اسرائيل« لا تظهر سوى نادراً خارج سفر اشعيا، لهذا نعتبرها مميّزة في لاهوت مدرسة اشعيا.

هذه القداسة تترافق مع الغيرة. فالله القدوس هو الإله الغيور. لا يرضى أن يكون له شريك، على المستوى الدينيّ كما على المستوى السياسيّ. في هذا المجال نعرف أن مفهوم العهد، كما في سفر الخروج، لا نجده عند اشعيا. ونقول الشيء عينه عن مفهوم الاختيار الذي نقرأه في سفر التثنية. فاشعيا يفضّل فكرة التبنّي. منذ البداية نقرأ: »البنون الذين ربّيتهم ورفعتُهم، تمرّدوا عليّ« (1:2). هو اهتمّ بهم كما يهتمّ الكرّام بكرمته: »كان لحبيبي كرم في رابية خصيبة. نقبه ونقّى حجارته وغرس فيه أفضل كرمة« (5:1 - 2). وكم خاب أمله حين رأى أن الثمر ليس العنب بل الحصرم البريّ، فتساءل: »أي شيء يُعمَل للكرم ولم أعمله لكرمي«؟

مثل هذا الحب للشعب يجعل التمرّد خطيراً والخيانة. فسكان يهوذا أبناء تمرّدوا على والدهم. لهذا سيكون العقاب قاسياً. قال النبيّ: »بنو اسرائيل لا يعرفون«، بعد أن تفوّق عليهم الثور والحمار. »شعبي لا يفهم شيئاً« (1:3). ويعبّر النبي عن حزن الله: »ويل للأمّة الخاطئة، للشعب المثقل بالاثم، نسل الأشرار والبنين المفسدين. تركوا الربّ واستهانوا بقدّوس اسرائيل، وإليه أداروا ظهورهم« (1:4- 5).

هذا الاله الذي يرتبط بشعبه، يرتبط أيضاً بالبشريّة كلها. »فإذا ما صرخ المصريّون إلى الربّ في ضيقهم، أرسل لهم مخلّصاً ومحامياً فيحفظهم. ويعلن الربّ عن نفسه لهم، فيعرفون الربّ في ذلك اليوم، ويعبدونه بالذبيحة والتقدمة، وينذرون له نذوراً ويوفون بها. ومع أن الربّ ضربهم بقساوة، فإنه يشفيهم حين يرجعون إليه، ويستجيب لهم« (19:20 - 22). صرخ الشعب العبراني حين كان عبداً في مصر، فسمع الربّ له. وصرخ المصريون حين هاجمهم الأشوريون، فأرسل الله لهم مخلّصاً ومحامياً، كما أرسل موسى إلى شعبه. هذا الاله يرفض التكبّر والاكتفاء بالذات بحيث ينسى الانسان أنه لا يتعدّى عشب الحقل وزهر البستان. كما يرفض الثقة بالسلاح والعمل وكأن الله لا يرى. بين مصر وأشور سيكون سلام، وتصل الطريق بينهما فتنال مصر البركة، وتكون أشور صنعة يد الربّ (19:23 - 25).

هذا الاله المتسامي يعمل في التاريخ، ولكن عمله لا يتوافق مع عمل الانسان: مخطّطه خفيّ، سرّي. يحيّر الانسان الذي لا يفهم. حكمتُه تفوق حكمة مستشاري الملك مهما اشتهروا بمهارتهم. غير أن هذا لا يعني أنّ لا قيمة لنشاط الانسان. هو يُدعى إلى الإيمان. فإن خلُص فبحريّته يقبل الخلاص. وإن هلك، فبحريّته يختار الهلاك. مثل هذا الإيمان يستند إلى آيات بها يدلّ الله على قداسته، وعلى قصده بأن يُعتبر ملكاً في شعبه وفي العالم كله.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM