الفصل السادس عشر: الكتاب والحمل

الكتاب والحمل
5: 1-14

حين استشرفنا ف 4- 22، إكتشفنا المكانة المميزة التي يمثّلها ف 4- 05 إنهما مقدّمة القسم الثاني، القسم الجلياني بحصر المعنى. وهذه المقدمة تشرف على كل الكتاب. فمنها ينطلق كل الكتاب الذي هو توسّع في الختوم السبعة. ثم إن الرؤية البهائية لليتورجيا السماوية أمام العرش والحمل الفادي تشكل خلفيّة مخفيّة لكل تاريخ تتمة الأزمنة. وستعمل هذه الرؤية السماوية عمل الوراء الشفاف على مدّ الفصول التالية. فهي تقدّم بشكل مميّز سباعية الختوم، وتظهر من جديد وتتكمّل في كل عنصر سابع من السباعية (8: 2- 5؛ 11: 15- 18؛ 15: 2- 7؛ 16: 17)، وفي النهاية تمتزج مع رؤية أورشليم السماوية، بعد أن يكون نورها قد اجتاح العالم بحيث يبقى العرش والحمل في قلب المدينة من أجل ليتورجيا لا تنتهي. (21: 22- 22: 5).
وسنعود إلى المواضيع الرئيسية (العرش، الحمل) في كل قسمات الكتاب. كل هذا يبيّن أهمية ف 4- 5 لفهم الكتاب ومواضيعه. إنهما يعلنان الرؤى اللاحقة ويشرفان على تفسيرها.
درسنا ف 4 وفهمنا أن الليتورجيا المسيحية هي مشاركة في الليتورجيا السماوية الأبدية، وهي استباق للملكوت والنهاية. يبقى علينا أن ندرس ف 5 لنكتشف كيف أن المسيح يحقّق العهد القديم ويقدّم وحيه الحقيقي والنهائي.

1- نظرة إجمالية إلى ف 5
أ- وحدة الفصل وتصميمه
"ورأيت سفراً مختوماً بسبعة ختوم" (آ 1). سيُشرف على كل الفصل عبارتان: كتاب السبعة الختوم والحمل. يشرف "الكتاب" على آ 1- 5. فهو العنصر المركزي الذي يعود في كل آية. وفي آ 6، تبدأ. عبارة "حينئذٍ رأيت" توسيعاً جديداً مع لفظة "الحمل" الذي إليه تعود آ 6- 14. لا يختفي الكتاب في هذه الآيات، ولكنه يظهر من جديد في آ 7- 9 لكي يتحّد إتحاداً وثيقاً مع الحمل بحيث يصبحان مجموعة واحدة: الحمل صاحب الكتاب. ويعبرّ عن الرباط بين الحمل والكتاب بمفردة "يحقّ" التي توحّد بين أجزاء الفصل كله (آ 2، 4، 9، 12): من يحق له/ لم يوجد أحد يستحق/ الحمل المذبوح انت مستحق/ هو مستحق. ينتج عن كل ذلك وحدة أدبية- في الفصل كلّه. ثم إن ف 5 (شأنه شأن ف 4) يتضمّن حالة جامدة (آ 1- 5) وحالة متحرّكة (آ 6- 4): يُعطى الكتاب للحمل مع الليتورجيا التي تلي.
وهكذا نستطيع أن نقدم تصميمين.
- الأول في ثلاثة أجزاء، إنطلاقاً من لفظة "رأيت" ولفظة "يحق".
آ 1- 5: من يحق له أن يفتح الكتاب؟
آ 6- 10: ظهور الحمل الذبيح الذي يأخذ الكتاب: أنت مستحق أن تفتحه.
آ 11- 14: هتفوا كلهم: مستحقّ.
- الثاني في جزئين مقسومين إلى شقين:
آ 1- 7: تسلّم الحمل الكتاب. تضمين في آ 1 وآ 7: الكتاب في اليد اليمنى للجالس على العرش.
آ 1- 5: الكتاب: من يحقّ له؟ تضمين في آ 1 وآ 5: الكتاب والختوم السبعة.
آ 6- 7: أخذ الحمل الكتاب. تضمين في آ 6 وآ 7: العرش.
آ 8- 14: ليتورجية هتاف. تضمين في آ 8 وآ 14: سجود الأحباء والشيوخ.
آ 8- 10: نشيد خدّام العرش كما تعرفنا إليهم في ف 4: يحقّ لك.
آ 11- 14: وتوسّع النشيد فضمّ الملائكة وكل خليقة: مستحقّ.
ب- رباط ف 5 مع ف 4
هناك رباط قويّ بين الفصلين. فالموضوع المسيطر في ف 4 (العرش) يعود في بداية كل مشهد في ف 5 (آ 1، 6، 11، 13). وهو يرتبط إرتباطاً واضحاً مع كل مواضيع ف 5: الكتاب (آ 1، 7). الحمل (آ 6). وتلفت إنتباهنا آ 13 و14. فالحمل والجالس على العرش هما على قدم المساواة (5: 6) وينالان الإكرام الواحد والوحيد. وإليهما معاً يتوجّه (آ 14) سجود الأحياء والشيوخ (4: 6- 11). فبين الله والحمل رباط سرّي يسميه اللاهوت: المساواة في الجوهر. طبيعة واحدة.
وإذا توقفنا على مستوى العمل، رأينا أن ف 4 يبدو كمقدّمة وأساس. فالعمل بحصر المعنى يبدأ في ف 5، ساعة يظهر الكتاب. لهذا نستطيع أن نقرأ ف 5 قبل ف 4. ففي فصل 5 هناك مصير العالم، المسيح. أما الأساس فنجده في ف 4: الله القادر والخالق الذي منه يأتي كل شيء وإليه يعود كل شيء. هذه النظرة إلى الله هي الفرضية الضرورية لفهم شخص المسيح ولفهم نفوسنا.

2- كتاب بسبعة ختوم (آ 1- 5)
"ورأيت بيمين الجالس على العرش كتاباً مخطوطاً من الداخل والخارج، مختوماً بسبعة ختوم" (آ 1). أخذت الصورة من حز 2: 9- 10: أعطت يدٌ لحزقيال درجاً كتبت فيه مراثٍ ونواح. وبما أنها كانت كثيرة فاضت من الأمام والوراء. وعلى النبي أن يأكل الدرج. سنجد الصورة في 10: 1 ي: رؤية الكتاب الصغير.
* هناك ثلاثة أنواع من الكتب في الرؤى اليهودية: كتاب الحياة حيث تسجّل (أو لا تسجّل) أسماء المختارين (3: 5؛ 20: 11؛ 20: 27؛ رج لو 10: 20؛ فل 4: 3؛ عب 12: 23). كتاب الأعمال حيث يسجّل الملائكة أعمال البشر ويحملونها في يوم الدينونة. عرفه يوحنا، ولكنه ميّزه عن الأول (20: 12: الأسفار وسفر آخر هو سفر الحياة). لويحات السماء (كتاب اليوبيلات وهو كتاب منحول) تتضمّن كل تاريخ العالم كما دوّنت مسبقاً. هذا يعني أن الله لا يوقفه الشّر، وأن مشيئته ستتمّ مهما كانت المقاومة. أما يكون الكتاب المختوم هنا كتاب تدخّلات الله في التاريخ؟
* غير أن كتاب السبعة ختوم يتميّز بعدّة خصائص. أولاً: هو لفيفة (درج) من البردي كُتبت على الوجه وعلى الظهر كما في الأرشيف والعقود والوصيات. هذا ما يميّزها عن الدرج المفتوح في حز 10 ورؤ 10. الختم يكفل صدق الوثيقة والسّر المحفوظ. ثانياً: إن الكتاب هو في يمنى الله (الجالس على العرش): إذن يتضمّن ما سيتحقّق: إرادة الله والأحداث التي تقابلها. هو بلاغ يوجّه إلى البشر ويطلب منهم أن يقرأوه. أنه كلمة الله للبشر. ثالثاً: إن مضمون هذه الكلمة (مكتوبة على الوجه والظهر) لا يُدرك قبل أن تفضّ الختوم. قد نعرف الوثيقة من الخارج ولكن تبقى معرفتنا ناقصة فلا نرضى عنها. ويبقى السؤال: هل يقدر أحد أن يفضّ الختوم ويكشف بُعد التعليم الذي ما زال خفياً، ويدلّ على الشخص الذي أرسل إليه ونحن لا نعرفه؟ نحن على منعطف سيتجلىّ فيه مخطط الله. فالكتاب وُجد ليفتح. وحين نفتح الختوم لا نعود نتكلّم عن الكتاب. علّة وجوده في السؤال الذي يطرح: هل الذي يفتحه هو هنا؟ "بطل" الفصل ليس الكتاب، بل الحمل الذي يستطيع أن يفتح الكتاب.
* هنا نلتقي بالتقليد الذي يرى أن الكتاب هو العهد القديم. إنه يبقى حرفاً ميتاً ونبوءة غامضة ما دام المسيح لا ينيره ولا يكشفه فاضاً ختومه. هذا ما فعله يسوع القائم من الموت حين حدّث تلميذي عمّاوس (لو 24: 27). فالقراءة الكرستولوجية (على ضوء يسوع المسيح) وحدها تساعدنا على رفع البرقع (2 كور 3: 15- 16). بعد ليتورجية الخالق في ف 4، نصل إلى التوراة، إلى العهد القديم، الذي لا نستطيع إن نفهمه إلاّ برفقة المسيح.
نشير هنا إلى أن الكتابة على الوجه والظهر تبرز دقّة تعليم الله وأهميته. والختوم السبعة (عدد الكمال) تدلّ على أن مخطط الله سري جدًّا، وأن لا شيء يبدّله.
"ورأيت ملاكاً ينادي بأعلى صوته: من الذي يحق له..." (آ 2)؟ ليس المهمّ أن نعرف إذا كانت أحداث النهاية سوف تحصل، إذا كان العهد القديم سيتمّ، بل إذا كان الذي يفتح الكتاب هو هنا. سأل الملاك. وصوته (القوي) يتوازى مع درجته وأهمّية التعليم الذي ستسمعه الخليقة كلها (10: 1؛ 21:18).
"من الذي يحقّ له"؟ لسنا أمام إمكانية جسدية، بل صفات خلقية. فالكتب السرّية والأختام لا تسلّم إلى أيّ كان. يجب أن يبرهن الشخصُ بحياته وأعماله أنه قد أعدّ لمثل هذا العمل (رج حك 5: 5- 6).
"فما قدر أحد في السماء ولا في الأرض ولا تحت الأرض" (آ 3)، لا الملاك ولا البشر ولا الشيطان. كلّهم إقتنعوا بعجزهم واجتمعوا معاً من أجل الهتاف في آ 11- 14 (خصوصاً آ 12). بإنتظار ذلك، لا شهيد، لا نبي، لا حكيم، لا متدرّج استطاع. وهكذا انتقد الكاتب كل أصحاب العواطف الدينية بنظرياتها في عوالم الجليان السرّية.
"فبكيت كثيراً لأنه تعذّر وجود من يحقّ له أن يفتح الكتاب وينظر ما فيه (يقرأه)" (آ 4). إن الخليقة على مستوياتها الثلاثة بدت عاجزة وغير جديرة بأن تكتشف أسرار الله ومستقبل العالم. أحس الرائي بأهمية مضمون الدرج المختوم، وأحسّ بضعفه فبكى. إذا كان لا يقدر أحد أن يفتح الكتاب، فالمسيرة سوف تتوقّف، والشّر سيظلّ يدمّر العالم دون أن يجد عقاباً لأعماله.
"فقال لي واحد من الشيوخ" (آ 5). بكى يوحنا فجاء من يعزّيه. هنا نتذكّر لو 14: 25: "ما أغباكما وأبطأكما عن الإيمان بما قاله الأنبياء"! فكشخص من العهد القديم يليق به أن يعلن تتمة النبوءات التي كان شاهداً لها. وهو يفعل مستعملاً لقبين يدلاّن على المسيح الآتي. الأول لقب "أسد من سبط يهوذا". يأتي من تك 49: 9- 11 حيث يعلن يعقوب نهاية الأزمنة. "يهوذا شبل أسد. من الأطراف صعدت يا ابني. لا يزول الصولجان من يهوذا ولا عصا السلطان من صلبه إلى أن يأتي ذاك الذي تطيعه الشعوب. يغسل بالخمر ثيابه وبدم العنب رادءه". الثاني لقب "نسل (فرع) داود". في أش 11: 1: "يخرج فرع من جذر يسّى، فرع يخرج من جذوره. عليه يحلّ روح الرب. يحكم للضعفاء بالعدل ويحكم لضعفاء الأرض بالانصاف".
ودلّ الشيخ على السبب الذي لأجله يحقّ لهذا الشخص أن يفتح الكتاب: انتصر على المحنة. كانت له الغلبة. وهذا ما نفهمه من لفظة "مذبوح" في آ 6، 9، 12. إنتصاره هو موته الذي يدلّ على حبه السامي كما قال يو 13: 1. والقيامة هي إظهار لهذه الغلبة. على الجلجلة وفي ذلّ الله المنتصر وفي وحي إله ضعيف وغافر، وصل مخطّط الله إلى نهايته فاستنار كل العهد القديم. لقد دشّن الفصح نهاية الأزمنة. والمسيح ليس فقط ذاك الذي يستلم الكتاب، إنه مضمونه وموحيه والموحى فيه: سيظهر الحمل وتفضّ الختوم.

3- الحمل المذبوح (آ 6- 7)
لا حاجة إلى تمثّل انتصار الحمل نفسه: فالقيامة قد حصلت. لقد غلب. إنه في وسط العرش بل نحن سنكون أمام نتيجة القيامة التي تعدّه ليستلم الكتاب، وهذا ما يجعل الخلائق كلّها تهتف له (فل 2: 9- 10).
"ورأيت بين العرش والكائنات الحية الأربعة وبين الشيوخ حملاً واقفاً كأنه مذبوح" (آ 6). إنتظرنا أسداً فإذا نحن أمام حمل. لماذا سمي يسوع "حمل"؟ هناك ثلاثة أسباب تتوافق لترى لا الحمل رمز المسيح. الأول: هو الحمل المقاد إلى الذبح كما في أش 53: 7: لم يفتح فاه. يرتبط أش 53 بما في لا 14: 21 حيث يصوّر تطهير العالم من برصه. إنه حمل ذبيحة التطهير. الثاني: إنه الحمل الفصحي (خر 12) الذي يحفظ بدمه خيام شعبه. هنا نفهم التشديد على دم الحمل والفداء. كما في الفصح الأول (آ 9- 10). الثالث: هو الحمل الملكي المجيد الذي يتحدّث عنه العالم اليهودي فيتصوّر المسيح المنتظر حملاً له قرون ترمز إلى قدرته. سيرى رؤ في الحمل قائد الجيوش السماوية (17: 14)، وأن غضبه لا يُحتمل (6: 16) وأنه مذبوح (5: 9، 12؛ 13: 8). إذن، الحمل هو يسوع المسيح الذي هيّأته ذبيحته الفصحية ليمارس وظائف "البطل" الاسكاتولوجي.
ونعود إلى النص. نحن لا نستطيع أن نتصوّر المشهد بعيوننا، فيوحنا لا يرسم "شخصاً"، بل يقدّم تأكيدات كرستولوجية. إن الحمل يقف في كل الدوائر التي تحيط بالعرش. إنه حيث يقيم الله، في قلب العالم المخلوق، وفي قلب البشرية. إنه في مجد الله وقلب الكون ومركز التاريخ. هو يقف. هذا يرتبط بالغلبة، بالقيامة (أع 7: 55). هو الآن واقف، غالب، ولكنه يبدو كأنه مذبوح. إنه يحمل آثار ذبيحته، آثار آلامه. هذا ما يعيدنا إلى يوحنا حيث يظهر يسوع وسط أخصّائه (يو 20: 19) ويريهم يديه وجنبه. إن يوم الفصح هو الوجهة الثانية لساعة المسيح.
"له سبعة قرون". القرن في العهد القديم يدلّ على القوة (عد 23: 22؛ تث 33: 17). وقد يدلّ على السلطة الملكية (زك 2: 1- 4؛ دا 7: 8، 24؛ رؤ 17: 12). والرقم 7 هو رقم الملء والكمال. إذن قد ارتدى الحمل ملء القوة وملء السلطان الملكي من عند الله. وسيتخذ الوحشان قروناً ليقتديا بالحمل ويحلاّ محله، ولكن لم يكن لهما سبعة قرون (12: 3: عشرة قرون. أي قوة محدودة؛ 13: 1؛ 17: 3، 12، 16؛ 13: 11). "له سبعة أعين هي سبعة أرواح الله المرسلة في الأرض كلّها". نجد هنا إشارة إلى زك 4: 1: "السرج السبعة هي عيون الرب التي تسير (في اليونانية: تنظر) في كل الأرض". هذا ما يدلّ على معرفة الله الشاملة. وهنا يتّصل النص مع أش 11: 1: ففرع داود ينال الأرواح السبعة التي تحلّ عليه، ينال الروح المسبّع المواهب. ونلاحظ أن العيون لا تكتفي بأن تتقبّل الصور. إنها ينبوع نور وسرج تضيء ذاتها وتضيء الإشياء (مت 6: 22- 23: سراج الجسد العين). فالعيون هي رمز المعرفة والإستنارة. وبالأرواح السبعة المرسلة في الأرض، سينير الحمل الأرض كلّها، سينير جميع الأمم. هذه الأرواح هي المذكورة في 4: 5: روح واحد ينبثق من الآب. فالحمل كمسيح منتصر يملك ملء الروح (يو 1: 29: حلّ الروح على المعمدان فعرف حمل الله).
"وجاء الحمل وأخذ الكتاب" (آ 7). كان الحمل في وسط العرش (في قلب الله). جاء. أخذ الكتاب الذي دوّنت فيه مصائر العالم. لقد صار العهد القديم جديداً بعد أن لمسته يد المسيح.

4- ليتورجيا لمجد الحمل (آ 8- 14)
نحن أمام كرستولوجيا عميقة تحمل كل مواعيد العهد القديم وتعليم العهد الجديد (الصليب والقيامة). هذا الإله القدير هو في الوقت عينه ذبيحة "لأنه بتقدمة واحدة جعل مقدّسيه كاملين على الدوام" (عب 10: 14؛ رج 7: 27؛ 9: 12 ي...). فقرون الحمل السبعة تشير أيضاً إلى عمل المسيح الفدائي الذي كان تاماً كاملاً.
إن الرؤية الأولى وتسليم الكتاب إلى الحمل يقطعهما على أربع دفعات أناشيد ليتورجية. نحن "غارقون" في ليتورجية الكلمة، ليتورجيا إفخارستية حيث يرافق نقلَ الكتاب المقدس أناشيدُ مماثلة.
"ولما أخذ الكتاب..." (آ 8). لقد أخذ الحمل الكتاب فوصل تاريخ الخلاص إلى ذروته. وجمعت ليتورجيا كونية الأشياء والأشخاص في إحتفال بالحدث. تحيط بها سجودات الأحياء والشيوخ (8: 14). هذه السجودات تكون دوماً في الأوقات الحاسمة. 4: 10 (رؤية الله)؛ 5: 8، 14 (رؤية الحمل)؛ 11: 16 (البوق السابع وبداية الحرب العظيم)؛ 19: 4 (المجدلة النهائية في قلب البوق السابع).
أ- ليتورجية الكائنات والشيوخ (آ 8- 10)
لن نتمثّل المشهد. فإن سجد الأحياء، فمن يحمل العرش، وأيدي الشيوخ مليئة؟ القيثارات هي الأدوات المميّزة في السجود والعبادة (مز 33: 2؛ 98: 5؛ 147: 7؛ 150: 3). إنها ترافق الأناشيد في رؤ 14: 2؛ 15: 2. والكؤوس الذهبية هي للعبادة والليتورجيا وهي تتضمّن صلوات القديسين. فالقديسون يشاركون في المحنة، بل في ذبيحة الحمل (16: 7؛ رج 6: 12؛ 12: 11). لهذا نراهم يشاركون في مديح المجد. هم كهنة وهم قريبون من الله. وصلاتهم تعجّل في مجيء النهاية. تكلّم الشيوخ باسم الكنيسة: هناك مقابلة بين احتفالاتْ الأرض واحتفالات السماء.
"كانوا ينشدون نشيداً جديداً" (آ 9). ترد العبارة مراراً في المزامير (33: 3؛ 40: 4؛ 96: 1؛ 98: 1؛ 144: 9؛ 149: 1) لتدلّ على تسبحة إحتفالية جدّاً. ولكن في أش 42: 9-10 (ما مضى مضى فأخبركم بما يأتي، وقبل أن يحدث اسمعكم به. انشدوا للرب نشيداً جديداً) تتبدّل اللهجة. فالنشيد جديد لأنه ينشد نظاماً جديداً للأشياء، ينشد نظاماً نهائياً. هذا ما نجده أيضاً في رؤ: "ها أنا أجعل كل شيء جديداً" (21: 5؛ رج 21: 1- 2؛ 2: 17؛ 3: 12). ان زمن التجديد المنتظر قد حلّ مع المسيح، فعلى الملائكة والبشر أن ينشدوا النشيد الجديد المرتبط بهذا الخلاص الذي تمّ في يسوع المسيح.
"أنت الذي يحقّ له... لأنك ذبحت". لقد تواضع يسوع، صار طائعاً حتى الصليب. لذلك يحقّ له. نحن أمام مديح من أجل العمل الفصحي. "إفتديت لله بدمك". ما زلنا أمام الذبيحة الفصحية. "أناساً من كل قبيلة ولسان وشعب وأمّة" (دا 3: 4- 7؛ 7: 14). هي عبارة تعود إلى رؤ (7: 9؛ 11: 19؛ 13: 7؛ 14: 6؛ رج 10: 11؛ 17: 15). نجد هنا دوماً أربعة ألفاظ، وهي تدلّ على أربعة أقطار الكون. إختلف عمل المسيح عن الفداء الفصحي الأول، فعنى جميع البشر ولم يميّز بين نسل ولغة وبلد.
"جعلتهم لإلهنا ملكوتاً وكهنة" (آ 10). رج خر 19: 6. صار المفديون شعباً مقدساً لله. صار الاقتراب من الله ممكنة، وأعيد العهد إلى ما كان عليه قبل الخطيئة، وارتدى المفديون رسالة كهنوتية (20: 6) على مثال المسيح والذي يقاسمونه ملكه (2: 26- 27؛ 3: 12، 21؛ 20: 6؛ 22: 5).
"وسيملكون على الأرض". يتردّد الملك دوماً بين الحاضر والمستقبل، ما هو الآن وما لم يحصل بعد. لسنا أمام موقف الغالب والمنتصر. فالملك يحدّد مشاركة في ملك المسيح. وهذا الملك يتدشّن (في نظر يو ورؤ) ساعة يموت المسيح على الصليب. والملك يعني نشر حضور الله في الأرض كلها والتغلّب على كل الحواجز بحبّ يسير بنا حتى الموت (12: 11). وتوحيد العالم باجتذابه إلى الحب.

ب- وامتدت الليتورجيا السماوية (آ 11- 14)
وتكبر الدائرة فجأة بشكل واسع جدًّا. فتنشد الأجواق الملائكية الجوابين الذين يختتمان الليتورجيا السماوية (آ 11- 12). كما تنشدهما جماعة تمتد امتداد الكون (آ 13- 14).

أولاً: الملائكة (آ 11- 12)
هؤلاء الملائكة العديدون هم معاونون يرسلهم الله ليحقّقوا قصده دون أن يستفيدوا منه. ينتقل فعل شكرهم من الصلاة في صيغة المخاطب (يحقّ لك) إلى إعلان في صيغة الغائب. (يحقّ له). ولا يعودون يتحدّثون عن الكتاب، بل يعلنون بألفاظ عامة نتائج المشهد السابق. وهكذا نعتبر الاعلانين في آ 9- 10 وآ 10 متوازيين، يستضيء الواحد بالآخر. فكلاهما ينشدان الحمل المذبوح من أجل خلاص البشر. غير أن النتيجة تختلف. في الأول، يتسلّم الحمل المذبوح الكتاب. في الثاني يتسلم القدرة والغنى والحكمة... إذن، الدرج الذي تسلّمه الحمل منحه وضعاً يستحق لأجله العبادة الكاملة التي تعبّر عنها ألفاظ سبع (القدرة، الغنى، الحكمة، الجبروت، الاكرام، المجد، الحمد) تتوجّه إلى الله في 1 أخ 29: 11- 12. وهذا ما يعيدنا إلى الرباط بين الحمل والكتاب: إذا كان قد أُخذ الكتاب وفُتح، فهذا يعود إلى أنه الموضوع المركزي في النبوءات التي يتضمّنها، إلى أنه النهاية المنتظرة والزمن الحاسم. فكيف لا ننشد كما ننشد الله ذاك الذي يتُم أيضاً مخطّطه الخلاصي.
ثانياً: الكون (آ 13- 14)
وفي النهإية، أعلن الكون كله المجدلة. قرأنا ثلاث مفردات في 5: 3 (السماء والأرض وتحت الأرض). وزيد هنا "البحر". إن العبادة ترتفع من كل مكان حتى من البحر (أش 38: 18). وتتوجّه المجدلة معاً إلى الله والحمل. وهكذا يجد ف 4 وف 5 وحدتهما: نبدأ بمديح الله الخالق ونصل إلى مديح الله الفادي في ابنه يسوع المسيح الذي هو واحد معه، وهو ذلك الذي تأنّس ومات من أجلنا. فعمل الله والحمل عمل واحد.
"وقال الأحياء الأربعة: آمين! وركع الشيوخ ساجدين" (آ 14). وختم الأحياء الأربعة صلاة الخليقة. وانتهى كل شيء في صمت الشيوخ وعبادتهم وأشركوا في هذه العبادة. كل شيء صار جاهزاً لكي تتحقّق مسرّة الله.

خاتمة
نتعلم من هذا النص ستة أمور:
* إن رمز العرش السماوي (4: 2) يدلّ على عظمة الله، الآب الأزلي، التي لا نستطيع أن نعبّر عنها. وإليه نوجّه النشيد المثلث: قدوس. قدوس، قدوس. ووجه الله هذا يرتبط بلاهوت العهد القديم وتقواه. فهو الله القدوس الذي يُقيم في نور لا يُدرك. هو وحده لا يتلفّظ بكلمة واحدة. ولكنه عبّر عن فكره الأزلي حول مستقبل كنيسة المسيح والكون كلّه في كتاب بسبعة ختوم. فالفكر الإلهي لا يتبدل. وما كُتب فقد كُتب إلى الأبد. مخطّط الله في خلاص العالم سوف يتحقّق. يبقى أن ندخل فيه.
* إن مشاريع الله لا يدركها الإنسان. "ما قدر أحد في السماء ولا في الأرض ولا تحت الأرض أن يفتح الكتاب ويقرأه (ينظر فيه)" (5 : 3). فالإله القدوس والأزلي يختلف عنّا كل الاختلاف. حين يعيش الإنسان في اللامبالاة تجاه الله، فمصير العالم لا يعنيه لأنه يعيش منغلقاً على ذاته في تفاصيل حياته اليومية. ولكن من كانت له فكرة ولو قليلة عن الله، يحمل في نفسه قلقاً سرياً: فهو يفعل كل شيء لكي يقترب من الله ويعرف أفكاره ولكن الحيرة تسيطر على الإنسان الباحث عن الله، حين يرى أن الله لا يُدرك، وسرّه لا يُكشف. فيصبح هذا العطش في داخله عطشاً يائساً. لهذا بكى رائي بطمس أمام ضعفه وشقائه، أمام صمت الله. في قلبه جرح ينزف حتى الموت: أيكون الحنين إلى الله سراباً؟
* وتبرز توليةُ (جلوسه على العرش) الحمل (5: 5 ي) الطابع الفريد والضروري الذي يشكّله الفداء بيسوع المسيح. واحد وحده يستحق أن يفتح الكتاب المختوم: هو يسوع المسيح. وهكذا تنزل عن عروشها "كل الآلهة". أما مؤسّسو الديانات فهم "سراق ولصوص لا تسمع لهم الخراف" (يو 10: 8). فالفداء جاء إلى البشرية بالتجسّد والصلب والقيامة. ولهذا، فيسوع وحده يفتح الكتاب المختوم. ولا يكتفي بكشف مقاصد الله الأزلية، بل يتمّها حتماً. وهكذا يبدو يسوع الوجه المركزي في كل تاريخ العالم ويتّخذ بعده الكوني.
* نلاحظ أن كرستولوجية رؤ تقدّم يسوع المسيح كذلك الذي فيه تتمّ الآمال المسيحانية في العهد القديم. هذه المراجع سوف تتضمّخ بالإيمان المسيحي وتتفسّر تفسيراً جديداً: يسوع المسيح هو آخر آباء العهد القديم، ومعه يتمّ ويكتمل العهد الأول.
* كشفت تولية الحمل (5: 5) كرستولوجيا فيها يمجّد يسوع. فموته وقيامته يؤسّسان موقعه في الكون. فحضور الرب القائم من الموت والمرتفع إلى السماء، يتحقّق بشكل خاص في كنيسته. وفيها ما زال يتكلّم ويفسرّ مقاصد الله الأزلية. إن تحوّل الكون في المسيح قد بدأ، ولكنه لن يتمّ إلاّ بعد حرب شرسة مع الشيطان وأتباعه.
* ويظهر الطابع الليتورجي لهذه الرؤية التدشينية (4: 1- 5: 14). ليتورجيا في السماء، ليتورجيا على الأرض. فالحمل يشير إلى الحمل الفصحي وموت المسيح وبالتالي الافخارستيا (1 كور 5: 7: المسيح فصحنا قد ذُبح). والكتاب أيضاً يشير إلى قراءة الكتب المقدسة في الليتورجيا. فليتورجية الكلمة (الكتاب) وليتورجية التقدمة (الحمل) تشكّلان ذروتين في ليتورجيا إفخارستية ستنتهي في نهاية الكتاب والنداء الأخير إلى "أصل داود ونسله، إلى كوكب الصبح المنير" (22: 16، كانت السهرة الليتورجية تنتهي عند الصباح): "ماراناتا: تعال أيها الرب يسوع".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM