الفصل 9: يوم الغفران العظيم

يوم الغفران العظيم

يتوسّع لا 16 في الكلام عن يوم الغفران العظيم، أو يوم التكفير (يُوم كيبور كما يدعوه اليهود اليوم). هو عيد هامّ جداً بحيث اكتفى التقليد اليهوديّ بأن يدعوه »اليوم«. غير أننا أمام عيد دخل في وقت متأخّر في الكلندار (لائحة الأعياد) اليهوديّ. جاء هذا العيد بعد إصلاح عزرا. فهو لا يُذكر في نح 8 الذي يعالج النشاط الليتورجيّ خلال الشهر السابع في السنة.

جاء الكلام عن هذا العيد بعد التعليمات حول الطاهر والنجس، فبدا الاحتفال في الأصل تطهيراً كبيراً، يتمّ مرّةً كلَّ سنة، فيمنح للشعب الوسيلة لكي ينجو من جميع النجاسات التي سقط فيها بفعل ضرورات الحياة، أو سهواً وعن جهل. وتوسّع، فصار ليتورجيّة الغفران للخطايا بحصر المعنى، وفيه يعبّر بنو اسرائيل عن وعيهم بأنهم خطأة، وعن إيمانهم بإله يَغفر ويسامح. غير أن التقليد اليهوديّ لم يعتبر هذا الغفران وكأنه يتمّ بشكل آليّ. ففي نهاية المقال »يوما«، قالت المشناة (أي مجموعة التقاليد الشفهيّة): »إن قال أحد: ''سأخطأ ويومُ الغفران العظيم سيكفّر''، فيوم الغفران العظيم لن يكفّر. إن يوم الغفران العظيم يكفّر الذنوب التي بين الانسان والله. ولكن يوم الغفران العظيم لا يكفّر عن تلك التي تكون بين الانسان والانسان، إلاّ بعد أن يتصالح الانسان مع أخيه« (المشناة، يوما 8:9).

كلّم الربّ موسى: »قل لهرون أخيك أن لا يدخل في كل وقت إلى القدس، إلى داخل الحجاب، أمام الغطاء الذي على تابوت العهد لئلاّ يموت، لأني أظهر في السحاب فوق الغطاء« (لا 16:1 - 2). ويبدأ هنا الكلام عن الاحتفال بيوم التكفير العظيم حيث نجد طقوساً حول »تيس الخطيئة« (16:8 - 10، 20 - 22، 26) أخذها كهنةُ أورشليم من عادات محليّة، ومزجوها مع استعدادات ذبائحيّة تتوافق مع ما قرأنا في لا 1 - 4.

في هذا اليوم، وفي هذا اليوم وحده، يحقّ لعظيم الكهنة أن يدخل وراء الحجاب الذي يغطّي المكان المقدّس جداً. كان الحجاب يغطّي تابوت العهد (خر 25:17). ولما اعتُبر »التابوت« موطئ قدمَي الله على الأرض، صار الحجابُ الموضعَ الذي فيه نلتقي الله في شعائر العبادة. وحين يُرشّ دمُ الضحايا على الحجاب في يوم الغفران العظيم، يصبح الحجابُ الموضعَ الذي فيه تُغفر الخطايا. لهذا قيل في 16:12 - 15 إن هرون يدخل بدم تيس الخطيئة إلى داخل الحجاب، ويرشّ منه على وجه الغطاء وأمامه.

في 16:6 - 10، نقرأ ملخصاً لمجمل الاحتفال: يقرّب هرون عجل ذبيحة الخطيئة... ثم يأخذ التيسين ويوقفهما أمام الربّ عند باب خيمة الاجتماع ويُلقي عليهما قرعتين: إحداهما للرب وأخرى لعزازيل. التيس الذي للرب يقرَّب ذبيحة خطيئة. والآخر يرسله إلى عزازيل في البريّة.

نشير أولاً إلى أن عظيم الكهنة لا يلبس في »يوم كيبور« الملابس الفخمة التي صوّرها خر 28، بل يكتفي بلباس بسيط من الكتّان الأبيض. ويتوسّع النص في آ 11 - 28، فيفصّل ما قيل في آ 6 - 10 حيث الكلام عن سحابة من البخور تشير إلى سحابة يكون الله فيها حاضراً وخفياً (خر 19:9: السحابة هي علامة مجيء الله على الجبل). أجل، البخور يدلّ على حضور الله. ولولا هذا الحضور، لا معنى لشعائر العبادة. ولكنه حضور لا منظور، وإلاّ لا يبقى الانسان على قيد الحياة، بحسب ما قال الله لموسى: »أما وجهي فلا تقدر أن تراه، لأن الذي يراني لا يعيش« (خر 33:20).

اعتُبر عزازيل »تيس المحرقة«. وقال آخرون: هو موقع من المواقع. غير أنه بالفعل اسم شيطان أو جنّ يقيم في الأماكن القاحلة. أما طقس هذا التيس فنجده في عدد من الحضارات، وهو يتضمّن عنصرين اثنين: نقل النجاسات (الخطايا) نقلاً رمزياً، على حيوان أو غرض، ثم إبعاد هذا الحيوان أو الغرض. هذا ما نقرأه في آ 21 - 22: »ويضع (الكاهن) يديه على رأس التيس ويعترف عليه بجميع آثام بني اسرائيل ومعاصيهم وخطاياهم. وبذلك يضعها على رأس التيس ويرسله إلى البرية بيد رجل مستعدٍ لذلك، فيحمل التيسُ جميع ذنوبهم إلى أرضٍ منقطعة«.

إن عزازيل هذا الذي هو شيطان قيّده الملاك رفائيل، قد خسر قوّته عند الكاتب الكهنوتيّ. فالتيس الذي أُرسِل له ليس تقدمة ولا ذبيحة. فحيوانٌ يحمل كلَّ النجاسات، لا يُقبل كذبيحة لله ولا للشياطين (آ 26). ثم إن التيس الذي يُرسل إلى البريّة، ليس ذبيحة بدليّة عن اسرائيل، بل هو يحمل نجاسات بني اسرائيل وخطاياهم إلى البريّة. ثم إن عزازيل لا يمتلك دوراً فاعلاً. فلا هو يتقبّل التيس ولا يهاجمه. في الممارسة السابقة لما في الكتاب، كان عزازيل شيطاناً حقيقياً أو بعض الجنّ الذي يسيطر على البريّة. أما في الطقوس الكهنوتيّة فلم يعد شخصاً، بل مجرّد اسم يدلّ على موضع ترسَل إليه النجاسات والخطايا.

ماذا عن يوم التكفير في التقليد اليهوديّ؟ يقول كتاب اليوبيلات، إنه اليوم الوحيد في السنة الذي فيه يُمنح الغفران للذين يتوبون توبة صادقة (يوب 5:17 - 18). وهو تأسّس يومَ أُخبر يعقوب بموت ابنه يوسف، فلبس الحداد عليه. لهذا يجب أن نحزن في ذلك اليوم، فنذبح جديَ التكفير ونذكر الجدي الذي ذبحه إخوة يوسف ليلطّخوا بدمه قميص يوسف. تلك نظرة كتاب اليوبيلات وجماعة القارئين. وتساءل فيلون عن معنى هذا اليوم الذي هو في نظره أهمّ الأعياد، كاحتفال وتوبة وتطهير. فيه يجتمع الخطأة مع الأتقياء في صراعهم ضد الأهواء الشريرة (الشرائع الخاصة 1:186 - 188؛ 2:193 - 203؛ موسى 2:23 - 24).

تحدّثت الرسالة إلى العبرانيين عن يوم التكفير هذا، فبيّنت أنَّ رئيسَ الكهنة وحده يدخل إلى المسكن الثاني، إلى قدس الأقداس، مرّة في السنة. وهو لا يدخل »إلاّ ومعه الدم الذي يقدّمه كفّارة لخطاياه وللخطايا التي ارتكبها الشعب« (عب 9:7). فالطريق إلى قدس الأقداس غير مفتوح، والقرابين والذبائح تُبقينا »على مستوى المأكل والشرب، إلى الوقت الذي فيه يُصلح الله كل شيء« (آ 10). متى يكون ذلك؟ حين »جاء المسيح رئيس كهنة الخيرات المستقبلة... فدخل قدس الأقداس، مرّة واحدة، لا بدمِ التيوس والعجول، بل بدمه، فكسب لنا الخلاص الأبديّ« (آ 11 - 12). وهكذا صار يسوع عظيم الكهنة في العهد الجديد، وهو »يطهّر ضمائرنا من الأعمال الميتة لنعبد الله الحي« (آ 14).

خاتمة

بدأنا كلامنا عن هرون وبنيه، فوصلنا إلى الكهنة والكهنوت. يُرسم الكهنة حين يُغسَلون ويمسَحون بالزيت ويَرتدون اللباس الخاص بهم والذي نجده لدى حضارات الشرق الأوسط. وتُذبَح عنهم الذبائح لكي ينتقلوا من الدنيويّ إلى المقدّس. لهؤلاء الكهنة دور في التمييز بين الطاهر والنجس. ولهم دور في نقل الناس من النجاسة إلى الطهارة. وفي النهاية، دور رئيس الكهنة كبير في يوم عيد الغفران العظيم: هو ينقل خطايا الجماعة إلى البرية. والجماعة تعيش التوبة وتطلب المصالحة مع الله. هذا ما قدّمه سفر اللاويين. ولكن الانجيل بيّن لنا أن النجاسة هي الخطيئة، والطهارة تكون على المستوى الخلقيّ، لا على مستوى الطعام والشرب والذوق واللمس. كما بيّنت لنا الرسالة إلى العبرانيّين سموّ كهنوت يسوع المسيح على سموّ كهنوت العهد القديم. فيسوع دخل إلى الخيمة الثانية، مزّق الحجاب، فصار القربُ إلى الله مفتوحاً للجميع عبر وسيط حمل الله إلى الأرض ورفع الانسان إلى السماء.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM