الفصل 16: المسيحيون في كيرالا

المسيحيون في كيرالا

منذ ألفي سنة بشّر توما الرسول جنوب الهند. وما زال تلاميذُه هناك يمارسون ديانة تعود إلى أصول المسيحيّة السريانيّة. أتاحت لهم رومة أن يختاروا أساقفتهم، ولبثت على اتّصال مع هذه الجماعات الغريبة التي نبتت في زمان الرسل الأوّلين.

ونسمع في كاتدرائيّة مار إيليّا في كوتايام »شلومو لكلخون«، السلام لجميعكم. هي بركة الأسقف على مؤمنين جلسوا على حصر منسوجة بخيوط جوز الهند. آلاف المؤمنين كلّهم حفاة الأرجل، من نساء في ثوب الساري المعروف، بألوانه الفاقعة، ورجال في وزرة بشكل تنّورة. هم يُنشدون مرحًا في اللغة المحلّيّة، الملالايام. في لوالب من البخور، ثلاثة ستائر من الساتان تنطوي على نفسها بهدوء، فتفصل الخورس عن صحن الكنيسة، وبالتالي تفصل »السماء عن الأرض«. هذا ما يقوله المؤمن بساقيه العاريتين، الذي تقبّل من يد المحتفل الخبز والخمر، والنور يشرق من وجهه. »تلك هي المناولة الحقيقيّة«.

هذا القدّاس بألوانه الفاقعة، المضمّخ بتقوى لا تصدّق، طال ساعتين ونيّف. ولكنّه لم ينتهِ بعد: فقد ظهر الكاهن المساعد في لباسه الكهنوتيّ وبارك كلاٌّ من أبناء الرعيّة بدوره، فوضع الصليب على جبين كلّ واحد بعد أن حنى رأسه. مئات الجباه، وما من أحد تأخّر عن نداء الراعي الذي بدا مكلّلاً وكأنّه آتٍ من العلاء.

قال ذاك الأب مبتسمًا وهو يرتّب »قميصه« الثقيلة المطرزّة بالذهب، في السكرستيّا (حيث توضع الأواني المقدّسة والملابس) حيث نجد جرن معموديّة كبيرًا جدٌّا يتيح للمعمّد أن يغطس شابٌّا أو كهلاً، كما في الأزمنة البيبليّة. قال: هي الخدمة الرابعة في هذا الصباح. والعبارات التي تُسمع هي في السريانيّة، اللغة القريبة من الآراميّة، لغة السيّد المسيح على الأرض.

هذه العبارات تعلّمها آباؤنا منذ ألفي سنة، في لغة القدّيس توما (واسمه يعني التوأم) الذي أتى وبشّر كيرالا.

فأبناء تلك الرعيّة يربطون نفوسهم، بما في هذا الربط من غرابة، بشكل مباشر بالقدّيس توما، بالرسول المرتاب، الذي لم يؤمن بالقيامة إلاّ بعد أن رأى جراح يسوع ولمسها. وهكذا تواصل في كيرالا، إيمانُ البداية المتأثّر بالحضارة الهنديّة، والعائد إلى ينابيع المسيحيّة نفسها. يقولون: طلب يسوع من توما أن يمضي إلى الهند ليبشّر شعوبًا عائشة خارج العالم الرومانيّ، وهو عالم سوف يهديه فيما بعد بطرس وبولس. وفي أيّ حال، هذا الرسول الذي استكشف عالمًا جديدًا، وصل في منتصف القرن الأوّل إلى شواطئ الملابار، التي هي منطقة متوحّشة من المستنقعات حيث تنمو بشكل وافر توابل مطلوبة جدٌّا في العالم القديم، مثل الهال والفلفل وكبش القرنفل. والرسول الذي استقبله أناس متسامحون على مستوى الديانة وامتلكهم بعجائبه، أسّس سبع كنائس، كما تقول وثائق تعود إلى القرن الثالث المسيحيّ.

واليوم، »مسيحيّو القدّيس توما« ما زالوا حاضرين. هم يعدّون سبعة ملايين نسمة، أي ربع سكّان كيرالا، فيمثّلون أكثر السكّان أهميّة في منطقة تعرف توسّعًا كبيرًا. بجانب المسلمين الذين يعدّون أيضًا ربع السكّان، والهندوسيّين الذين يشكلّون النصف، أي قرابة أربعة عشر مليونًا. المسيحيّون ناشطون وقد امتزجوا في الحياة الاجتماعيّة، وشيّدت جماعاتُهم مئات الكنائس والمدارس والجامعات والمستوصفات ومراكز التوليد والمستشفيات. وهذا ما جعل من كيرالا إحدى الولايــات الأكـثر تطـوّرًا، فلــم يتجـاوز عدد الأمّيّين الستّة في المئة. هي ولاية فيها من الملافنـة فــي اللاهوت والكتاب المقدّس، أكثر من عدد من الدول الأوروبّيّة.

في إزهيكواي، قرب كوسين، حيث نزل الرسول، نجد ناعورة مؤلّفة من عدّة قوارب، فتدلّ على حيويّة الإيمان لدى وارثي القدّيس توما. كلّ يوم ينزل تحت الشجر الهنديّ، عددٌ من الحجّاج بثياب العيد، ويأتون لتكريم مؤسّس ديانتهم والتي ليست كديانة الآخرين.

إنّ بازيليكًا بنيت مؤخّرًا تحتفظ بذخائر القدّيس الرسول، التي أعادتها رومة منذ سنوات قليلة، إلى أبناء أمّته البعيدين في آسية. ماذا نقول في هذه الذخيرة التي هي جزء من عظم؟ هناك بعض الشكّ. فجثمانُ توما الرسول نُقل إلى الرها بعد أن مات شهيدًا في مدراس، على الشاطئ الشرقيّ للهند، حيث يُكرَم مدفنه. ولكن في هذا المعبد الحقيقيّ القريب من خطّ الاستواء، والذي يشبه مزار لورد في فرنسا، نجد الأمّ تريزا ده كلكوتا بجانب تجّار أغنياء، مع مشاهد من المعابد لا يمكن إلاّ أن تؤثّر علينا.

روى أحد الآباء وهو أستاذ اللغة السريانيّة في مدينة كوتايام، حيث تكثر الكنائس المسيحيّة، ما يلي: جال الرسول في كيرالا من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب. فهدى جميع الذين التقى بهم. وعلى جبل مالايانور، نصب بيديه الاثنتين، صليبًا كبيرًا مذهّبًا. رجمت القبائل المجاورة البناء، فسال منه الدم. حينئذٍ اهتدى اليهود. وهو دائمًا موضع حجّ يؤمّه الكثيرون ولا سيّما بعد الفصح.

*  *  *

تحت شمس حارقة تسبق الرياح الموسميّة، صعدت الجماعات التقيّة، وهي تنشد، هذه الجلجلة الباهتة اللون التي تحيط بها الغابة الكثيفة. على رأس الجبل المقدّس، نجد عددًا من الصلبان الكبيرة المحمولة على ظهور البشر والتي تدلّ على العذابات التي تحمّلها بعضُ الحجّاج لكي يعيشوا العذاب بدورهم. فالكنيسة الصغيرة هناك لا تفرغ من المؤمنين، نهارًا وليلاً.

وإذا صعدنا في الجبال، المليئة بشجر الشاي الأخضر الرخص، نكتشف موضعًا آخر مدهشًا: دير كيروسومالا. هو واحة روحيّة حقيقيّة. فالرهبان الذين انعزلوا فيه يخضعون لقوانين القدّيس بنديكتُس مؤسّس الرهبان البنديكتان، وللطقس السريانيّ، وللتجرّد الهندوسيّ. يرتدي الرهبان، بعد نذورهم، لباس الحكماء (سانياسين) باللون الأصفر. ورئيس هذا المقام الفريد، بلحيته البيضاء ونظرته الرفيعة، أفهمنا أنّ ديره تأسّس على يد راهب من السسترسيان البلجيكيّين في الخمسينات.

نحن كلّنا مثل أبناء القدّيس توما، نحن في العمق هنود وفي الوقت عينه مسيحيّون. أما هناك في بيت الآب منازل كثيرة، هم هنود، لا شكّ في ذلك، وهم مسيحيّون. ولكنّهم ليسوا جميعًا من الكاثوليك. فالأبناء الروحيّون للقدّيس توما توزّعوا، لئلاّ نقول انقسموا، في عدد من الكنائس التي تتميّز فيها الواحدةُ عن الأخرى. فعلى مرّ العصور، توالت تأثيرات الفرس الآتين من إيران، وأهل البرتوغال، في أوروبّا، الذين جاؤوا مع فاسكو دي غاما (1409-1532)، وأخيرًا أبناء إنكلتره، فكانت الطقوس الكلدانيّة والتومائيّة واليعقوبيّة والسريانيّة الملاباريّة، والسريانيّة المالانكاريّة، الرومانيّة، والمُصلحيّة، التي طعَّمت على الجذع الأصليّ، جذع المسيحيّة الرسوليّة. وتشعّبت الأمور أيضًا وتعقّدت، فانفصلت بعض هذه الكنائس، اللاتينيّة منها والسريانيّة، إلى أسرتين مختلفتين: تلك التي تخضع لسلطة خارجيّة: لبابا رومة، لبطريرك السريان الأرثوذكس. وتلك التي تعلن استقلالها. فتختار وحدها وبملء حرّيّتها، سلطتها الكنسيّة دون تدخّل خارجيّ من كنيسة من الكنائس. في هذه المعمعة اللاهوتيّة والليتورجيّة، أدهشتنا كنيسة المشرق التي دعيَتْ أيضًا الكنيسة النسطوريّة.

في تريشور حيث يقيم مار أفريم، رئيس كنيسة مستقلّة تضمّ ثلاثين ألفًا من المؤمنين، نجد عددًا من الصور التي تمثّل أسلافه بلحى تشبه لحى الأنبياء، نرى مخطوطات ثمينة في السريانيّة، نجت من الحريق الذي أشعله المرسلون الكاثوليك، لجعل المسيحيّة الهنديّة في خطّ المسيحيّة الرومانيّة.

قال مار أفريم: »تتحدّر كنيسةُ المشرق، في خطّ مستقيم، من القدّيس توما. لا علاقة لنا ببطرس ولا ببولس. ما زلنا نرفض أن نقول: مريم والدة الله (تيوتوكُس، اليونانيّة، يُلدات ألوهو، السريانيّة) كما في مجمع أفسس (431) بل »والدة يسوع« كما قرّر ذلك، في القرن الخامس، نسطور، بطريرك القسطنطينيّة، فحرم سنة 431 بحرم الهراطقة«. وتساءل مار أفريم: »هل نحن نساطرة؟ لا نصل إلى هذا الحدّ؟ ولكنّنا لا نعتبر هذه التسمية عارًا. ثمّ أنا أستعمل في كتبي، أكثر من مرّة، اسم النساطرة، الذي حمله عدد من الجاثليق في تقليدنا«.

إنّ جماعات توما المسيحيّة، التي هي عضو كامل في المسيحيّة، مع تمايز عن الآخرين بمن فيهم كنيسة رومة، تطلبُ منذ أجيال، بحقّها في الاختلاف وهذا الحقّ أقرّ به الفاتيكان. ففي شهر كانون الثاني 2004، نالت الكنيسة السريانيّة الملاباريّة التي فيها يدوم صومُ يونان ثلاثة أيّام، والتي تسأل دومًا المنجّمين قبل أن تزوّج مؤمنيها، وحيث الشمامسة النباتيّون يرتدون الحزام المقدّس الذي يرتديه البراهمة، هذه الكنيسة نالت إذنًا بأن تعيّن هي أساقفتها، فقطعت السلسلة المقدّسة، سلسلة التقليد الرسوليّ الذي نظّمه »بطرس« منذ ألفَي سنة. يا ليت توما رأى هذا لكي يؤمن. وفي أيّ حال، هو انتصر بعد موته بقرون من الزمن وقرون.

*  *  *

وكان حوار المسيحيّة في كيرالا، مع عنوان كبير: الوحدة لا تعني وحدة الشكل الواحد والفكر الواحد والنظام الواحد. قيل إنّ مسيحيّي الهند هم أقدم المسيحيّين في العالم. وكان الجواب: لا براهين علميّة حول نشاط القدّيس توما في الهند. ولكن غياب البراهين لا يعني أنّ الشخص غاب وما أتى إلى هذه البلاد. فلدى المؤرّخين عددٌ من الوثائق تعود إلى القرن الثالث، وتقول إنّ جماعات مسيحيّة، في الهند، اعتبرت أنّ القدّيس توما هو مؤسّسها. في هذه الظروف، نستطيع القول إنّ مسيحيّي القدّيس توما هم من أقدم المسيحيّين في العالم.

وما هي أصالة هؤلاء المسيحيّين؟ ثبتوا في الإيمان، ألفي سنة من الزمن، دون اتّصال برومة التي اعتبرت قلب المسيحيّة. ولكنّهم كانوا على علاقات وثيقة مع الجماعات المسيحيّة في بلاد فارس، إيران الحاليّة. وهكذا صاغوا ليتورجيّا تختلف عن الليتورجيّا الغربيّة، وتنظّموا بشكل يختلف عن سائر الكنائس. وهؤلاء المسيحيّون يدافعون عن إرثهم رغم الضغوطات العديدة، ويعتبرونه كنزًا يحافظون عليه بأمانة ويستعدّون أن لا يتخلّوا عنه ليكونوا »في الصفّ« مع اللاتين المنتشرين في العالم. فوحدة الإيمان لا تعني انتظام الليتورجيّا في شكل واحد. فتنوّع صحيح في الكنيسة لا يعارض وحدة عميقة وشركة حقيقيّة.

وماذا عن هؤلاء »النساطرة« القدماء الذين يقولون »والدة المسيح« لا »والدة الله«؟ هم يشبهون البروتستانت والأنغليكان والأرثوذكس. المسألة تُطرَح في إطار الحركة المسكونيّة. هذا يعني أنّنا نلتقي، نتعرّف بعضُنا إلى بعض، ونقيِّم نقاط الاتّفاق ونقاط الاختلاف. لهذا لا بدّ أن نعرف إن كان مسيحيّو القدّيس توما مستعدّين للتطلّع إلى الوحدة، أو إن كانت الكنيسة الكاثوليكيّة مستعدّة للقبول بهم.

أمّا وضع المسيحيّين في كيرالا فهو صعب. وهم يُضطهَدون على يد الهندوسيّين المتطرّفين. فهدفهم وطنيّ متطرّف: تحويل الهند إلى دولة هندوسيّة. بدأوا يضايقون المسيحيّين الذين يشكّلون أقلّيّة، بانتظار أن يأتي وقت المسلمين الذين يزيد عددُهم على عدد المسيحيّين. وهكذا كان المسيحيّون ضحيّة اللاتسامح الدينيّ الجديد. غير أنّ »غيرة« هذه الحركات الهندوسيّة، ما زالت في إطار مضبوط. أمّا المسلمون فلا مشاكل لهم مع المسيحيّين في كيرالا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM