الفصل 15: توما الرسول من أورشليم الى الهند

توما الرسول من أورشليم الى الهند

قبل أن يصعد يسوع إلى السماء، جمع التلاميذ وأكل معهم الطعام الوحيد في الكنيسة، الإفخارستيَّا. ثمَّ قال لهم: »ستنالون قوَّةً بحلول الروح القدس عليكم، فتكونون لي شهودًا في أورشليم، وفي جميع اليهوديَّة والسامرة، وإلى أقاصي الأرض« (أع 1: 4-8). بدأت الرسالة في أورشليم يوم العنصرة وحلول الروح القدس على المجتمعين بشكل أَلسنةٍ من نار واستقرَّت على كلّ واحدٍ منهم« (أع 2: 3). واصطادت خطبة بطرس الأُولى ثلاثة آلاف نفس (أع 2: 41). وامتدَّت الرسالة في اليهوديَّة، وعلى ساحل فلسطين، في اللدّ وفي يافا، وفي السامرة مع فيلبُّس بانتظار أنطاكية وصور وصيدا ودمشق وأرض عرابية. فوصلت في النهاية إلى رومة، مرورًا بأوروبَّا الشرقيَّة. بل وصلت إلى إسبانيا وجبل طارق الذي اعتُبر نهاية العالم.

وانتشر الرسل كلٌّ في جهة. وانطلق توما كما انطلقوا فوصل إلى بلاد الرافدَين، ومنها بلغ إلى الهند. وكانوا يحسبونها أقاصي الأرض.

1. إذهبوا في العالم

روى مرقس البشير أنَّ يسوع اجتمع بتلاميذه، وبعد نداءٍ إلى الإيمان بقيامته من بين الأموات، قال لهم: »إذهبوا في العالم أجمع، واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلّها« (مر 16: 15). »فخرجوا وكرزوا في كلّ مكان والربّ يؤازرهم ويؤيِّد الكلمةَ بالآيات التي تَصحبها«. هذه الكلمات التي جُعلت في نهاية الإنجيل، أرادت أن تقدِّم نظرةً شاملةً عن الرسل وعملهم بعد صعود يسوع إلى السماء.

إذا عدنا إلى سفر الأعمال، نتعرَّف إلى رسالة بطرس برفقة يوحنَّا. ثمَّ نعرف أنَّه أتى إلى أنطاكية مع جدالٍ حول مفهوم الرسالة، كما كان له »حزب« في كورنتوس. ويقول الخبر إنَّه وصل إلى رومة وهناك مات مصلوبًا، رأسه إلى أسفل. وقد اكتُشف مدفنه حيث تقوم كنيسة القدّيس بطرس في رومة. ونعرف أنَّ بولس انطلق في عمل الرسالة من أنطاكية، فمرّ في أوروبَّا وفي رومة عاصمة الإمبراطوريَّة. بل استعدّ لكي يذهب إلى إسبانيا. وأندراوس وصل إلى اليونان. صُلب في باتراس Patras بأمر القنصل إيجياس Egias الذي أراد أن يجبر المسيحيّين على تقديم الذبائح للأصنام. وأتت مكسيميلا Maximila، امرأة واحدٍ من مجلس الشيوخ الرومانيّ، فأنزلت أندراوس وأمَّنت له دفنة لائقة. هذا الرسول وصل إلى حدود الإمبراطوريَّة الرومانيَّة، إلى نهر الدانوب، ويُعتبر مؤسِّس كنيسة القسطنطينيَّة.

وبرتلماوس ابن قانا الجليل، وصل إلى فريجية في تركيا، ومن هناك عاد إلى الحبشة وبشَّر في عرابية السعيدة وبلاد فارس وأرمينيا. رسالة واسعة انتهت بالموت شهيدًا، أو هو صُلب أو قُطع رأسه. ويعقوب، أخو يوحنَّا، قُطع رأسه على يد هيرودس سنة 44، فكان أوَّل رسولٍ يموت من أجل إيمانه. إرتبط اسمه بإسبانيا حيث يحجّ الآلاف، كلّ سنة، في أيَّامنا. وفيلبُّس جاء إليه بعض اليونان وقالوا له: »نريد أن نرى يسوع« (يو 12: 21). فجاء أندراوس وقال لفيلبُّس، وأندراوس وفيلبُّس قالا ليسوع. عن فيلبُّس قال بوليكراتيس Polycrate أسقف أفسس، في القرن الثاني، إنَّه مات شهيدًا ودُفن في هيرابوليس Hierapolis بعد أن بشَّر أجزاء كبيرة من تركيا. وسمعان القانويّ مضى إلى بلاد الرافدين، أي العراق وإيران. ويروي عنه عوبديا، أسقف بابل، أنَّه نُشر بمنشارٍ على مثال أشعيا النبيّ. تدَّاوس (أو يهوذا) وصل إلى الرُّها، مدينة الأبجر، وهناك استشهد. متَّى صاحب الإنجيل توفّي في الحبشة، ويوحنَّا الرسول في أفسس.

2. أعمال توما

حين رأى التقليد المسيحيّ أنَّ القليل كُتب عن الرسل بعد صعود الربّ، ترك لنا »أعمال« كلّ رسول. هناك أعمال يوحنَّا وأندراوس وبولس وبرنابا. ولفظ »أعمال« يترجم اللاَّتينيَّة التي تحدَّثت عن أعمال يوليوس قيصر مثلاً. هي تقابل »سيرة«.

أمَّا أعمال توما »فدُوِّنت في السريانيَّة، في القرن الثالث المسيحيّ. تروي كيف أنَّ هذا الرسول رفض في البداية أن يمضي إلى الهند »بحجَّة أنَّ صحَّته السيِّئة تمنعه من السفر، ولن يستطيع تبشير الهند بالحقّ، وهو لا يتكلَّم سوى العبريَّة (أي الآراميَّة)«. إذ ذاك ظهر له الربّ خلال الليل وقال له: »لا تخشَ شيئًا، يا توما. إمضِ إلى الهند. وبشِّر هناك بالكلمة لأنَّ النعمة ستكون معك«. ولكنَّه لبث يرفض ويقول: »'أرسلني إلى حيث تشاء، لأنَّني لن أذهب إلى الهند«.

عندئذٍ باع الربُّ توما كعبدٍ يعمل في النجارة مثل معلِّمه، فمضى إلى الهند. وتتواصل رحلةُ الرسول برفقة المسيح. وقد انطلق يعقوب السروجيّ من هذا الخبر فروى كيف أنَّ الرسل أَلقوا القُرعة. فكانت بلاد الهند من نصيب توما. ورومة من نصيب بطرس. قال الرسول: هذا غير معقول. أنا المتعلِّم أمضي إلى رومة، وبطرس الأُميّ يمضي إلى الهند. وفي النهاية، ظهر له يسوع ووجَّه إليه أمره الصريح.

وصل توما إلى الملك غودنافاروس Goudnapharos الذي طلب منه أن يبني له قصرًا. أعطاه المال فوزَّعه الرسول على الفقراء وبدأ يبشِّر، وهو راكب جحشًا، على مثال الربّ لمَّا دخل أورشليم. تقول أعمال توما: »إذ كان الرسول واقفًا في مكانه، على الطريق، وهو يتحدَّث مع الجموع عن ملكوت اللَّه واهتدائهم وعودتهم إلى الربّ، جاء جحشٌ ابن أتان ووقف أمامه. فقال توما: ''ما أتى هذا الجحش إلى هنا إلاَّ بترتيبٍ إلهيّ''«. وتواصلت العجائب: إخراج الشيطان من امرأة مخدوعة، إقامة امرأة قتلَها زوجُها الغيور... وجاء القسم الأخير من أعمال توما يروي استشهاد ذاك الرسول. جُعل مرَّتين في السجن، بيد الملك، مرَّة بعد اهتداء امرأة كاتم أسراره، ومرَّة أُخرى بعد اهتداء الملكة نفسها. وفي كلّ مرَّة كان يخرج من السجن بشكلٍ سريّ (مثل بطرس في أع 12: 6-11)، ويمضي إلى المُعَمَّدين الجدد. وينتهي الكتاب بظهورٍ للرسول يطلب فيه أن تُنقل ذخائره إلى الغرب.

تحدَّث آباء الكنيسة عن توما. فقال عنه أوسابيوس، أسقف قيصريَّة في فلسطين: بشَّر بلاد فارس. وغريغوريوس النازيانزي: وصل إلى الهند وهناك مات شهيدًا. ومثله قال تيودوريتس، أسقف القورشيَّة حيث كان القدّيس مارون الناسك.

بهذا الرسول ارتبط المسيحيّون السريان المقيمون في جنوب الهند. في ميلابور، قرب مدراس، نجد صليبًا يعود إلى القرن السابع، مع كتابةٍ فارسيَّة تدلّ على موضع استشهاد توما. وفي »مدينة القدّيس توما«، تكرَّم ذخائر هذا الرسول. غير أنَّ خبر »آلام توما« وتقليد عرفه القدّيس أفرام، يقولان إنَّ ذخائره نُقلت إلى الرُّها حيث تُكرَّم إكرامًا واسعًا. فهذا الذي بشَّر أرض السريان في الشرق، وأسَّس كنيسة السريان في الهند، هو بركة لهؤلاء المؤمنين الممتدّين من الشرق الأدنى إلى الشرق الأقصى. هم مثله انتقلوا من الشكّ إلى الإيمان، وتعلَّقوا بالربّ يسوع، فدفعوا الثمن غاليًا في آخِر مذبحةٍ في تركيا، خلال الحرب العالميَّة الأُولى. هناك مات السريان، لأنَّهم مسيحيّون، بجانب إخوتهم الأرمن. والكنيسة الهنديَّة لا تعرف الراحة. هي أقليَّة تتمنَّى أن تكون الخمير في العجين، بعد أن مضى إليها رسولٌ لا يعرف سوى اللغة العبريَّة. فمنذ العنصرة، تستطيع الهند بلغاتها التي تتعدَّى الألف، أن تسمع خبر »عظائم اللَّه« (أع 2: 11)، شأنها شأن كلّ أُمَّةٍ تحت السماء.

3. إنجيل توما

حين يتحدَّث يوحنَّا عن توما، يسمّيه في اليونانيَّة »ديدمس« أو التوأم. وجاء أكثر من تفسيرٍ لهذا اللفظ. هو توأم المسيح. أراد أن يرافقه إلى الموت خلال الصعود إلى أورشليم. وكان نجّارًا مثل معلِّمه. وكما بيع يسوع بيع توما، فكانت عبوديَّة رسالة من أجل المسيح، كما أنَّ تسليم يسوع وصل به إلى الصليب، وإلى خلاص البشريَّة.

وتوما توأم كلّ واحدٍ منَّا. فأنا وأنت وجميعنا »شقّ التوم« مع توما. هو أراد أن يتبع يسوع. ونحن أيضًا. سأل عن الطريق، ومَن منَّا لا يسأل. أمَّا إيمانه الذي طلب أن يرى قبل أن يسجد سجود العبادة ويهتف »ربّي وإلهي«، فهو إيماننا، نحن الذين نبحث اليوم وفي كلّ يوم، عن الآيات والعجائب. إيمانه دفعه من منطقة إلى منطقة: من أورشليم إلى دمشق حيث بقي »باب توما«. وكما انطلق بولس من أنطاكية، انطلق توما من دمشق فوصل إلى العراق وإيران. ما توقَّف بولس، ولا توما توقَّف. سُجن بولس ومات في رومة. وسُجن توما في الهند وهناك مات شهيدًا ودُفن.

وأخيرًا، توما هو توأم المخلِّص. نشأَ معه، وتدرَّج فصار نموذج كلِّ عارف. وكما كان لبولس إنجيله (روم 2: 16)، إنجيل يسوع المسيح (روم 1: 3)، كذلك كان لتوما إنجيله. عنوانه: كشف كلمات سريَّة قيلت ليهوذا المُسمَّى توما والتوأم. وهو يبدأ كما يلي: »هذه هي الكلمات السريَّة التي قالها يسوع الحيّ. فكتبها يهوذا توما التوأم«.

هذه الإشارة ثمينة لأكثر من سبب: جعلت هذا الإنجيل في خطّ التقليد السريانيّ الذي تكوَّن حول توما، والذي يشهد له كتاب توما. ثمَّ شرحت لماذا توما الذي تقبَّل هذا الإنجيل (الذي ليس إنجيلاً قانونيٌّا، مثل متَّى ومرقس ولوقا ويوحنَّا) كان تلميذًا مميَّزًا. عنه تقول »أعمال توما« في خطبةٍ تتوجَّه إليه (ف 39): »يا لُجَّة المسيح ورسول العليّ والمشارك في كلمة المُحيي النقيَّة، يا مَن تقبَّلتَ أسرار ابن اللَّه النقيَّة، يا رجلاً حرٌّا صرتَ عبدًا لتأتي بالعديدين إلى الحريَّة بطاعتك. يا ابن عائلةٍ غنيَّة ! عشتَ في الحرمان لكي تحرم العدوّ من الكثيرين بقدرة ربِّك، فتصير علَّة حياةٍ لبلاد الهنود. أنت يا من جئتَ رغمًا عنك نحو البشر الضالّين بعيدًا عن اللَّه، ها هم يعودون إلى الحياة بفعل كلماتك الإلهيَّة، حين يرونك«.

عُرف إنجيل توما في شكله اليونانيّ، قبل أن يُكتشَف في نجع حمادي (جنوب مصر، قرب الأُقصُر) في لغة قبطيَّة. إنطلق هذا الإنجيل من الأناجيل الأربعة وقرأها في إطارٍ غنوصيّ، أي في مناخٍ من المعرفة الباطنيَّة، القريبة من عالم الهند واليونان، الذي وصلت آثاره إلى مصر.

ويبدأ الإنجيل كما يلي:

أ) قال: من وجد تفسير هذه الكلمات لا يذوق الموت.

ب) قال يسوع: مَن يبحث لا يتوقَّف عن البحث إلى أن يجد. وحين يجد يقلق. وحين يقلق يندهش، ثمّ يملك على الكلّ.

إنَّ موضوع البحث والطلب والتعرُّف إلى الذات الداخليَّة، لأمرٌ معروف لدى الغنوصيّين، طلاَّب المعرفة. نبعُه نصوص الحكمة في العالم اليهوديّ. ونحن نقرأ عنه في الإنجيل القانونيّ »مَن يسأل يَنَل، مَن يطلب يجد، مَن يقرع يُفتح له« (متَّى 7: 8).

دلَّت الدراسات الأخيرة أنَّ إنجيل متَّى وُلد في الأوساط السريانيَّة، في القرن الثاني ب.م. إذًا، بعد أن دُوِّنت الأناجيل الأربعة القانونيَّة. ومنذ البداية، برز الهدف المنشود: التفلُّت من الموت النهائيّ، وبلوغ الخلاص في نموذجه الغنوصيّ، القريب جدٌّا من النيرفانا في الديانات الهنديَّة.

ج) وقال يسوع: إذا قال لكم مرشدوكم: »ها هو الملكوت في السماء«، إذًا سبقتكم طيورُ السماء. وإن قالوا لكم: »هو في البحر«، إذًا سبقكم السمك. بل الملكوت هو في داخلكم وفي خارجكم. حين تَعرٍفون تُعرَفون وتَعلَمون أنَّكم أبناء الآب الحيّ. ولكن، إن كنتم لا تَعرِفون، فأنتم في الفقر، أنتم الفقر.

د) قال يسوع: الشيخ الذي شبع من الأيَّام لا يتردَّد أن يسأل طفلاً ابن سبعة أيَّام عن موضع الحياة (حيث يقيم الإله الخالق)، يحيا لأنَّ كثيرًا من الأوَّلين يكونون آخِرين، ويصيرون واحدًا.

ه)  قال يسوع: إعرف ما (أو مَن) هو أمامك وما (أو مَن) خفيَ عليك يُكشف. فلا خفيّ إلاَّ سيظهر (مر 4: 22).

الملكوت الذي ذُكر هنا هو روحيّ ونحن ندخل فيه، في الزمن الحاضر. ما هو إسكاتولوجيّ، على ما في الأناجيل. هو لا يرتبط بنهاية العالم والتاريخ. هذا الملكوت هو موضع سماويّ نحاول البلوغ إليه كي نبلغ الحياة. بهذه الطريقة أعاد الغنوصيّون قراءة الأناجيل، ونسبوها إلى توما، توأم المخلِّص. ولكنَّهم في الوقت عينه، ابتعدوا كثيرًا عن الأناجيل التي هي قاعدة إيمانٍ وحياةٍ لجميع البشر، لا لفئةٍ من النخبة تجاه البسطاء العاديّين. وهذا الضلال نجده اليوم في عددٍ من البدع التي تدَّعي المسيحيَّة، والمسيحيَّة براءٌ منها.

خاتمة

لولا إنجيل يوحنَّا لما كنَّا عرفنا شيئًا عن توما الرسول. ولكنَّ التقليد اللاَّحق عوَّض الكثير. تحدَّث عنه الوعَّاظ، وأنشده الشعراء. كُتبت سيرته في »أعمال توما«، ودُوِّن إنجيل ارتبط به فانتقل من العالم السريانيّ إلى اليونانيّ والقبطيّ، بانتظار أن يصل إلى العالم كلّه، فيقدّم نظرةً معرفيَّة ما زالت آثارها حاضرة في القرن الحادي والعشرين.

هذا الذي انطلق من أورشليم، ما وصل إلى رومة، بل إلى الهند التي تبنَّته كما تبنَّاها. أخذت إنجيله كما أخذ حضارتها وكُتبَها المقدَّسة. وما زال هذا المشروع يتواصل اليوم في حوارٍ بين المسيحيَّة وديانات الهند. ما زالت الطريق طويلة أمام الكنيسة هناك، ولكنَّها بدأت وهي لا تنتهي إلى أن يصير اللَّه كُلاٌّ في الكلّ (1 كور 15: 8)، إلى أن يملك المسيح في العالم كلّه. وفي مجيئه يسلِّم المُلك للَّه الآب بعد أن يكون قد أبطل كلّ رئاسةٍ وكلّ سلطانٍ وكلّ قدرة. ذاك هو إيماننا بالذي قال للرسل ويقول لنا: »لا تخافوا، أنا غلبتُ العالم«.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM