القسم السابع عشر: إبنة يائير
 

ابنة يائير
5: 21- 43

أخد يسوع بيدها وقال: "يا صبيّة قومي".
كم احتاج يائير، هذا الوجيه في بلدته، إلى الشجاعة، لكي يتوجه إلي يسوع الذي يراقبه الكتبة! محيطه غير مصدّق وهو يدعو إلى اليأس: لا تزعج المعلم! كم في هذا الملاحظة من سخرية؟ هو لم يفعل لك شيئاً! تحدّى يائير رأي القارئلين: ما زال يؤمن! كيف تجرأ أن يقوم بهذه المحاولة وهو من رؤساء المجمع، من المسؤولين فيه؟ إنه عكس هذه المرأة المغفّلة والمسكينة التي ما زالت تؤمن بأن يسوع هو ملجأها الأخير.
جاءت هذه المرأة فقطعت الخبر. ولكنها جعلته ينطلق من جديد بفضل ايمانها البسيط والعنيد. ونندهش من استعداد يسوع: ينطلق ولا يجادل، يترك الجمع يزحمه، يتوقّف ويضيع الوقت.
أجل، كاد يسوع ان ينسى الصبية ابنة الاثني عشر عاماً. الثانية عشرة هي عمر الزواج. وساعة تستطيع أن تصير أمّاً وتعطي الحياة، ها هي تموت. أما المرأة التي كادت تموت فيها الحياة فقد شفيت. استنفدت النازفة كل الوسائل البشرية ولم تستفد شيئاً. فلمست يسوع بطريقة سرية. هي نجسة وتنجّس كل من تلمس. خافت ان تجابه غضبة رجل الله. آمنت بالاتصال بالإنسان، كما يتصل الإنسان بصنم يعبده. ولكنها ليست في عالم السحر، بل في عالم الإيمان. هذا ما قاله يسوع. مرّ التيار فوصل إليها.
لمسته فوُلد من هذا الّلمس رباطات محبّة. تأثر من هذا التعلّق الشديد. ظنّت هذه المرأة أنها إقترفت ذنباً. أخرجها يسوع من الظلمة وأعلن لها انها لم تخطأ. ما همّ الشرائع؟ المهم هو الخلاص. كل الذين حول يسوع لا يبالون بهذه المرأة، هم غافلون. أما يسوع فيهتمّ بكل واحد دون استثناء. أدار يسوع نظره في الشعب (هذه عبارة عزيزة على قلب مرقس) وحطّه على الشخص الذي يهمّه أمره. كانت قد شعرت بالخلاص (بالصحّة) في جسدها. وها هي الآن تتشجّع وتتحدّى الشريعة التي تحرّم عليها لمس إنسان. قالت كل شيء: تأسّفها، خوفها، أملها. لقد تغلّبت على الخوف. لقد تعافت. فالإيمان والخوف لا يسكنان معاً.
ولكن جاء الخبر المؤلم في تلك الساعة: ماتت الصبية. هل نزعج المعلّم؟ ولكن المعلّم لا يخاف الإزعاج. إنّه متنبّه إلى كل خوف يقود إلى الموت.
أخذ يسوع "حرّاسه" الثلاثة ليسهروا على تعليم القيامة الذي يقوم بحفظ الجسد! إن رقاد الموت يثير الضحك عند البعض والهزء عند البعض الآخر. أبعدَ يسوع الجموع ليتجنّب الإختناق. وجعله مرقس يتكلّم اللغة الأرامية ليرتدي عمله طابعاً احتفالياً. قامت الصبية، ويجب أن تأكل وتحيا لتتبع الأفخارستيا العماد. تعجّبت الجموع، ولكنها لم تفهم جوهر الأمور.
يائير يعني في العبرية: ينير. هل نحن أمام صدفة (أف 5: 14)؟ أليس العماد استنارة؟ وهكذا نكون في قلب الليتورجيا.
هناك أفكار منتشرة لدى الناس تقول إن الله يميت. لا. لم يصنع الله الموت. لقد خلق الحياة وهو يعيدها عندما تنطفىء.
جعل الله حشا ساره العقيم خصباً كما في عمل خلق جديد. أخبرها بالأمر ثلاثة ملائكة، فيكون هذان الزوجان بداية شعب يكون كثيراً كالكواكب في السماء وكالرمل على شاطئ البحر. وبفعل خلق جديد، عمل يسوع كذلك لهاتين المرأتين: نازفة الدم وابنة يائير. كانت الأولى مريضة منذ 12 عاماً، وماتت الصبية وهي ابنة 12 عاماً، أي في عمر كانت ستصبح فيها إمرأة.
هاتان المرأتان هما في نظر الشعب العبراني صورة عن الفشل. الأولى أصيبت في خصبها مثل سارة، والثانية فقدت حياتها. شفى يسوع هاتين المرأتين، فأتاح لهما أن تتقبّلا دعوتهما إلى الأمومة.
هاتان المرأتان تمثّلان الكنيسة في دعوتها كأم تعطي الحياة وتغذّيها في المسيح. فالتلميحات إلى أسرار الكنيسة المقدّسة توجّهنا لنفهم الخبر بهذه الطريقة: طلب يائير من يسوع أن يضع يده فيخلّص ابنته ويعيد إليها الحياة. والحال أن كل الاستعداد للمعمودية تتوزّعه رتبة وضع الأيدي. أنهضَ يسوع الصّبية وأخذ بيدها، كما يفعل الشمّاس حين يخرج المعمّد من الماء: هو يمسكه بيده ليستيقظ على الحياة في الله. ثم أوصى يسوع بأن تُطعم هذه الصبية التي نهضت من الموت: نحن هنا أمام تلميح إلى الأفخارستيا التي تتبع العماد.
إنّ هذا المقطع الإنجيلي يدعونا إلى التأمّل: نتعرّف إلى مآئر الله، لا في الماضي وحسب، بل في الحاضر. فما عمله المسيح في هذا الإنجيل ينبىء بما يتمّه اليوم في قلب الكنيسة: هو يدركنا بيده الخيرّة، ويسمح لنا بأن نلمسه. هو يقيم ويشفي بما يتمّ في احتفالاتنا من إتصال ومشاركة. هو يعطي شعبه مهمّة الأمومة التي لا تحصر الكنيسة بالسلطة وحدها، بل بجميع المؤمنين.
فالجماعة هي أم، وهي تلد إلى الحياة الجديدة ابناء في الاحتفال العمادي. والمسيحيّون يشاركون كلّهم في أمومة الكنيسة بأعمالهم وشهادتهم لدى أولاد أو شبّان أو رفاق. فبواسطة الوالدين ومعلّمي التعليم المسيحي والمنضوين إلى الحركات المسيحيّة يُنهض المسيحُ البشر، ينميهم، يغذّي الحياة التي فيهم. بواسطتهم يمدّ الروح القدس ديناميته وينشر تأثيره في قلوب المزمنين حتى أقاصي الأرض.
كتب سفر الجامعة: الله لم يصنع الموت. لا، ليس الله من جهة الموت. آمرك يا صبيّة، يا صبيّة أقول لكِ: قومي. هذا هو نداء يسوع الفصحي تجاه ابنة يائير. هذا هو نداء لله الفصحي في صباح اليوم الثالث. هذا هو نداء الكنيسة الملحّ الذي يتوجّه إلى كل إنسان ويدعوه ليأخذ جانب قوى الحياة لا قوى الموت. ففي الشكّ الذي يسيطر علينا، وفي الخوف الذي يخنقنا، نسمع كلمة الحياة: إيمانك خلّصك، إيمانك أحياك. يا صبيّة قومي. ونحن سنقوم أيضاً لأن ربّ الحياة يدعونا.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM