القسم السادس عشر:شفاء مجنون
 

 

 شفاء مجنون 5: 1- 20

إرجع إلى بيتك وإلى أهلك وأخبرهم بما عمل الرب لك.
هدّأ يسوع العاصفة، وها هو الآن يهدىء عاطفة من نوع آخر. لا عاصفة خارجية، بل عاصفة في قلب الإنسان. إن الخلاص من العاصفة كان إيذاناً بتحرير آخر. صارت الأمواج إندفاعات مدمّرة في إنسان لا يستطيع الناس أن يقيّدوه. وفي هذا "المجنون" المسكين الذي لا بدّ من ربطه، في هذا "النجس" الذي يقيم في القبور كخيال الموتى، في هذا الشخص القريب من الموت والذي يخيف الأحياء، في هذا الشخص واجه يسوع "لجيون" أي جوقة من الأرواح النجسة.
لجيون هو إسم الرجل. يذكّرنا بالجيش الروماني المحتل الذي يستعمل العنف ليسلب الناس وينهبهم. لم يخف يسوع من موج البحر ولن يخاف من هذا المجنون المليء بالشياطين. فعالم الوثنيين يسيطر عليه عنفُ البشر الذين لا يعرفون سلام الله. كل شيء يخضع للفوضى ليلاً ونهاراً بين الوجهاء وعند الأدنياء. أقصى درجات العبودية. تدمير من أجل التدمير لأن ثقة الإنسان بالإنسان زالت من الوجود.
ومع ذلك، ركض الرجل، أسرع. فمن عمق العنف المسيطر عليه، يصعد اندفاع نحو ملجأ ممكن يجتذبه ويعذّبه في آن واحد: فالجيش النجس الذي يحرّك أعضاءه، يواجه "ابن الله العلي". حتى الآن كان يصرخ ويصيح. لقاؤه بيسوع أعاد إليه إمكانية الكلام. فأمام نظر الله البشري، يعي الإنسان تشتّته، تمزقّه الداخلي: هو يلعب عدداً من الأدوار دون أن يكتشف دوره الحقيقي.
حين طرد يسوع الروح الشرير الذي يستعبد هذا الرجل، أعاد إليه هوّيته. واندفاعاته الفوضوية والنجسة ستنضم إلى الشياطين لتقاربها معها.. إستعاد العالم الوثني مبدأ نظام، فبدأ يتخلّص من القوى التي تستعبده: فالخنازير في البحر تدلّ على أن العنف يقسم ويمزّق، صار موضع اتهام وأعتُبر قوة عبودية وموت.
واستعاد الإنسان كرامته. كان البحر هائجاً فغلبه يسوع ومرّ عليه. وهكذا فعل في الأرض الوثنية. أعاد النظام والسلام. عبوره عبور نبيّ، وقوى الشر لن تتغلّب على البشر. والعبرة واضحة: وحده الإيمان بيسوع يتيح لقدرة الحياة أن تسكن فينا وأن تسيطر على قوى الشر.
إنذهل حرّاس الخنازير حين خسروا قطيعهم. مع ذلك صاروا شهوداً لما حدث: إستعاد إنسان هويّته الحقيقية (كان جالساً، لابساً، سليم العقل). إستعاد حريته. جاء الناس وسيطر عليهم الخوف من هذه القوة التي تتجاوزهم: هي قوة تقتل ما يقوم بأود حياتهم (الخنازير)، ولكنها تحيي الإنسان. إذن، لا يريدون هذه القوة لأنها تحمل إليهم الخطر.
ويجعلنا النص هنا أمام نوعين من التوسّل: توسّل الناس إلى يسوع "أن يرحل عن ديارهم"، وتوسل المجنون المعافى إلى يسوع "أن يأخذه معه". يريد أن يتبعه، شأنه شأن الإثني عشر (3: 14). ولكن يسوع أعاده إلى بيته وإلى أهله: عليه بعد اليوم أن يقوم بدوره الحقيقي، وهو أن يكون وسط مواطنيه شاهد إيمان لسلطة الله التي ظهرت في يسوع. وزاد مرقس أنه "بدأ" (مثل يسوع في 1: 45) يبشرّ في المدن العشر.
أعاد يسوع الإنسان إلى كرامته، فحرّر فيه كلمة الحياة.
مضى التلاميذ مع يسوع، فهبّت عاصفة أخافتهم. وما إن وصلوا إلى أرض وثنية حتى لاقاهم مجنون خارج من القبور، فأعاده يسوع إلى صحّة العقل، ولكنه لم يُرد أن يأخذه معه.
هي المرة الأولى يعبر إنجيل يسوع حدود الجليل التي يدل عليها شاطئ البحيرة. كان الإنجيل قد انحصر في الجليل، وشعّ حول كفرناحوم ومجمعها. وها هو الآن يغامر فينطلق إلى منطقة وثنية: ديكابوليس مجموعة من عشر مدن هلنستية (ذات حضارة يونانية) ترتبط بحاكم سورية. وهكذا انفتحت بشارة الملكوت على غير اليهود، على العالم الوثني.
ثم يبدو أن الجموع اختفت. ويسوع يكرّس نفسه لتربية رسله الذين اختارهم. رافقوا المعلّم في رحلته، فشهدوا تهدئة العاصفة قبل أن يشهدوا شفاء "المتشيطن" بعيداً عن الجموع التي ستأتي فيما بعد وترى ما جرى (آ 14).
نحن هنا أمام تدريب التلاميذ على الإيمان. إتباع المسيح والتعلق به، يعني الدخول في س عمله، مواجهة اللاهوت في شخصه، وإكتشاف تردد يؤرجحنا بين الخوف الذي "يجمّدنا" والإيمان الذي يُطلقنا. فعبر ردّات فعل التلاميذ، نحن مدعوون لنسير سيرة روحية نعمّق فيها إيماننا. إن قاومنا، عطّلنا عمل يسوع. في هذا المعنى نفهم أسئلة الشهود حين رأوا أعمال يسوع القديرة. قال التلاميذ الخائفون في القارب: "من هو هذا"؟ وقال مجنون الجراسيين وهو خائف من تصرّف يسوع الذي يتجرّأ ويقترب منه: "لا تعذّبني" (5: 7). والمرأة النازفة ارتعبت لعملها بما جرى (5: 333). ورئيس المجمع يئس، فشجّعه يسوع (5: 36). أما في الناصرة فبدت قلة الإيمان الحاجز الأهمّ أمام عمل الله.
إستطاع يسوع أن يتغلّب على البحر وأمواجه. فالبحر يرمز إلى عالم الشر الذي يقف بوجه يسوع ويمنعه من الذهاب إلى أرض وثنيّة. وتغلّب على هذا الجيش من الشياطين في لجيون. ولكنه فشل أمام قلب البشر. طلبوا منه أن يرحل. جاء إلى العالم والعالم لم يقبله... أما الذين قبلوه... قَبِلَه هذا المجنون... ونحن...

 

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM