الفصل السادس: مفهوم الحرِّيَّة عند نميسيوس الحمصيّ

 

الفصل السادس

مفهوم الحرِّيَّة عند نميسيوس الحمصيّ(*)

الحرِّيَّة في الإنسان هي قمَّة الإنسان. فما يميِّز الإنسان هو أنَّ وجوده لا يرتبط بحتميَّة تامَّة وصارمة كسائر المخلوقات. إنَّه مدعوٌّ إلى أن يحقِّق كيانه. وهو عندما يتخلَّى عن سمةٍ تكوِّن جوهره، يتخلَّى عن ذاته. الإنسان مسؤول عن حرِّيّته، فيختار أن يعمل هذا العمل أو ذاك، أن يمتنع عن هذا العمل أو ذاك. وهذا يفترض أن لا يكون إكراهٌ يحملنا على ما لا نرضى به، أو ضرورة تفرض ذاتها علينا، ليكون مبدأ عملنا في ذاتنا، لا في قوَّة خارجة عنّا.

عندما نتحدَّث عن الحرِّيَّة من الوجهة الأدبيَّة والأخلاقيَّة، تطالعنا مشكلةُ المسؤوليَّة وما يتبعها من ثواب وعقاب. وعندما نتحدَّث عن الحرِّيَّة من الوجهة الفلسفيَّة واللاهوتيَّة تقفُ أمامنا مشكلةُ الجبريَّة أو سلطة القضاء والقدر، ومشكلة حرِّيَّة الإنسان تجاه إله يعرف كلَّ شيء ويقدر على كلِّ شيء.

في هذا الإطار من التساؤلات يندرج فكر نميسيوس، هذا الفيلسوف الحمصيّ الذي عاش في الجيل الرابع المسيحيّ وألَّف كتابًا سمّاه طبيعة الإنسان. انطلق من ثقافته اليونانيَّة وعقيدته المسيحيَّة، فقدَّم لنا نظرة عن الإنسان متكاملة تحدَّث فيها عن النفس والجسد قبل أن يعرض علينا مفهومه لحرِّيَّة الإنسان، والإنسان بدون حرِّيَّة لا يعود إنسانًا.

نتعرَّف في مقالنا هذا إلى نميسيوس الحمصيّ وإلى كتابه، ونرافقه في البحث عن كيان الإنسان، ونتوقَّف بصورة خاصَّة على هذه الحرِّيَّة التي تقف بين جبريَّة القضاء والقدر وعناية الله، فتجعل الكائن البشريّ قمَّة الخلائق وشريك الله ورفيقه في تقرير مصيره.

1. نميسيوس الحمصيّ وكتابه في طبيعة الإنسان

أ- من هو نميسيوس؟

نتعرَّف إلى شخصيَّة نميسيوس من خلال كتابه طبيعة الإنسان الذي هو تقريبًا مرجعنا الوحيد. عاش في سورية وكتب في نهاية القرن الرابع المسيحيّ(1). اهتدى من الوثنيَّة إلى المسيحيَّة، ثمَّ انتُخِبَ أسقفًا على حمص التي كانت في ذلك الوقت مركزًا علميٌّا هامٌّا في سورية.

هل كان طبيبًا قبل أن يُنتخَب أسقفًا؟ هذا ما لا يمكن تأكيده، غير أنَّ ما يبدو واضحًا هو أنَّه اطَّلع على أمور الطبّ، وقرأ تآليف الأطبّاء أمثال جالينوس وهيبوكرات(2)، وهو يورد الكثير من المعطيات الطبِّيَّة من علم التشريح وعلم وظائف الإنسان(3).

ترك لنا كتابًا وحيدًا في طبيعة الإنسان، فكان تأثيره عظيمًا على الفكر المسيحيّ شرقًا وغربًا استقى منه الكثيرون، وبعضهم أورد نصوصه حرفيٌّا، أمثال مكسيم المعترف (580-662) وأنستاز السينائيّ ويوحنّا الدمشقيّ (640-750) في كتابه الإيمان المستقيم(4).

دُوِّن هذا الكتاب باللغة اليونانيَّة وتُرجم إلى اللاتينيَّة مرّات عديدة وإلى الأرمنيَّة والجيورجيَّة... نقله إلى العربيَّة اسحاق بن حنين(5) ونسبه إلى غريغوار النيصيّ (335-394) الذي كان معاصرًا لنميسيوس. ولكنَّ بعض المخطوطات اليونانيَّة تنسبه إلى أدامنتيوس الحمصيّ(6).

هذا كلُّ ما نعرفه عن نميسيوس الحمصيّ. ولكن ما يهمُّنا بعد الشخص هو الأثر المهمّ الذي تركه لنا.

ب- كتاب طبيعة الإنسان

يتألَّف كتاب طبيعة الإنسان من أربعة وأربعين فصلاً مقسَّمة على الشكل التالي. بعد المقدِّمة عن طبيعة الإنسان من نفس وجسد (ف 1)، يدرس الكاتب النفس واتِّحادها بالجسد (ف 2-3)، ثمّ الجسد والعناصر والمخيِّلة والحواسّ الخمس، ثمَّ العقل والذاكرة والفكر (4-14). بعد ذلك يعرض وجهة أخرى عن النفس (ف 15) بما فيها من ميول وأهواء، من لذَّة وألم وخوف وغضب (ف 16-22)، وهي حقول لا يمارس فيها العقلُ سلطتَه، ولذلك تسمَّى الجزء اللاعقليّ. ثمَّ يأتي الجزء الخاصّ بالتغذية الذي يرتبط بحياة الحيّ، ويتعلَّق بالإرادة والتنفُّس والأعمال الإراديَّة واللاإراديَّة (ف 23-34)؛ أمّا الفصول التالية (ف 35-38) فهي تحارب الجبريَّة أو مذهب القضاء والقدر. وينتهي الكتاب بدفاع عن حرِّيَّة الإرادة (ف 39-41) وعن عرض للتعليم المسيحيّ عن عناية الله واهتمامه بالكون والإنسان (42-44).

هذه اللائحة المتنوِّعة تدلُّ على أنَّ نميسيوس لم يُتَح له أن يُنهي كتابه فنقصته وحدةُ الموضوع وغاب المنطقُ في التنظيم. ووعدنا الكاتب المرَّة بعد المرَّة أنَّه سيعود إلى هذه النقطة أو تلك ليشبعها درسًا، ولكنَّه لا يعود. أيكون أنَّ الموت عاجله قبل أن يعيد النظر في ما ألَّفه من كتابه؟

يبدو نميسيوس من خلال كتابه رجلاً صاحب ثقافة يونانيَّة منفتحة، ملمٌّا بالفلسفة والعلوم الطبِّيَّة، وعارفًا بالسيكولوجيا والفيزيولوجيا. يقرأ كتابَه عالمُ الفقه واللغة ودارس تاريخ الفلسفة، فيجد كلٌّ منهما الكثير من المعلومات. أراد نميسيوس أن يكون كتابه دفاعًا عن الدين المسيحيّ، ولكنَّه لم يكن لاهوتيٌّا بقدر ما كان فلسفيٌّا، وهذا ما يجعلنا نغوص فيه لندرسه من الزاوية الفلسفيَّة. أراد أن يَبني على أسُس أفلاطونيَّة تعليمًا عن النفس وعن اتِّحادها بالجسد، يتوافق ومصادر الوحي، فانطلق لا من الإيمان بحدِّ ذاته، بل سعى إلى الاتِّصال بالفكر غير المسيحيّ وإلى عرض آراء الفلاسفة القدامى. وبعد هذا العرض، شرع يغربل النظريّات المتعدِّدة قبل أن يختار منها ما يلائم نظرته على ضوء العقيدة المسيحيَّة. ناقش أفلاطون وأرسطو وإبيقور والرواقيّين، وجادل جالينوس وإئيتيوس وأمونيوس وبورفير ويامبليك وكثيرين غيرهم. اتَّفق وأفلاطون على وجود سابق للأنفس، ولكنَّه رفض الأخذ بالنظرة الثلاثيَّة التي قالت بها الأفلاطونيَّة الجديدة. سار وراء أرسطو في تعليمه عن ملكات النفس، وأخذ عنه مقاله عن حرِّيَّة الإرادة والاختيار. عرف أن يكتسب المعلومات حيث وجدها، فجاء كتابه لائحة بالآراء المتنوِّعة قبل أن يكون نظامًا فلسفيٌّا متماسكًا متناسقًا(7).

ولكي نتعرَّف إلى الوجه الفلسفيّ الذي يتحلَّى به هذا الكتاب، يكفي أن نقابله بكتاب غريغوار النيصيّ في خلق الإنسان(8). فعَرْضُ غريغوار يرتبط، بصورة دقيقة، بخبر سفر التكوين عن خلق الإنسان. يستوحي النصَّ الموحى به فيبيِّن كرامة الإنسان وعظمته مشدِّدًا على طبيعة النفس الروحيَّة وبنية الجسد المنظَّمة. في هذا الإطار، يتطرَّق غريغوار إلى مسألة اللغات والألسنة، إلى العلاقات الزوجيَّة، إلى طبيعة النفس اللامادِّيَّة والخالدة، إلى الوجود السابق للنفس وإلى قضيَّة التقمُّص. يعلِّمنا الكتاب المقدَّس أنَّ الإنسان خُلق على صورة الله ومثاله. من هذا المعطى ينطلق غريغوار، فيتحدَّث إلى المؤمنين، ويبيِّن لهم أنَّ كلمات الكتاب الملهم تجد برهانًا لها على كلِّ الأصعدة وفي كلِّ مجالات الفكر الحاضر.

أمّا موقف نميسيوس فيختلف عن موقف غريغوار. هو لا يوجِّه حديثه إلى المؤمنين بل إلى غير المؤمنين. ولهذا نراه يرجع مرارًا إلى فلسفة اليونان وعلومها ليحدِّثنا عن مكانة الإنسان في الكون، عن طبيعة الأنفس واتِّحادها بالجسد، عن حرِّيَّة الإرادة، عن القدر والعناية، وعن تنظيم الجسد، فيورد الكثير من المعلومات الثمينة المأخوذة من كتب اليونان، لا من الكتاب المقدَّس. ونراه يتبسَّط في عرض كلِّ ما يعرفه، وهمُّه أن يثبِّت لقرّائه أنَّه هو أيضًا تشرَّب من الثقافة اليونانيَّة وأنَّه لا يجد تناقضًا بين إيمانه المسيحيّ والثقافة التي حصَّلها على مقاعد الدراسة. وهو إن وقف بوجه التيّارات المادِّيَّة، وإن عارض مسألة الجبريَّة كما وجدها عند هذا أو ذاك من مفكِّري اليونان، فهو إنَّما يفعل ذلك بعد أن يكون درس بنفسه الكتاب وتمعَّن في التعاليم التي يفنِّدها ويخطِّئها9.

وهكذا يبدو كتاب نميسيوس لا تفسيرًا لسفر التكوين، بل عرضًا منسَّقًا يتطرَّق فيه المؤلِّف من الوجهة الفلسفيَّة إلى المسائل الكبرى المتعلِّقة بطبيعة الإنسان. غير أنَّه لا يسير كلِّيٌّا على خطى أرسطو الذي يجعل من نظريَّة المعرفة مقدِّمة لعرضه عن طبيعة النفس التي تتجلّى بصورة خاصَّة من خلال البحث في أشكال المعرفة المتنوِّعة(10)، بل هو ينطلق من بحث في الحرِّيَّة. لا شكَّ في أنَّ درس نشاط الإنسان العارف شغل بال نميسيوس، ولكنَّ قضيَّة حرِّيَّة الإرادة كانت قضيَّة حادَّة حامية بعد أن تفشَّت التعاليم عن القضاء والقدر بطريقة واسعة في صفوف المسيحيّين والوثنيّين على حدّ سواء(11)، لذلك أخذ على عاتقه أن يبسِّط فكرته في هذا المجال فيشدِّد على القدر والعناية ويلقي تعليمه في الحرِّيَّة.

ج- الأنتروبولوجيّا أو علم الإنسان عند نميسيوس

إنَّ كتاب نميسيوس يسجِّل ولادة الأنتروبولوجيّا المسيحيَّة. هذه الملاحظة التي أبداها أحد دارسي طبيعة الإنسان(12) استنتجها بعد أن بيَّن التقاء الفكر الهلّينيّ بالفكر المسيحيّ. فالفكر الهلّينيّ ابتعد بعض الشيء عن التيّار الأفلاطونيّ الذي كان يعتبر الجسد مقبرة للنفس وعنصر الفساد في الإنسان، وتوجَّه إلى الكلام على عظمة الإنسان نفسًا وجسمًا. والفكر المسيحيّ الذي تأثَّر بعض الشيء بالتيّارات النسكيَّة والصوفيَّة التي تعتبر إذلال الجسد مزيَّة وفضيلة، عاد مع بعض فكر أوريجان ومؤلَّفات باسيل الكبير وغريغوار النيصيّ إلى ينابيع الكتاب المقدَّس، ليتعلَّم الكثير عن عظمة الإنسان المخلوق على صورة الله والمدعوّ للحياة والسعادة والتفتُّح على الكون.

إذًا، كانت محاولات لبناء رؤية مسيحيَّة عن الإنسان، ولكنَّ نميسيوس سيمتدُّ بهذه المحاولة فيبيِّن أنَّه من الممكن أن ندمج الفلسفة اليونانيَّة بالأنتروبولوجيا المسيحيَّة. في وقت انتشرت المسيحيَّة في صفوف المثقَّفين، عرض نميسيوس تعليمًا مسيحيٌّا صريحًا عن حقيقة الإنسان، وعبَّر عن هذا التعليم عبر مقولات استمدَّها من الفكر اليونانيّ. وهكذا جاء كتاب طبيعة الإنسان، فعقلن العقيدة المسيحيَّة للمسيحيّين وقدَّمها بطريقة يقبل بها المثقَّفون الوثنيّون. قال: لا يتوجَّه كلامي فقط إلى المؤمنين، بل وأيضًا إلى الوثنيّين لأدلَّهم على وجود العناية(13).

إنَّ جوهر الكتاب لا يكمن في المعطيات الطبِّيَّة العديدة أو في مقاطع الجدل اللاهوتيَّة، بل في مضمونه الفلسفيّ المستمدّ من الفكر اليونانيّ. وهو في الحقيقة مقالة مختصرة في الأنتروبولوجيّا(14) تتطرَّق إلى طبيعة الإنسان ومكانته في الكون.

الكتاب نشيد لعظمة الإنسان. قال نميسيوس: »ولكن لكي لا يظهر لأحد أنَّنا نكتب مديحًا عن الإنسان، فضلاً عن تبيان طبيعته كما قصدناه، نوقف مقالتنا عن الإنسان(15). إنَّ الإنسان خلقَته العنايةُ الإلهيَّة كوحدة متشعِّبة تتضمَّن مكوِّنات الواقع المادّيّ واللامادّيّ ليكون في طبيعته صورة حيَّة عن الكون، ليكون كونًا مصغَّرًا في الكون الكبير(16). والإنسان يقف بجسمه في قمَّة عالم الأجساد، ويرتبط بنفسه بالكائنات اللاجسديَّة العاقلة. إنَّه كائن موقعه على الحدِّ الفاصل بين عالم الحسّ وعالم العقل، وفيه يلتقي هذان العالمان ويتَّحدان(17). إذًا، وجود الإنسان في الكون ليس وجودًا جاء بالعرض أو بالصدفة من دون رؤية أو قصد. إنَّه وجود جوهريّ جُعل ليساعد على التواصل بين العالم الجسديّ والعالم اللاجسديّ فيوحِّد بينهما داخل الخليقة. عندما نتأمَّل واقع الإنسان، أنكون بالغنا في الحديث عن مكانته في الكون؟ فالإنسان يجمع في شخصه الخلائق المائتة والخلائق الخالدة ويؤلِّف نقطة الاتِّصال بين الكائنات العاقلة والكائنات اللاعاقلة«(18).

في هذا الجوّ يتطرَّق نميسيوس إلى مواضيع عديدة يبحث فيها ويتوقَّف على ثلاث نقاط رئيسيَّة هي: الطابع الروحيّ للنفس البشريَّة واتّحادها بالجسد. بنية الجسم البشريّ ونشاطاته المتعدِّدة. مسألة حرِّيَّة الإنسان وعلاقتها بالقدَر والعناية. أمّا نحن فنحصر حديثنا بموضوع الحرِّيَّة كما نجده خاصَّة في القسم الأخير من كتاب طبيعة الإنسان.

د- بين الحرِّيَّة والعناية

خصَّص نميسيوس ما يقارب ثلث الكتاب للبحث في حرِّيَّة الإنسان، ونظر خاصَّة إلى مسألة الجبريَّة والعناية الإلهيَّة. فالجبريَّة هي تسلسل الأمور بطريقة إلزاميَّة بالنسبة إلينا كما يرتِّبها القضاء والقدر فلا يكون لنا أيُّ سلطة عليها. أمّا العناية فهي تلك الحكمة السامية التي بها يسوس الله كلَّ شيء ويدبِّره ويتولّى أمره.

قبل أن يعارض تعاليم الجبريَّة المنتشرة في عصره داخل العالم الهلّينيّ، يميِّز نميسيوس فيها خمسة تيّارات مبنيَّة على الأسترولوجيَّة، أو فنّ التنجيم، وعلى فلسفة الرواقيّين وعلى تعاليم الأفلاطونيَّة. هناك جبريَّة جذريَّة تعتبر أنَّ كلَّ ما يحدث في الكون يحدَّد بالضرورة بتحرُّكات الأجرام السماويَّة(19). وهناك جبريَّة مخفَّفة ملطَّفة ترتبط ببعض الفلاسفة الرواقيّين الذين يعتبرون أنَّ الجبريَّة لا تتعارض وحرِّيَّة الإنسان: »كما أنَّ ميزة المياه أن تكون باردة والشجرة أن تعطي ثمرًا، كذلك سمة الكائن الحيّ العاقل تقوم بالتوافق مع الأمور التي يدركها«(20). وهناك تعليم يُنسَب إلى حكماء مصر الذين يقولون بأنَّه وإن كان ما يحدث في الكون يرتبط بتحرُّكات الأجرام، إلاَّ أنَّ ما يحدث يمكنه أن يتبدَّل بفضل الصلوات والذبائح التي نرفعها إلى الكواكب وإلى الآلهة لتأخذ بيدنا في الظروف الصعبة(21). وهناك نظريَّة رابعة يقول بها أحكم حكماء اليونان، أي الرواقيّون: لنا اختيار مبادرتنا الحرَّة، أمّا نتيجة النشاط البشريّ فبيد القدر(22). وهناك أخيرًا نظريَّة أفلاطون التي أثَّرت في تطوُّر اللاهوت المسيحيّ والتي أعطت كلمة القدر مضمونين متمايزين: فالقدر هو نفس العالم، بما أنَّه جوهر. وبما أنَّ نشاطه يرتبط بشريعة إلهيَّة غير متبدِّلة تنبع من علَّة لا نستطيع تجنُّبها. وهذه الشريعة أعطاها الله لنفس العالم لتخلق الكون وتسوسه. إنَّ القدر يدبِّر كلَّ شيء ولكنَّه يدخل في إطار العناية كجزء لا يتجزَّأ منها(23).

رفض نميسيوس النظرة الأولى لأنَّها تَنبذ العناية الإلهيَّة وكلَّ شكل من أشكال الدين وتنفي كلَّ حرِّيَّة. وقال في الثانية: إذا كانت هذه الأمور أُثبتت منذ الأزل فكيف يمكنها أن تحدث، وإذا كان نشاطنا تابعًا لعلل لا يمكن تجنُّبها، فما الذي يبقى في مقدورنا أن نفعل(24)؟ ويجيب إلى الثالثة بأنَّه إن كان في مقدور الناس أن يبدِّلوا مجرى الأحداث التي يسوسها القدر، ففي مقدورهم أيضًا أن يبدِّلوا رأسًا على عقب مجرى التاريخ. ونظريَّة الرواقيّين الحكيمة تنتهي إلى الحتميَّة المطلقة فلا يبقى مكان للحرِّيَّة. وينتقد نميسيوس نظرة أفلاطون من وجهة واحدة: أنَّ نتيجة القرارات التي نتَّخذها لا يمكنها أن تكون من عالم الضرورة، وإذا كانت نتيجة نشاطنا خاضعة لعناية الله ويمكنها إلاَّ أن تكون عرضيَّة، لا ضروريَّة.

إنَّ تعليم نميسيوس عن الجبريَّة يبدو بمجمله إسهامًا في التفسير المسيحيّ لمفهوم الحرِّيَّة، بمعنى أنَّه يشدِّد على استقلاليَّة السلوك البشريّ، وعلى حرِّيَّة الله الذي لا يمكن أن يكون خاضعًا لأيِّ نوع من الإكراه، لأنَّه الحرِّيَّة بالذات. بمثل هذا التعليم يعارض نميسيوس الأسترولوجيا وكلَّ نظريّات الجبريَّة في العالم الهلّينيّ.

وهكذا نصل إلى تعليمه عن العناية الإلهيَّة، وعملُها يشمل كلَّ الأحداث التي لا تتعلَّق بنا. بالنسبة إلى اليهوديّ أو إلى المسيحيّ، لا حاجة إلى البرهان على العناية الإلهيَّة، والاعتقادُ بها جزء من الإيمان. أمّا بالنسبة إلى الوثنيّ، فلا بدَّ من لفت انتباهه إلى ثبات الكون في الوجود، إلى النظام والتناسق في الكون، وبالأخصّ حركات الكواكب وتعاقب الليل والنهار(25).

في حديثه عن العناية يتساءل نميسيوس إن كانت العناية تهتمُّ بتدبير العالم بطريقة عامَّة، أم إنَّها تتدخَّل في حياة كلِّ فرد، فيورد رأي أفلاطون وأرسطو والرواقيّين. ثمَّ يطرح مشكلة الشرّ في العالم: إذا كانت العناية الإلهيَّة تسوس كلَّ إنسان بمفرده، فمن أين يأتي الظلم في العالم، ولماذا يكون الأبرار ضحيَّة الأشرار؟ لن نتوسَّع في هذا الموضوع وهو يخرج عن نطاق حديثنا، بل نكتفي بإعلان النتيجة التي توصَّل إليها نميسيوس: لا نحكم على الأمور بحسب ظواهرها الخارجيَّة، ولنتيقَّن أنَّ كلَّ ما يصدر عن العناية الإلهيَّة هو كمالٌ جديرٌ بالدهشة والإعجاب، وأمّا الشرّ الحقيقيّ الموجود في العالم فهو الأعمال السيِّئة التي تنتج عن قرارات يتَّخذها الإنسان بحرِّيَّته.

وهكذا يعلن نميسيوس تواجد حرِّيَّة الله وحرِّيَّة الإنسان إلى درجة تجعل حرِّيَّة الله تقف عند حرِّيَّة الإنسان(26).

2- مفهوم الحرِّيَّة عند نميسيوس الحمصيّ

دُفعنا إلى الحديث مطوَّلاً عن نميسيوس وعن كتابه، واضطررنا إلى عرض فكرته عن الإنسان وموقع الحرِّيَّة بين الجبريَّة والعناية، وهمُّنا بذلك أن نعرِّف بكاتب وكتاب لست أدري بوجود مرجع عربيّ عنهما. والآن نستطيع أن نبحث في موضوع حرِّيَّة الإنسان كما يفهمُهُ هذا الكاتب المشرقيّ الذي كان لكتابه الأثر الكبير، وهو الذي كان، كما قلنا، أوَّل من وضع الأسس الحقيقيَّة للأنتروبولوجيا المسيحيَّة.

تقف الحرِّيَّة بين الجبريَّة الآتية من الأفلاك وبين العناية الآتية من الله، وهي مستقلَّة القرار عن هذا التأثير أو ذاك. أجل، سيجعل نميسيوس من حرِّيَّة الإنسان كيانًا مطلقًا فيرفع الإنسان إلى مستوى الألوهة. وهذا ما نجده عند فيلسوف حديث هو جان بول سارتر الذي يعتبر وجدان الإنسان خارج حتميَّة الزمان والمكان ويجعل الشخص حرٌّا بحرِّيَّة لا مفرَّ منها. وما يقوله سارتر عن حرِّيَّة الإنسان هو نفسه ما يقوله ديكارت عن حرِّيَّة الله27.

إنَّ البحث في الحرِّيَّة كما نقرأه في كتاب طبيعة الانسان هو أهمّ ما ترك لنا الفكر القديم. فنميسيوس يعرض أوَّلاً الأفعال الإراديَّة والأفعال اللاإراديَّة (ف 28-31)، ثمَّ مفهوم الاختيار الذي ينتج عن مزج عناصر ثلاثة هي المداولة والحكم والرغبة (ف 32)، ويتكلَّم على الإنسان كمبدأ حقيقيّ لبعض أفعاله (ف 38) ويبيِّن حقل مبادرتنا الحرَّة (الفعل الأخلاقيّ والتقنيّ، النشاط العقليّ والسيكولوجيّ، ف 39)، وينتهي بالحديث عن حرِّيَّة الإرادة (ف 40) التي هي حقٌّا أصل حرِّيَّة الإنسان.

أ- الفعل الإراديّ والفعل اللاإراديّ

بدأ نميسيوس درسه للحرِّيَّة ببحث عن الأفعال الإراديَّة والأفعال اللاإراديَّة. فالأولى تنبع حقٌّا من الإنسان نفسه، وفيها يكون الإنسان مبدأ فعله، فلا يحدُّ من حرِّيَّته إكراهٌ خارجيّ أو داخليّ، ويكون واعيًا للظروف الخاصَّة التي تحيط بعمله. والثانية تصدر عن كائن يقع تحت تأثير الإكراه أو الجهل. ثمَّ يتساءل: هل نحسب نشاط الطبيعة (كتطوُّر الهضم والنموّ مثلاً) بين الأفعال الإراديَّة أو اللاإراديَّة؟ والجواب: ليس فعلاً إراديٌّا ولا إراديٌّا، لأنَّ النشاط الطبيعيّ (الفيزيولوجيّ) لا يرتبط بمقولة الأشياء التي ترجع إلى مبادرتنا الخاصَّة28. أمّا الذي نقوم به مدفوعين برغباتنا (من غضب أو تمتُّع) فيمكن أن نعتبره فعلاً إراديٌّا، لأنَّه يمكن أن يكون أهلاً للذمّ أو المديح، ولأنَّ إتمامه ترافقه اللذَّة والألم، ولأنَّ ينبوعه يكمن في الفاعل. فرغبات الإنسان لا تجتذبه بالضرورة إلى ما لا يريد، وكلّ فرد يستوحي سلوكه من التربية الأخلاقيَّة التي حصل عليها.

ويطرح نميسيوس سؤالاً ثانيًا: هل بإمكان كلٍّ من الحيوان والولد أن يقوم بأعمال إراديَّة؟ ويجيب بالإيجاب. الحيوان كالولد يسعى إلى تغذية ذاته دون أيِّ إكراه خارجيّ، عارفًا ما يفعل ومحقِّقًا نشاطه بلذَّة أو ألم بحسب الظروف29.

نلاحظ أوَّلاً أن نميسيوس أراد أن يبيِّن أنَّه لا يمكن أن ننكر مسؤوليَّتنا الأدبيَّة في بعض الأعمال، فخصَّص أربعة فصول (28-31) لدرس سيكولوجيَّة العمل الذي يدلُّ على أنَّ الفعل المتعمِّد ليس المثل الوحيد عن الفعل الإراديّ في حياة الإنسان. يقول: إنَّ هذه الدراسة معقَّدة جدٌّا بسبب امتزاج ظروف حياتنا بما هو إراديّ في سلوكنا. وكشخص يدافع عن قضيَّة، يبدأ نميسيوس بحثه الأخلاقيّ من مستوى العلم والفلسفة، لا من مستوى الكتاب المقدَّس، كما أسلفنا، ويتقدَّم خطوة خطوة إلى النتيجة التي تقول بها العقيدة المسيحيَّة.

ونلاحظ ثانيًا أنَّه رجع إلى كتاب أرسطو في الأخلاق30 الذي يعلِّم أنَّ الفضيلة تقوم بالاعتدال المعقول، الذي يعلِّمنا أن نتجنَّب الزيادة من جهة والنقص من جهة ثانية. إنَّ الفضيلة تقف بين نقيضين. أن يكون الإنسان خاليًا من أيِّ هوى طبيعيّ فذلك عيب، لا فضيلة، وكذلك إن هو ترك العنان كاملاً لمثل هذا الهوى. هذا التحديد قِبَل به نميسيوس لأنَّه يفترض الإقرار بأنَّه يقوم داخل مراقبة الإنسان لنفسه بقدر ما يستسلم لهواه. إنَّ هذا التعليم كان معروفًا في عصر نميسيوس إلى درجة جعلته يورده من دون أيِّة تهيئة أو تحضير.

ونلاحظ ثالثًا أهمِّيَّة الأهواء في الأفعال. يبدو نميسيوس ملتصقًا بعلم الأخلاق الأرسطيّ، وتبعًا لهذا العلم فكلُّ عمل فضيلةٍ يفترض وجود هوى نمارسه بدرجة معتدلة. يمكننا أن نقول إنَّه يفترض توازن الآهواء. إنَّ آباء مدرسة الإسكندريَّة، مثل كليمان وأوريجان، توخُّوا التقدُّم عبر الاعتدال المعقول إلى عدم التأثُّر أو إلى نفي الهوى. بحسب هؤلاء الآباء، تكون الفضيلة المسيحيَّة السامية ثمرة هوى واحد هو الرغبة بالله. هذا التعليم دفع بقضيَّة التصوُّف إلى الأمام. يبدو واضحًا أنَّ نميسيوس أخذ بعين الاعتبار التصوُّف المسيحيّ، إلاَّ أنَّه سار في خطِّه فانطلق من أخلاقيَّة أرسطو ومن تعليمه عن الوسط الذي يقف بين نقيضين، فشدَّد على عظمة الإنسان وعلى أهمِّيَّة الزهد والنسك كسبيل لضبط الأهواء.

ويُنهي هذا الفصل فيقول: »لا أحد يدعو فعلاً لاإراديٌّا ذلك الذي نفعله بعد تبصُّر واختيار واعٍ حرّ، حيث الباعث والهدف يأتيان من داخلنا وحيث نلمُّ بمعرفة الظروف إلمامًا كاملاً. وهكذا برهنّا أنَّ الأفعال التي تصدر من داخل ذاتنا هي أفعال إراديَّة. ولكن بما أنَّنا ألمحنا إلى الاختيار الحرّ وإلى الأمور التي تقع داخل سلطانه، علينا الآن أن نبحث عن طبيعة الاختيار الحرّ(31)«.

ب- فعل الاختيار

ويتساءل نميسيوس: أيُّ علاقة بين الاختيار والفعل الإراديّ، وهل من تماثل بينهما؟ بالنسبة إليه يبدو أنَّ الإراديّ هو أوسع من الاختياريّ، لأنَّ الفعل الإراديّ ليس تخيُّرًا من كلِّ الحالات، وإن يكن كلّ تخيُّر فعلاً إراديٌّا في كلِّ الحالات32. ولكي يحدِّد نميسيوس التخيُّر بدقَّة ووضوح، يقابله بغيره من أنواع النشاط البشريّ. فالتخيُّر هو غير الرُّغب (بضمّ الراء)، وهو غير التمنّي. فالتخيُّر يرتبط بأمور تتعلَّق بنا، أمّا التخلّي فيمكنه أن يستند إلى أشياء مستحيلة33. بالإضافة إلى ذلك، فالتمنّي يتَّجه إلى غاية من الغايات، بينما يستهدف التخيُّر الوسائل التي تُوصل الإنسان إلى الهدف المنشود. والاختيار هو غير الرأي. فالرأي يمكنه أن يستند إلى أمور أزليَّة، يمكنه أن يكون صوابًا أو خطأ، ويعتمد على الشمول، وكلُّ هذه الصفات لا تنطبق على الاختيار. وأخيرًا يتميَّز الاختيار عن التداول لأنَّه نتيجة التداول. إنَّ الاختيار برأي نميسيوس ينتج عن مزج ثلاثة عناصر: التداول والحكم والرغبة(34).

أجل، إنَّ فعل الاختيار الحرّ هو أمر متشعِّب جدٌّا، وهو ما يبيِّنه نميسيوس في هذا الفصل، على خطى المعلِّم أرسطو، فيبدو كلامه درسًا في علم اللغة أكثر منه في علم النفس. إنَّ التوسُّع في سيكولوجيَّة التداول انطلاقًا من الاستعمال اللغويّ للكلمات، هو أحد الاهتمامات المنطقيَّة النموذجيَّة في القرن الرابع، ويمكن لنميسيوس أن يكون أخذ بهذه الطريقة في خطى أحد معاصريه في تفسيره لكتاب الأخلاق(35).

ج- الإنسان مبدأ أفعاله

يخصِّص نميسيوس فصلاً كاملاً يتساءل فيه إن كانت أفعال الإنسان من مبادرته الشخصيَّة بحيث يُعتَبر مبدأَ هذه الأفعال ومصدرها. إنَّ الكثير من الوثنيّين والمسيحيّين يجيبون على هذا التساؤل بالإيجاب، ويعطي براهينه على ذلك عارضًا الافتراضات المتعدِّدة مستبعدًا الافتراض بعد الآخر.

أوَّلاً: لا نستطيع أن ندعو الله علَّة أعمالنا، لأنَّ بعضًا منها سيّئ وجائر. ثانيًا: إنَّ أعمالنا لا ترتبط بالله بالضرورة، لأنَّها ليست دومًا هي هي من دون أن تتغيَّر. ثالثًا: لا نستطيع أن ننسب أعمالنا إلى القدر، لأنَّ القدر لا يقبل باحتمالات عديدة، بل باحتمال واحد لا مفرَّ منه. رابعًا: إنَّ أفعالنا ليست من عمل الطبيعة لأنَّ ميدان الطبيعة هو عالم النبات والحيوان. خامسًا: لا نستطيع أن ننسبها إلى الطالع، لأنَّ الطالع يختصُّ بأحداث خارقة وغير منتظرة، ولا إلى الصدفة، لأنَّ لا وجود للصدفة إلاَّ في عالم الحيوان وعند الكائنات الجامدة36. وبعد أن يستبعد هذه الافتراضات، يستنتج أنَّ الإنسان هو مبدأ وسيِّد أفعاله.

فلو لم يكن مبدأ أفعاله ومصدرها، فكلُّ تداول لا موضوع له، وكلّ حياة أخلاقيَّة لا تعود ممكنة. والحال إنَّ الإنسان هو مصدر الفضائل التي فيه والتي يحصل عليها بالممارسة وتكرار الأعمال عينها. بالإضافة إلى ذلك، أيَّة قيمة لتنبيه أو تحذير، لتشجيع أو تشريع إن لم يكن الإنسان سيِّد أعماله؟ فإن نحن قلنا إنَّ لا قدرة للإنسان على أعماله لم يكن كلامنا مقبولاً وعارضنا معرفة الإنسان لنشاطه(37).

»فكلُّ نصيحة وموعظة تدلُّ على أنَّ هناك أمورًا تقع داخل سلطاننا، لأنَّه لا أحد على الأرض ينصح شخصًا أن لا يكون جائعًا أو عطشان، أو أن لا يأخذ أجنحة ليطير بها، لأنَّه ليس في مقدورنا أن نستفيد من هذه النصيحة. إذًا، من الواضح أنَّ الأمور التي نقبل النصح بأن نعملها هي أمور تقع داخل سلطاننا. وننهي باعتبار أخير فنقول: أيَّة فائدة من الشرائع إن لم يكن لنا شيء ضمن نطاق سلطاننا«(38).

في هذا الفصل وفي الفصول الثلاثة اللاحقة يتطرَّق نميسيوس إلى التعليم عن حرِّيَّة الإرادة، فيبدأ بقوله إنَّ الحرِّيَّة ليست وهمًا ومظهرًا خدَّاعًا. لا شكَّ في أنَّ مصدر تعليمه الأخير هو أخلاقيّات أرسطو. هو يتوصَّل إلى اكتشاف الظروف السيكولوجيَّة التي تحدُّ من ممارسة الحرِّيَّة كالأفكار المسبقة والنظرة الضيِّقة وما إلى ذلك. ولكنَّه يقف قريبًا من تيودور المصيصيّ، فيستعمل كلمة »سيادة على النفس«(39) لا حرِّيَّة الإرادة، على مثال أرسطو. وهذا ما يحدونا إلى القول إنَّ الينبوع الذي استقى منه نميسيوس ليس أرسطو بالذات، بل شرح متأخِّر لأخلاقيّات أرسطو كتبه اسكندر الأفروديسيّ الذي ذكرناه سابقًا أو أحد السريان من أصل مسيحيّ.

ولكن أيُّ أفعال تدخل في نطاق مبادرتنا الحرَّة؟ الأفعال الإراديَّة، أي تلك التي نقوم بها طوعًا ورضى، وبالأخصّ الأفعال التي ترتبط بعالم النفس. فعالم الفرد الداخليّ هو المكان المميَّز لمبادرتنا الحرَّة، وهو ما يعتبره الرواقيّون الموضوع الوحيد الذي بقي للإنسان ليمارس فيه حرِّيَّته. إن كان نميسيوس لم يذهب إلى ما ذهب إليه الرواقيّون، إلاَّ أنَّه بالنسبة إليه، كلُّ فعل يكون نتيجة تداول سابق واختيار يرتبط بمبادرتنا. وهذا الاختيار يقوم به الروح الذي هو مبدأ سلوكنا البشريّ ومصدره.

ولكن ما معنى هذا الكلام في حياة الإنسان الملموسة؟ لأنَّ كلَّ أفعالنا الأخلاقيَّة وعملنا التقنيّ ونشاطنا النفسانيّ والعقليّ تتعلَّق بإطار مبادرتنا40. ولكنْ هناك صعوبتان تعترضان ما قاله نميسيوس: علاقة نشاطنا البشريّ بالعناية الإلهيَّة وتأثير حالتنا كجسديّين على سلوكنا. لا شكَّ في أنَّ العلاقة واضحة بين المبادرات البشريَّة وتدبير الله للكون. ويُطرَح السؤال: هل تستطيع العناية الإلهيَّة أن تقف حاجزًا بيننا وبين ممارسة حرِّيَّة اختيارنا؟ لا شكَّ في ذلك، والحرِّيَّة البشريَّة ليست حرِّيَّة لا محدودة، وهي تمتزج بعمل الله وتولِّيه أمر الكون(41). ويجيب نميسيوس على الصعوبة الثانية فيقول: إنَّ الإنسان هو وحدة النفس والجسد، وإنَّ أسمى نشاطنا لا يمكنه أن يتهرَّب من تأثير حالتنا كجسديّين. نحن لا نستطيع أن ننسب أعمالنا السيِّئة إلى تكوين الجسد الناقص المتخلِّف عن النفس، فنجعل كلَّ أنواع المسؤوليَّة في عالم الضرورة ونبرّئ ذاتنا من كلِّ خطأ. لا، إنَّ الجسد لا يحتِّم علينا هذا السلوك أو ذاك، وفي بعض الحالات تكون حالة الجسد الناقصة من مسؤوليَّة الشخص الذي نتحدَّث عنه.

وهكذا انطلاقًا من العلاقة المتبادلة بين حرِّيَّة إرادة الإنسان والعناية الإلهيَّة، نظر نميسيوس إلى طبيعة الحرِّيَّة في المبادرة البشريَّة وامتدادها في الكون. يبقى علينا القول: لماذا أُعطي الإنسان حرِّيَّة الإرادة؟

د - حرِّيَّة الإرادة

إنَّ أصل حرِّيَّة الإرادة ومصدرها يكمنان في حرِّيَّة الإنسان. إذًا، لا بدَّ من الكشف عن هذه الحرِّيَّة. إنَّ الإنسان وُهب له العقل، فهو لذلك قادر على أن يختار اختيارًا حرٌّا، لأنَّ الكائن العاقل قادر على تداول الأمور. إنَّ الظروف التي تحيط بالإنسان لا تفرض عليه حتميَّتها، وهو يمتلك القدرة على النظر من بُعد وتفحُّص عناصر حالة من الحالات. وسلطة التداول هذه هي عديمة الفائدة إن لم يكن الإنسان قادرًا على العمل بحسب حدسه الخاصّ واختياره. لا شكَّ في أنَّ المعرفة التي يتحدَّث عنها ليست معرفة نظريَّة أو بحثًا علميٌّا، بل هي حدس عمليّ وحسٌّ داخليّ، تبيِّن لنا كيف نتصرَّف في حالة من الحالات. فالحياة البشريَّة صيرورة دائمة، وهي لا تثبت أبدًا في حالة أُعطيت لها بطريقة لا تختلف عن سابقتها. إنَّ الحياة البشريَّة هي اندماج بتطوُّر الكون، وهي جزء منه. وهذا الميل إلى التحرُّك عند الإنسان ينبع من سمات كيانه الأساسيَّة، ومنها أنَّ حياته تبدأ في وقت محدَّد، وإنَّ بنيته تفترض وجود مبدأ مادّيّ(42).

إنَّنا نفهم مثل هذا التفسير على ضوء الفلسفة الأرسطيَّة. وأعطى اسكندر الأفروديسيّ، وهو أحد شرّاح أرسطو، في كتابه عن القدر، براهين تشبه إلى حدٍّ بعيد براهين نميسيوس(43). فإن كانت علامة الوجود البشريّ أنَّ له بداية، فهذا يعني أنَّه عرضيّ في صميمه، وأنَّه يحمل في ذاته إمكانيَّة عدم الوجود، لأنَّه لم يكن موجودًا في وقت من الأوقات. والحديث عن ولادة الإنسان يقودنا إلى الحديث عن إمكانيَّة فساده، وحياة الإنسان هي تدرُّج في مسيرة الولادة والفساد. من جهة ثانية، كلُّ مبدأ مادّيّ هو مبدأ مبهَم وغير محدَّد، وهو ينفتح على ما يحدِّده فيما بعد، وهذا المبدأ حاضر دومًا لا في بداية الوجود البشريّ فحسب، بل وفي كلِّ مسيرته اللاحقة.

عندما نتطلَّع إلى قابليَّة التحوُّل، علينا بالنسبة إلى نميسيوس، أن نميِّز فيها درجات عديدة. فالكائنات الروحيَّة العائشة قريبًا من الأرض والمشاركة للإنسان في نشاطه، تندمج في الصيرورة أكثر من الكائنات الروحيَّة السامية التي هي أبعد من الأولى عن تقلُّب الكون وعدم ثباته(44). ونتيجة ذلك هو أنَّ الحرِّيَّة مطبوعة بطابع قابليَّة التحوُّل ذاته، أي إنَّها تتطوَّر في هذه الوجهة أو في تلك. ولهذا نقول إن ليس الله علَّة الأعمال السيِّئة التي يتمِّمها الإنسان، وكلُّ إنسان مسؤول عن تصرُّفاته وسلوكه. في هذه الحال يتساءل نميسيوس: أما تكون الحرِّيَّة البشريَّة شرٌّا؟ لا ثمَّ لا. وإنْ كان سلوك الإنسان شرّيرًا، فذلك يرجع إلى إمكانيَّة الاختيار عنده، بل لأنَّ ملكاته التي حصل عليها عبر أعمال قبل بها حرٌّا، هي شرّيرة. لا، ليست الحرِّيَّة بحدِّ ذاتها شرٌّا، لأنَّ بعض الناس يستعملون إمكانيَّة الاختيار استعمالاً سيِّئًا. فالحرِّيَّة هي خير لأنَّها عطيَّة الله الكلّيّ الكمال فينا. وهكذا دافع نميسيوس عن الله الخيِّر في الطبيعة البشريَّة وسيدافع عنه في عنايته مشدِّدًا على حرِّيَّة الإنسان الكاملة في اختيار طريق الشرّ أو طريق الخير.

خاتمة

الإنسان هو سيِّد أعماله، الإنسان هو المسؤول عن سلوكه الأخلاقيّ والأدبيّ، الإنسان هو سيِّد مصيره، تلك هي خلاصة كتاب نميسيوس: طبيعة الإنسان. أمّا البرهان الرئيسيّ الذي يستند إليه ليدافع عن قضيَّته فهو أنَّ الإنسان قبل موهبة العقل فصار قادرًا على المداولة، وهذه المداولة تكون من دون معنى إن لم يستطع الإنسان أن يختار سلوكه بطريقة حرَّة وواعية. وإن كان الله كوَّن الإنسان بهذه الطريقة، فلأنَّ هذا التداول له معناه وهو إمكانيَّة الاختيار واتِّخاذ القرار. لا يتساءل نميسيوس كيف أنَّ العقل هو مصدر الحرِّيَّة، ولا كيف يستطيع الإنسان أن ينظر مليٌّا إلى القيم الخاصَّة التي يلتقيها في حياته، ولا كيف يجتذب الخيرُ الإنسانَ دون مقاومة. إنَّ نميسيوس لا يتطلَّع إلى العقل، ليستنتج تلك القوَّة الإراديَّة التي هي في أساس قرارنا الحرّ. إن تحدَّث عن أشكال الشهيّات الحسِّيَّة، فهو لا يتحدَّث عن شهيَّة تقف على مستوى سام، ثمَّ تتميَّز عن المعرفة العقليَّة مع أنَّها عقليَّة هي أيضًا. وهكذا فالبراهين التي قدَّمها نميسيوس للدفاع عن حرِّيَّة الإنسان مأخوذة من خبرة الحياة اليوميَّة، وهي لا تدَّعي أنَّها توصَّلت إلى إعطائنا تفسيرًا ميتافيزيقيٌّا لمشكلة الحرِّيَّة45.

ولكن، لماذا نريد أن نفرض على نميسيوس أن يعطينا ما لم يعدنا به. انطلق من المنابع الفلسفيَّة والعلميَّة والدينيَّة ليعطي تفسيرًا عن وجود الإنسان في الكون، فدفعنا إلى مرافقته في بحثه وتأمُّله، ومات قبل أن ينتهي من تدوين كتابه كاملاً. يبقى علينا نحن قرَّاءه اليوم أن ننطلق من معطيات عصرنا كما انطلق هو لنؤلِّف من العناصر التي أمامنا نظامًا فكريٌّا يطرح مشكلة الإنسان والحرِّيَّة في زمن صار الإنسان سلعة رخيصة والحرِّيَّة بضاعة نادرة.

1 كيف عرفنا الزمن الذي عاش فيه نميسيوس؟ من خلال أسماء معاصريه الذين يحدِّثنا عنهم. يذكر أوَّلاً أونوميوس الذي توفِّي سنة 393. كان أسقفًا على توزيكة، قرب القسطنطينيَّة، وقد رفض القبول بما أعلنه المجمع المسكونيّ الثاني الذي عُقد سنة 381، كما إنَّه دخل في جدال مع باسيليوس الكبير (330-379) وغريغوريوس النيصيّ (325-394). ويذكر ثانيًا أبوليناريوس الذي كان أسقفًا على اللاذقيَّة سنة 363-392. أخذ نميسيوس موقفًا من أحد تآليف أبوليناريوس الذي يورد فيه نظرة تركيب الجسم الثلاثيَّة (الروح والنفس والجسد) كأساس لتعليمه عن المسيح، وهو تعليم شجبه مجمع القسطنطينيَّة الأوَّل (381). ويذكر ثالثًا تيودور المبسوسطيّ (350-428) الذي كان أسقفًا منذ سنة 392 والذي عرفه نميسيوس شخصيٌّا. ويورد نميسيوس أفكار أوريجان غير أنَّه لا يلمِّح إلى أفكاره وتعاليمه التي شجبت في الإسكندريَّة سنة 399 وفي رومة سنة 400. كلُّ هذه التلميحات تدلُّنا على أنَّ نميسيوس كتب طبيعة الإنسان في نهاية الجيل الرابع. راجع طبيعة الإنسان 40/87 حيث نقرأ: حدَّد اونوميوس النفس بجوهر لا جسديّ في جسد مخلوق. بالنسبة إلى أبوليناريوس راجع طبيعة الإنسان 4/14-15، 42/28-29. يذكر نميسيوس تيودور في طبيعة الإنسان 46/6 وأوريجان في 57/53، 87/71، 121/13.

 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM