الفصل الخامس :نميسيوس الحمصيّ ونظرته إلى الإنسان

 

الفصل الخامس

نميسيوس الحمصيّ ونظرته إلى الإنسان(*)

حين نتحدَّث عن نميسيوس الحمصيّ، نتذكَّر أوَّل ما نتذكَّر كتابه في طبيعة الإنسان. هو ذاك الأسقف الذي تولَّى أبرشيَّة حمص في القرن الرابع المسيحيّ. وحين نتحدَّث عن نميسيوس الحمصيّ، نتذكَّر تيّارًا فلسفيٌّا واسعًا عرفته سورية ولبنان، سواء على مستوى الأفلاطونيَّة المحدثة، أو في خطِّ آباء الكنيسة، السريانيَّة منها واليونانيَّة. ما هو الإنسان، وما علاقة النفس بالجسد؟ هل الجسد سجين لها؟ وحين نتحدَّث عن نميسيوس الحمصيّ، نتذكَّر التيّارات الآتية من الشرق والغرب. من الشرق وعِلْم الكواكب التي تؤثِّر على مسيرة الإنسان وحرِّيَّته. ومن الغرب مع كلام على قدَرٍ أعلَى لا يستطيع الإنسان شيئًا تجاهه، فكان لا بدَّ من العودة إلى كلام الكتاب المقدَّس حول الإنسان الذي هو على صورة الله. والكلام بالتالي عن حرِّيَّة الإنسان، هو الذي يختار، ولهذا يمكن أن يجازى على أعماله، شرٌّا كانت أم خيرًا.

هذا ما دفعنا إلى التكلُّم عن نميسيوس الحمصيّ الذي كتب في اليونانيَّة، في بلاد الشامّ. وانتقل كتابُه إلى العربيَّة أكثر من مرَّة. عرف اللغة السريانيَّة التي كانت لغة الشعب الذي يسوسه في أبرشيَّته. وأتقن اليونانيَّة فجُعل في خطِّ جالينس (131-201) الطبيب اليونانيّ وصاحب الاكتشافات في تشريح جسم الإنسان وفي خطِّ أوريجان وبورفير وتيودور المصّيصيّ ويوحنّا الدمشقيّ، ولاسيَّما في دراساته عن النفس والخلق، عمّا تتذكَّره النفس وعمّا تصير إليه من كمال يرتبط بالكمال الأوَّل.

1. نميسيوس الحمصيّ

نبدأ كلامنا فنتعرَّف إلى الشخص قبل أن نصل إلى الكتاب الذي خلَّد ذكره.

كان نميسيوس(1) أسقف حمص، وخلف أوسابيوس الذي وُلد في الرها حوالي سنة 300، وتتلمذ على يد أوسابيوس القيصريّ (265-340) الذي سُمِّي »أبا التاريخ الكنسيّ«. قد يكون أسقفُ حمص الذي تمرَّس في دراسة الكتاب المقدَّس، وترك عظات حول الأناجيل، أخذ اسمُ معلِّمه حين صار أسقفًا(2).

خلف نميسيوسُ أوسابيوس هذا، وهو ابن سورية على ما يبدو. كان وثنيٌّا واهتدى إلى المسيحيَّة. قيل إنَّه كان في البدء طبيبًا. فقد اطَّلع على أمور الطبِّ وقرأ تآليف الأطبّاء أمثال جالينس وهيبوكرات. ورد اسمُ جالينس ثلاث مرّات في كتاب طبيعة الإنسان (32: 5؛ 48: 68؛ 74: 191). أمّا هيبوكرات (460-370) الذي دُعي »أبا الأطبّاء« وكتَبَ مقالة في طبيعة الإنسان، فقد ورد اسمه أيضًا ثلاث مرّات (32: 8؛ 58: 73؛ 68: 79). نشير بطريقة عابرة إلى أنَّ نميسيوس قد يكون أخذ بعنوان مقال هيبوكرات. ولكن شدَّد هذا الأخير على الوجهة الطبِّيَّة. أمّا نميسيوس فاستفاد من المعطيات الطبِّيَّة ليُبرزَ الوجهة الفلسفيَّة والمسيحيَّة.

هذا الأسقف عاش في القرن الرابع، ودوَّن كتابه في نهاية الرابع، الذي كان العصر الذهبيّ بالنسبة إلى الكنيسة في الشرق. من كبادوكية إلى الرها وأنطاكية والإسكندريَّة، هذا فضلاً عن مدن مثل أفامية (قلعة المضيق) وحمص وحماة وبيروت وصور. نذكر على سبيل المثال أميليوس (226-300) الذي كان أستاذًا في أفامية، ساعة كان بورفير هناك. وبورفير (234-304) تربّى في صور، وأَمَّ مكتبة قيصريَّة في فلسطين، وجمع أقوال معلِّمه أفلوطين في التاسوعات وشَرَحها، فبدت آثارٌ من شرحه في نصٍّ عربيّ نُسب خطأ إلى أرسطو. وعرفت أفامية قبل المسيح (130-50) فيلسوفًا رواقيٌّا وُلد فيها: بوسيدون الذي ترك موسوعة في العلوم.

وحمص حيث أقام نميسيوس كانت مركزًا علميٌّا هامٌّا. ذكرنا أوسابيوس الذي درس علم التفسير في أنطاكية، والفلسفة في الإسكندريَّة. وصار صديق جاورجيوس أسقف اللاذقيَّة. حين عُيِّن أوسابيوس أسقفًا على حمص، رفضه شعبُ المدينة، لأنَّه لا يريد أسقفًا متبحِّرًا في العلوم، بل راعيًا يهتمُّ بالنفوس.

ونودُّ أن نذكر في بلاد الشامّ فلاسفة آخرين. يمبليك الذي وُلد في خلقيس (هي اليوم عنجر في البقاع اللبنانيّ) وتربّى على يد أناتول الذي كان تلميذ بورفير. درَّس الفلسفة في أفامية، فمزج الأفلاطونيَّة مع الإخفائيَّة والتنجيم. وقد أثَّر في الإمبراطور يوليان الجاحد. وأناتول الذي جاء وراء بورفير على مستوى الفكر في عصره. أمّا نيكوماك فوُلد في جرش، في فلسطين. قال في ما قال: الجوهر الفرد هو الإله السامي الذي يضمُّ في ذاته كلَّ النقائض، والإله السامي هو صانع الكون. أمّا المثلَّث الخاصّ بهذا الفيلسوف فيضمُّ الله (الجوهر الفرد) إلى المادَّة بثنائيَّتها، إلى اللوغس (الكلمة) الإلهيّ. كلُّ شيء ينطلق من الجوهر الفرد ويعود إلى الجوهر الفرد. ويوحنّا الأفاميّ عاش في القرن 4-5، فاعتُبر المعلِّم الذي يأتي إليه الناس من البعيد ليسمعوا كلامه. ترك وراءه الحوارات والمقالات التي تحدَّثت عن نشاط النفس، عن مسألة الشرّ. عاش نميسيوس وتفاعل مع فكر سابقيه كما مع فكر معاصريه(3).

وذكر هذا »الفيلسوف« في كتابه عددًا كبيرًا من الذين عاصروه. ذكر أونوم (+394) أسقف قوزيكه، قرب القسطنطينيَّة، الذي اشتهر ببلاغته وترك آثارًا عديدة. فردَّ عليه ديديم الأعمى وباسيل وغريغوار النيصيّ. ودخل نميسيوس في جِدال مع باسيل الكبير (330-379) وغريغوار النيصيّ (363-392). هذا يعني أنَّ نميسيوس عاش في ذلك القرن الرابع. في 40: 78، تحدَّث عن أونوم الذي حدَّد النفس على أنَّها جوهر لاجسديّ في جسد مخلوق. واتَّخذ موقفًا من أحد تآليف أبّولينار، أسقف اللاذقيَّة (363-392) الذي قدَّم نظرة حول تركيبة الجسم الثلاثيَّة (الروح، النفس، الجسد) كأساس لتعليمه عن المسيح. كلُّ هذا يدعونا إلى الكلام عن الأثر الوحيد الذي تركه نميسيوس وهو طبيعة الإنسان.

2. كتابه في طبيعة الإنسان

نكتشف، حين نتصفَّح كتاب طبيعة الإنسان، رجلاً تمعَّن في الفلسفة وفي الطبّ، وكانت معلوماته واسعة على مستوى السيكولوجيا والفيزيولوجيا، على مستوى دراسة النفس وعلم وظائف الأعضاء. ومقالُه هذا يفيض غنى لطالب معرفة في فقه اللغة وتاريخ الفلسفة. أراد أن يكون كتابه دفاعًا عن الإيمان المسيحيّ، فإذًا ما كتبه لا يفيد اللاهوتيّ كثيرًا. فهمُّه فلسفيٌّ قبل أن يكون لاهوتيٌّا. هو يتحدَّث إلى الإنسان المثقَّف، سواء كان مسيحيٌّا أم وثنيٌّا. لهذا انطلق من أفلاطون وتعليمه عن النفس واتِّحادها بالجسد. وحاول أن يوفِّق بين هذا التعليم والوحي الإلهيّ. من أجل هذا، عالج في المقدِّمة (ف 1) طبيعة الإنسان، المؤلَّفة من نفس وجسد، المخلوقة لكي تكون جسرًا بين عالمين: بين ما هو ظاهر، وما هو معقول. فالعالَم خُلق من أجل الإنسان، ومن أجله وُجدت خلائق الدنيا. وينتهي هذا الفصل الأوَّل مع تقريظ أو مديح للإنسان:

حين ننظر إلى هذه الأمور في ما يخصُّ الإنسان، كيف نستطيع أن نُبرز كرامة الموقع الذي يمثِّله في الكون؟ فالإنسان يجمع في شخصه الخلائق المائتة واللامائتة، ويجعل الكائنات العاقلة تتَّصل بالكائنات التي حُرمت من العقل. هو يحمل في طبيعته أفكار الخليقة كلِّها، لهذا يُدعى »مكروكوسموس« أو »كون صغير«. هو الخليقة التي جعلها الله أهلاً لعناية خاصَّة، بحيث إنَّ كلَّ الكائنات نالت وجودها بسببه، سواء تلك الموجودة الآن أو تلك التي ستأتي. هو الخليقة الذي لأجله صار الله إنسانًا، لكي تدرك اللاّفساد وتُفلت من الفساد، لكي تملك على الأعالي، وهي التي صُنعت على صورة الله ومثاله. هذه الخليقة تقيم مع المسيح كابن الله وتجلس فوق كلِّ ناموس وكلِّ سلطان.

وإذ نعرف النُبلَ الذي نشارك فيه، وأنّنا غرس السماء، فلا نقترف شيئًا يسلِّم طبيعتنا إلى العار أو يبيِّن أنَّنا غير أهلٍ بأن ننعمَ بمثل هذا الصلاح العظيم. لا نخدَعْ نفوسنا مع كلِّ هذه القدرة وهذا المجد وهذه البركة، فنقايض التنعُّم بالأمور الأبديَّة بحقبة قصيرة من اللذّات لا يمكن أن تدوم. بل لنحافظ على عظمتنا فنعمل الخير ونتجنَّب الشرّ، ونجعل أمام عيوننا هدفًا صالحًا. من أجل كلِّ هذا نعتاد أن نطلب نعمة الله. هذا يعني أنَّنا لا ننسى الصلاة(4).

بعد هذا الكلام الرفيع عن الإنسان، درس نميسيوس النفس في الفصل الثاني، واتِّحادها بالجسد في الفصل الثالث، ثمَّ الجسد والعناصر وملكة التخيُّل والنظر واللمس والذوق والسماع والشمّ والعقل والذاكرة والفكر. ومع الفصل الخامس عشر، يقترح هذا »الفيلسوف« طريقة جديدة في تقسيم النفس: قسمٌ فيه الأهواء والشهوة والملذّات والألم والخوف والغضب. وقسمٌ لا سلطة فيه للنفس: التغذية، دقّات القلب، الإيلاد. أمّا الفصول 35-38 فتجابه نظرية القدر. وينتهي الكتاب بدفاع عن الإرادة الحرَّة (ف 39-41) وعرض للتعليم المسيحيّ حول العناية الإلهيَّة (ف 42-44).

اعتبر عددٌ من الباحثين أنَّ كتاب نميسيوس هو ولادة الأنتروبولوجيّا المسيحيَّة. هذا لا يعني أنَّه لم تكن قبلَهُ محاولات من أجل صياغة نظرة مسيحيَّة إلى العالَم، بل لأنَّ نميسيوس بيَّن أنَّه من الممكن إدخال الفلسفة اليونانيَّة في نظرة مسيحيَّة شاملة إلى الإنسان. ساعة كانت المسيحيَّة في ملء امتدادها لكي تصل إلى المثقَّفين، قدَّم طبيعةُ الإنسان تعليمًا مسيحيٌّا حقيقيٌّا حول الواقع البشريّ. استعان هذا »الفيلسوف« بمقولات أخذها من الفكر اليونانيّ. فكَّر فيها من جديد وأعاد التعبير بمضامينها. إذًا لا يكمن جوهرُ الكتاب في المعطيات الطبيعيَّة العديدة، ولا في الجدالات اللاهوتيَّة، بل في مضمونه الفلسفيّ. وهكذا نجعله في إطار تاريخ الفلسفة قبل أن نجعله في إطار تاريخ اللاهوت.

3. نسخات الكتاب

دُوِّن طبيعة الإنسان في اليونانيَّة، لغة الثقافة في عدد من مدن الشرق. ولكنَّه خرج سريعًا من لغته الأصليَّة، لكي ينتشر في الشرق والغرب.

نتعرَّف أوَّلاً إلى نسخات هذا الكتاب في العالَم الغربيّ، قبل أن نعود إلى العالم الشرقيّ. ونتوقَّف مطوَّلاً عند النسخات العربيَّة.

أ- العالم الغربيّ

أقدم نصٍّ يونانيّ نعرفه، وُجد في كودكس، في جزيرة بطمس. وهو يعود إلى القرن العاشر. ولكنَّ النصَّ اليونانيّ انتشر سريعًا. فالقدّيس يوحنّا الدمشقيّ (675-749) يستقي منه الكثير في الفصول المتعلِّقة بالإنسان (2: 12-29) في كتابه عن الإيمان الأرثوذكسيّ. غير أنَّ الدمشقيّ لم يذكر المرجع الذي استقى منه(5). وبعد قرن من الزمن، عرف الكتابَ ميليثيوسُ الراهب في دير الثالوث الأقدس قرب طبريابوليس (في فريجية، تركيّا). وأورد نصَّه إيرادًا حرفيٌّا وبشكل واسع بحيث شكَّلت إزائيَّة آراء آباء الكنيسة والفلاسفة المشهورة حول تكوين الإنسان نصٌّا لنميسيوس نستفيد منه لتثبيت النصِّ اليونانيّ. ما ذكر ميليثيوس المرجع الذي أخذ منه. ثمَّ إنَّ كتاب نميسيوس مُزِجَ مع كتاب غريغوار النيصيّ حول صنع الإنسان. وحين تُرجم طبيعة الإنسان إلى الأرمنيَّة، نسبه المترجم إلى غريغوار. في الواقع، بدأ الباحثون، منذ القرن التاسع، معتبرين الفصلين الثاني والثالث من طبيعة الإنسان على أنَّهما مقال عن النفس لغريغوار. وانطلاقًا من الجزء، نسبوا الكلَّ إلى هذا العلاّمة الكبير الذي كتب صُنع الإنسان ليكمِّل عظات باسيل شقيقه حول الأيّام الستَّة.

أوَّل من ذكر طبيعة الإنسان هو مكسيم المعترف الذي وقف في وجه المونوتيليَّة (أصحاب المشيئة الواحدة في المسيح) الذي تُوفِّي سنة 663. أورده إيرادًا حرفيٌّا في ثلاثة من مؤلَّفاته: إلى الكاهن مارينو. أسئلة إلى تيودور الراهب. الغوامض(6). بعد ذلك، قرأ الكتاب أناستاز السينائيّ، رئيس أساقفة نيقية الذي تُوفِّي بعد سنة 700. أخذ منه مقاطع في الأسئلة والأجوبة، ولاسيَّما السؤالين 18، 24 (مفتاح الآباء اليونان 7746).

منذ القرون الوسطى، تمَّ نقل كتاب نميسيوس إلى اللاتينيَّة. أوَّل نقلٍ نعرفه تمَّ على يد نيقولا ألفان (+ 1085) أسقف سالرنو (جنوب إيطاليا). هي ترجمة ناقصة ومليئة بالأخطاء(7). وتبعتها ترجمة كاملة نشرها سنة 1165 المحامي بورغوندا في بلدة بيزا، في إيطاليا(8)، وقدَّمها إلى فرديدريك بربروس (1121-1190) إمبراطور ألمانيا، الذي سار في الحملة الصليبيَّة الثالثة، فمات غرقًا في قيليقية ودُفن في صور، في لبنان. أورد هذه الترجمة كتَّابُ القرون الوسطى مثل ألبير الكبير، ووسَّعوا نسبة الكتاب إلى غريغوار النيصيّ. ثمَّ ظهرت ثلاث ترجمات في عهد النهضة الأوروبيَّة: جورج فالا(9)، سنة 1499؛ جان كونو(10)، سنة 1512؛ إلابود(11)، سنة 1565.

ب- العالم الشرقيّ

لن ننتظر الكثير من الدراسات عن نميسيوس في العالم الشرقيّ. فهو غير معروف عندنا، شأنه شأن الكتّاب العديدين في السريانيَّة أو العربيَّة أو القبطيَّة. فنحن ما زلنا متخلِّفين في هذا المجال، لاسيَّما وأنَّ المخطوطات الهامَّة موجودة في الغرب. وما تبقّى منها كان في حالة يُرثى لها. وأرجو أن تكون الأحوال تبدَّلت.

في الأرمنيَّة، جاءت ترجمة أولى في القسطنطينيَّة، سنة 716. وكانت ناقصة. واستندت إلى هذه الترجمة، تلك التي نُشرت سنة 1880(12). في السريانيَّة، تمَّت ترجمة جزئيَّة، في العصور الوسطى(13)، وقد نُشرت في ألمانيا سنة 1903. ذكر تيموثاوس الأوَّل الذي كان الجاثليق النسطوريّ في بغداد من سنة 780 إلى سنة 823، طبيعة الإنسان في رسالة بعث بها إلى ربّان باثيون، ونسبها بشكل صريح إلى »فيلسوف يُدعى نميسيوس«. ووصف هذا المقال مكتفيًا بالفصل الأوَّل المقسوم خمسة أقسام(14). وفي القرن التاسع، عرف الكتابَ موسى بركيفا الذي كان الأسقف السريانيّ الغربيّ في الموصل حوالى سنة 863 قبل أن يصبح مطران تكريت حيث مات سنة 903. استلهم بشكل واسع طبيعة الإنسان، وأورد بشكل حرفيّ مقاطع من الفصل الثاني جعلها في كتابه عن النفس (ف 3-4) ولكنَّه لم يذكر اسم الكاتب(15). وعُرف طبيعة الإنسان في اللغة الجيورجيَّة. وكان كلام عنه في إيطاليا بالاتِّصال مع الدراسة حول الترجمة الأرمنيَّة(16).

ج- الترجمات العربيَّة(17)

أوَّلاً: وضع طبيعة الإنسان لنميسيوس في الدراسات العربيَّة

في البداية، نتأسَّف أن لا نجد دراسة واحدة شاملة حول نميسيوس الحمصيّ في لائحة الأدب العربيّ التي أوردها كارل بروكلمان بين سنة 1908 وسنة 1942. ولكنَّه في الملحق الذي ظهر سنة 1937، تحدَّث عن ترجمة عربيَّة قام بها حنين بن اسحق، وذلك في سفر واحد: غريغوار النيصيّ، كتاب الأبواب على رأي الحكماء والفلاسفة (سباط 1010). إنَّ عنوان الكتاب الذي يتضمَّنه مخطوط 1010(18) لبولس سباط يُقرأ: »كتاب الفصول على رأي الحكماء والفلاسفة«. ويُشير إلى غريغوار النيصيّ. في دائرة المعارف الإسلاميَّة، لا نجد مقالاً عن نيمسيوس ولا عن طبيعة الإنسان. وفي النهاية، كان جورج غراف أوَّل من قدَّم حاشية حول نميسيوس العربيّ. في الجزء الأوَّل من تاريخ الأدب العربيّ المسيحيّ، الذي ظهر سنة 1944، ذكر مرَّتين طبيعة الإنسان. في مرَّة أولى، تحدَّث عن هذا الكتاب الذي نُسب خطأ إلى غريغوار النيصيّ في بعض التقليد اليونانيّ، وفي التقليد العربيّ. نقله النسطوريّ حنين بن اسحق المتوفّى سنة 873 أو 877. وسوف يتحدَّث عن استعمال هذا الكتاب على يد الملكيّ أبي الفتح عبدالله بن الفضل، في الجزء الثاني. ومرَّة ثانية، أشار إلى طبيعة الإنسان الذي نُسب خطأ إلى غريغوار النيصيّ(19).

وفي الجزء الثاني من كتاب غراف (ص 95)، ذُكر طبيعة الإنسان مرَّتين. مرَّة أولى في معرض الحديث عن كتاب المنفعة الكبير لأبي الفتح عبدالله بن الفضل الأنطاكيّ. قال: »وهناك مجموعة أخرى (ف 51-70) تتطرَّق إلى الأسئلة الأنتروبولوجيَّة والسيكولوجيَّة، في ارتباط وثيق مع نميسيوس الحمصيّ«. أمّا الحاشية الثانية فستكون أوسع (ص 130). تحدَّث غراف عن اسحق بن حنين فنسب إليه ترجمة طبيعة الإنسان وأورد أربعة مخطوطات منها سباط 1010. وأشار إلى تلميح نقرأه عند أبي البركات وابن كبر وإلى استعمال أبي اسحق المؤتمن ابن العسّال لهذا الكتاب.

بعد سنة 1967، توالت الدراسات، وطُبعت مقاطع من طبيعة الإنسان لارتباطها بالعالم الرواقيّ أو بكتّاب أخذوا من مؤلَّف نميسيوس.

ثانيًا: طبيعة الإنسان كما ورد في النصوص

أقدم إيراد عربيّ لكتاب نميسيوس نقرأه في سرِّ الخليقة الذي نُسب إلى أبولون التيّاني. نقرأ هنا 18 سطرًا من الفصل الأوَّل، ولكنَّ المقطع لا يرد بشكل حرفيّ. ويبدو أنَّ هذه الترجمة تمَّت حوالى سنة 815-816. وأورد الفيلسوف الكنديّ (+ 873) تحديدًا حرفيٌّا للغضب أخذه من نميسيوس. وحوالى سنة 950، نقل الراهب أنطونيوس من دير مار سمعان قرب أنطاكية الإيمان الأرثوذكسيّ للقدّيس يوحنّا الدمشقيّ، وفيه مقاطع واسعة من طبيعة الإنسان. وحوالى سنة 990، قدَّم ابن النديم في الفهرست (ص 315) لائحة بجميع الكتب المؤلَّفة في العربيَّة أو المنقولة. فقال في الفصل الأوَّل من القسم السابع: غريغوار أسقف نوسا. وله من الكتب: كتاب طبيعة الإنسان.

في منتصف القرن الحادي عشر، ترك أبو الفتح عبدالله ابن الفضل الأنطاكيّ كتاب المنفعة الذي أخذ مقاطع واسعة من نميسيوس حول الأنتروبولوجيّا والسيكولوجيّا. حوالى سنة 1265، أورد مؤتمن الدولة أبو اسحق ابن العسّال مقاطع من الفصول 3، 30-43 من طبيعة الإنسان في مجموع أصول الدين. وحوالى سنة 1320، ذكر شمس الرياسة أبو البركات ابن بكر في كتابه مصباح الظلمة في إيضاح الحكمة كتاب نميسيوس بين كُتُب غريغوار النيصيّ، شقيق باسيل القيصريّ. فقال: الخامس، كتاب الأبواب في طبيعة الإنسان. ترجمه من اللغة اليونانيَّة إلى اللغة العربيَّة حنين بن اسحق المتطبِّب، وعدَّتها 43 بابًا.

ثالثًا: مخطوطات طبيعة الإنسان

- مخطوط دمشق. المكتبة الظاهريَّة. يعود إلى القرن الحادي عشر. نُسخ في العراق في خطٍّ نسخيّ قريب من الكوفيّ. والعنوان: هذا كتاب غريغوار أسقف نوسا المعروف بكتاب الأبواب في طبيعة الإنسان، وهي ثلاثة وأربعون بابًا.

- مخطوط البطريركيَّة القبطيَّة في القاهرة. لاهوت 224. انتهى الناسخ من نسخه في 20 كانون الأوَّل 1744. نقرأ: كتاب الأبواب تأليف القدّيس غريغوار أسقف نوسا (وهي الجزيرة) في طبيعة الإنسان. وعدَّة أبوابه ثلثة وأربعون (كذا) بابًا. نقله اسحق بن حنين من اليونانيّ إلى العربيّ.

- مخطوط البطريركيَّة القبطيَّة أيضًا، لاهوت 225. يعود إلى القرن السابع عشر. وإليك العنوان: كتاب هذه (كذا) الأبواب على رأي الحكماء والفلاسفة. وهو كتاب غريب عجيب. تأليف القدّيس غريغوار أسقف نوسا (وهي الجزيرة) في طبيعة الإنسان. وعدَّة أبوابه ثلثة وأربعون بابًا. فهو عجيب (كذا) الكتب وأحسنها. نقله اسحق بن حنين من اليونانيّ إلى العربيّ.

- مخطوط حلب. مؤسَّسة جورج وماتيلد سالم. العنوان: كتاب الأبواب على رأي الحكماء والفلاسفة...

يبدو مخطوط المكتبة الظاهريَّة من أصل إسلاميّ. والمخطوطات الثلاثة الباقية تنتمي إلى أسرة واحدة، وقد ارتبطت بالعالَم القبطيّ(20). ونصُّ نميسيوس لم يُنشر بعد في العربيَّة، كلُّ ما نُشر هو مقاطع في »سرِّ الخليقة«(21).

نذكر هنا مقطعًا قصيرًا من النسخة الكاملة:

وقد ذَكَر العبرانيّون أنَّ الإنسان، منذ أوَّل أمره، خُلق على التُخوم بين الطبيعة المائتة وبين الطبيعة التي ليست بمائتة. ليكون إن مال إلى الانفعالات الجسمانيَّة واتَّبعها، وقع في التغاير (؟) الجسمانيَّة. وإن هو آثَر فضائل النفس، نال البقاء الدائم ولم يمت.

ويحتجُّون في ذلك بأنَّ الله (عزَّ وجلّ) لو كان جعل الإنسان من أوَّل أمره مائتًا، لم يكن عند المعصية، إنَّما يُعاقبُه بالموت، لأنَّه ليس لعقوبة المائت بأن يُجعل مائتًا وجهٌ.

ولو كان أيضًا، منذ خلقه إيّاه، خلقَه غير مائت، لم يكن ليجعله محتاجًا إلى الغذاء. لأنَّه ليس شيء من الجواهر التي ليست بمائتة تحتاج إلى غذاء جسميّ(22).

ثالثًا: ترجمات مختلفة أو مترجم واحد

حين قابل الأب سمير هذه النصوص المختلفة، سواء تلك التي نجدها في المخطوطات أو في الكتب التي تورد بعض طبيعة الإنسان، رأى الاختلافات الواسعة. فتساءل: هل نحن أمام مخطوطات لترجمة واحدة، بل لعدَّة ترجمات؟ فالنسخة التي نقرأها في أبولون تلفت النظر بلغتها المقعَّرة، أمّا النصّ السينائيّ فهو مختصر يُغفِل الأسطر العديدة بل الصفحات. أمّا لغته فبسيطة وواضحة. هي قريبة من النصِّ اليونانيّ، وتورد وحدها اسم الكاتب الحقيقيّ: نميسيوس الحمصيّ.

ووصل النصُّ الكامل في مخطوط دمشق والمخطوطات القبطيَّة. اعتبر بعضهم أنَّ مخطوط دمشق الذي يعود إلى القرن الحادي عشر، يتفوَّق على سائر المخطوطات. على مستوى الألفاظ بشكل خاصّ، ترك كلمة »الأسطقسات stoiceia« وأخذ »العناصر«؛ ترك »التبرُّم« وأخذ »الضجر«. »الآلام« هي عنده »الانفعالات«. لن نطيل الكلام، بل نقدِّم الخلاصة: النصُّ الأوَّل هو نصُّ القاهرة. وقد أعاد صياغَته نصُّ دمشق.

فهل نستطيع أن نحدِّد تاريخ هذه الترجمات؟ هنا نعود إلى الكنديّ الذي توفِّي سنة 873، في السنة التي فيها توفِّي حنين بن اسحق. بما أنَّ الكنديّ يورد نصٌّا حرفيٌّا من نميسيوس، وبما أنَّه يقول: »واسم الدحل في اللغة اليونانيَّة، مشتقّ من الكمّون والرصد«، نعتبر أنَّ الكنديّ لم ينقل النصَّ عن اليونانيَّة، بل أخذه عن ترجمة عربيَّة. هذا يعني أنَّ نصَّ نميسيوس نُقِل قبل موت الكنديّ. وإذا قابلنا نسخة القاهرة مع نصِّ الكنديّ، نجد تضاربًا لا نجده مع نصِّ دمشق(23). ولكن تبقى الاختلافات طفيفة بالنظر إلى التشابه بين مختلف النصوص.

وهل نستطيع أن نحدِّد الكاتب؟ يبدو أنَّه حنين بن اسحق أكبر المترجمين العرب. معرفته للغة اليونانيَّة لا تقبل الشكّ. ولغته العربيَّة متينة. وقد دلَّ على مسيحيَّته من خلال معرفته للكتاب المقدَّس. فحين يورد نميسيوس نصٌّا كتابيٌّا، لا يذكر المرجع. أمّا حنين فلا يهمله. فهو يضيف ما لم يجده في نصِّ نميسيوس.

قال نميسيوس: »وسُمِّي، كما قال بولس الرسول، أرضيٌّا ترابيٌّا وكان ''إنَّك أرضيّ وإلى الأرض مصيرك''، إنَّه قيسَ بالبهائم التي لا عقل لها«. أضاف حنين بن اسحق. الأولى: »على ما قيل في التوراة. والثانية: على ما قيل في الزبور«. وهكذا صار النصُّ كما نقله حنين: »وسمّي كما قال بولس الرسول أرضيٌّا ترابيٌّا، وكان، على ما قيل في التوراة، إنَّك أرضيّ وإلى الأرض مصيرك، وعلى ما قيل في الزبور إنَّه قيس بالبهائم التي لا عقل لها(24). وكان متشابهًا لها«.

4. فكر نميسيوس في طبيعة الإنسان

هذا الكتاب الفلسفيّ في الدرجة الأولى، الذي عرفه الغرب، كما عرفه العالم العربيّ معرفة واسعة، بدا أنَّ مترجمه واحد. ويبدو شبه أكيد أنَّه حنين بن اسحق. أمّا الترجمة فتمَّت قبل موت الكنديّ الذي يورد نصٌّا من نصوصه عن الغضب، أي سنة 873م. وانتقلت ترجمة حنين إلى مخطوطات القاهرة، مع أنَّها متأخِّرة، قبل أن تعود إلى مخطوط دمشق الذي بدا تحسينًا للنصِّ الذي نقرأه في مخطوطات القاهرة.

ما يكون الفكر الذي نجده لدى نميسيوس، أسقف حمص، في القرن الرابع؟

أ - مضمون الكتاب

بدأ الكاتب فحدَّد موقع الإنسان في الكون. ولاحظ كيف أنَّ العناية الإلهيَّة التي خلقته، جعلته صلةَ وصلٍ بين العالم المادّيّ والعالم اللاّمادّيّ. هو عالَم صغير في عالَم كبير(25). إنَّه قلب الكون ومحوره. ومن أجله صُنع الكون.

رفض القسمة المثلَّثة حسب أفلاطون وأبّولينار، فاعتبر الإنسان من نفس وجسد. وما تكون النفس؟ رفض نميسيوس التعاليم المادّيَّة، كما رفض رأي أرسطو الذي جعل من النفس كمال(26) الجسد، وبالتالي عنصرًا مادّيٌّا هو الجسد يكمُل فيصير نفسًا. وأخذ نميسيوس برأي أفلاطون الذي يحدِّد النفس على أنَّها جوهر لا جسديّ، وبالتالي هي خالدة. وحين تحدَّث أسقف حمص عن طبيعة النفس بحَثَ عن أصلها، فأخذ بفكر أفلاطون حول وجود سابق للنفوس. ورفض ثلاث مقولات: خلق النفس كما تُخلق المادَّة (أبّولينار). ولادة النفس كما يُولد الجسد. انتقال النفس من جسد إلى جسد بحيث نصل إلى التعليم عن التقمُّص (كما عند أبّولينار). كلُّ هذا يقود إلى رفض خلود النفس. غير أنَّ نميسيوس لبث في خطِّ العالم اليونانيّ الذي اعتبر أنَّ النفس لا يمكن أن تكون خالدة إلاَّ إذا وُجدت منذ البداية، ولم تنتظر خلق الجسد لتوجَد معه.

شعر بعضهم أنَّ نميسيوس تبع يامبليك في كلامه عن التقمُّص. في الواقع، تحدَّث عن التقمُّص بشكل غير مباشر، لكي يبيِّن أنَّ الفلاسفة القدماء اعتقدوا بخلود النفس. كلُّ هذه الجدالات تملأ الفصل الثاني الذي هو طويل جدٌّا بالنسبة إلى ما يجاوره. في هذا المناخ، طُرحت مسألةُ مراجع نميسيوس. فنحن نجد في طبيعة الإنسان معلومات دقيقة عن الفكر اليونانيّ من تاليس (625-547 ق.م.) وهيراكليت (550-480 ق.م.) إلى أفلاطون وبورفير. وعرضُهُ حول تنظيم الجسد البشريّ، يعكس المعارف الطبِّيَّة التي تناقلها عصره. من أجل هذا، تحدَّث بعض الباحثين عن نظرة إنتقائيَّة، فيها يختار الكاتب من هنا وهناك ليكوِّن نهجًا يعتبره خاصٌّا به.

لا شكَّ في أنَّ نميسيوس تأثَّر أكثر ما تأثَّر بأفلاطون وأفلوطين. ولكنَّه لبث مدينًا لأرسطو الذي يرد اسمه 25 مرَّة. كما ارتبط بالرواقيّين الذين دعاهم أحكم الفلاسفة، وبشكل خاصّ ببوسيدون. عاد نميسيوس إلى جالينس وأخذ الكثير من نصوصه ولاسيَّما في ف 4-27. كما عاد إلى أوريجان في شرحه لسفر التكوين، بحيث تساءَل بعضهم كيف لم يُحرَم نميسيوس. نشير هنا إلى أنَّ هذا الكاتب لم يقرأ كلَّ فيلسوف بمفرده، بل عاد إلى أحكام الفلاسفة(27) التي عرفها عصرُه. ولكنَّه درس في العمق جالينس. كما عرف في العمق بعض مقالات أرسطو مثل »الإتيقون إلى نيكوماك« أو »تاريخ الحيوانات« أو »النفس«. فهو يعطي معلومات خاصَّة حول سيكولوجيَّة هذا الفيلسوف الكبير(28).

حين عرض نميسيوس مختلف الآراء، ما اكتفى أن يكون »كاتبًا، ناسخًا لها. بل هو تحقَّق منها وانتقدها حسب نظرته الخاصَّة. غير أنَّه لم يدخل في جدالات ماورائيَّة تتعدَّى فهم قرّائه، مثل براهين أفلاطون حول خلود النفس. بل اكتفى بأن يقدِّم تعليمًا عاديٌّا نقصته أصالةُ الفلاسفة الكبار، لاسيَّما وأنَّه لم يتوقَّف عند الفلسفة، بل وصل إلى اللاهوت. فقد رفض مثلاً أن تكون وحدة الثالوث واللاهوت على المستوى الأدبيّ، بل على المستوى الجوهريّ. هذه الوحدة ليست فقط نتيجة نعمة الله، بل أساسها هو في الطبيعة. هنا بدا نميسيوس وكأنَّه يردّ على تيودور، أسقف المصيصة، في كتابه حول التجسُّد. قال نميسيوس موجزًا فكره حول هذه الوحدة:

لا يقبل الكلمةُ الإلهيّ أيَّ تحوُّلٍ في اجتماعه بالنفس والجسد. إذ جعلهما يقاسمانه لاهوته الخاصّ. ما قاسمهما ضعفهما. هو واحد معهما، ومع ذلك فهو يستمرُّ في الحالة التي كان فيها قبل الدخول في هذه الوحدة. هذا الشكل من المزج أو الوحدة، هو شيء جديد كلَّ الجدَّة. امتزج الكلمة بالجسد والنفس، ومع ذلك لبث بكلِّيَّته دون مزج ولا خلط ولا فساد ولا تحوُّل. هو لا يقاسمهما انفعالهما، بل نشاطهما فقط. هو لا يفنى معهما. ولا يتبدَّل مثلهما، بل يعمل من جهة في نموِّهما، ومن جهة ثانية لا يصيبه انحطاط في اتِّصاله بهما. وهكذا يبقى لامتبدِّلاً ولامخلوقًا، لأنَّه لا يشارك إطلاقًا في أيِّ شكل من التحوُّل(29).

ب- نظرة نميسيوس إلى النفس

بعد أن انتهى هذا المفكِّر من المسألة الماورائيَّة، عاد إلى وحدة النفس والجسد. أدرك إدراكًا عميقًا دقَّة المسألة التي يطرحها: اتِّحادٌ جوهريّ في مركَّب واحد. ما أراد أن يتكلَّم عن مزج وكأنَّنا أمام شيئين مادّيَّين. فجوهر النفس غير جوهر الجسد. هي روحيَّة، وهو مادّيّ. ولا هو قبِل أن يكون الجوهرُ قرب الآخر، وكأنَّهما شيئان يسيران معًا في الطريق وما يعتِّمان أن يفترقا. وما قبِل بفكر أفلاطون الذي قال إنَّ الجسد هو لِباس النفس، بل أخذ بالنظرة الأفلاطونيَّة المحدثة(30). تبع أنوميوس ساكاس معلِّم أفلوطين قال نميسيوس.

إنَّ وحدة طبيعة لامادّيَّة مع جسم، ليست مثل وحدة بين جوهرين جسميّين. فالكائن اللامادّيّ يبقى مميَّزًا عن الكائن المادّيّ وغير فاسد. ثمَّ إنَّ الوحدة تتمُّ دون أن ينتج عنها تبدُّل. إذن، تتَّحد النفس بالجسد دون أن تُخلَط معه، بحيث لا نقدر أن نُميِّز بين الاثنين. فهي تستطيع أن تعزل ذاتها معه، في شكل من الأشكال، خلال النوم مثلاً؟ أو من المشاهدة؟ إذا كان الجسد ينام، فالنفس لا تنام. وفي المشاهدة التي هي أسمى مراتب المعرفة ترتفع النفسُ وحدها، بينما يظلُّ الجسد ملتصقًا بالأرض. وكما أنَّ الشمس بحضورها تحوِّل الهواء إلى نور فتجعله مضيئًا، وكما أنَّ النور يتَّحد بالهواء دون أن يختلط الواحد بالآخر، كذلك النفس: إذ هي تتَّحد بالجسد، تبقى مميَّزة عنه.

وثبَّت نميسيوس شرحه عائدًا إلى وحدة الكلمة الإلهيّ مع الإنسانيَّة. ولكنَّه لا يطيل الكلام في هذا المجال، بل يكرِّس القسم الأكبر من كتابه لِما نسمّيه اليوم السكولوجيّا الاختباريَّة. فحاول أن يكتشف نواميس تنظِّمُ تصرُّف الإنسان بحيث نستطيع أن ندرسها ونراقبها. في هذا المجال، توقَّف عند الحواسّ وأعضائها ووظائفها. ووجد عند جالينس ما يحتاج إليه على مستوى علم التشريح والتركيب الداخليّ في الجسم، وعلى المستوى الفيزيولوجيّ أو وظائف الأعضاء(31). ودرس نميسيوس الحواسّ الداخليَّة، مثل دور الذاكرة والإدراك الواعي، والمعرفة العقليَّة التي هي قريبة من نظريَّة التذكُّر عند أفلاطون. قال:

هناك تذكُّر لا يكون موضوعه ما أدركتهُ الحواسُّ أو العقل، بل المفاهيم المرتبطة بالطبيعة. والمفاهيم الطبيعيَّة هي تلك التي يعرفها الجميع دون الحاجة إلى درس مسبَّق، مثل وجود إله. وهذا ما يسمّيه أفلاطون تذكُّر المثل(32).

ج- نميسيوس والحريَّة البشريَّة(33)

كرَّس نميسيوس ثلث كتابه للكلام عن الحرّيَّة البشريَّة، وتطرَّق إلى مسائل متعلِّقة بالقدريَّة وبالعناية الإلهيَّة. فالقدَر يتحدَّث عن قوَّة فائقة تحدِّد مسبقًا مسيرة الأحداث، بشكل عامّ، على مستوى المجتمعات. وبشكل خاصّ على مستوى الإنسان، بحيث نصل إلى نفي الحرّيَّة البشريَّة. في هذا المجال، يتحدَّث المفكِّرون عن ناموس يتفوَّق على الإنسان، ويحدِّد له هدف حياته قبل أن يُولد. قالوا: لا إرادة حرَّة عند الإنسان، ولا سلطان له بأن يقوم بعمل أو يمنع خطرًا. مثل هذا الموقف رفضه نميسيوس.

في العالَم اليونانيّ، ثلاثة ألفاظ تتحدَّث عن المصير والقدر. الأوَّل »moira« الذي ينطلق من فعل قسم فيدلُّ على قوَّة توزّع الحصص بين الناس. لكلِّ واحد قسمته، حظُّه. هذا ما كُتب له. اللفظ الثاني »anagkh«، الضرورة بطابعها الهائل الذي يسحق الإنسان سحقًا. وأخيرًا، »pronoia« أي المعرفة المسبقة، النظرة المسبقة(34). هذا ما ندعوه العناية. هي الاهتمام بالغير مهما كلَّفنا ذلك من جهد. وهي ترتبط بالعين التي تنظر إلى الشخص المحبوب، تحرسه، تنتظره. والعناية في المعنى الدينيّ تدلُّ على حكمة الله السامية، التي بها يسوس الكونَ والأشخاصَ والأشياء.

رفض نميسيوس التعاليم عن القدريَّة التي انتشرت انتشارًا واسعًا في العالم الهلنستيّ. فميَّز خمسة منها تأسَّست على الأسترولوجيّا أو التنجيم، على الرواقيَّة وعلى الأفلاطونيَّة. ميَّز بين الحرِّيَّة البشريَّة وحرِّيَّة الله اللتين تتواجدان معًا. فحرِّيَّة الله لا تُلغي حرِّيَّة الإنسان، بل ترفعُها إلى أعلى مستواها. فالله الذي خلق الإنسان وكلَّ ما فيه، بما في ذلك الحرِّيَّة، أتراه يشوِّه ما خلق؟ أتراه يأخذ بيدٍ ما أعطاه بالأخرى؟ خَلَقنا أحرارًا وهو يحترم حرِّيَّتنا إلى آخر حدود الاحترام. أمّا عنايته فلا تُلغي شخصيَّة الإنسان، بل تعتني بكلِّ المخلوقات وتسوسها، بحيث لا يمكن أن يوجَد نظام للكون أكمل من ذلك الموجود. غير أنَّ الإنسان، بعقله المحدود، لا يستطيع أن يفهم كلَّ الفهم عناية الله التي تسوس الكون. سيبقى هناك موضع للسرِّ الإلهيّ يدخل فيه الإنسان دون أن يتمكَّن من سبر أغواره.

بهذه الطريقة ردَّ نميسيوس على »المدارس الثلاث« التي ذكرها. على مستوى الأسترولوجيّا، رفض أن تكون الأجرام السماويَّة هي التي تحدِّد ما يحدث في الكون، وفي حياة البشر. تلك كانت الجبريَّة الجذريَّة، وفيها نحسُّ أنَّنا مجبرون بحيث لا نقدر أن نتخلَّص ممّا يُفرَض علينا. مثلُ هذه الجبريَّة تنبذ العناية الإلهيَّة. وقال الرواقيّون إنَّ النشاط البشريّ هو في يد القدَر. إذا كان الأمر كذلك، لا نستطيع أن نعمل شيئًا. وبالتالي لا يمكن الله أن يحاسبنا على أفعالنا، شرًا كانت أم خيرًا. وقالت الأفلاطونيَّة بشريعة إلهيَّة وُجدت منذ الأزل، وهي غير متبدِّلة، ونحن لا نستطيع تجنُّبها. جاء جواب نميسيوس جوابين. الأوَّل: استقلاليَّة السلوك البشريّ. الثاني: حرِّيَّة الله الذي لا يمكن أن يكون خاضعًا لأيِّ إكراه، وإلاَّ عدنا إلى المفهوم الوثنيّ حيث الآلهة تخضع للقدر ولا تستطيع شيئًا ضدَّه.

وفي النهاية، تفحَّص نميسيوس الأعمال الإراديَّة واللاّإراديَّة، ومفهوم الخيار الذي يضمُّ ثلاثة عناصر: التداول أو التشاور. الحكم. الرغبة. فالإنسان هو المبدأ الحقيقيّ لبعض الأعمال، حيث يكون مفتوحًا حقلُ مبادرتنا الحرَّة، على مستوى الفعل الخلقيّ، والعمل التقنيّ، والنشاط النفسيّ والعقليّ. وأخيرًا، هناك حرِّيَّة الاختيار أي تلك القوَّة التي تجعلنا نتَّخذ القرار بإرادتنا وحدنا، وخارجًا عن كلِّ اجتذاب خارجيّ.

الخاتمة

تلك كانت مسيرتنا للتعرُّف إلى المفكِّر الذي عاش في العصر الذهبيّ للفكر المسيحيّ، في القرن الرابع، وترك أثرًا بعيدًا في الفكر الغربيّ والشرقيّ على السواء، بحيث تُرجم إلى أكثر من لغة، وانتشر في اللغة العربيَّة في أكثر من نصٍّ وفي أكثر من مخطوط. أُخذ منه كتابُه الوحيد الذي وصل إلينا، ونُسب إلى غريغوار النيصيّ. ولكن في النهاية، عرفنا صاحب طبيعة الإنسان في اليونانيَّة، كما عرفنا مترجمه إلى العربيَّة، وهو حنين بن اسحق. ودخلنا في فكره حول الأنتروبولوجيّا، حول ما يتعلَّق بالإنسان، وبيسوع المسيح الإنسان والإله، كما نزلنا إلى أعماق النفس لنكشف صفاءها وعمق الحرِّيَّة فيها. طبيعة الإنسان كتابٌ يعطي صورة عن القرن الرابع، كما عن الفلسفة اليونانيَّة. منذ القرن السادس ق.م. نُشر في اليونانيَّة واللاتينيَّة، فمتى يأتي باحث ينشر في العربيَّة فلسفة من عندنا تتوجَّه اليوم إلى الفكر المشرقيّ كما توجَّهت في القرن الرابع، فرافقت مفكِّرين عديدين زرعوا الشرق بفكرهم من مصر إلى العراق مرورًا بسورية ولبنان وفلسطين؟

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM