الفصل الرابع: كتاب شرائع البلدان لبرديصان الرهاويّ

 

الفصل الرابع

كتاب شرائع البلدان لبرديصان الرهاويّ(*)

كتاب شرائع البلدان من المصنَّفات الفلسفيَّة المسيحيَّة الأولى. كتبه في السريانيَّة برديصان الرهاويّ الذي كان وثنيٌّا وتنصَّر. ثمَّ تورَّط في معتقدات فاسدة، ممّا دفع الكنيسة إلى إخراجه من صفوفها(1).

1- من هو برديصان؟

وُلد برديصان في الرها(2) في 11 تمّوز 154 ب.م. وتوفّي في أرمينيا سنة 222. نشأ في قصر الملك معن الثامن ونال مع ابنه أبجر قسطًا وافرًا من العلم والأدب. بعد أن تنصَّر، سيم شمّاسًا، وقال بعضهم إنَّه رُسم كاهنًا، ولكنَّ الأمرَ لا يبدو صحيحًا(3).

في بادئ الأمر أخذ برديصان يكتب ضدَّ الهرطقات والبدع المنتشرة هناك، ولكنَّه سرعان ما انجرَّ في نظريّات مرقيون وفالنتين. أمّا مرقيون(4) ففصل بين إله العهد القديم وإله العهد الجديد، بين إله الخير وإله العدل الذي خلق الكون لا من العدم بل من الهيولى التي هي مبدأ كلِّ شرّ. وأمّا فالنتين(5) فكان غنوصيٌّا مسيحيٌّا مزج الفلسفة الأفلاطونيَّة والتقاليد الأسطوريَّة بالعقيدة المسيحيَّة. أخذ برديصان بتعليم فالنتين لصبغته الشرقيَّة ولكنَّه اشمأزَّ من مرقيون لصرامة زهده، فأنكر قيامة الأجساد، وأعلن أنَّ النفس لا تُولَد ولا تموت، وأنَّ الجسد آلة لها يرافقها بصورة عابرة، وأنَّ يسوع لم يكن له جسد حقيقيّ فاتَّحد شخصه بشبح لا قوام له(6).

أنشأ برديصان شيعة عُرفت بالديصانيَّة(7) ضمَّت طبقة من أصحاب الثقافة والثراء. وقويت هذه الشيعة فحاربها أفرام السريانيّ حين وصل إلى الرها سنة 363، وهدى المطران ربّولا الرهاويّ (+435) أكثر أتباعها إلى إيمان الكنيسة الجامعة. أمّا من بقي منهم فانتشر في بلدان عديدة وخصوصًا في بلاد فارس، وظلَّ لهم وجود منظَّم حتّى القرن العاشر ب.م.(8)

ترك برديصان آثارًا عديدة فقالوا إنَّه أوَّل من ألَّف في علم الفلك، فأشاروا إلى كتابه الذي ضاع والذي يذكره جرجس أسقف العرب(9). وقالوا إنَّه كتب مزامير سليمان، ولكنَّ هذا القول يبقى مجرَّد افتراض. وأشار أفرام السريانيّ إلى أنَّه دوَّنَ مئة وخمسين نشيدًا على غرار مزامير داود وضمَّنها تعليمه ولقَّنها للمؤمنين. إلاَّ أنَّه لم يبقَ لنا شيء من آثار برديصان إلاَّ كتاب شرائع البلدان.

2- كتاب شرائع البلدان

كتيِّب يقع في ثلاث عشرة ورقة من مخطوطة موجودة في المتحف البريطانيّ بلندن رقمها 14658 (129أ-141أ). اكتشفها البحّاثة الإنكليزيّ وليم كيورتون ونشرها سنة 1855(10). أعاد الباحث الفرنسيّ فرنسوا نو نشر النصِّ السريانيّ وأرفقه بترجمة لاتينيَّة(11) ثمَّ بترجمة فرنسيَّة(12). أمّا نحن فنأخذ بالنصِّ السريانيّ كما نشره نو ونتبع ترقيم المقاطع الوارد في هذه الطبعة.

هذا الكتيِّب دوَّنه فيلبُّس، أحد تلامذة برديصان، فجاء بشكل حوار بين »لمعلِّم« و»تلميذ« يُدعى عويدا، نقطة انطلاقه علاقة الإنسان بالشرّ.

موضوع هذا الكتيِّب أنَّ الإنسان حرٌّ وإن خضع للطبيعة والقدَر.

الطبيعة تخضع لشرائع لا تتغيَّر، والقدَر هو السلطة التي وهبها الخالق للكواكب لكي تبدِّل أوضاع الحياة البشريَّة. وأمام الطبيعة والقدر تقف الإرادة الحرَّة التي تسمح بعمل الخير أو الشرّ مهما كانت الظروف. لا شكَّ في أنَّ الطبيعة تؤثِّر على الإنسان، والقدَر على طالع كلِّ واحد منّا، لكن لا شيء يمنعنا من عمل الخير أو يدفعنا إلى عمل الشرّ خارجًا عن حرِّيَّتنا.

هذا الكتيِّب الذي حسبه أبناء الغرب اليونانيّ(13) يتحدَّث عن القدر، اتَّخذ في السريانيَّة عنوان كتاب شرائع البلدان(14)، لأنَّ القسم الثاني يجول بنا في البلدان، فيحدِّثنا عن عادات الشعوب، ويبيِّن لنا أنَّ الإنسان لا يرتبط بمنطقة من المناطق ليتحتَّم عليه أن يعيش على طريقة الساكنين في تلك المناطق.

لن أحلِّل نصَّ كتيِّب برديصان(15) فأترك للقارئ أن يكتشف بنفسه غنى هذا النصِّ الذي يذكِّرنا بحوار سقراط مع تلاميذه، يسألهم ويدفعهم إلى اكتشاف الحقيقة.

3- نصّ الكتاب

1. قبل أيّام دخلنا لنزور أخانا شمشجرم، وجاء برديصان فوجدَنا هناك. وبعد أن جسَّ (المريض) ورأى أنَّه يتحسَّن سألَنا: »عن أيِّ شيء كنتم تتكلَّمون، فقد سمعت أصواتَكم من الخارج حين كنت أدخل (هذا المكان)«. اعتاد (برديصان) عندما يجدنا نتكلَّم في شيء ما قبل وصوله أن يسألنا: »عن أيِّ شيء كنتم تتكلَّمون« ليستطيع التحدُّث معنا (في هذا الموضوع). فقلنا له: 'قال لنا عويدا (الحاضر) هنا: »إن كان الله واحدًا، كما تقولون، وإن كان حين خلق البشر(16) أرادهم أن يعملوا بما أمرهم به، فلماذا لم يخلق البشر بحيث لا يستطيعون أن يفعلوا الشرّ(17) فيعملون في كلِّ وقت ما هو خير. أما بهذا تتمُّ إرادته«؟

2. فأجابه برديصان: »قل لي رأيك، يا ابني عويدا، أليس إله الكلِّ واحدًا؟ ألا يريد، وهو الواحد، أن يَسلك البشرُ بطريقة بارَّة ومستقيمة«؟

قال عويدا: »سألتُ أقراني هؤلاء علّي أجد لديهم جوابًا«.

3. أجابه برديصان: »إن أردتَ أن تتعلَّم، فأفضل لك أن تتعلَّم ممَّن هم أكبر سنٌّا من هؤلاء، وإن (أردت) أن تعلِّم فلا يجب أن تطرح عليهم الأسئلة بل أن تقنعهم ليسألوك هم عمّا يريدون (أن يعرفوه). فهناك معلِّمون يُسألون ولكنَّهم لا يَسألون، وإن سألوا فلكي يوجِّهوا فكر السائل ليطرح السؤال الصالح فيعرفوا مقصده. إنَّه لعمل صالح أن يعرف الإنسان كيف يسأل«(18).

4. قال عويدا: »أردتُ أن أتعلَّم، ولهذا بدأتُ أوَّلاً فسألت إخوتي هؤلاء (وما سألتك أنت) لأنّي خجلت منك«.

أجاب برديصان: »بالشكل الملائم تكلَّمتَ، ولكن اعرف أنَّ من يطرح سؤاله بطريقة صالحة وهو يريد أن يقتنع، ومن يقترب إلى طريق الحقِّ بدون (روح) خصام، فهذا يجب ألاّ يَخجل لأنَّه بما يقوله من كلام يحمل العذوبة إلى من يطرح عليه السؤال. إذًا، يا ابني، إذا فكَّرتَ في شيء تريد أن تسأل عنه (وتستوضحه)، فقل لنا كلِّنا ونحن نوافقك إن كان سؤالك حسنًا، وإن لم يكن حسنًا نفرض على نفوسنا أن نبيِّن لك لماذا لم نستحسن (سؤالك). وإن كان هذا الشيء الوحيد الذي أردتَ أن تعرفه وليس في فكرك شيء آخر بالنسبة إليه، وإن كنت تشبه إنسانًا اقترب منه تلاميذ حديثو العهد فشرع يطرح عليهم الأسئلة، أقول لك: يجب ألاّ تفارقنا فارغ اليدين، وإن لذَّ لك ما نقوله لك في هذا الأمر، سنقول لك أقوالاً أخرى، وإن لم يلذَّ لك نكون قد قلنا ما عندنا دون عنف أو شدَّة«.

5. قال عويدا: »وأنا أيضًا أحبُّ كثيرًا أن أسمع وأقتنع، لأنَّ الكلام (الذي قلتُه) لم أسمعه من أحد آخر، بل خطر في فكري فقلتُه لأخوتي هؤلاء، أمّا هم فما أرادوا أن يقنعوني بل (اكتفوا) بالقول لي: آمن إيمانًا (ثابتًا) فتقدر أن تعرف كلَّ شيء. أمّا أنا فلا أقدر أن أؤمن إن لم أقتنع«.

6. أجاب برديصان: »ليس عويدا وحده هو من لا يريد أن يؤمن، بل هناك أيضًا كثيرون (مثله) لا إيمان في داخلهم فلا يقدرون أن يقتنعوا. هم في كلِّ وقت يهدمون (البراهين) ويبنونها ويجدون نفوسهم في فراغ من كلِّ معرفة حقيقيَّة. أمّا عويدا فهو لا يريد أن يؤمن، وأنا أتلو عليكم، أنتم المؤمنين، السؤال الذي يطرحه علَّه يسمع منكم شيئًا يزيد (به علمه)«.

7. وشرع يقول لنا: »هناك أناس كثيرون لا إيمان في داخلهم، وهم مع ذلك لا يقبلون (أن يأخذوا) المعرفة من الحكمة الحقيقيَّة. لأجل هذا لا يستطيعون أن يتكلَّموا أو يقرِّروا ولا يميلون بسهولة إلى السماع. ليس لهم أساس من الإيمان يبنون عليه، وليس لهم رجاء يتَّكلون عليه. ولأنَّهم يشكُّون بالله، فمخافته ليست في قلوبهم تلك التي تنقذهم من كلِّ أنواع المخاوف. من ليس فيه مخافة الله تستعبده كلُّ المخاوف، والذين لا يؤمنون بأشياء وأشياء يعرفون أنَّهم لا يؤمنون حسنًا، بل يتيهون في أفكارهم ولا يستطيعون أن يثبتوا (على رأي). أفكارهم تافهة في فمهم فلا طعم لها، وفي كلِّ وقت يستولي عليهم الخوف والرهبة (وروح) الوقاحة«.

8. قال عويدا: »لماذا لم يَخلقنا الله بلا خطيئة ولا إثم«؟

- »إذا كان(19) الإنسان مخلوقًا على هذا الشكل، فهو لا يمتلك نفسه ولكنَّه أداة في يد من يحرِّكه. وواضح أنَّ من يحرِّك (شيئًا) كما يريد فهو يحرِّكه نحو الخير أو الشرّ. إذًا، بماذا يفترق الإنسان عن كنّارة يعزف بها أحدهم أو مركبة يقودها شخص فرد. فالمديح والملامة يعودان إلى (العامل) الماهر. فالكنّارة لا تعرف ما يُعزف عليها والمركبة لا تعلم إن كانت تُقاد في الوجهة الصالحة. كلاهما آلة صُنعت لإفادة من يملك المعرفة. أمّا الله الجوّاد فما أراد أن يخلق الإنسان على هذا الشكل بل (وهبه) الحرّيَّة(20) فرفعه فوق الخلائق العديدة وساواه بالملائكة. انظروا الشمس والقمر وجلدَ السماء وسائر الخلائق التي هي أعظم منّا بشيء من الأشياء. لها ما وُهبت الحرِّيَّة الشخصيَّة فشُدَّت إلى ما أُمرت به، وما استطاعت أن تفعل إلاَّ ما أُمرت به. فلا تقول الشمس يومًا: أنا لا أشرق في الوقت (المحدَّد) لي، ولا (يقول) القمر: لا أتحوَّل من حال إلى حال فأصير صغيرًا أو كبيرًا، ولا يقول أحد من الكواكب: لا أشرق، ولا أغرب. ولا (يقول) البحر: لا أحمل السفن ولا أقف عند حدودي. ولا (تقول) الجبال: لا نثبت في الأمكنة التي وُضعنا فيها. ولا تقول الرياح: لا نهبُّ، ولا (تقول) الأرض: لا أحمل ولا أتلقّى كلَّ ما هو فوقي. ولكنْ كلُّ هذه الخلائق تعمل خاضعة لأمر واحد لأنَّها أدوات (بيد) حكمة الله التي لا تخطئ. إذا كان كلُّ شيء يَخدم فمن الذي يُخدم، وإذا كان كلُّ شيء يُخدم فمن الذي يَخدم؟ إذًا لا يتميَّز شيء عن شيء. فالشيء الذي هو واحد ولا تمييز فيه هو كائن لم يُخلق إلى الآن، أمّا الأشياء المعدَّة للخدمة فهي مشدودة بقدرة الإنسان. فلأنَّ (الإنسان) خُلق على صورة الله أُعطيَت له هذه (المخلوقات) لتخدمه(21) بالفرح زمنًا طويلاً، وهو يدبِّرها بإرادته الخاصَّة. وإن أراد(22) صنَعَ كلَّ ما استطاع أن يصنعه وإن لم يرُد فلا يصنع، وهو يبرِّر نفسه أو يخطئها. فإن خلَقَ (الإنسان) بحيث لا يقدر أن يصنع الشرّ أو يزلّ، فالخير الذي يصنعه ليس له ولا يقدر أن يتبرَّر به. فالذي لا يعمل بإرادته الخير أو الشرّ فتبريره وتأثيمه يقومان على حظِّه وسعده من عمله.

9. »من أجل هذا أنتم ترون أنَّ نعمة الله كثُرت للإنسان الذي وُهبت له حرِّيَّةً تفوَّق بها على كلِّ هذه العناصر التي عنها تحدَّثنا. بهذه الحرِّيَّة يزكّي الإنسان نفسه ويتدبَّر (أمره) بطريقة إلهيَّة فيختلط بالملائكة الذين يملكون هم أيضًا حرِّيَّة شخصيَّة. فلو لم يكن لهم حرِّيَّة شخصيَّة لما (قدروا) أن يشاركوا بنات الناس (في الإثم)(23) ولما كانوا خطئوا ولا سقطوا في مقامهم. ونقول الشيء عينه عن الآخرين الذين عملوا إرادة ربِّهم بقرار اختياريٍّ(24) فارتفعوا وتقدَّسوا وقبلوا المواهب العظمى. كلُّ كائن يحتاج إلى ربِّ الكلّ الذي لا حدود لمواهبه، فاعلموا إذًا أنَّ هذه المخلوقات التي قلتُ عنها إنَّها قائمة بأمر (الله) ليست محرومة حرمانًا كلِّيٌّا من أيَّة حرِّيَّة(25)، ولهذا فهي تخضع كلُّها للدينونة في اليوم الأخير«.

10. قلتُ له(26): »كيف يخضع للدينونة (مخلوقات) مشدودة (إلى الأمر الإلهيّ)«؟

أجابني: »يا فيلبُّس، العناصر لا تُدان لأنَّها مشدودة، بل لأنَّها مسلَّطة، فالكائنات ما حُرمت من كيانها حين خُلقت، بل نقصت قوَّةُ الترابط فيها حين امتزجت بعضها ببعض فخضعت لقوَّة خالقها. فهي إذًا لا تُدان بما هي فيه خاضعة، بل بما هو خاصٌّ بها«.

11. قال عويدا: »ما أحسن ما قلتَ، ولكنَّ الوصايا المعطاة للبشر ثقيلة وهم لا يستطيعون أن يعملوا بها«.

أجاب برديصان: »مثلُ هذا الكلام هو جواب من لا يريد أن يصنع الصالحات فيفضِّل أن يسمع للعدوِّ ويخضع له. فالبشر ما أُمروا أن يصنعوا إلاَّ الذي يقدرون أن يصنعوا، ووُضعت أمامنا وصيَّتان تليقان بالحرِّيَّة وتَجملان بها. الأولى أن نبتعد عن كلِّ شرٍّ نكره أن يكون فينا، والثانية أن نصنع كلَّ صلاح نحبُّه ونرغب في أن يكون فينا. فمن هو هذا الإنسان الضعيف الذي لا يستطيع إلاَّ أن يسرق أو يكذب، أو يفجُر ويزني، أو يبغض ويغدر؟

12. »كلُّ هذه خاضعة لروح الإنسان، وهي خاضعة له لا بقوَّة الجسد بل بإرادة النفس. فلو كان الإنسان فقيرًا أو مريضًا أو شيخًا أو كسيحًا، أما يستطيع أن يمنع نفسه عن هذه (الخطايا)؟ وكما يمكنه أن يمتنع عنها، هكذا يستطيع أن يحبَّ ويبارك ويقول الحقيقة ويصلّي لأجل معارفه، وإن كان صحيح (الجسم) يستطيع في غناه أن يعطي ممّا له، كما يستطيع أن يُسند بقوَّة جسده المريضَ والكسير. فما هو هذا اللامستطاع حتّى يتذمَّر ناقصو الإيمان؟ لست أدري. ولكنّي أعتبر قدرة الإنسان حاضرة في هذه الوصايا أكثر من أيِّ شيء آخر. (فالوصايا) سهلة ولا يستطيع أحد أن يفسدها. نحن لم نؤمر بأن نحمل أحمالاً ثقيلة من الحجر أو الخشب أو أيِّ شيء آخر ممّا لا يستطيع أن يفعله إلاَّ أصحاب الأجسام القوَّية، ولا أن نبنيَ القلاع ونؤسِّس المدن، وهو أمر لا يستطيع أن يعمله إلاَّ الملوك، ولا أن نقود السفينة وهو أمر لا يعرفه إلاَّ الملاّحون، ولا أن نمارس واحدًا من هذه الفنون التي أُعطيَت لبعض الناس وحُرم منها البعض الآخر. ولكن وُهب لنا بحسب عذوبة الله وصايا سهلة يستطيع(27) كلُّ إنسان فيه نفسٌ أن يعمل بها والفرح في قلبه. فما من إنسان إلاَّ ويفرح عندما يصنع الصلاح، وما من إنسان إلاَّ ويجد لذَّة عندما يحتفظ ممّا هو بغيض، اللهمَّ هؤلاء الذين لم يُخلَقوا لهذا الخير فدُعوا زؤانًا(28). فالذي يوبِّخ إنسانًا على شيء لم يستطع فعله، يكون ديّانًا جائرًا«.

13. قال له عويدا: »أتقول إنَّه سهل علينا أن نقوم بهذه الأعمال، يا برديصان«؟

أجاب برديصان: »قلتُ وأقول إنَّها سهلة لمن يريد، وهي (تهب) القيادة الحسنة لروح الأحرار وللنفس التي لا تتمرَّد على من يقودها، وإن وقفت أمور كثيرة في وجه عمل الجسد (العاديّ) ولاسيَّما الشيخوخة والمرض والفقر«.

قال عويدا: »يستطيع الإنسان أن يبتعد عن أمور بغيضة(29)، ولكن أيُّ إنسان يمكنه أن يفعل الخير«؟

14. أجاب برديصان: »إنَّه لأسهل عليك أن تفعل الخير من أن تبتعد عن الشرّ. فالخير طبيعيّ في الإنسان، ولهذا يفرح حين يفعل الخير، أمّا الشرّ فهو مِن صُنع العدوّ، ومن أجل هذا يضطرب الإنسان ويقتل كيانه حين يفعل الأمور البغيضة. فاعرف، يا ابني، أنَّه لأسهل على الإنسان، أن يمتدح صديقه ويباركه من أن يذمَّ مبغضه ويشتمه. هذا ليس سهلاً وحسب بل ممكنًا. وعندما يفعل إنسان صلاحًا، تَسعد روحه ويرتاح ضميره ويرغب في أن يرى كلّ واحد ما عمله. أمّا حين يخطأ (إنسان) ويؤذي (الغير)، فهو يرتاع ويضطرب ويمتلئ سخطًا وغضبًا ويتألَّم في نفسه وفي جسده. وإذ هو في هذه الحالة لا يرغب في أن يراه أحد، ويتبرَّأ من تلك الأشياء التي كان يفرح بها والتي نال على أثرها المديح والبركة. فبعد الارتياع يعملون أعمالاً نجسة، ولكنَّهم لا (يرتاحون) حين يعملونها وحين يستحقُّون المديح ولأجل رجاء صالح، (وإن ارتاحوا) فهذه العذوبة لا تدوم لهم (طويلاً). فالراحة الآتية من (ضمير) صحيح (والمبنيَّة) على رجاء صالح، هي غير الراحة الآتية من (ضمير) مريض والمؤسَّسة على رجاء شرّير. الرغبة غير الحبّ، والصداقة غير الزمالة، فيجب علينا أن نفهم بسهولة أنَّ الحبَّ المزيَّف يُسمّى الشهوة، وهو وإن حوى راحة ساعة من الوقت، إلاَّ أنَّه بعيد كلَّ البعد عن الحبِّ الحقيقيّ الذي لا تفسد راحته ولا تزول«.

15. قلتُ له: »هذا ما قاله عويدا أيضًا حين أعلن أنَّ الإنسان يميل بطبعه إلى الشرّ، فإن لم يكن مدفوعًا بطبعه إلى الشرِّ فهو لا يفعل الشرّ«.

أجاب برديصان: »إذا عمل الناس جميعًا العمل الواحد وفكَّروا بطريقة واحدة، هذا يعني أنَّ طبيعتهم تقودهم، لا الحرِّيَّة التي تحدَّثت عنها. ولكن لكي تفهموا ما هي الطبيعة وما هي الحرِّيَّة، أزيد فأقول لكم: طبيعة الإنسان في أن يولد وينمو وترتفع قامته ويُنجب (أولادًا) ويشيخ حين يأكل ويشرب وينام ويقوم (وفي النهاية) يموت. هذه الأمور الخاصَّة بالطبيعة نجدها عند جميع البشر، وليس فقط عند البشر بل وأيضًا عند كلِّ الحيوانات التي تملك نفْسًا، كما نجد بعضها في الأشجار. هذا هو عمل الطبيعة أن تفعل كلَّ شيء وتصنعه وتنتجه كما أُمرت، وهذه الطبيعة نجدها محفوظة عند الحيوانات في أعمالها. فالأسد من طبعه يأكل اللحم، ولهذا فكلُّ الأسود آكلة لحوم، والنعجة تأكل العشب ولهذا فكلُّ النعاج آكلة عشب، والنحلة تنتج العسل ومنه تقتات، ولهذا كلُّ النحل هو منتج للعسل، والنملة تجمع المؤونة في الصيف لتقتات منها في الشتاء، ولهذا كلُّ النمل يفعل هكذا، والعقرب تجرح بمنخسها من لم يلحق بها أذى، ولهذا تفعل كلُّ العقارب هكذا. أجل، كلُّ الحيوانات تحافظ على طبيعتها، فلا يأكل العشبَ آكلُ اللحم، ولا يأكل اللحمَ آكلُ العشب.

16. »أمّا الناس فلا يتصرَّفون على هذا الشكل، ولكنَّهم في ما يتعلَّق بأجسادهم يحافظون على طبيعتهم مثل الحيوان؛ أمّا في ما يتعلَّق بروحهم فهم يفعلون ما يريدون كأحرار مسلَّطين على نفوسهم على مثال الله. فمنهم من يأكل اللحم ولا يقرب الخبز، ومنهم من يميِّز (فيأكل) لحمًا دون آخر، ومنهم من لا يأكل لحم أي حيوان فيه نفس (حيَّة). منهم من يجامع أمَّه وأخته وابنته، ومنهم من لا يقرب امرأته، ومنهم من يثأر لنفسه كالأسد والنمر، ومنهم من يؤذي الذي لم يسئ إليه كالعقرب، ومنهم من يُقاد كالنعاج فلا يؤذون من يقودهم. منهم من يتصرَّف بحسب صلاح (قلبه)، ومنهم بحسب العدالة (المتعارف عليها) أو بشرِّ (قلبه). ويقول قائل: لكلِّ واحد طبيعته التي تدفعه إلى أن يعمل على هذا الشكل، ولكنَّنا نرى أنَّ الأمر ليس هكذا. فهناك زناة وسكّيرون وصل إليهم التأديب والمشورة الصالحة فصاروا أعفّاء زاهدين واحتقروا شهوة أجسادهم. وهناك أناس تصرَّفوا بالعفَّة والزهد، ولكنَّهم أهملوا التأديب الحقّ وأشاحوا بوجوههم عن وصايا الله (ومشورة) معلِّميهم، فسقطوا وحُرموا طريق الحقِّ وصاروا زناة شرهين. وهناك من يتوب عن سقطته من جديد، فتحلُّ عليه مخافة (الله) فيعود إلى الحقِّ الذي كان قائمًا فيه.

17. »إذًا أين هي طبيعة الإنسان؟ ها إنَّ جميع البشر يتميَّزون الواحد عن الآخر في تصرُّفاتهم ورغباتهم، والذين يَثبتون على فكر واحد ورأي واحد يُشبهون بعضهم بعضًا، أمّا الذين ما زالت شهوتهم تخدعهم وسخطهم يقودهم، ثمَّ يبغون في أن يحمِّلوا خالقهم خطيئتهم ليجدوا نفوسهم بدون خطيئة ويحكمون بكلمة فارغة على الذي خلقهم، فهم لا يدرون أنَّ الطبيعة لا ناموس لها(30). لا يُلام الإنسان لقامته الطويلة أو القصيرة، (للونه) الأبيض أو الأسود، لوسع عينيه أو ضيقهما أو بسبب عاهة في جسمه، بل يُلام إذا كان سارقًا أو كاذبًا أو عاملاً بالغشّ أو مسمِّمًا لأحد أو شاتمًا له أو عاملاً بشيء يشبه ذلك. من هنا يتَّضح أنَّه لا يحكم علينا في ما ليس في أيدينا ولا نُزكّى بما جاءنا من الطبيعة. فما نفعله بحرِّيَّتنا الشخصيَّة نُزكَّى عليه ونُمدح إذا كان صالحًا، ونُلام عليه ونُشجب إن كان بغيضًا«.

18. ومن جديد سألناه وقلنا له: »يقول البعض إنَّ الناس يقودهم قرار القدر(31) مرَّة إلى الشرِّ ومرَّة إلى الخير«.

فأجابنا: »يا فيلبُّس بريمو، وأنا أيضًا أعرف أنَّ هناك أناسًا يسمَّون كلدانيّين وآخرين غيرهم، يحبُّون التعرُّف إلى هذا الفنّ، كما إنّي أنا أحببته في وقت من الأوقات. وقيل لي في مكان آخر: إنَّ نفس الإنسان تتوق أن تعرف شيئًا لا يعرفه الكثيرون، وهؤلاء الناس (أي الكلدانيّون) يرغبون في الشيء نفسه: كلُّ ما يفعلونه من شرٍّ أو من خير، وكلُّ ما يحصل لهم من فقر أو غنى، من مرض أو صحَّة أو ضعف في الجسم، كلُّ هذا يُرجعونه إلى إدارة هذه الكواكب المسمّاة سباعيَّة وهم يُقادون بها. وهناك آخرون يقولون عكس ما يقوله أولئك، بحيث يعتبرون أنَّ هذا الفنَّ هو كذب من عند الكلدانيّين وأنَّ القدر غير موجود وإن هو إلاَّ اسم من دون مُسمّى، وكلُّ ما في يد الإنسان، صغيرة أو كبيرة، ضعف الجسد وعجزه، كلُّ هذا يحصل للإنسان بالصدفة. وهناك آخرون يقولون: كلُّ ما يفعله الإنسان بإرادته، فهو إنَّما يفعله بالحرِّيَّة التي وُهبت له، أمّا ما يحصل له من عجز وضعف وسوء حال فهو عقاب يتقبَّله من يد الله.

19. »يبدو لي بحسب ضعفي أنَّ في هذه الآراء الثلاثة بعض الحقّ وبعض الخطأ. هي حقٌّ لأنَّ الناس يتكلَّمون بحسب ما يتصوَّرون، ويرون الأمور كما تُعرض أمامهم. وهي خطأ لأنَّ حكمة الله أغنى من (حكمة البشر) وهي التي أقامت العالم والبشريَّة، وخلقت الإنسان، ورتَّبت »المدبِّرين«، ووهبت لكلِّ واحد السلطة التي تليق به. وأنا أقول إنَّ هذه السلطة هي لله والملائكة والمسلَّطين والمدبِّرين والعناصر والناس والحيوانات. وكلُّ هذه الطغمات التي تكلَّمت عليها لم توجَب لها السلطة على كلِّ شيء. المسلَّط على كلِّ شيء هو واحد، وأمّا (الباقون) فهم مسلَّطون على شيء ولا مسلَّطون على شيء آخر، كما قلت، لتظهر (في النهاية) جودةُ الله في الذين لهم سلطان؛ أمّا الذين لا سلطان لهم فيعرفون أنَّ لهم الربّ. إذًا، هناك القدر، كما يقول الكلدانيّون، بحيث لا يكون شيء بحسب إرادتنا. وهذا الأمر واضح في أنَّ كثيرًا من الناس يريدون أن يكونوا أغنياء ومسلَّطين على الآخرين، أو يتمتَّعوا بصحَّة الجسد وأن تخضع لهم الأمور كما يرغبون. غير أنَّ الغنى لا يوجد إلاَّ عند القليلين والسلطة إلاَّ عند بعضهم، ولم تُعطَ صحَّة الجسد لجميع الناس. والأغنياء لا يتمتَّعون كاملاً بغناهم، والمسلَّطون لا يُطاعون كما يريدون. وسيأتي وقت لا يُطاعون كما لا يريدون وسيأتي وقت يغتني فيه الأغنياء كما يرغبون، ويأتي آخر يفتقرون فيه كما لا يرغبون. والذين يفتقرون افتقارًا كاملاً يَحيون كما لا يريدون ويعيشون في العالم كما لا يرغبون، ويتمنّون أشياء ولكنَّ هذه الأشياء تهرب منهم. كثيرون يُنجبون أولادًا ولا يربّونهم، وآخرون يربّونهم ولا يتمتَّعون بهم، وآخرون يحتفظون (بأولادهم) فيكون لهم منهم الذلُّ والعذاب. آخرون يغتنون كما يريدون ويمرضون كما لا يريدون. آخرون يتمتَّعون بالصحَّة كما يريدون ويفتقرون كما لا يريدون. هناك من له الكثير ممّا يريد والقليل ممّا لا يريد، وهناك من له الكثير ممّا لا يريد والقليل ممّا يريد. وهكذا فالغنى والمجد والصحَّة والمرض والأبناء وكلّ ما نشتهيه موضوعٌ تحت (حكم) القدر ولا سلطان لنا عليه. فنحن نبتهج ونفرح بالأشياء التي تحصل كما نريد ونحن نُدفَع رغمًا عنّا إلى ما لا نريد. فيبدو واضحًا أمام الأشياء التي صارت لنا، ونحن ما رغبنا فيها أو رغبنا فيها، أنَّها صارت لنا لا لأنَّنا أردناها، بل هي صارت لأنَّها صارت ونحن نرغب في بعضها ولا نرغب في بعضها الآخر. وهكذا فنحن البشر تقودنا الطبيعةُ بالتساوي والقدر بطرق مختلفة، ولكنَّ كلَّ إنسان يسير بحرِّيَّته كما يشاء.

20. »إذًا نقول الآن ونبيِّن أنَّ القدر لا يتسلَّط على كلِّ شيء لأنَّه هو نفسه المدعوّ القدر إنَّما هو ترتيب مسيرة (الكون) كما وهبها الله للسلاطين والعناصر(32). وبحسب هذه المسيرة والنظام، تختلف العقول بنزولها إلى النفس وتختلف النفوس بنزولها إلى الأجساد، وهذا الاختلاف يسمّى القدر والطالع لهذه المجموعة التي تُغربَل وتُنقّى لتساعد من حصل ويحصل على حنان الله وجوده حتّى النهاية. إذًا يُقاد الجسد بالطبيعة فيما النفس تتألَّم معه وهي تدرك، غير أنَّ الجسد لا يحسُّ بضيق أو مساعدة من القدر في كلِّ ما يفعله. فالرجل لا يكون أبًا قبل أن يبلغ الخامسة عشرة ولا تصير المرأة أمٌّا قبل الثالثة عشرة، والشيخوخة أيضًا لها ناموسها فتحرم النسوة من الإيلاد ويخسر الرجال القوَّة التي تجعلهم يُنجبون. أمّا سائر المخلوقات الحيَّة (الحيوانات) التي تُقاد هي أيضًا بطبيعتها، فهي لا تنجب فقط قبل هذه السنوات التي ذكرت بل تشيخ ولا تستطيع الإيلاد مثل أجسام البشر التي لا تعود تُنجب الأولادَ في الشيخوخة. لا يستطيع القدر أن يعطيهم أولادًا في وقت لم تعد طبيعة الجسد قادرة على ذلك، ولا يستطيع القدر أن يحفظ جسد الإنسان في الحياة دون أن يأكل وأن يشرب، كما لا يعطيه عدم الموت إن هو أكل وشرب. هذه الأمور وكثير غيرها هي خاصَّة بالطبيعة.

21. »ولكن عندما تكتمل الأزمنة وأشكال الطبيعة، يبرز القدر بينها ويصنع أمورًا مختلفة. مرَّة يساعد الطبيعة ويقوّيها ومرَّة يؤذيها ويذلُّها. من الطبيعة النموُّ وكمال الجسم، وخارجًا عن الطبيعة، ومن القدر، أمراض الجسد وفساده. من الطبيعة مجامعة الذكور والإناث وراحة هؤلاء وأولئك، ومن القدر البغض وانفصال شركة (الزواج) وكلّ نجاسة وعمل لا أخلاقيّ يفعله البشر بسبب شهوتهم عند المجامعة. من الطبيعة الولادة والأبناء، ومن القدر يكون أنَّ الأولاد مرَّة يفسدون ومرَّة يُرمون ومرَّة يموتون بعمر مبكِّر. من الطبيعة الشبع الكامل لكلِّ الأجساد، ومن القدر نقص القوت وضيق الأجساد. بالإضافة إلى ذلك، من القدر الشراهة والفسق وكلاهما غير ضروريّ. الطبيعة تأمر الشيوخ أن يكونوا قضاة للشبّان وحكماء للجهّال، والأقوياء أن يكونوا رؤساء على الضعفاء، والشجعان على الجبناء. ولكنَّ القدر يجعل الأولاد قوَّادًا للشيوخ والجهّال للحكماء، وفي وقت الضيق يسوس الضعفاء الأقوياء والجبناء الشجعان. وتيقَّنْ أنَّ الطبيعة تبعد في كلِّ وقت عن طريقها القويم، والذي يسبِّب هذا الابتعاد هو القدر لأنَّ الرؤساء والمدبِّرين الذين منهم يأتي الاختلاف والذين يدعون الطالع، يواجه الواحد الآخر. فالذين عن اليمين يُدعَون مساعدين للطبيعة ويزيدون على جمالها عندما تساعدهم المسيرة(33)، فيقفون في مقام عال في المنطقة المخصَّصة لهم. والذين عن اليسار يُسمّون أشرارًا. هؤلاء عندما يمسكون بمقام رفيع يكونون معارضين للطبيعة وهم لا يضرُّون الناس وحسب، بل أحيانًا الحيوان والشجر وثمر (الحقل) ونتاج السنة وينابيع الماء وكلّ ما يقع تحت تأثيرهم في الطبيعة.

22. »وبسبب هذا الانقسام واختلاف الرأي بين السلاطين، نجد أناسًا يعتبرون أنَّ العالم مدبَّر بدون قاعدة، لأنَّهم لا يعرفون أنَّ هذا الانقسام والاختلاف في الرأي والبرارة والخطأ يعود إلى النظام الذي وهبه الله في الحرِّيَّة بحيث أنَّ هذه الكائنات الفاعلة بسلطة ذاتيَّة تكون بارَّة أو خاطئة. فكما رأينا أنَّ القدر (يستطيع) أن يسحق في الطبيعة، هكذا نقدر أن نرى كيف أنَّ حرِّيَّة الإنسان تتغلَّب على القدر وتسحقه، لا في كلِّ شيء، كما أنَّ القدر لا يتغلَّب على الطبيعة في كلِّ شيء. وهكذا يجب على كلٍّ من هذه الثلاثة أي الطبيعة والقدر والحرِّيَّة أن يحفظ طريقته الخاصَّة في الوجود إلى أن تتمَّ المسيرة ويمتلئ الكيل والعدد، فيبرز أمام الذي يأمر مسكن ونهاية كلِّ الخلائق وقيام كلِّ الكائنات والطبائع«.

23. قال عويدا: »لا يفعل الإنسان الشرَّ بسبب طبيعته، هذا ما اقتنعتُ به انطلاقًا من برهانك، ولا يتصرَّف الناس (كلُّهم) بطريقة ذاتها. والآن إن كنتَ تستطيع أن تبيِّن أنَّ الذين يفعلون الشرّ، إنَّما يفعلون بسبب القدر والحظّ، حينئذٍ يقترب من الصالحات ويتجنَّب البغيضات، ومن أجل هذا يُدانٍ بعدل في اليوم الأخير«.

24. أجاب برديصان: »رأيتَ أنَّ الناس لا يتصرَّفون بالطريقة ذاتها فاقتنعتَ أنَّهم لا يفعلون الشرَّ بسبب طبيعتهم (وحدها). والآن سأقودك إلى الاقتناع أنَّهم لا يفعلون الشرَّ أبدًا بسبب قدرهم. وسنبيِّن لك أنَّ الأقدار والسلاطين لا يحرِّكون البشر قطعًا وبالمساواة، بل هي الحرِّيَّة الشخصيَّة التي تمنعنا أن نخدم الطبيعة أو نتحرَّك أمام توجيه القدر«.

25. قال عويدا: »بيِّنْ لي هذا فأقتنع به، وكلّ ما تأمرني به أفعله«.

أجاب برديصان: »هل قرأتَ كُتُبَ كلدان بابل وفيها كُتبَ عن تأثير الكواكب المتزاوجة على طالع الناس؟ (هل قرأتَ) كُتب المصريّين التي تروي كلَّ هذه الأنواع التي تحصل للبشر«؟

قال عويدا: »قرأت الكتب التنجيميَّة ولكنّي لم أعرف كتب البابليّين من كتب المصريّين«.

أجاب برديصان: »(ما قرأته) هو ما يعلِّمه هذان البلدان«.

قال عويدا: »أعرف أنَّ الأمر هو هكذا«.

أجاب برديصان: »فاسمع الآن (وحاولْ) أن تفهم أنَّ كلَّ الناس على الأرض لا يفعلون ما تحدِّده لهم الكواكب بواسطة قدرهم وقسمتهم؛ فالناس يضعون الشرائع في كلِّ بلد بهذه الحرِّيَّة التي وهبها الله لهم، وهذه الموهبة تعارض قدر السلاطين الذين يأخذون ما لم يُعطَ لهم. وها أنا أبدأ فأتكلَّم عن (هذه الشرائع) بقدر ما أتذكَّر، وأبدأ من الشرق الذي هو أوَّل العالم كلِّه«(34).

26. »للشيريّين(35) شرائع تمنعهم أن يقتلوا ويزنوا ويعبدوا الأوثان. في كلِّ (قطر) الشيريّين لا نجد وثنًا أو زانية، لا قاتلاً ولا مقتولاً مع أنَّهم هم أيضًا مولودون في أيَّة ساعة وأيِّ يوم. وحتّى المرّيخ القويّ الرابض في وسط السماء لا يضايق حرِّيَّة الشيريّين بحيث يجعل الإنسان يسفك دم صاحبه بسيف من حديد. والزهرة الموضوعة مع المرّيخ لا تَفرض على الرجل الشيريّ أن يضاجع امرأة صاحبه أو امرأة أخرى. هناك (في تلك البلاد) تجد الأغنياء والفقراء والمرضى والأصحّاء والمتسلِّطين والخاضعين لأنَّ هذه الأمور موهوبة لسلطة المدبِّرين«.

27. »ونجد أيضًا في الهند شرائع البراهمة(36) الذين يشكِّلون آلافًا وربوات عديدة: هم لا يقترفون قتلاً ولا يهابون وثنًا ولا يزنون ولا يأكلون اللحم ولا يشربون الخمر. أجل، بينهم لا يحدث شيء من هذا، وها مرَّت آلافُ السنين على هؤلاء الناس الذين يمارسون هذه الشريعة التي وضعوها لنفوسهم«.

28. »وهناك شريعة أخرى في الهند(37) في إقليم يقيم فيه أناس ليسوا من جماعة البراهمة ولا يأخذون بتعليمهم. هم لا يعبدون وثنًا ولا يقترفون الزنى أو القتل، ولا يصنعون شرٌّا آخر لا يحسن في عيني البراهمة. وفي أقاليم الهند، هناك أناس تعوَّدوا أن يأكلوا اللحوم كسائر الشعوب الذين ياكلون لحم الحيوان. فالكواكب الشرّيرة لم تفرض على البراهمة أن يعملوا شرٌّا ونجاسة، والكواكب الخيِّرة لم تَدفع سائر الهنود أن يصنعوا شرٌّا. فالكواكب الموضوعة في مكان مؤاتٍ وفي بروج الناس، لم تقنع أكلة لحوم البشر أن يستعملوا في مأكلهم ما هو نجس وبغيض«.

29. »والفرس(38) أيضًا وضعوا لنفوسهم شرائع، بموجبها يتزوَّجون أخواتهم وبناتهم وبنات بناتهم، ومنهم من يبالغون فيتزوَّجون أمَّهاتهم. بعض هؤلاء الفرس انتشروا وعاشوا في ماداي وفي أرض الفرات وبلاد الفرات ومصر وفريجيا، وهم الذين يُسمّون مجوسًا. وهم في كلِّ البلدان والأقاليم التي يقيمون فيها، يتصرَّفون بحسب الشريعة التي وضعها آباؤهم. ونحن لا نستطيع أن نقول إنَّ كلَّ المجوس وسائر الفرس يقيمون حيث الزهرة موضوعة مع القمر ومع زحل في بيته وتخومه، وعطارد حاضر شاهد.

»هناك مناطق عديدة في مملكة الفراتيّين حيث الرجال يقتلون نساءهم وأخوتهم وأولادهم، فلا يلحقهم من جرّاء ذلك عقاب. أمّا من يقتل أحدًا من هؤلاء عند الرومان أو اليونان، فهو يستوجب عقاب النقمة الكبير«.

30. »عند الجيليّين(39) النساء يزرعنَ ويحصدنَ ويبنينَ (البيوت) ويَقمنَ بكلِّ الأعمال. هنَّ لا يلبسن ملابس ملوَّنة ولا ينتعلن أحذية ولا يستعملن زيوتًا مطيِّبة. لا يوبِّخهنَّ أحد إن هنَّ زنين مع الغرباء، أو ضاجعن عبدًا في البيت. أمّا رجال هؤلاء الجيليّات فهم يلبسون لباسًا ملوَّنًا، ويتزيَّنون بالذهب والحجارة الكريمة ويدَّهنون بالزيوت الطيِّبة، وهم يتصرَّفون على هذا الشكل، لا لأنَّهم مخنَّثون بل تجاوبًا مع الشريعة الموضوعة لهم. كلُّ الرجال فيهم مولعون بالصيد والحرب. ونحن لا نستطيع أن نقول إنَّ كلَّ النساء جُعلن في منطقة الزهرة، أو الجدي أو الدلو، في مكان الحظِّ التعيس، ولا نستطيع أن نقول إنَّ (الرجال) الجيليّين جُعلوا في منطقة عطارد والحمل والزهرة في المكان الذي كُتب عنه أنَّ فيه يولد رجال أشدّاء ومخنَّثون«.

31. »عند البوحراتيّين، ويسمّون أيضًا القوشان(40)، تتزيَّن النساء بلباس الرجال الجميل وبالذهب الكثير والحجارة الكريمة الحسنة، ويخدمهنَّ من العبيد والإماء أكثر ممّا لبعولهنَّ. يركبن الخيل ويتزينَّ بالذهب والحجارة الكريمة. لا يحافظن على الطهارة بل يضاجعن عبيدهنَّ والأغراب الذين يأتون إلى بلدهنَّ، فلا يوبِّخهنَّ بعولُهنَّ. هنَّ لا يَخِفن بعولهنَّ الذين يحسبون نساءهم أسيادًا عليهم. ولكنَّنا لا نستطيع أن نقول إنَّ النساء البوحراتيّين جُعلن في منطقة الزهرة والمرّيخ، وإنَّ المشتري يكون في بيت المرّيخ وسط السماء حيث تولد الغنيّات والفاجرات اللواتي يخضعن لبعولهنَّ في كلِّ شيء«.

32. »عند الرقميّين والرهاويّين والعرب(41) لا تُقتل فقط المرأة الزانية، بل تُعاقب أيضًا تلك التي يقع عليها الشكّ«.

33. »وُضعت شريعة في حطرا(42) يُعاقب بموجبها بالرجم كلُّ من سرق شيئًا زهيدًا ولو قليلاً من الماء. أمّا عند القوشان فمن يقترف مثل هذه السرقة يُبصَق في وجهه. ومن يسرق سرقة صغيرة عند الرومان يُجلد ثمَّ يُترك (حرٌّا). فمن عِبْر الفرات إلى المشرق، من شُتم كسارق أو كقاتل لا يغضب، أمّا إن شُتم كمضاجع للذكور فهو يلاحَق حتّى القتل«.

34. »... عند... الشبّان... الشريعة(43) لا تحكم عليهم. ثمَّ، في كلِّ بلاد المشرق الذين يشتمون بمعرفة يقتلهم آباؤهم وإخوتهم وأحيانًا لا يُدفنون«.

35. »في الشمال وفي بلاد الجرمان(44) وجوارها يكون الغلام الجميل كامرأة للرجل وتقام له حفلة عرس، ولا يكون ذلك فضيحة أو لعنة بسبب الشريعة المعمول بها. ولا يمكن لكلِّ الذين في غالية الذين يُسامون بهذه الفضيحة أن يكون طالعهم عطارد مع الزهرة في بيت زحل وعلى حدود المرّيخ وفي أبراج الغرب. فالرجال الذين ولدوا هكذا، كُتب أنَّهم يُحتقرون كما لو كانوا نساء«.

36. »عند البريطانيّين(45) يتزوَّج الرجال العديدون امرأة واحدة«.

37. »عند الفراتيّين(46) يتزوَّج رجل واحد نساء عديدات وكلُّهنَّ يطعن أوامره بشأن الطهارة، لأنَّ تلك هي الشريعة الموضوعة لهنَّ في ذلك البلد«.

38. »الأمازون(47) شعب كامل (من النساء) لا أزواج لهنَّ. هنَّ كالحيوانات، يعبرن النهر مرَّة في السنة، في الربيع، ويخرجن من تخومهنَّ. بعد هذا، يُقمن على الجبل عيدًا عظيمًا فيأتي الرجال من هذه المناطق ويقضون معهنَّ أربعة عشر يومًا، يضاجعوهنَّ فيَحبلن منهم ثمَّ يعبرن (النهر) من جديد (ويعدن) إلى موطنهنَّ. وعندما يلدن يطرحن الذكور ويربّين البنات. ومعروف أنَّهم يفعلن هذا كما تأمرهنَّ الطبيعة. فكلُّهنَّ يحبلن في شهر واحد ويلدن في شهر واحد أو قبل ذلك بقليل أو بعده بقليل. وكلُّهنَّ، كما سمعنا، شُجاعات ومحاربات ولا يستطيع كوكب أن يساعد هؤلاء الذكور، فلا يُطرحون«.

39. »كُتبَ في كتاب الكلدانيّين(48) أنَّه عندما يقف عطارد مع الزهرة في بيت عطارد فهو يصنع المصوّرين والرسّامين والصيارفة، ولكن عندما يقف في بيت الزهرة فهو يصنع العطّارين والراقصين والمغنّين والشعراء. وفي بلاد بني طيء والشرق، وفي ليبيا ونوميديا العليا وموريتانيا التي على فم الأوقيانس وفي جرمانيا الخارجيَّة وسرمطيا العليا وفي إسبانيا وكلِّ البلدان الواقعة غربيّ البنطس وفي بلد الهلّينيّين والألبانيّين والصصويّين وفي بروسا التي في عبر دورا، لا تجد نحّاتًا ولا مصوِّرًا ولا عطّارًا ولا حرّافًا ولا شاعرًا. إذًا، لا تأثير لعطارد والزهرة على مدار العالم كلِّه. وفي كلِّ ماداي عندما يموت إنسان يُرمى للكلاب ولو بقي فيه قليل من الحياة. فالكلاب تأكل كلَّ موتى ماداي. فهل نستطيع أن نقول أنَّ كلَّ المادايّين وُلدوا حين كان القمر واقفًا مع المرّيخ في يوم السرطان تحت الأرض؟ وكلّ الهنود يُحرَقون بالنار عندما يموتون، وتُحرَق معهم نساؤهم الكثر وهنَّ أحياء. فهل نقدر أن نقول إنَّ كلَّ نساء الهند اللواتي يُحرقن وُلدن حيث يقيم المرّيخ مع الشمس في ليل الأسد تحت الأرض كما يُولد الناس الذين يُحرقون بالنار.

»والجرمان كلُّهم يموتون خنقًا ما عدا الذين يموتون في الحرب. فمن المستحيل أن يكون كلُّ الجرمان وُلدوا عندما يكون القمر والساعة بين المرّيخ وزحل«.

40. »إلاَّ أنَّه في كلِّ البلدان، يُولَد الناس كلَّ يوم وكلَّ ساعة ولادات تختلف الواحدة عن الأخرى، غير أنَّ شرائعهم تتغلّب على قرار (القدر) فيتدبَّرون (أمورهم) بحسب عوائدهم. فلا يضيّق القدَرُ على الشيريّين ليقترفوا جريمة قتل إن هم لم يريدوا، ولا يجبر البراهمة على أكل اللحم، ولا يمنع الفرس من التزوُّج ببناتهم وشقيقاتهم، والهنود من أن يُحرَقوا، والمادايّين من أن تأكلهم الكلاب، والفراتيّين من أن يتزوَّجوا نساء عديدات، والبريطانيّين من أن تتزوَّج امرأةٌ الواحدة رجالاً عديدين، وأهل الرها من أن يكونوا أعفّاء، واليونان من أن يمارسوا الرياضة (وهم عراة)، والرومان من احتلال البلدان في وقت واحد، والغاليّين من مضاجعة بعضهم بعضًا، والأمازون من تربية الذكور. وطالعُ الإنسان لا يجبره في مسيرة الكون على استعمال فنّ ربَّة الشعر. ولكن كما قلت، كلُّ الناس في كلِّ شعب وكلِّ بلد، يتصرَّفون بحرِّيَّتهم الطبيعيَّة كما يريدون، ويخضعون للقدر وللطبيعة بسبب الجسد الذين يلبسون، مرَّة بإرادتهم ومرَّة بدون إرادتهم. ففي كلِّ بلد وفي كلِّ شعب، هناك أغنياء وفقراء، وأسياد وعبيد، أصحّاء ومرضى، حسب قدر كلِّ واحد منهم وطالعه«.

41. فقلت له: »يا أبانا برديصان، أقنعتنا بذلك فعرفنا أنَّها أمور حقيقيَّة، ولكن أعلم أنَّ الكلدانيّين يقولون إنَّ الأرض مقسومة إلى سبعة أقسام اسمها سبعة أقاليم، وعلى كلِّ قسم منها يتسلَّط واحد من هؤلاء السبعة، وفي كلِّ واحد من هذه البلدان تستظهر إرادة هذا السلطان الذي يُسمّى الشريعة«.

42. أجابني (برديصان): »أوَّلاً، اعرف يا ابني فيلبُّس أنَّ الكلدانيّين وجدوا هذا التعليم لينشروا به ضلالهم. فإن كانت الأرض مقسومة إلى سبعة أقسام، إلاَّ أنَّ كلَّ قسم من هذه الأقسام يتمتَّع بشرائع عديدة تميِّزه عن الآخر. فنحن لا نجد سبعَ شرائع في العالم على عدد الكواكب السبعة، ولا اثنتي عشرة (شريعة) على عدد البروج، ولا ستًا وثلاثين على عدد درجات الفلك، ولكن هناك شرائع عديدة في كلِّ مملكة وفي كلِّ بلد، وفي كلِّ منطقة ومكان يفترق الواحد عن الآخر. فأنتم تتذكَّرون أنّي قلت لكم إنَّه في إقليم الهند الواحد، هناك أناس لا يأكلون لحم الحيوان، وهناك آخرون يأكلون لحوم البشر. وقلت لكم أيضًا عن الفرس والمجوس الذين يتزوَّجون بناتهم وشقيقاتهم لا في إقليم فارس وحسب، بل في كلِّ مكان ذهبوا إليه، وهم بذلك يعملون بشريعة آبائهم ويحافظون على الممارسات السرّيَّة التي سلَّموها إليهم. وتذكَّروا أيضًا أنَّ شعوبًا عديدة سمَّيتُها لكم تدور في كلِّ الأرض، لا في إقليم واحد، بل في كلِّ ريح وإقليم، ولكن ليس لها الفنّ الذي يعطيه المرّيخ والزهرة عندما يتَّحد الواحد بالآخر. فإن كانت الشرائع مرتبطة بالمناخات، فهذا لا يمكن أن يكون، ولكن ما يحصل هو أنَّ هؤلاء الناس البعيدين يمتنعون في طريقة حياتهم عن الامتزاج بأناس أخر كثيرين.

43. »فكِّروا: كم هم الرجال الحكماء الذين أبطلوا شرائع بلدانهم حين بدت لهم سيِّئة، وكم من الشرائع أُبطلت بسبب الضرورة، وكم هم الملوك الذين احتلّوا بلدانًا ليست لهم فأبطلوا الشرائع القائمة وجعلوا مكانها الشرائع التي أرادوا. عندما تمَّ ذلك، لم يقدر كوكب من الكواكب أن يحافظ على الشريعة، وهذا أمرٌ تلاحظونه أمامكم. منذ زمن غير بعيد احتلَّ الرومان بلاد العرب وأبطلوا كلَّ شرائعهم السابقة ولاسيَّما (شريعة) الختان التي اعتادوا أن يمارسوها. الإنسان المسلَّط على نفسه، يَخضع لشريعة وضعها له آخر مسلَّط على نفسه أيضًا. وأكثر من هذا، أستطيع أن أقنع الجهّال وضعاف الإيمان فأقول لهم: كلُّ اليهود الذين قبلوا الشريعة على يد موسى، يختنون أولادهم الذكور في اليوم الثامن ولا ينتظرون مجيء الكواكب ولا يأخذون بعين الاعتبار البلد (الذي يقيمون فيه). فالكوكب المسلَّط على الإقليم (الذي يقيمون فيه) لا يسوسهم بالقوَّة القاهرة، ولكنَّهم يعملون بالشريعة التي وضعها لهم آباؤهم أكانوا في أدوم أو في بلاد العرب، في اليونان أو في بلاد فارس، في الشمال أو في الجنوب. ومن المعروف أنَّهم لا يفعلون ذلك بسبب البروج، لأنَّه يستحيل على كلِّ اليهود الذين يُختنون في اليوم الثامن أن يكون المرِّيخ مواليًا لهم بحيث يمرُّ الحديدُ عليهم فيسيل دمهم.

44. »وفي البلد الذي يقيمون فيه هم لا يعبدون الأوثان، ويمتنعون عن العمل هم وأولادهم يومًا واحدًا في الأسبوع، فلا يقومون بسفَر في ذلك اليوم ويمتنعون عن الشراء والبيع. لا يذبحون حيوانًا في يوم السبت ولا يوقدون نارًا ولا يذهبون إلى القضاء. ومع ذلك لا يُوجَد واحد أمرَه القدر في يوم السبت أن يدخل في محاكمة فتبرأ ساحته أو يحكم عليه، أن يهدم أن يبني، أن يعمل شيئًا ممّا يعمله الناس الذين لا يأخذون بهذه الشريعة. ولهم أيضًا فرائض أخرى فلا تسير حياتهم كحياة سائر البشر وإن كانوا في هذا اليوم عينه يَلدون ويُولدون، يمرضون ويموتون، لأنَّ هذه الأمور لا تتعلَّق بسلطة البشر.

45. »في سورية والرها اعتاد الرجال أن يُخصوا ذواتهم إكرامًا لترعتا، ولكن لمّا آمن الملك أبجر (بالله) أمر بقطع يد كلِّ إنسان يخصي نفسه. ومن ذلك اليوم لم يعد أحد يخصي نفسه في بلاد الرها.

46. »وماذا نقول عن شعبنا المسيحيّ الجديد الذي أقامه المسيح حين جاء في كلِّ بلد وفي كلِّ ناحية. نحن كلُّنا، في كلِّ مكان، نسمَّى باسم المسيح الواحد الذين في غالية لا يتزوَّجون الذكور ولا الذين من بلاد الفرات يتزوَّجون بامرأتين، ولا الذين في اليهوديَّة يُختنون. وإخوتنا عند الجيليّين القوشان لا يضاجعون الأغراب، والذين يعيشون في بلاد فارس لا يتزوَّجون بناتهم. والذين يعيشون في ماداي لا يهربون من موتاهم ولا يدفنونهم وهم أحياء ولا يجعلونهم مأكلاً للكلاب. والذين يعيشون في الرها لا يقتلون نساءهم أو شقيقاتهم اللواتي أُخذن في زنى، بل يبتعدون عنهنَّ ويسلِّمونهنَّ لدينونة الله، والذين في حطرا لا يرجمون السارقين. ولكن في أيِّ مكان أقام (المسيحّيون) وفي أيِّ محلٍّ وُجدوا، تفصلهم شرائعُ البلدان عن شريعة مسيحهم، ولا يفرض عليهم قدر المدبِّرين أن يمارسوا ما يبدو لهم نجسًا.

47. »غير أنَّ المرض والصحَّة والغنى والفقر، وكلُّها لا تتعلَّق بحرِّيَّتهم، تَعرض لهم في كلِّ مكان يقيمون فيه. وكما أنَّ حرِّيَّة الإنسان لا تخضع لضرورة (الكواكب) السبعة، وإن خضعت فهي تستطيع أن تقف بوجه مدبِّريها. كذلك لا يقدر هذا الإنسان المنظور أن ينجو بسرعة ممّا يأمره به مدبِّروه، فهو إذًا عبد ومستعبد. فإذا قدرنا أن نعمل كلَّ شيء فنحن كلَّ شيء، وإن لم نتوصَّل أن نعمل شيئًا صرنا آلة بيد الآخرين. وعندما يريد الله أن تكون كلُّ الممكنات بغير اختلال، فأيّ شيء يستطيع أن يقف بوجه إرادته الكبيرة والمقدَّسة. والذين يحسبون أنَّهم يستطيعون أن يقفوا بوجه (هذه الإرادة)، فهم يتصرَّفون لا انطلاقًا من قوَّتهم بل من شرِّهم وضلالهم. وهذا ممكنٌ لزمن قصير، لأنَّ (الله) صالح ويجيز للطبائع أن تكون قائمة في كيانها وأن تتدبَّر بحسب إرادتها. غير أنَّها تبقى أسيرة الأعمال التي تعملها والأفعال التي أُتقنت لمساعدتها. وهذا النظام والتدبير اللذان وُهبا ومُزج الواحد بالآخر، يخفِّفان من قوَّة الطبائع فلا تضرُّ إطلاقًا ولا يُصيبها ضررٌ كما أضرَّت ونالت الضرر قبل خلق العالم. وسيأتي وقتٌ تزول فيه إمكانيَّة الضرر القائمة عندها بسبب التعليم المؤسَّس على مزج واحد بآخر. وبقيام العالم الجديد، ستسكن كلُّ التحرُّكات الشرّيرة وتنتهي كلُّ التمرُّدات ويقتنع الجهّال ويعمُّ السلام والأمان بموهبة ربِّ كلِّ الطبائع«.

انتهى كتاب شرائع البلدان.

1

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM