الفصل الحادي عشر
فـي أفسس
وجه يسوع وجه بولس
حين كتب القدّيس لوقا سفر الأعمال، ما أراد أن يضيف على الإنجيل إنجيلاً آخر، بل أن يجعل الإنجيل متجسِّدًا في حياة الكنيسة. فما يعيشه المؤمنون هو ما عاشه يسوع. بشَّر يسوع وها هم يبشِّرون في الهيكل وفي المجامع وفي البيوت. شفى يسوع المخلَّع حين نقب حاملوه السقف ووضعوه أمام الربّ (مر 2: 4). وهكذا فعل بطرس ويوحنّا مع المخلَّع عند »باب الهيكل المعروف بالباب الجميل« (أع 3: 2). قال بطرس: »باسم يسوع المسيح الناصريّ، قُمْ وامشِ« (آ3). كلام بطرس امتداد لكلام يسوع: »احمل فراشك واذهب إلى بيتك« (مر 2: 11). يسوع أقام ابنة يائيرُس، أحد رؤساء المجمع. قال لها: »طليتا قومي« (أي: يا صبيَّة قومي) (مر 5: 41). ونادى بطرس تلك التلميذة التي توفِّيت في يافا: »طابيثة، قومي« (أع 9: 40). هي يد الربِّ تُمسك بيد بطرس. وفم الربِّ يتكلَّم بفم إسطفانُس، فيردِّد ما قاله يسوع على الصليب. قال إسطفانُس: »أيُّها الربُّ يسوع، تقبَّل روحي!« (أع 7: 59). وسبقه يسوع: »يا أبي، في يديك أستودع روحي« (لو 23: 46). وغفر يسوع لصالبيه (آ34) »لأنَّهم لا يعرفون ما يعملون«. فتعلَّم إسطفانُس: »يا ربّ، لا تحسب عليهم هذه الخطيئة« (أع 7: 60).
وبولس الرسول هو وجه يسوع في خارج أورشليم، في أنطاكية وفيلبّي وكورنتوس بانتظار رومة. واليوم نتعرَّف إلى هذا الوجه في أفسس. ففي هذه المدينة، نقل بولس تلاميذ المعمدان إلى يسوع. وفي هذه المدينة، جادل بولس اليهود والوثنيّين بانتظار أن يختلي بالتلاميذ، على مثال معلِّمه، لا في البرِّيَّة، بل في مدرسة استأجرها هناك. وفي هذه المدينة طرد بولس الشياطين، فملأ الخوفُ الناس »وتعظَّمَ اسمُ الربِّ يسوع« (أع 19: 17). ونتعرَّف أوَّلاً إلى أفسس.
1. أفسس، مدينة مصغَّرة عن الكون
بُنيت هذه المدينة عند مصبِّ نهر Caystre الذي يُدعى اليوم باللغة التركيَّة kûçuk Menderes. والنهر يحمل إليها المياه، والبحر يفتحها على الآفاق. لهذا كانت خلال العصور القديمة، تلك الحاضرة المهمَّة على المستوى الدينيّ كما على المستوى السياسيّ والتجاريّ، ويكفي أن نزور هذه الأيّام آثارها المتبقيَّة لكي نعرف العظمة التي كانت لتلك المدينة.
منذ الألف الأوَّل ق.م، جاء إليها الإيّونيّون من بلاد اليونان وأسَّسوا مركزًا تجاريٌّا في خليجها، احتلَّها الفرس كما احتلُّوا سائر المدن الإيّونيَّة المقامة في آسية الصغرى، التي هي الجزء الساحليّ من تركيّا الحاليَّة. ولكنَّها ثارت كما ثارت أخيّاتها وما ارتاحت إلاَّ بعد انتصار اليونان على الفرس في ما يُسمّى حروب المادايّين، خلال القرن الخامس ق.م. صارت أفسس في عهدة السلوقيّين بعاصمتهم أنطاكية، قبل أن تنتقل إلى حكم الرومان سنة 133 ق.م.
أفسس، مدينة مصغَّرة عن العالم. فيها المعابد الكثيرة التي تدلُّ على تلفيقيَّة دينيَّة بها يتمُّ التوافق بين المذاهب المتعارضة. وسكّانها ليسوا يونانيّين فقط، بل جاؤوا من الشرق والغرب. والإلاهة الأساسيَّة، أرطاميس، تلك البتول الجفول، لا تنتمي إلى البانتيون أو مجمع الآلهة اليونانيَّة. وشعائر العبادة لها تنطلق من العوائد الأناضوليّة، لا اليونانيَّة. في القرن السادس ق.م. بُنيَ هيكلها العظيم وشارك في التمويل الملك كريسوس المشهور بغناه. ولمّا أحرق هذا الهيكل سنة 356 ق.م. أعيد بناؤه كما كان من قبل ولبث قائمًا حتّى الاجتياح الغوطيّين Goths الآتين من البلاد السكاندينافيَّة سنة 263 ب.م. تُرك ذلك المعبد وشرع الناس يستعملون حجارته من أجل بناء سلجوق Selgûk.
هذا المعبد كان أساسَ ازدهار المدينة التي كان لها نقدٌ خاصٌّ بها مع صورة الغزال والنخيل والنحلة، وهي حيوانات تشير إليها. أمّا أهمُّ حقبة في تاريخ أفسس فالحقبة الرومانيَّة، حيث صارت تلك الحاضرة موضع إقامة حاكم آسية الصغرى، وزاحمت برغامس من أجل اللقب الفخريّ: أولى المدن الآسيويَّة. وفي أيّام الأباطرة الرومان، عدَّت المدينة ربع مليون نسمة، ممّا جعلها من كبريات المدن في الشرق بعد الإسكندريَّة وأنطاكية. أمّا السكّان فكانوا أناضوليّين، يونان، رومان، مع جماعة يهوديَّة ناشطة سوف يتَّصل بها الرسول قبل أن يتوجَّه إلى الأمم. مرفأها كبير ممّا جعلها أكبر تاجرة في آسية الغربيَّة كلِّها، وأغنى مناطق عالم البحر المتوسِّط. والصناعة توسَّعت فيها من حياكة الصوف، إلى أعمال الصياغة ولا سيَّما صياغة تماثيل أرطاميس، إلى صنع القناديل والسرج.
إلى هذه المدينة وصل بولس من كورنتوس وكأنَّه كان تبادل أدوار: جاء أبلُّوس من أفسس إلى كورنتوس، وبولس ترك كورنتوس وأتى إلى أفسس. وجهان من الرسالة، أبلُّوس، ذاك الفصيح اللسان الذي »كان بقوَّة حججه يُسكت اليهود علانية ويبيِّن لهم من الكتب المقدَّسة أنَّ يسوع هو المسيح« (أع 18: 28). وبولس ذاك الرسول الذي يؤسِّس الكنائس الواحدة بعد الأخرى، ولا افتخار له إلاَّ »بصليب ربِّنا يسوع المسيح« (غل 6: 14).
2. من المعمدان إلى يسوع
وأبلُّوس الذي كان »من أهل الإسكندريَّة« (أع 18: 24)، لم يعرف سوى »معموديَّة يوحنّا« (آ25). ومثله تلاميذ عديدون وُجدوا في أفسس. فهُم ما بلغوا إلى ملء الإيمان. شابهوا التلاميذ الذين سمعوا صوت معلِّمهم يشهد ليسوع: »ها هو حمل الله« (يو 1: 29، 35). حينئذٍ مضى اثنان منهم وراء الربّ وأقاما معه نهارًا كاملاً. وهكذا صار تلاميذُ يوحنّا المعمدان تلاميذ يسوع. أتُرى استاء يوحنّا من ذلك؟ كلاّ. بل عرف أنَّ يسوع »يعمِّد« أكثر منه، على ما روى الفرّيسيّون (يو 4: 1-2). وما حدَّدوا إن كان يسوع هو الذي يعمِّد أم تلاميذه. أمّا ردَّة الفعل عند المعمدان فكانت رائعة. جاؤوا يقولون له: »يا معلِّم، ها هو الرجل الذي كان معك في عبر الأردنّ، وشهدتَ له، يُعمِّد هنا، وجميع الناس يجيئون إليه« (يو 3: 26). ماذا كان جوابه؟
»له هو أن يزيد ولي أن أنقص« (آ30). وعبَّر المعمدان عن فرحه. فالذي يتكلَّمون عنه هو »العريس«، هو الذي يدعو إلى أعراس الربِّ في الملكوت، وقد بدأ ذلك في قانا الجليل. أمّا المعمدان فهو »صديق العريس« (آ29). حين بدأ يوحنّا رسالته فرِحَ، ولكن حين وصل تلاميذُه إلى يسوع صار »فرحه كاملاً«.
أتُرى انتقل جميع تلاميذ يوحنّا إلى يسوع؟ كلاّ، على ما يبدو. وسفر الأعمال يشهد على ذلك قرابة سنة 54ب.م. والتقليد المسيحيّ كرَّم المعمدان على أنَّه السابق للمسيح، واعتبره حاملَ كلمات الأنبياء الذين أعلنوا مجيء المسيح، وجعل مدفنه في سابسطة (السامرة القديمة) القريبة من نابلس في فلسطين. وجماعة المندائيّين (أو: المندعيّين، جماعة المعرفة من »ي د ع« في السريانيَّة) أو السبأيين، تأثَّرت بالتيّار العماديّ الذي انطلق من فلسطين، بشكل عامّ، ومن العماديّين بشكل خاصّ. بدأ ذاك التيّار في القرن الأوَّل المسيحيّ فصار شيعة »غنوصيَّة« تشدِّد على المعرفة الباطنيَّة على حساب تلك الآتية من الكتاب المقدَّس أو التقليد. غير أنَّ المندائيّين لم يرتبطوا بيوحنّا المعمدان إلاَّ في حقبة متأخِّرة. كما أخذوا الكثير من العالم اليهوديّ.
فالحركة المندائيَّة التي تجذَّرت في جنوب العراق وفي إيران، اتَّصلت ربَّما بحركة عماديَّة انتشرت بشكل واسع في شرقيّ الأردنّ. تعلَّموا الصوم في ساعات الضيق (مر 2: 18: كان تلاميذ يوحنّا والفرّيسيّون صائمين) والصلاة الخاصَّة التي ربَّما كانت بعيدة عمّا في العالم اليهوديّ، بحيث إنَّ تلاميذ يسوع طلبوا منه يومًا: »علِّمنا أن نصلّي كما علَّم يوحنّا تلاميذه« (لو 11: 1). ولا شكَّ في أنَّ هذه الصلاة جاءت تعبيرًا عن كرازته بما فيها من عنف: »ها هي الفأس على أصول الشجر. فكلُّ شجرة لا تعطي ثمرًا جيِّدًا تُقطَع وتُرمى في النار« (مت 3: 10). أمّا المسيح الآتي »فيأخذ مذراته بيده وينقّي بيدره، يجمع القمح في مخزنه ويُحرق التبنَ بنار لا تنطفئ« (آ12). وهذا العنف في الدينونة الآتية، جعل المعمدان وتلاميذَه لا يفهمون إن كان يسوع هو ذاك الآتي أم يجب أن ينتظروا آخر (مت 11: 3). فيسوع يهتمُّ بالمرضى ويمضي إلى الخطأة ويأكل معهم (لو 15: 1-2).
ذاك كان خطٌّا راح في غياهب »الغنوصيَّة« مع ثنائيَّة تتحدَّث عن إله الخير وإله الشرّ. أمّا الخطّ الذي أخذه بولس، فكان امتدادًا لتعليم يسوع وعمله. كان المعمدانُ السابقَ الذي هيّأ الطريق. إذًا، ليس هو الطريق. فالمسيح وحده هو »الطريق والحقُّ والحياة« (يو 14: 6). فلماذا يتوقَّف الباحث عن الله في منتصف الطريق؟ لا يمكن أن يكون يوحنّا هو »المسيح« كما ظنَّه البعض (يو 1: 20). ولا يمكن أنَّ إنسانًا مَهْما علا مقامه في الدين والدنيا أن يكون »المخلِّص« و»الشافي« وذاك الذي نسير وراءه ونتوقَّف عنده. حينئذٍ لا نكون عند الإله الحقّ، بل أمام صنم »نركع أمامه« ونعبده كما كانوا يعبدون الوثن ويقبِّلون قدميه.
أمّا بولس فوجَّه تلك الجماعة نحو المسيح. حدَّثوه عن »معموديَّة يوحنّا« (أع 19: 3) وكأنَّها كافية. فأجاب: هي لا تكفي. هي استعداد لمعموديَّة من نوع آخر. قال: »يوحنّا عمَّد معموديَّة التوبة، داعيًا الناس إلى الإيمان بالذي يجيء بعده، أي يسوع« (آ4). وجاءت الطريق الجديدة في أربع مراحل: »تعمِّدوا باسم الربِّ يسوع« (آ5). تلك كانت الطريقة قبل أن يتكرَّس العماد كما في إنجيل متّى: »باسم الآب والابن والروح القدس« (مت 28: 19). ثمَّ »وضع بولس يديه عليهم، فنزل عليهم الروح القدس« . فعَلَ بولس هنا كما فعل بطرس ويوحنّا في السامرة (أع 8: 15). مثل هذا العمل دعَتْه الكنيسة فيما بعد سرَّ التثبيت الذي اتَّخذت ممارسته أكثر من شكل، ولبث مضمونه »نوال الروح القدس«.
وماذا كانت النتيجة؟ حصل هنا ما حصل يوم العنصرة (أع 2: 8). و»أخذوا يتكلَّمون بلغة غير لعتهم ويتنبَّأون«. أمّا النبوءة فهي الكلام باسم الربِّ بدون خوف. وعدد هؤلاء المعمَّدين الجدد كعدد الرسل: »وكانوا نحو اثني عشر رجلاً«. مثَّلوا الجماعة الكاملة. صاروا كنيسة وما عادوا بدعة من البدع التي راحت باتِّجاه شرق الأردنّ، مثل جماعة الناصريّين فقط، قبل أن تغيب في الرمال الشاسعة.
2- رسالة التعليم
يسوع هو المعلِّم وفي خطِّه يعلِّم الرسل، ومنهم القدّيس بولس. فيسوع أرسلهم، بل أعطاهم سلطانًا، وأعدَّ لهم الطريق. هو بدأ رسالته: »توبوا، لأنَّ ملكوت السماوات اقترب« (مت 4: 17). وقال للرسل: »بشِّروا في الطريق بأنَّ ملكوت السماوات اقترب« (مت 10: 7). وما نلاحظ بعد أن أتمَّ يسوع توصياته، هو أنَّ يسوع »خرج من هناك ليعلِّم ويبشِّر في المدن المجاورة« (مت 11: 1). هي صورة عن امتداد عمل يسوع في حياة الرسل، وفي حياة الكنيسة حتّى انقضاء العالم. بولس يتكلَّم يسوع يتكلَّم. أبلُّوس يبشِّر يسوع يبشِّر. وكما قال القدّيس أوغسطين: بطرس عمَّد يسوع عمَّد. بهذه الثقة يستطيع الرسول أن يتكلَّم. وهو يقول: »نحن لا نعظ بأنفسنا، بل بيسوع المسيح ربِّنا«.
وهذا ما عمله بولس في أفسس. فبعد جماعة المعمدان الذين كانوا سمعوا »بوجود الروح القدس«، تحوَّل إلى اليهود. دخل المجمع ( أع 19: 8) كما سبق ليسوع أن فعل. بل هو انطلق في رسالته، كما يقول لوقا، من مجمع الناصرة. »قام ليقرأ. فناولوه كتاب النبيّ إشعيا« (لو 4: 16-17). وبعد أن انتهى »ما يخصُّه«، أخذ يقول: »اليوم تمَّت هذه الكلمات التي تلوتُها على مسامعكم« (آ21). انطلق من العهد القديم فوصل إلى العهد الجديد. وسيفعل دومًا ذلك مع تلاميذه، حتّى بعد القيامة. رافق تلميذي عمّاوس اللذين فتحا له قلبيهما. »فشرح لهما ما جاء عنه في جميع الكتب المقدَّسة، من موسى إلى سائر الأنبياء« (لو 24: 27).
ومثل يسوع فعل بولس. حدَّث اليهود عن ملكوت الله. »جادلهم«. أما هكذا جادل يسوع الكتبة والفرّيسيّين. »وبينما الفرّيسيّون مجتمعون سألهم يسوع: ما قولكم في المسيح؟ ابن من هو؟ قالوا له: ابن داود! قال لهم: إذًا، كيف يدعوه داود ربٌّا...؟ (مت 22: 41-43). وكانت النتيجة: »ما قدر أحدٌ أن يجيبه بكلمة، ولا تجرَّأ أحد من ذلك اليوم أن يسأله عن شيء« (آ46).
والجدال مع اليهود لبث حاضرًا في حياة بولس، من البداية إلى النهاية. كما قال سفر الأعمال. منذ أنطاكية بسيدية (أع 13: 13ي) حتّى السجن في رومة. هناك قيل: »فأخذ بولس يحدِّثهم (أي: اليهود) من الصباح إلى المساء، شاهدًا لملكوت الله، محاولاً أن يُقنعهم برسالة يسوع استنادًا إلى شريعة موسى وكتب الأنبياء« (أع 28: 23).
وكما رفض اليهود يسوع، كذلك رفضوا رسله. فالاضطهاد بدأ باكرًا مع رجم إسطفانس ثمَّ موت يعقوب أخي يوحنّا. والرسل الذين اعتادوا أن يصلُّوا في الهيكل (أع 3: 1) لم يسلموا من العذاب. كان لهم الحبس (أع 4: 3)، ثمَّ الجلد (أع 5: 40). وما حصل للرسل حصل لبولس الذي لاحقه اليهود من مدينة إلى مدينة، بل »رجموه وجرُّوه إلى خارج المدينة وهم يحسبون أنَّه مات« (أع 14: 19).
أمّا في أفسس، فسيطر العناد والرفض. وبعد ذلك، شرع اليهود يتكلَّمون »بالسوء على مذهب الربِّ عند الجماعة كلِّها« (أع 19: 9). مذهب الربّ أو طريق الربّ، يختلف عما يقدِّمه العالم اليهوديّ: فأين الختان الذي يربط الإنسان بشعب الله وبالتالي يؤمِّن له الخلاص؟ ولكن بولس سيكون واضحًا: ليس الختان بشيء ولا الغرلة (= عدم الختان). إذا خُتنتَ لا تزداد شيئًا. وإذا لم تُختَن لا ينقصك شيء. والأطعمة الطاهرة؟ ولكن كلُّ ما خلقه الله هو حسن، إذا أكلناه بالشكر. والعلاقة مع الوثنيّين، أولئك البعيدين، الذين يخاف اليهوديّ الاقتراب منهم لكي لا يتنجَّس. فيقول الرسول: اليهود وغير اليهود هم شعب واحد (أف 2: 14). و»شريعةُ موسى بأحكامها ووصاياها« (آ15) أُلغيَت بجسد يسوع. الذين كانوا بعيدين صاروا قريبين. والذين كانوا غرباء هم الآن من أهل البيت. فالخلاص يستند إلى الإيمان بيسوع، لا بممارسة أعمال الشريعة مهما اعتبرها اليهودُ سامية.
تكلَّم اليهود أمام »الجماعة«، أي المؤمنين الأوَّلين، وكأنَّهم يريدون أن يبعدوهم عن المسيح، على مثال ما فعلوا بالغلاطيّين، أولئك الأغبياء الذين سُحرت عقولهم فنسوا أن »المسيح ارتسم أمام عيونهم مصلوبًا« (غل 3: 1). فرأى بولس أنَّهم صاروا »أعداء« الجماعة، فأبعدهم وابتعد عنهم، كما فعل في الماضي. ففي أنطاكية بسيدية قال بولس (مع رفيقه برنابا): »كان يجب أن نبشِّركم أنتم أوَّلاً بكلمة الله، ولكنَّكم رفضتموها، فحكمتم أنَّكم لا تستأهلون الحياة الأبديَّة. ولذلك نتوجَّه الآنَ إلى غير اليهود. فالربُّ أوصانا قال: جعلتُك نورًا للأمم« (أع 13: 46-47).
وفي أفسس، توجَّه بولس إلى اليونانيّين بدءًا بالتلاميذ الذين انفرد بهم. أما هكذا فعل يسوع حين مضى إلى قيصريَّة فيلبُّس. فالناس لا يفهمونه حين يعتبرونه أنَّه المسيح المنتظر الذي يغلب الناس بقوَّة السلاح ويحطِّم الرومان. واستأجر مدرسة تخصُّ معلِّمًا اسمه تيرانوس. هذا كان يعلِّم من الصباح حتّى الحادية عشرة، ثمَّ يعود في الساعة الرابعة بعد الظهر. فكان الرسول يستفيد من »فترة الحرّ« فيعلِّم لا التلاميذ فقط، بل جميع الآتين إليه. وكانت النتيجة: »سمع جميع سكّان آسية (الصغرى) من يهود ويونانيّين كلام الربّ« (أع 19: 10).
3- طرد الشياطين
حين دعا يسوع تلاميذه »أعطاهم سلطانًا يطردون به الأرواح النجسة، ويشفون الناس من كلِّ داء ومرض«. وذاك ما فعله الرسل بعد صعود الربِّ إلى السماء. وما عملوا فقط مثل يسوع، بل أكثر منه بعد أن وعدهم فقال: »من آمن بي يعمل الأعمال التي أعملها، بل أعظم منها، لأنّي ذاهب إلى الآب« (يو 14: 12). ما هذه الموهبة التي أعطيَت للرسل وللكنيسة؟ ويوم تعجَّب التلاميذ لأنَّ يسوع »أيبس« التينة التي لم تعطِ ثمرًا، قال لهم: »آمنوا بالله. الحقَّ أقول لكم: من قال لهذا الجبل: قُمْ وانطرحْ في البحر وهو لا يشكُّ في قلبه، بل يؤمن بأنَّ ما يقوله سيكون، تمَّ له ذلك« (مر 11: 23).
يخبرنا سفر الأعمال ما صنع بطرس من عجائب. كان هناك كسيحٌ. »يا إينياس، شفاك يسوع المسيح، فقُمْ ورتِّبْ فراشك بيدك. فقام في الحال« (أع 9: 34). وأنهض بطرسُ طابيثة وكأنَّها كانت نائمة. وقال القدّيس لوقا: »كانوا يحملون مرضاهم إلى الشوارع ويضعونهم على الأسرَّة والفرش، حتّى إذا مرَّة بطرس يقع ولو ظلُّه على أحد منهم« (أع 5: 17). والنتيجة: المرضى والذين فيهم أرواح نجسة، يُشفَون كلُّهم (آ16).
وما فعله بطرس فعله بولس. مثله أنهض الكسيح وأقام الميت الذي سقط من النافذة، ساعة كان الرسول يعظ في ترواس. ذاك الذي »حُمل ميتًا« (أع 20: 9)، »جاؤوا به حيٌّا« (آ12). وقيل عن بولس: »وكان الله يُجري على يد بولس معجزات عجيبة، حتّى صار الناس يأخذون إلى مرضاهم ما لامس جسده من مناديل أو مآزر، فتزول الأمراض عنهم، وتخرج الأرواح الشرّيرة» (أع 19: 11-12).
لماذا نذكر الأرواح الشرّيرة؟ بسبب ما حصل في أفسس. طرد بولس الشياطين، فجاء من يتقلَّده: «آمرُك باسم يسوع الذي يبشِّر به بولس» (آ13).
نشير هنا إلى أنَّ طرد الشياطين أو الأرواح النجسة، أمرٌ يعود إلى البابلونيّين والأشوريّين. فهذه الممارسة أمرٌ مشروع وتُستعمل في نيَّة صالحة. من يقوم بها؟ أخصائيّون جدّيون وعلماء ذوو وضع اجتماعيّ رفيع. أمّا السحر فكان ممنوعًا، لأنَّ الساحر (وخصوصًا: الساحرة) شخص يحمل الشرَّ والإساءة، وبالتالي يستحقُّ الحكم القاسي. أمّا نصوص الديانة الأشوريَّة البابلونيَّة، فتعود إلى بداية الألف الثاني ق.م. بتأثير من الشعوب السامية على الحضارة الرافدينيَّة. فهناك خطايا تسبِّب الشرور لضحيَّة من الضحايا. لهذا، ينبغي طرد قوى الشرِّ منها. وهناك غضب الآلهة، وعمل الشياطين، والسحر. كما أنَّ هناك أمراضًا على مستوى الجسد والنفس.
من أجل هذا كانت الطقوس: عمل الأيدي (جمر نار، إشعال النار، البصل والبلح، شعرة من المعز). ويترافق كلُّ هذا مع الكلام. وما نجده في بلاد الرافدين، نجده لدى الشعوب القديمة كلِّها، التي تسعى للتحرُّر من هذه «الأرواح»«. نحن لا نجد «طرد الأرواح« في العهد القديم. أمّا في زمن يسوع، فاليهود استعملوا مرارًا هذا »الطقس« لطرد الشياطين (مت 12: 27). أمّا الخطر فكان عظيمًا حين مناداة »أسماء« تُعتبَر حاملة قدرة كبيرة. ولكنَّ يسوع لم يلجأ أبدًا إلى أعمال ذات طابع سحريّ، ولا إلى طقوس شبيهة بتلك التي وُجدت في أيّامه. ما بدَّل الربُّ العقليَّة الجارية، بل شفى وطرد الشياطين (مت 4: 22؛ 9: 32-33). كما أمر رسله الذين لم ينجحوا دائمًا. ولماذا؟ فأعطاهم يسوع الجواب: «لو كان لكم إيمان بمقدار حبَّة الخردل» (مت 17: 20). أجل الإيمان وحده وقدرة الكلمة، ينتصران على قوى الشرّ. لهذا، في المسيحية الأولى، تمَّت هذه الممارسة بالروح عينه، مع نداء إلى المسيح القائم من الموت، الذي انتصر على إبليس (مر 16: 17؛ أع 19: 12). والإنجيل الذي انتصب بشكل مباشر في وجه السحر (أع 8: 18-24؛ 13: 11)، دخل في الديانة الشعبيَّة فنجح.
في الكنيسة الأولى، كان روح الشرّ يؤمَر باسم الله، ليخرج من إنسان أو شيء. ليخرج من الموعوظ الآتي إلى العماد: «أنتَ يا رب أرسلتَ ابنك إلى العالم ليحرِّرنا من سلطة إبليس... بحيث ندخل إلى نورك، نتوسَّل إليك...». اعتُبر طرد الشياطين موهبة، ثمَّ حُصر في الكهنة والشمامسة. واليوم حُفظ للأسقف أو لكاهن ينتدبه الأسقف ليتفحَّص إذا كان المسُّ الشيطانيّ حقيقيٌّا.
أمّا بولس فما طرد الشيطان في شكل مباشر، بل «الروح الشرّير» الذي هجم على «سبعة أبناء يحترفون هذه الحرفة (= طرد الشياطين). فأجابهم الروح الشرّير: «أنا أعرفُ يسوع وأعلم من هو بولس. أمّا أنتم فمن تكونون؟ فهجم عليهم الرجل الذي فيه الروح الشرّير، وتمَّكن منهم كلِّهم وغلبهم، فهربوا من البيت عراة، مجرَّحين» (أع 19: 14-16).
والذي حصل: «تعظَّمَ اسمُ الربِّ يسوع» (آ17). وخاف الناس فأحرقوا كتبَ السحر «أمام أنظار الناس كلِّهم» (آ19). أزيلت العقبة، «فانتشر كلامُ الربِّ وتَقوَّى في النفوس» (آ20).
الخاتمة
هكذا بدا وجه بولس في أفسس، تلك المدينة المكرَّسة لأرطاميس وبصنمها الذي هبط من السماء« (أع 19: 35). هو وجه يسوع في نقل تلاميذ المعمدان إلى الملكوت في قبول الروح القدس. وهو وجه يسوع في التعليم والتبشير، كما هو في طرد الشياطين. هكذا يستطيع اللامؤمنون أن يكتشفوا يسوع من خلال عمل بولس. ذاك كان هدف لوقا حين كتب أعمال الرسل، وهو يواصل كتابته بهذه الروح فيقدِّم لنا بولس الصاعد إلى أورشليم ليموت، لا في أورشليم، بل في رومة. صعوده صورة عن صعود يسوع الذي قال فيه الإنجيل الثالث: «ولمّا حان الوقت الذي يرتفع فيه إلى السماء، عزم على أن يتوجَّه إلى أورشليم» (لو 9: 51). وسَجنُ بطرس صورة عن موته وقيامته مع يسوع قبل «أن يذهب إلى مكان آخر» (أع 12: 17).